الحنين إلى الأوطان
إنَّ لكل شيء من العلم ونوع من الحكمة وصنف من الأدب سببًا يدعو إلى
تأليف ما كان فيه مشتَّتًا، ومعنًى يحدو
١ على جمع ما كان متفرقًا. ومتى أغفل حَمَلة الأدب وأهل
المعرفة تمييزَ الأخبار، واستنباطَ الآثار، وضمَّ كل جوهر نفيس إلى
شكله، وتأليفَ كل نادر من الحكمة إلى مثله، بَطَلَتِ الحكمة وضاع
العلم، وأُمِيت الأدب، ودَرَس مستور كل نادر. ولولا تقييد العلماء
خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لَبَطَلَ أول العلم
وضاع آخره؛ ولذلك قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأوَّلُ يتعلم منه
الآخر.
وإنَّ السبب على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها،
وشوقها إلى تُرَبها وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقُّدَ النار في
أكبادها؛ أني فاوضت بعضَ من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع
٢ إلى الأوطان، فسمعته يذكر أنه اغترب من بلد إلى آخرَ أمهدَ
من وطنه، وأعمرَ من مكانه، وأخصبَ من جنابه، ولم يزل عظيمَ الشان،
جليلَ السلطان، تَدِين له من عشائر العرب ساداتُها وفتيانُها، ومن شعوب
العجم أنجادُها
٣ وشجعانُها، يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب
إليه أو راهب منه، فكان إذا ذكر التربة والوطن حنَّ إليه حنين الإبل
إلى أعطانها،
٤ وكان كما قال الشاعر:
إِذَا مَا ذَكَرْتُ الثَّغْرَ فَاضَتْ
مَدَامِعِي
وَأَضْحَى فُؤَادِي نُهْبَةً لِلْهَمَاهِمِ
٥
حَنِينًا إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ
شَارِبِي
وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ
٦
وَأَلْطَفُ قَوْمٍ بِالْفَتَى أَهْلُ
أَرْضِهِ
وَأَرْعَاهُمُ لِلْمَرْءِ حَتَّى
التَّقَادُمِ
وكما قال الآخر:
يَقَرُّ بِعَيْنِي أَنْ أَرَى مَنْ مَكَانُهُ
ذُرَا عُقُدَاتِ الْأَبْرَقِ الْمُتَقَاوِدِ
٧
وأَنْ أَرِدَ الْمَاءَ الَّذِي شَرِبَتْ بِهِ
سُلَيْمَى وَقَدْ مَلَّ السُّرَى كُلُّ وَاخِدِ
٨
وَأَلْصِقُ أَحْشَائِي بِبَرْدِ تُرَابِهِ
وَإِنْ كَانَ مَخْلُوطًا بِسُمِّ الْأَسَاوِدِ
٩
فقلت: لئن قلت ذلك، لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس
إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة
١٠ وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما
وأنت جنين، وغذاءهما منه. وقال آخر: احفظ بلدًا رشَّحك غذاؤه، وَارْعَ
حمًى أكنَّك فناؤه. وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد رضعت ماءه، وطعمت
غذاءه، وكان يقال: أرض الرجل ظئره،
١١ وداره مهده، والغريب النائي عن بلده المتنحي
عن أهله كالثور النادِّ
١٢ عن وطنه، الذي هو لكل رام قنيصة. وقال آخر: الكريم يحن إلى
جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه. وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه ومحل
رضاعه، كالعير
١٣ الناشط
١٤ عن بلده الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رام دريئة.
١٥ وقال آخر: تربة الصِّبا تَغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما
تغرس الولادة في القلب رقة وحفاوة.
١٦ وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أَمَصَّكَ حلبَ
رَضاعه. وقال آخر: إذا كان الطائر يَحِن إلى أوكاره فالإنسان أحق
بالحنين إلى أوطانه. وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب
من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة
من طهارة الرِّشدة،
١٧ وطهارة الرشدة من كرم الْمَحْتِدِ.
١٨ وقال آخر: ميلك إلى مولدك من كرم مَحْتِدِكَ. وقال آخر:
عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك، وأنشد:
لَقُرْبُ الدَّارِ فِي الْإِقْتَارِ خَيْرٌ
مِنَ الْعَيْشِ الْمُوَسَّعِ فِي اغْتِرَابِ
١٩
وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، وفقد شِربه، فهو ذاوٍ
٢٠ لا يثمر، وذابلٌ لا ينضر. وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل
معجونة بحب الوطن؛ ولذلك قال بقراط: يُداوَى كلُّ عليل بعقاقير أرضه؛
فإن الطبيعة تتطلع لهوائها، وتنزع إلى غذائها. وقال أفلاطون: غذاء
الطبيعة من أنجع أدويتها. وقال جالينوس: يَتروَّح العليل بنسيم أرضه
كما تتروَّح الأرض الجدبة ببلل القطر.
