الفصل الأول
١
لعل من العبث أن يحاول المرء أن يرسم بالقلم صورةً لإنسانٍ أو شيءٍ ما، ولا سيما إذا كان الكاتب رجلًا والموصوف امرأة؛ فليس أجهل من الرجل بالمرأة ولا من المرأة بالرجل، وإن كانا يعيشان معًا، ويتحابَّان — لا أدري كيف؟ — ويتزاوجان ويعمران الأرض بنسلهما، ويبذران ذريتهما كالحَب، ولا تسألني كيف يأتلف هذان المختلفان، ويتواطن هذان الإنسانان — إن صح أن كليهما إنسان — وكلٌّ منهما لصاحبه لغزٌ لا حل له؟ فما كنتُ خلقتهما أو شهدت خلقهما، أو عاصرت جدَّيهما الأعليين حتى أدري.
على أن التصوير بالقلم — وإن كان لا يفيد أحدًا صورة واضحة المعارف بيِّنة السمات متميزة اللمحات — يتيح لكل قارئ أن يرسم لنفسه صورة، يؤلفها خياله مما توحي به الأوصاف، وكفى بهذا مغنمًا، والله أرحم بالكتَّاب من أن يجعل عناءهم باطلًا وتعبهم لا خير فيه.
فلنتشجع إذن، ولنتوكل على الله الحنَّان المنَّان.
كانت الليلةُ ساجيةً طلقةً، والقمر متَّسقًا مضْحيًا في سماءٍ تبدو في رأي العين كالمخمل، والدنيا المسحورة من نوره الواضح اللين في فوفٍ منسوج من خيوطٍ سودٍ وأُخرَ فضيَّةٍ، وقد أفضلت لها فضولٌ، والأشجار تذهب في الهواء كأنها عُمدٌ مدهونةٌ، وتُلقي ظلَّها مونرًا على الأرض، وتُعطر الجو، والنوافذ والشبابيك كلها مفتوحة يهفو منها ترجيعٌ شجيُّ يمتد به صوت أنثوي ينتقل من نغمة إلى نغمة في غير تكلف أو جهد.
وكان في حديقة البيت جوسق (كشك) سداسي الشكل مصنوع من أعواد الخشب، وقد تعلق به وارتقى فيه وظلله النبات، وفيه مائدة عليها بقية من لحم، وجزلات من رغفان، وقطع من مخلل الخيار واللفت والجزر والباذنجان، وقرص متصدع من جبن حالوم، وزجاجات جعة بعضها نصفان أو دون ذلك، والبعض لا يزال في الثلج وعليه سداده لم يُنزع، وقد جلس إلى المائدة ثلاثة أمامهم الأقداح وقد أبطئوا بها بعد أن كادوا يمتلئون من الطعام والشراب.
وأول هؤلاء الثلاثة وأولاهم بالتقديم — وإن لم يكن أحقهم بالتعظيم — عياد وهو شركسي الأصل، يؤمن بالشارب المفتول، والعين الحمراء والبرجمة في الكلام، والزعقة الشديدة حين ينادي خادمًا أو غيره، وإن كان الجرس قريبًا، وزرُّه يتدلى فوق المائدة من سقف الجوسق. ولا نحتاج أن نقول إنه شخيص لحيم، وإنه شديد الوطء على الأرض، وإنه لا خير فيه ولا شر، إلا أن يجيء الخير عفوًا، أو يجيء الشرُّ من قلة العقل أو النفخة الكذابة.
والثاني في هذا المجلس: الأستاذ حليم، وهو مدرس قديم ناهز الخمسين، وآثر الراحة، فاعتزل العالم مكتفيًا بدخل خاص يسير، ومعاش يقبضه كل شهر من الحكومة وهو قاعد، وهو ضاوي الجسم خفيف اللحم معروق الوجه، دقيق عظام اليدين والرجلين، يأكل كثيرًا ولا يُرى أثر ذلك عليه في بدنه، وحديثه طويل فلنرجئه إلى أوانه.