والقول في حب الناس والوطن، وافتخارهم بالمحالِّ قد سبق، فوجدنا
الناس بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم؛ ولذلك قال ابن عباس: لو قَنَع
الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزقَ. وترى الأعرابَ
تحنُّ إلى البلد الجدب والمحل القفر والحجر الصلد، وتستوخم
٢١ الريف، حتى قال بعضهم:
أَتُجْلِينَ فِي الْجَالِينَ أَمْ
تَتَصَبَّرِي
عَلَى ضِيقِ عَيْشٍ وَالْكَرِيمُ صَبُورُ؟
٢٢
فَبِالْمِصْرِ بُرْغُوثٌ وَحُمَّى وَحَصْبَةٌ
وَمُومٌ وَطَاعُونٌ وَكُلُّ شُرُورٍ
٢٣
وَبِالْبِيدِ جُوعٌ لَا يَزَالُ كَأَنَّهُ
رُكَامٌ بِأَطْرَافِ الْإِكَامِ تَمُورُ
٢٤
وترى الحضري يُولد بأرض وباء ومَوَتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلادٍ
أَرْيَفَ مِن بلاده وجنابٍ أَخصَبَ مِن جَنَابِه، واستفاد غنًى؛ حنَّ
إلى وطنه ومستقره. ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال
اقتصاصه، ولكن توخَّينا تدوينَ أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعارهم،
وبالله التوفيق.
ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان قولُ الله عز وجل، حين ذكر الديار
يخبر عن مواقعها من قلوب عباده، فقال:
وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ
مِنْهُمْ، فسوَّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم،
وقال تعالى:
وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا
وَأَبْنَائِنَا. وقال الأول: عمَّر الله البلدان بحب
الأوطان، وكان يقال: لولا حبُّ الناسِ الأوطانَ لخربت البلدان. وقال
عبد الحميد الكاتب وَذَكَر الدنيا: نَفَتْنَا عن الأوطان، وقطعتنا عن
الإخوان. وقالت الحكماء: أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان
أبغضهم للكُتَّاب، وأكرم الصفايا
أشدُّها ولهًا إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنينًا إلى أوطانها،
وأكرم المهارى أشدُّها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس. وقال
آخر: من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته لأهل
زمانه. واعتلَّ أعرابيٌّ في أرض غربة فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: حِسل
٢٥ فَلاةٍ وحَسْو
٢٦ قلات،
٢٧ وسُئل آخر فقال: مخضًا
٢٨ رويًّا، وضبًّا مشويًّا. وسُئل آخر فقال: ضبًّا عنينًا
أعور. وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك. وقيل: الغربة كربة
والقلة ذلة، وقال:
لَا تَرْغَبُوا إِخْوَتِي فِي غُرْبَةٍ
أَبَدًا
إِنَّ الْغَرِيبَ ذَلِيلٌ حَيْثُمَا كَانَا
وقال آخر: لا تنهض عن وكرك فَتُنَغِّصَك الغربة وتَضيمَك الوحدة.
وقال آخر: لا تجفُ أرضًا بها قوابلك،
٢٩ ولا تَشْكُ بلدًا فيه قبائلك. وقال أصحاب القيافة
٣٠ في الاسترواح: إذا أحسَّت النفس بمولدها تفتحت مسامُّها
فعرفت النسيم، وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه كما يحنُّ النجيب
٣١ إلى عطنه، وقال: كما أن لحاضنتك حقَّ لبنها، كذلك لأرضك
حقُّ وطنها. وذكر أعرابي بلده فقال: رملة كنت جنينَ ركامها، ورضيعَ
غمامها، فحضنتني أحشاؤها وأرضعتني أحساؤها،
٣٢ وشبَّهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم
٣٣ الذي ثَكِل
٣٤ أبويه، فلا أم تَرْأَمه
٣٥ ولا أب يحدب
٣٦ عليه. وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك فلا تنسَ نصيبَك
من الذُّل، وقال الشاعر:
لَعَمْرِي لَرَهْطُ الْمَرْءِ خَيْرُ
بَقِيَّةٍ
عَلَيْهِ وَإِنْ عَالَوْا بِهِ كُلَّ
مَرْكَبِ
إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ عِدًا لَسْتَ
مِنْهُمُ
فَكُلْ مَا عُلِفْتَ مِنْ خَبِيثٍ وَطَيِّبِ
٣٧
وفي المثل: «أوضح من مرآة الغريبة»؛ وذلك أن المرأة إذا كانت هديًّا
في غير أهلها تَتَفَقَّدُ من وجهها وهيئتها ما لا تَتَفَقَّدُه وهي في
قومها وأقاربها، فتكون مرآتُها مجلوةً تتعهَّد بها أمر نفسها. وقال ذو
الرُّمة:
لَهَا أُذْنٌ حَشْرٌ وَذِفْرَى أَسِيلَةٌ
وَخَدٌّ كَمِرْآةِ الْغَرِيبَةِ أَسْجَحُ
٣٨
وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملًا وعَفَرًا
٣٩ تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع، وأنشد لبعض بني
ضبة:
نَسِيرُ عَلَى عِلْمٍ بِكُنْهِ مَسِيرِنَا
بِعُفَّةِ زَادٍ فِي بُطُونِ الْمَزَاوِدِ
٤٠
وَلَا بُدَّ فِي أَسْفَارِنَا مِنْ قَبِيصَةٍ
مِنَ التُّرْبِ نُسْقَاهَا لِحُبِّ الْمَوَالِدِ
٤١
وقال آخر: أرض الرجل أوضح نسبه، وأهله أحضر نَشَبِه،
٤٢ وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ، وانتعل
كل شيء ظله؟
٤٣ قال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلًا فيرفضُّ عرقًا،
ثم يَنصبُ عصاه، ويُلْقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح،
فكأنه في إيوان كسرى، وقيل لأعرابي: ما أصبرَكم في البدو! قال: كيف لا
يصبر مَن وِطاؤُه الأرض، وغِطاؤُه السماء، وطعامُه الشمس، وشرابُه
الريح، والله لقد خرجنا في أثر قوم قد تقدمونا بمراحل ونحن حفاة،
والشمس في قُلَّة السماء، حيث انتعل كلُّ شيء ظله، وإنهم لأسوء حالًا
منا، إن مهادهم للعفر، وإن وسادهم للحجر، وإن شعارهم للهواء، وإن
دثارهم للخواء.
٤٤
وحدثني التَّوَّزِيُّ عن رجل من عُرَيْنةَ قال: حدثني رجل من بني
هاشم قال: قلت لأعرابي من بني أسد: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية.
قلت: وأين تسكن منها؟ قال: مساقط الحمى؛ حمى ضَرِيَّة
٤٥ بأرض لَعَمْرُ الله ما نريد بها بدلًا، ولا نبغي عنها
حِولًا، قد نفحتها الغدوات وحفَّتها الفلوات، فلا يَمْلَوْلِحُ ماؤها،
ولا يَحمى ترابها، ولا يَمْعَر جنابها،
٤٦ ليس فيها أذًى ولا قذًى، ولا أنين ولا حمَّى، فنحن بأرفه
عيش وأرفع نعمة. قلت: فما طعامكم فيها؟ قال: بخ بخ! عيشنا والله عيش
يعلل جاذبه، وطعامنا أطيب طعام وأهنؤه؛ الهبيد
٤٧ والضِّباب
٤٨ واليرابيع
٤٩ والقنافذ والحيَّات، وربما والله أكلنا القَد
٥٠ واشتوينا الجلد، فلا نعلم أحدًا أخصب منا عيشًا. فالحمد
لله على ما بسط من السعة ورزق من الدَّعَة، أو ما سمعت قول قائلنا،
وكان والله عالمًا بلذيذ العيش:
إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً
وَخَمْسَ تُمَيْرَاتٍ صِغَارٍ كَوَانِزِ
٥١
فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خِصْبًا
وَنِعْمَةً
وَنَحْنُ أُسُودُ الغَابِ عِنْدَ الْهَزَاهِزِ
٥٢
وَكَمْ مُتَمَنٍّ عَيْشَنَا لَا يَنَالُهُ
وَلَوْ نَالَهُ أَضْحَى بِهِ حَقَّ فَائِزِ
ولهذا خبر طويل وصف فيه نوقًا أضلها، واقتصرنا منه على ما وصف من
قناعته بوطنه، قال الهاشمي: فلما فرغ من نعت نوقه قلت له: هل لك في
الغداء؟ قال: إني والله غاوٍ إغباب،
٥٣ لاصق القلب بالحجاب، ما لي عهد بِمضاغ إلا شلو
٥٤ يربوع، وجد مَعْمَعةً، فانسلت مني، فأخذت بنافقائه
وقاصعائه ودامَّائه وراهطائه،
٥٥ ثم تنفَّضْتُه فأخرجته، ولا والله ما فرحت بشيء فرحي به،
فتلقاني رويع ببطن الخرجاء،
٥٦ يوقد نُويْرة تخبو طورًا وتشُبُّ أخرى، فَدَسَسْتُه في إِرَته،
٥٧ فخمدت نويرته، ولا والله ما بلغ نضجه حتى اختلس الرُّويْعي
منه، فغلبني على رأسه وحوشه وصدره وبدنه، وبقي بيدي رجلاه ووركاه
وفقرتا صلبه، فكان ذلك مما أنعم الله به علي، فاغتبقتها على نَكَظ
منكِظ وبوض بايظ عن عراكه إياي،
٥٨ غير أن الله أعانني عليه، فذلك والله عهدي بالطعام، وإني
لذو حاجة إلى غذاء أنوِّه به فؤادي وأشد به آدي،
٥٩ فقد والله بلغ مني المجهود، وأدرك مني المجلود.