والثالث شاب في العقد الثالث، بَتِعٌ شديد المفاصل، سريع خفيف حسن الصورة، بياض وجهه تعلوه حمرة، وعلى جلده نمش قليل، وهو خطيب محاسن بنت عياد، وقد آثره على غيره لبياض وجهه، زاعمًا أن هذا يسلكه مع الشراكسة والأتراك، ويرفعه عن طبقة الفلاحين الغُبر الوجوه، وإن كانت الحقيقة أنه فلاح ابن فلاح جلا عن قريته بعد أن أضاع أرضه فيها، فشبَّ ابنه حضريًّا صرفًا وقاهريًّا محضًا، وتعلم الهندسة وفاز بوظيفة في الحكومة، واسمه في شهادة الميلاد محمود، ويدلِّـله أهله تدليلًا سمجًا فيقولون: «حودة»، ومن الإنصاف أن نقول إنه يستسخف هذا الاسم، وكان يثور على من يدعوه به، ثم رأى أن هذه حكاية شرحها طويل فاكتفى بألَّا يجيب كأن المنادَى غيره.
وكان عياد أكولًا شريبًا، ولم يكن هذا يعني أحدًا سواه، ولكنه كان إذا آكل أحدًا أو شاربه، لا يزال يحضه ويستحثه، ويزين له الطعام ويغريه به، ويوالي عليه الكأس دراكًا، وكان من السهل على محمود أن يسايره؛ فإنه شاب قوي لا يتعذر عليه — بل لعله يباهي بأنه يستطيع — أن يكثر مخلطًا من صنوف الطعام مستقصيًا لها.
أما الأستاذ حليم فكان رجلًا قد كبر، فهو يؤثر أن يكون زهيدًا لا يأكل إلا دون الشبع، ويأبى له ما عودته مهنة التعليم من المحافظة على وقاره واحتشامه، أن يشرب حتى يتطرَّح، كان إذا ألحف عليه عياد يرفع الكأس ويميلها على فمه، فِعل الشارب، ثم يردها وما حسا إلا قطرة أو بلة ريق، على حين يعبُّ عياد العبَّة الرويَّة ويضع الكأس كأنما يدق بها المائدة ويقول: «اهح» ممطوطة ممدودة، وكان هذا دأبه حين يشرب؛ يعكف على الشراب جزافًا غير حافل بالكيل كأنما هو في سباق أو رهان، ولا يرضيه إلا أن يرى غيره عاكفًا مثل عكوفه، فإذا استأنوا كبر في ظنه أنه قصَّر في التحفِّي والإكرام، وكان واسع الخلق؛ لا يدع عنده شيئًا من الجهد في إكرام ضيفه، ويجد في انبساط نفسه بالكرم راحة ولذة وزهوًا، ولكنه كان إذا شرب يثقل على ضيفه ويضجره بالإلحاح عليه أن يُقبل على ما قدم له.
وعبثًا كان الأستاذ حليم يقول لعياد: يا أخي كن منصفًا؛ إن معدتي حوصلة دجاجة، فأين تريد أن أدس كل هذا الطعام والشراب؟ وهو لو وُضع في كفة ميزان ووضعت أنا كلِّي بما عليَّ من ثياب في كفة أخرى، لرجح عليَّ.
فيقول عياد وهو يلمس شاربيه المصمغين — أو هكذا يُخيَّل إلى المرء؛ فما كانت شعرة واحدة تنفلت عن محلها في هذين الشاربين المبرمين بل المجدولين، أو تنطفئ لمعتها: كلام فارغ؛ أنا والله رأيت شابًّا أصغر منك جسمًا يأتي على قصعة فتٍّ ويجرفها جرفًا، وكانت لأربعة فسبقهم إليها ومسحها ولحسها.
فيقول الأستاذ حليم: نعم، معدةٌ جيدةٌ قويةٌ تحتمل الكِظَّة، ولكن معدتي طاعنة في السن، فهي أشبه بمخلاة قديمة. هاتِ لي معدةً فتيَّةً وأنا أُريك كيف أقشُّ وأجرُف.
ولكن عيادًا يأبى أن يقتنع، بل يأبى أن يجعل باله إلى ما يقال، أو يسمح للحجة بأن تدخل رأسه وتكلفه عناء التفكير فيها؛ لأن معدته هو هي المحك، والمقياسُ حجةٌ، وما دامت هذه دائبة كالعصرَين من دهره في غير كلال أو فتور، فلا عذر لمعدة أخرى إذا قصَّرت أو ونت، ولو كانت أقدم من هرم خوفو أو جبل المقطم.
وكان التطريب الذي قلنا إنه كان يهفو في تلك الليلة الساكنة الضحياء إلى الجلوس في الحديقة، مصدره محاسن، وهي فتاة غضَّة السن صغيرتها، تدلِف إلى العشرين، ولكنها فيما يرى أبوها عياد قد صارت إحدى المصائب الكبرى، وكانت دقيقة الطول ممشوقة القدِّ، أو نحيفته إذا اعتبرت خفة اللحم على الذراعين والصدر والبطن، ولكنها كانت عريضة الألواح كالغلام، وثدياها صغيران وإن كانا راسخين كالكمثرى الصغيرة، وحلمتاهما ناشزتان طويلتان وحولهما من السواد أكثر من المألوف في العذارى، كأنما كانت قد وَلدت وأرضعت، فأما محياها فأَسِيل الخدين وإن كانا متهضمين قليلًا، وأما شفتاها فرقيقتان جدًّا، يفترَّان حين تبتسم عن ثنايا عِذاب، إلا أنها ليست بالناصعة البياض؛ لإفراطها في التدخين بكُره أبيها ورغمه، وأما عيناها فنجلاوان ظمياوان، ولكنهما تبدوان حين يعروهما فتور أو كمد أو اضطراب ثابتتين، ويُخيَّل إليك أنهما أظلمتا، وكان حاجباها سابغين مهللين كأنهما خُطَّا بقلم، وجبينها عريضًا واسعًا، وشعرها أسود فينانًا في طول واسترسال ونعومة، تُفيئه كيف شاءت بغير احتفال أو عناء، وكانت تؤثر أن ترسله ولا تجمعه.
أما أنها إحدى المصائب الكُبَر؛ فذاك لأنها عرفت من سيرة أبيها ما كان يكره أن تعرف هي أو أمها، ولكنها كتمت سرَّه واكتفت بإذلاله به، فأرخى لها الحبل على الغارب، فركبت رأسها، ولم تعُد تحفل غير أمها، وكانت هذه ضعيفة بطيئة الجسم والعقل معًا، لا متصرَّف لها ولا حيلة عندها.
على أن الفتاة لم تكن سعيدة بهذه الحرية أو موفقة فيما تعالج أو تدبر أو تطلب من الأمور، وقد ورثت عن أبويها ضعف الرأي، وقلة الإحكام للمراد، والاستعداد للرضى بالكلام، والاستنامة إلى كل أحد، وشيئًا من الزهو والغطرسة والميل إلى التظاهر والتفاخر بالباطل أو بأكثر مما هناك.
وكان جانب الغفلة فيها يكاد يلقيها على المعاطب، فلا يقيها إلا بقية حذر مستفاد من الكِبْر الموروث والأنفة أن يقال غوت وضلَّت بنت عياد، ومما أكسبتها الحرية من اعتياد الاعتماد على نفسها في أمورها وإيقاظ ما في رأسها من عقل ليعينها ويمدها بالرأي فيما هي ماضية إليه. على أن الأرجح أن هذا كله ما كان ليُجديها ويحميها لولا أن ساعفها حسن حظها.
على أن حسن الحظ أمرٌ نسبيٌّ؛ فقد كانت حسنة الحظ إذا اعتبرت ما آلت إليه في كل مرة من السلامة، ولكنها كانت سيئة الحظ إذا اعتبرت أن أملها خاب في كل مرة حتى كادت تصير إلى اليأس في كل ما تطمع فيه وتحرص على إدراكه؟ فاضطربت أعصابها وأتعبها وأقلقها قلبها بنوبات من الخفقان الشديد لا مثيل لها إلا هذا الاضطراب، وقللت طعامها، لا زهادةً فيه، ولا عن ضعف اشتهاء له، بل من الضجر والحيرة وقلة التوفيق وكثرة الإخفاق وخفاء ما ينعش من العثرات، ويُصلح هذا البخت المقلوب.