٦٠ يصف هذا البؤس والجهد، ويتحمل هذه الفاقة ويصبر على الفقر،
قناعة بوطنه، وحبًّا لعطنه، واعتدادًا بما وصف من رفاغة عيشه.
٦١
وحدثنا سليمان بن معبد أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يرسل خيله،
فجاء أعرابي له بفرس أنثى، فسأله أن يدخلها مع خيله، فقال الوليد لقهرمانه
٦٢ أسيلم بن الأحنف: كيف تراها يا أسليم؟ فقال: يا أمير
المؤمنين، حجازيةٌ، لو ضمها مضمارك ذهبت. قال الأعرابي: أنت والله
منقوص الاسم،
٦٣ أعوج اسم الأب. فأمر الوليد بإدخال فرسه، فلما أُجرِيَت
الخيل سبق الأعرابي على فرسه، فقال الوليد: أواهبها لي أنت يا أعرابي؟
فقال: لا والله، إنها لقديمة الصحبة، ولها حق، ولكن أحملك على مُهر لها
سبق عامًا أول وهو رابض، فضحك الوليد، وقال: أعرابي مجنون! فقال: وما
يضحككم؟ سبقت أُمُّه عامًا أول وهو في بطنها، فاستظرفه واحتسبه عنده،
فمرِض، فبعث إليه بالأطباء، فأنشأ يقول:
جَاءَ الْأَطِبَّاءُ مِنْ حِمْصٍ تَخَالُهُمُ
مِنْ جَهْلِهِمْ أَنْ أُدَاوَى
كَالْمَجَانِينِ
قَالَ الْأَطِبَّاءُ مَا يَشْفِيكَ؟ قُلْتُ
لَهُمْ:
دُخَانُ رَمْثٍ مِنَ التَّسْرِيرِ يَشْفِينِي
٦٤
إِنِّي أَحِنُّ إِلَى أَدْخَانِ مُحْتَطَبٍ
مِنَ الْجُنَيْنَةِ جَزْلٍ غَيْرِ مَوْزُونِ
٦٥
فأمر الوليد أن يُحمل إليه سليخة
٦٦ من رمث فوافوه وقد مات، فهو عند الخليفة وببلد ليس في
الأقاليم أريف منه ولا أخصب جنابًا، فحن إلى سليخة رمث حبًّا
للوطن.
وحكى أبو عبد الله الجعفري عن عبد الله بن إسحق الجعفري قال: أمرت بِصِهْرِيجٍ
٦٧ لي في بستان عليه نخل مُطلٌّ أن يملأ، فذهبت بأم حسانة
المرية وابنتها وهي زوجتي، فلما نظرت أم حسانة إلى الصهريج قعدت عليه،
وأرسلت رجليها في الماء، فقلت لها: ألا تطوفين معنا على هذا النخل
لنجني ما طاب من ثمره؟ فقالت: ها هنا أعجب إليَّ، فَدُرْنا ساعةً
وتركناها، ثم انصرفنا وهي تخضخض رجليها في الماء وتحرك شفتيها، فقلت:
يا أم حسانة، لا أحسبك إلا وقد قلت شعرًا، قالت: أجل، ثم
أنشدتني:
أَقُولُ لِأَدْنَي صَاحِبَيَّ أَسُرُّهُ
وَلِلْعَيْنِ دَمْعٌ يَحْدُرُ الْكُحْلَ
سَاكِبُهْ:
لَعَمْرِي لَنَهْيٌ بِاللَّوَى نَازِحُ
الْقَذَى
نَقِيُّ النَّوَاحِي غَيْرُ طَرْقٍ مَشَارِبُهْ
٦٨
بِأَجْرَعَ مِجْرَاعٍ كَأَنَّ رَجَاجَهُ
سَحَابٌ مِنَ الْكَافُورِ وَالْمِسْكُ شَائِبُهْ
٦٩
أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ صَهَارِيجَ مُلِّئَتْ
لِلُعْبٍ فَلَمْ تَمْلُحْ لَدَيَّ
مَلَاعِبُهْ
فَيَا حَبَّذَا نَجْدٌ وَطِيبُ تُرَابِهِ
إِذَا هَضَبَتْهُ بِالْعَشِيِّ هَوَاضِبُهْ
٧٠
وَرِيحُ صَبَا نَجْدٍ إِذَا مَا تَنَسَّمَتْ
ضُحًى أَوْ سَرَتْ جُنْحَ الظَّلامِ جَنَائِبُهْ
٧١
وأنشد أبو النصر الأسدي:
أُحِبُّ الْأَرْضَ تَسْكُنُهَا سُلَيْمَى
وَإِنْ كَانَتْ بِوَادِيهَا الْجُدُوبُ
وَمَا عَهْدِي بِحُبِّ تُرَابِ أَرْضٍ
وَلَكِنْ مَنْ يَحُلُّ بِهَا حَبِيبُ
وأنشدني حماد بن إسحق الموصلي:
أَحَبُّ بِلادِ اللهِ مَا بَيْنَ صَارَةٍ
إِلَى غَطْفَانَ أَنْ يَصُوبُ سَحَابُهَا
٧٢
بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِمِي
وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِسْمِي تُرَابُهَا
٧٣
قال: ولما حُملت نائلة بنت القرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفان — رضي
الله عنه — كَرِهَت فراق أهلها، فقالت لضبٍّ أخيها:
أَلَسْتَ تَرَى يَا ضَبُّ بِاللهِ أَنَّنِي
مُرَافِقَةٌ نَحْوَ المَدِينَةِ أَرْكُبَا
أَمَا كَانَ فِي أَوْلَادِ عَوْفِ بنِ
عَامِرٍ
لَكَ الْوَيْلُ مَا يُغْنِي الخِبَاءُ
المُطَنَّبَا؟!
أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ أَكُونَ غَرِيبَةً
بِيَثْرِبَ لَا أُمًّا لَدَيَّ وَلَا أَبَا
قال: وزُوِّجَت من أَبَان في كلبٍ امرأةٌ، فنظرت ذات يوم إلى ناقة قد
حنَّت فذكرت بلادها، وأنشأت تقول:
أَلَا أَيُّهَا الْبَكْرُ الْأُبَانِيُّ
إِنَّنِي
وَإِيَّاكَ فِي كَلْبٍ لَمُغْتَرِبَانِ
٧٤
تَحِنُّ، وَأَبْكِي ذَا الهَوَى لِصَبَابَةٍ
وَإِنَّا عَلَى الْبَلْوَى لَمُصْطَحِبَانِ
وَإِنَّ زَمَانًا أَيُّهَا الْبَكْرُ
ضَمَّنِي
وَإِيَّاكَ فِي كَلْبٍ لَشَرُّ زَمَانِ
وقال آخر:
أَلَا يَا حَبَّذَا وَطَنِي وَأَهْلِي
وَصَحْبِي حِينَ يُدَّكَرُ الصِّحَابُ
وَمَا عَسَلٌ بِبَارِدِ مَاءِ مُزْنٍ
عَلَى ظَمَأٍ لِشَارِبِهِ يُشَابُ
بِأَشْهَى مِنْ لِقَائِكُمُ إِلَيْنَا
فَكَيْفَ لَنَا بِهِ وَمَتَى الْإِيَابُ
وأنشد الغنوي لبعض الهذليين:
وَأَرَى الْبِلَادَ إِذَا سَكَنْتُ
بِغَيْرِهَا
جَدْبًا وَإِنْ كَانَتْ تُظِلُّ وَتُحْبَبُ
وَأَرَى الْعَدُوَّ يُحِبُّكُم فَأُحِبُّهُ
إِنْ كَانَ يُنْسَبُ مِنْكُمُ أَوْ تُنْسَبُ
وَأَرَى السَّمِيَّةَ بِاسْمِكُمْ
فَنَرُدُّهَا
قال: ومن هذا أخذ الطائي قوله:
كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ
الْفَتَى
وَحَنِينُهُ أبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ
وأنشد أبو عمرو
البجلي:
تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ
فَمَا بَعْدَ الْعَشِيَّةِ مِنْ عَرَارِ
٧٦
أَلَا يَا حَبَّذَا نَفَحَاتُ نَجْدٍ
وَرِيًّا رَوْضِهِ غِبَّ الْقِطَارِ
٧٧
وَعَيْشُكَ إِذْ يَحُلُّ الْقَوْمُ نَجْدًا
وَأَنْتَ عَلَى زَمَانِكَ غَيْرُ زَارِي
٧٨
شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعُرْنَا
بِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سَرَارِ
٧٩
فَأَمَّا لَيْلُهُنَّ فَخَيْرُ لَيْلٍ
وَأَقْصَرُ مَا يَكُونُ مِنَ النَّهَارِ
٨٠
وقال آخر:
أَلَا هَلْ إِلَى شَمِّ الْخُزَامَى
وَنَظْرَةٍ
إِلَى قَرْقَرَى قَبْلَ المَمَاتِ سَبِيلُ
٨١
فَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْحُجَيْلَاءِ
شَرْبَةً
يُداوَى بِهَا قَبْلَ الْمَمَاتِ عَلِيلُ
٨٢
فَيَا أَثَلَاتِ الْقَاعِ قَلْبِي مُوَكَّلٌ
بِكُنَّ وَجَدْوَى خَيْرِكُنَّ قَلِيلُ
٨٣
وَيَا أَثَلَاثِ القَاعِ قَدْ مَلَّ
صُحْبَتِي
مَسِيرِي فَهَلْ فِي ظِلِّكُنَّ مَقَيلُ؟
٨٤
أُرِيدُ انْحِدَارًا نَحْوَهَا فَيَرُدُّنِي
وَيَمْنَعُنِي دَينٌ عَلَيَّ ثَقِيلُ
أُحَدِّثُ نَفْسِي عَنْكِ أَنْ لَسْتُ
رَاجِعًا
إِلَيْكِ فَحُزْنِي فِي الفُؤَادِ دَخِيلُ
٨٥
وأنشد للمجنون:
إِلَى عَامِرٍ أَصْبُو، وَمَا أَرْضُ
عَامِرٍ؟
هِيَ الرَّمْلَةُ الوَعْسَاءُ وَالبَلَدُ الرَّحْبُ
٨٦
مَعَاشِرُ بِيضٌ لَوْ وَرَدْتَ بِلَادَهُمْ
وَرَدْتَ بُحُورًا مَاؤُهَا لِلنِّدَا عَذْبُ
إِذَا مَا بَدَتْ لِلنَّاظِرِينَ خِيَامُهُم
فَثَمَّ الْعِتَاقُ الْقُبُّ والْأَسَلُ الْقُضْبُ
٨٧
وأنشدنا المازنيُّ:
اقْرَأْ عَلَى الْوَشْلِ السَّلَامَ وَقُلْ
لَهُ:
كُلُّ الْمَوَارِدِ مُذْ هُجِرْتَ ذَمِيمُ
٨٨
جَبَلٌ يَنِيفُ عَلَى الْجِبَالِ إِذَا بَدَا
بَيْنَ الْغَدَائِرِ وَالرِّمَالِ مُقِيمُ
تَسْرِي الصِّبَا فَتَبِيتُ فِي أَلْوَاذِهِ
وَيَبِيتُ فِيهِ مِنَ الْجَنُوبِ نَسِيمُ
٨٩
سَقْيًا لِظِلِّكَ بِالعَشِيِّ وَبِالضُّحَى
وَلِبَرْدِ مَائِكَ وَالْمِيَاهُ حَمِيمُ
لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ مَنْعَ مَائِكِ لَمْ
يَذُقْ
مَا فِي قِلَاتِكِ مَا حَيِيتُ لَئِيمُ
٩٠
وقالت امرأة من عقيل:
خَلِيلَيَّ مِنْ سُكَّانِ مَاوَانَ هَاجَنِي
هُبُوبُ جَنُوبٍ مَرُّهَا وَنِسَامُهَا
٩١
فَلَا تَسْأَلَانِي مَا وَرَائِي فَإِنَّنِي
بِمَنْزِلَةٍ أَعْيَا الطَّبِيبَ سِقَامُهَا
وقال آخر:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي وَالحَوَادِثُ جَمَّةٌ
مَتَى تَجْمَعُ الْأَيَّامُ يَومًا لَنَا
الشَّمْلَا
وَكُلُّ غَرِيبٍ سَوْفَ يُمسِي بِذِلَّةٍ
إِذَا بَانَ عَنْ أَوْطَانِهِ وَجَفَا
الْأَهْلَا
وقال آخر:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي يَجْمَعُ الدَّهْرُ
بَيْنَنَا
بِصَحْرَاءَ مِنْ نَجْرَانَ ذَاتِ ثَرًى جَعْدِ!