وزاد الطين بِلَّةً لما تعلق أبوها بحُسَّانةٍ يهودية راح يحملها معه إلى المصايف والمشاتي ويزعم لأهل بيته أنه مندوب لمهمات تستوجب هذا السفر والغياب؛ فأنزفت هذه المهمات أكثر ماله، وقتَّر على أهله في النفقة، وأصارهم إلى ضنوكة غير معهودة، وإن كانت في ذاتها محتملة ولكن وطأتها ثقلت بالقياس إلى ما كان من السعة، وشقَّ على محاسن أن تلقى نفسها تروم الشيء فلا يتهيأ لها، وأنها اضطرت إلى الكف عن التعلم، وكان مرجوَّها أن تواصله حتى تبلغ به مناها فتصبح شيئًا له قيمة وبه استقلال، فتفيد بذلك مَزِيَّةً تضيفها إلى مزايا الحسن والشباب وكرم الأَرُومَة؛ فقد كانت تعتز بأَرومتها الشركسية وإن كانت رقة الحال قد خففت من غلوائها وطامنت من كبريائها.
وكان كل هذا — مضافًا إلى ما يهتف به شبابها، وما تجده من الرغبة فيها والإقبال عليها — ربما أغراها بالإطماع في نفسها دون التمكين، فاعتقد الشبان الذين اتصلت بأسبابهم أسبابها نوعًا ما، أنها مخادعة عابثة، تُظهر خلاف ما تُبطن، وتعطيهم باللسان ما ليس في القلب، وتجرِّيهم وراءها لتلهو بهم وتسخر منهم، فانصرفوا عنها ساخطين محنقين، وبسطوا ألسنتهم فيها، فصارت لها سمعةٌ لا تطيب لامرأةٍ، وإن لم تكن من الحق في شيء.
ومع ذلك خطبها غير واحد قبل محمود، فأما أول الخُطَّاب فعلَّق خطبته على شرط أن يزوج أخته، وكانت تصغُره؛ لأنه كان أبرَّ بها من أن يختص نفسه بنعيم الزواج دونها، ولكن عزوبة الأخت طالت فضجر عياد أفندي ومحاسن، ونقضا الخِطبة.
وجاء ثانٍ من إخوان عياد أفندي وجلسائه وسمَّاره، ولم يخطب البنت، ولكنه تحبب إليها، وصفت هي إليه بودها؛ فقد كان أنيس المحضر لطيف الفكاهة سخي اليد، وخُيل إلى عياد أفندي وامرأته أن المسألة مسألة أيام، ولكن الأيام والشهور تقضت وهو لا يزيد على التودد، ولا يجاوز ما يبدو من إقباله إلى الخِطبة والطلب، ولا حتى إلى الوعد، وما زالت نيته مضمرة لا يتحدث بها أو يكشف عنها، وإن كان لا يكف عن إظهار المودة والإعجاب، والغيرة أحيانًا.
ثم كان محمود، وهو يحبها، ولا يجهل ما قيل فيها وشاع عنها، وكان يعلل هذا بأنه قدح شبان لم ينالوا منها منالًا فذهبوا يشنعون، ولَلذي قالوا فيها أدعى إلى فخرها، وبحسبها أنها امتنعت عليهم واستعصت على المغريات، ولكن أشياء بقيت مع ذلك تحك في نفسه وتدور في صدره، ولا سيما حين يرى قلة مبالاتها بما يكون منها؛ كأن تذهب إلى السينما مع رجل لم تعرفه إلا في يومها، بل قبل ساعة واحدة من الاقتراح، أو حين تُقبل على الأستاذ حليم إقبال الألفة والثقة وتسارره وتضحك، ويساررها ويبتسم كأن بينهما ما يكتمان أو ما يتساقيان تذكره.
ولم تكن محاسن تبادل محمودًا حبًّا بحب، بل لعلها لم تكن تباليه أو تعبأ شيئًا بإقباله أو إدباره، إذا صح ما كانت تُفضي به إلى الأستاذ حليم حين يخلو لها وجهه، ولو كان محمود حصيفًا لكان الأرجح أن يسلس في يده قِيَادها، ولكنه أثقل عليها ونفَّرها بأن كان عيَّابةً لا يزال يقع فيها ويذكِّرها بما يُشنِّع به عليها أهل الحي وعارفوها من غيره، ولا ينفكُّ يُسمعها من الكلام كل سوار يأخذ بالرأس كلما رآها طاشت أو نبتْ في العنان، فتثور به وتكايله وتقول له أوجع مما قال لها؛ فتقع الجفوة وتحل النَّبْوة، ويفسد الحال، ويعجز عياد أفندي عن إصلاحه، فيستجير بصاحبه الأستاذ حليم، فيشكره محمود وهو كاره وفي قلبه غيرة تضطرم؛ لما يراه من سلطانه عليها وطاعتها له.
٢
وكان أمر الأستاذ حليم عجبًا، وهو رجل يتمثل فيه «نقص القادرين على التمام» كما يقول أبو الطيب؛ فقد كان محيط علم، وكان إلى علمه فهمًا نجيبًا و«لوذعيًّا يرى بأول ظن آخر الأمر من وراء المغيب»، ومع ذلك أبى أن يكون أستاذًا في الجامعة وآثر الإخلاد إلى الراحة؛ ولو شاء مع الراحة وخلو الذرع وانفساح الوقت لجاء الناس بجَناةٍ طيبة وثمار يانعة من شجرة علمه المحلال، ولكنه ترك الخلفة واللَّحَق من ثمرها يهمد في موضعه ولا يُدرى أو ينتفع به الناس، وكان ماله كافيًا للسَّعة والخفض ونعيم البال، ولكنه كان يعيش عيشة الشظَف والضيق كأنه مخفق مخفٌّ من المال أو مسكين، وكان أخوف ما يخاف الفقر والحاجة، فهو يضيِّق على نفسه وأهله خشية الضيق، وكان معافًى في بدنه، ولكن طول إكبابه على التحصيل ومواظبته على الدرس والمطالعة مع قلة الطعام وسوئه، أورثاه ضعفًا في جسمه وفسادًا في معدته وحشاه وتلفًا في أعصابه، ومع ذلك لا يستشير طبيبًا ضنًّا بأجرته وثمن الدواء، واكتفاءً بما يصفه له إخوانه من العقاقير «البلدية» مثل المصطكا والحلتيت وما يجري هذا المجرى، فلم يصحَّ قطُّ مما به.
ووقع له في عنفوان شبابه ما زاد تلف أعصابه؛ فقد أحب جارة له معلمة مثله، وكانت ذات حسنٍ وشَوْرَةٍ، طيبة النفس ضحوكًا، وأريبة موثوقًا بفضلها وعقلها، ولكنها كانت أيضًا ذات فلسفة وعناد، وأحبته سميحة كما أحبها، غير أنها لما عرض عليها الزواج ترددت، وسوَّفت، وكانت تقول لأختها كلما جادلتها ونهتها عن هذه المماطلة التي لا خير فيها ولا حكمة: إني أحب الأستاذ حليمًا؛ أحب مظهره ومخبره؛ فإنه سمح واسع الأفق رحيب النفس، وأحب مشيته التي لا تكلُّف فيها ولا جهد، وأحب صوته ونبرته المرتعشة، وأحب فوق ذلك لمعة عينيه وذلك الإدراك التام الذي لا أخطئه فيهما حين أنظر إليه، ولكن هناك شيئًا يخيفني، لا أدري ماذا، وإن في نفسي لشكًّا عجيبًا؛ فأنا أحبه، ما في هذا شك، ولكن أشك في قدرتي على مبادلته حبه لي، فإنه عميق مستغرق، ويفزعني شكي هذا، فأحس كأني أتحسس في الظلام باحثة عمَّا لا أدري.
وأخيرًا تم الزواج.
وقالت لها أختها ليلة الجلوة — وكانت أحكَمَ طبعًا: إن في حليم كل مُشتهى المرأة؛ وأعتقد أنك ستكونين معه سعيدة، ولكني أرجو أن تذكري دائمًا أن عليك أنت بذل أقصى ما يدخل في طاقتك لإسعاده؛ فإن على المرأة أن تمنح بعلها فوق ما ترجو وتتوقع أن يمنحها.