٩٢
وَهَلْ يَنْفُضَنَّ الرِّيحُ أَفْنَانَ
لِمَّتِي
عَلَى لَاحِقِ الرَّجُلَيْنِ مُضْطَمِرٍ وَرْدِ
٩٣
وَهَلْ أَرِدَنَّ الدَّهْرَ حِسْيَيْ
مُزَاحِمٍ
وَقَدْ ضَرَبَتْهُ نَفْحَةٌ مِنْ صِبَا نَجْدِ
٩٤
وقال آخر:
وَأَنْزَلَنِي طُولُ النَّوَى دَارَ غُرْبَةٍ
إِذَا شِئْتُ لَاقَيْتُ امْرأً لَا
أُشَاكِلُهْ
فَحَامَقْتُهُ حَتَّى يُقَالَ سَجِيَّةٌ
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَكُنْتُ
أُعَاقِلُهْ
وَلَوْ كُنْتُ فِي قَوْمِي وَجُلِّ
عَشِيرَتِي
لَأَلْفَيْتُ فِيهِمْ كُلَّ خِرْقٍ أُوَاصِلُهْ
٩٥
وأنشد لذي الرمة:
إِذَا هَبَّتِ الْأَرْوَاحُ مِنْ نَحْوِ
جَانِبٍ
بِهِ أَهْلُ مَيٍّ هَاجَ قَلْبِي هُبُوبُهَا
٩٦
هَوًى تَذْرِفُ الْعَيْنَانِ مِنْهُ
وَإِنَّمَا
هَوَى كُلِّ نَفْسٍ حَيْثُ حَلَّ حَبِيبُهَا
٩٧
وقال أبو عثمان: رأيت عبدًا أسودَ حبشيًّا لبني أسد، قدم من شقِّ
اليمامة، فصار ناطورًا، وكان وحشيًّا مجنونًا لطول الغربة مع الإبل،
وكان لا يلقى إلا أكرة،
٩٨ فلا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إليَّ،
وسمعته يقول: لعن الله أرضًا ليس بها عرف،
٩٩ قاتل الله الشاعر حيث يقول:
حُرُّ الثَّرَى مُسْتَعْرِبُ التُّرَابِ
١٠٠
أبا عثمان! إن هذه العُرَيب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس،
١٠١ فلولا أن الله رق عليهم
١٠٢ فجعلهم في حشاه لطمست هذه العجم آثارهم، أترى الأعيار إذا
رأت العتاق
١٠٣ لا ترى لها فضلًا، والله ما أمر الله نبيه
ﷺ بقتلهم
إذ لا يدينون بدين إلا لضنه بهم،
١٠٤ ولا ترك قبول الجزية منهم إلا تنزيهًا لهم.
وقيل لأعرابي: ما السرور؟ فقال: أوبة بغير خيبة، وألفة بعد
غَيبة.
وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: غَيبة تفيد غِنًى، وأوبة تُعْقب مُنًى،
وأنشأ يقول:
وَكُنْتُ فِيهِمْ كَمَمْطُورٍ بِبَلْدَتِهِ
يُسَرُّ أَنْ جَمَعَ الْأَوْطَانَ
وَالْمَطَرَا
وأحسن ما سمعنا في حب الوطن وفرحة الأوبة
قوله:
وَبَاشَرْتُهَا فَاسْتَعْجَلَتْ عَنْ
قِنَاعِهَا
وَقَدْ يَسْتَخِفُّ (الطَّامِعِينَ)
المُبَاشِرُ
مُشَمِّرَةٍ عَنْ سَاقِ حَوْلَاءَ جَسْرَةٍ
تُجَارِي بَنِيهَا مَرَّةً وَتُحَاضِرُ
وَخَبَّرَهَا الوَرَّادُ أَنْ لَيْسَ
بَيْنَهَا
وَبَيْنَ قُرَى نَجْرَانَ وَالدَّرْبِ صَافِرُ
١٠٥
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهَا
النَّوَى
كَمْ قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
١٠٦
وقيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان،
والجلوس مع الإخوان. قيل له: فما الذلة؟ قال: التنقل في البلدان،
والتنحي عن الأوطان.
وقال آخر:
طَلَبُ المَعَاشِ مُفَرِّقٌ
بَيْنَ الْأَحِبَّةِ وَالْوَطَنْ
وَمُصَيِّرٌ جَلْدَ الرِّجَا
لِ إِلَى الضَّرَاعَةِ وَالْوَهَنْ
حَتَّى يُقَادَ كَمَا يُقَا
دُ النِّضْوُ فِي ثِنْيِ الرَّسَنْ
ثُمَّ الْمَنِيَّةُ بَعْدَهُ
فَكَأَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ
ووجدنا من العرب من كان أشرف في نفسه وأفخر في حسبه، ومن العجم من
كان أطيب عنصرًا وأنفس جوهرًا، أشد حنينًا إلى وطنه ونزاعًا إلى تربته،
وكانت الملوك على قديم الدهر لا تؤثر على أوطانها شيئًا، وحكى المُوبَذ
١٠٧ أنه قرأ في سيرة إسفنديار بن بشتاسف بن لهراسف بالفارسية،
أنه لما غزا بلاد الخزر ليستنقذ أُختَه من الأسر اعتلَّ بها، فقيل له:
ما تشتهي؟ قال: شمة من تربة بلخ، وشربة من ماء واديها. واعتل سابور ذو الأكتاف
١٠٨ بالروم، وكان مأسورًا في القِدِّ،
١٠٩ فقالت له بنت ملك الروم وقد عشقته: ما تشتهي مما كان فيه
غذاؤك؟ قال: شربةً من ماء دجلة وشمةً من تربة إصطخر. فغبرت عنه أيامًا،
ثم أتته يومًا بماء الفرات وقبضة من تراب شاطئه، وقالت: هذا من ماء
دجلة، وهذه من تربة أرضك، فشرب واشتم من تلك التربة، فأفاق من مرضه.