وكان هذا أشبه بالإنذار، أو التحذير. وكانت سميحة تريد إسعاد حليم، وقد أسعدته؛ ولكنها كانت تبدو شاردة ساهمة كأن بها شيئًا، ولم يفُت صواحبها هذا، ولكنهن حسبنه من نشوة السعادة، فرحن يركبنها بالفكاهة، وهي لا يسعها إلا أن تبتسم متكلفة، فما كانت تستطيع أن تصارحهن بأنها دهِشة فزِعة، وأنها تخاف شيئًا مجهولًا خفيًّا لا تدري ما يهجم عليها منه.
وقال لها حليم لما انفضَّ الجمع وخلا بها: إنك ما زلت طفلة، وسيكون عليك أن تعرفي الحياة، وتفهمي معناها، وإنه ليسرني أني سأكون معلمك.
فأحست أن هذا تأنيبٌ؛ فكأنه قال لها إنه وجدها دون ما كان يتمثل، ومن أجل هذا يتكلف هذا التعليل لما تَبيَّنه من النقص، ولعل الأرجح أنه لم يكن يدرك — ولا هي أيضًا — أنها كانت غير ناضجة من الوجهة الجنسية، وكان شعورها بنقصٍ ما فيها يرتسم على وجهها، حتى لقد قال لها بعد يومين من زواجهما: ألا تستطيعين أن تبتسمي لزوجك؟ أتذكرينني؟ إنني الرجل الذي شرَّفتِه بأن تكوني امرأته.
فأكرهت وجهها على الابتسام لتستر ما يخالجها.
ثم استقرت الأمور، واطَّردت الحياة على نحوٍ لا شذوذ فيه عن المألوف، وجاء يومٌ أحست فيه بدوار واضطربت معدتها، ونهضت فاستشارت طبيبًا ثم عادت تحمل أشياء مما يُعدُّ للولدان، فلما رأى حليم ذلك أبرقت عينه وسألها: ما هذا؟ قالت: لولدك، فجمعها في ذراعيه مترفقًا وقال بصوت خفيض كالهمس: أنت والولد! هذا كل ما ينشد رجل من دنياه.
وكانت تحدِّث نفسها أنها ينبغي أن تكون سعيدة، وتحاول أن تعتقد أنها كذلك، ولكنها على فرط ما جاهدت وطوله لم تستطع أن تتخلص من ذلك الخاطر المخامر الذي كان لا ينفكُّ يقول لها: إن الزواج غير ما كانت ترجو وتتخيل.
وطال عليها الانتظار وثقُل، وملَّت استشارة الطبيب كل بضعة أسابيع، واجتوت الطعام الموصوف، وتقززت عنه، وشقَّت عليها إدارة أمور البيت وتكلُّف البشاشة وهي تحس أن أعصابها كالشوك الحديد، ثم جاءها المخاض في منتصف الليل فذعرت وأيقظت حليمًا، وأصرت أن ينقلها إلى المستشفى.
وآلت سميحة أن يكون هذا آخر طفل تلده.
وأقبل عليها حليم ذات ليلة يقول لقد كنت جميلة قبل أن تحملي ولكنك الآن … لا أدري، كأنما تم حسنك، لا أعني أنه كان ناقصًا، وإنما أعني أن فيه شيئًا جديدًا يخونني التعبير عنه.
فقالت: هذا خيال، لقد طال سقمي حتى نسيت كيف كانت هيئتي قبل ذلك.
قال: كلا، فإن لك لوضاءة، وإن بشرتك لتبدو لي كأنما من الشمع، وأنت الآن زهرة يانعة، وكنت قبل ذلك كِمًّا.
وانحنى على الطفل وداعب راحته الصغيرة المطبقة بأصبعه الكبير ثم التفت إليها وقال هذه بداية طيبة، وإني لأرجو أن يكون إخوته وأخواته مثله صحة وصباحة.