وكان الإسكندر الرومي
١١٠ جال البلدان وأخرب إقليم بابل، وكنز الكنوز وأباد الخلق،
فمرض بحضرة
١١١ بابل، فلما أشفى
١١٢ أوصى إلى حكمائه ووزرائه أن تحمل رمته
١١٣ في تابوت من ذهب إلى بلده حبًّا للوطن.
ولما افتتح وهرز بن شيرزاد اليمن، وقتل ملك الحبشة المتغلب على
اليمن، أقام بها عاملًا لأنوشروان،
١١٤ فبنى نجران اليمن وهي من أحسن مدن الثغور، فلما أدركته
الوفاة أوصى ابنه شيرزاد أن يحمل إلى إصطخر ناووس
١١٥ أبيه، ففعل به ذلك.
فهؤلاء الملوك والجبابرة الذين لم يفتقدوا في اغترابهم نعمة، ولا
غادروا في أسفارهم شهوة حنُّوا إلى أوطانهم، ولم يؤثروا على ترابهم
ومساقط رءوسهم شيئًا من الأقاليم المستفادة بالتغازي، والمدن المغتصبة
من ملوك الأمم.
وهؤلاء الأعراب مع فاقتهم وشدة فقرهم، يحنون إلى أوطانهم، ويقنعون
بتربهم ومحالِّهم.
ورأيت المتأدب من البرامكة المتفلسف منهم إذا سافر سفرًا أخذ معه من
تربة مولده في جراب يتداوى به.
ومن أصدق الشواهد في حب الوطن أن يوسف — عليه السلام — لما أدركته
الوفاة، أوصى أن تُحمل رمته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحق
وإبراهيم — عليهم السلام — ورُوِي لنا أن أهل مصر منعوا أولياء يوسف من
حمله، فلما بعث الله موسى — عليه السلام — وأهلك على يديه فرعون وغيره
من الأمم أمره أن يحمل رمته إلى تربة يعقوب بالشام، وقبره معلوم بأرض
بيت المقدس بقرية تسمى حسامى،
١١٦ وكذلك يعقوب مات بمصر، فحُملت رمته إلى إيلياء؛ قرية ببيت
المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم — عليهما السلام.
ومن حب الناس للوطن وقناعتهم بالعطن، أن إبراهيم لما أتى بهاجرَ أمِّ
إسماعيل مكةَ فأسكنها، وليس بمكة أنيس ولا ماء ظمئ إسماعيل، فدعا
إبراهيم ربه فقال:
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ
مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ، فأجاب الله دعاءه إذ رضي به وطنًا، وبعث
جبرائيل — عليه السلام — فركض
١١٧ موضع زمزم برجله، فنبع منه زمزم.
ومر بإسماعيل وأمه فرقة من جُرْهُم، فقالوا: أتأذنون لنا أن ننزل
معكم؟ فقالت هاجر: نعم، ولا حق لكم في الماء. فصار إسماعيل وولده
قُطَّان مكة لدعوة إبراهيم — عليه السلام. نعم، وهي مع جدوبتها خير
بقاع الأرض؛ إذ صارت حرمًا، ولإسماعيل وولده مسكنًا، وللأنبياء منسكًا
ومجمعًا على غابر الدهر.
وممن تمسك من بني إسرائيل — عليه السلام — بحب الوطن خاصة ولد هارون
وآل داود — عليهما السلام — لم يمت منهم ميت في إقليم بابل في أي
البلدان مات إلا نبشوا قبره بعد حَوْل، وحملت رمته إلى موضع يدعى
الخصاصة بالشام،
١١٨ فيودع هناك حولًا، فإذا حال الحول نقلت إلى بيت المقدس،
وقال الفرزدق:
لَكِسْرَى كَانَ أَعْقَلَ مِنْ تَمِيمٍ
لَيَالِي فَرَّ مِنْ بَلَدِ الضِّبَابِ
فَأَسْكَنَ أَهْلَهُ بِبِلَادِ رِيفٍ
وَجَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ عِذَابِ
١١٩
فَصَارَ بَنُوا بَنِيهِ بِهَا مُلُوكًا
وَصِرْنَا نَحْنُ أَمْثَالَ الْكِلَابِ
فَلَا رَحِمَ الْإِلَهُ صَدَى تَمِيمٍ
فَقَدْ أَزْرَى بِنَا فِي كُلِّ بَابِ
١٢٠
وقال آخر في حب الوطن:
سَقَى اللهُ أَرْضَ الْعَاشِقِينَ بِغَيْثِهِ
وَرَدَّ إِلَى الْأَوْطَانِ كُلَّ غَرِيبِ
وَأَعْطَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ فَوْقَ
مُنَاهُمُ
وَمتَّعَ مَحْبُوبًا بِقُرْبِ حَبِيبِ
١٢١