فقالت له وهي مقطبة: اسمع، إني لا أريد أن أجيئه بإخوة أو أخوات، هذا حسْبي، وهو الأخير، فاعرف ذلك.
فقال: لا أظن أنكِ جادة! وبعد السعادة التي فزنا بها؟!
قالت: التي فزتَ أنتَ بها.
وأصرت على أن تنقل سريرها ومهد ابنها إلى غرفة أخرى، كأنما كان هذا لا بدَّ منه ولا غنى عنه، أو كأنما أرادت أن يكون مظهرًا حاسمًا لعزيمة ماضية وإرادة حَذَّاء.
من ذلك اليوم صار الأستاذ حليم كأنه مقيم في فندق لا يربطه بمن فيه غيره سوى الجوار، وفقد لفظ الأسرة معناه، والزواج مدلوله، وانطوى الرجل على نفسه، ولاذ بمكتبته، وانزوى فيها، ولم يقصر في مناشدة سميحة أن تفيء إلى القصد، وأن يفهمها أن اتقاء الحمل لا يقتضي هذا الذي هو فراق في حقيقته، ولا يمنع أن يعيشا زوجين وإن كان لا محيد عن الحذر واتخاذ ما يشير به الطبيب من الحيطة الوافية. غير أنها أبت كل الإباء أن تكون له أكثر من جارة، فقطع الأمل، وأضمر اليأس، وصار يتشمم ولا يذوق، ويشتهي ولا ينتهي له اشتهاء، ويجزع على الحرمان ويضنيه جهد التصبر والتجلد، ولا يجد السلوة وطيب النفس عن الزوجة العصيَّة إلا بالخيال يلجأ إليه والكتاب بين يديه أو على ركبتيه، فيزوده ويغني خياله بصور مما يتلهف عليه من المتع التي فاتته بعد أن ذاقها واستطابها، واعتاض ذلك مما حرمه على إغراقه في الرغبة فيه والطلب له حتى صار ذلك له عادة وديدنًا.
وكان ذلك في البداية أشبه بأحلام اليقظة؛ فكان يجلس في حجرة كتبه، ويتناول كتابًا يفتحه بين يديه، كيفما اتفق، ثم يذهب يحاول أن يحضر إلى ذهنه صورًا مما استحلاه في حياته الزوجية، ولم يكن يتمثلها على حقيقتها وكما كانت أو وقعت، بل كان يتلكأ عند بعض مناظر هذا الشريط الوهمي، ويتريث أو يستوقفه ليَطلي متعته به، أو يؤكده ويبالغ في إبراز الصور، ويعمق ألوانها أو يخففها على هواه، ويحسنها على العموم ويطمس أو يحذف جملة ما لم يكن يرتاح إليه، غير أن هذه الصور المستمدة من حياته مع سميحة كانت لا تخلو من تنغيص؛ لأن سميحة لم تكن تثبت في علاقتها به على خلق واحد، ولا كانت تُعنى بأن تبدي له اللطف والرقة والإقبال أو اللين والمراضاة، ولعلها لم تكن تستطيع ذلك لدخل في أنثويتها، وكانت معه في الأكثر والأغلب على حال المستسلم على كره ومضض، المزدري لما يضطر إليه، لا على حال الراغب المبتهج ببلوغ سؤل نفسه، فيبوخ مرة وتصيبه من بادي ضجرها وجفوتها قِرَةٌ تتركه مع ذلك يتفصَّد عرقًا.
من أجل هذا لم يلبث الأستاذ حليم أن زهد في هذه الصور التي يشوبها ويشوهها من كل ناحية ما ينفِّر منها، ولكن من أين له بصور أخرى ولا عهد له بسواها؟! وألفى نفسه عاجزًا عن خلق شيء من لا شيء، أو الإبداع من غير توليد، وأبت صحراء تجاربه إلا أن تظل سباسب؛ يسبر طولها ولا يلفي سوى رمضائها متقلَّبًا له فيها؛ فاشترى مجهرًا قوي العدسات، وكانت الحجرة التي اتخذها مكتبًا على الطريق، فصار يوارب الشباك وينظر بالمجهر من الفرجة التي بين المصراعين، وكانت أمام البيت محطة للترام، وعلى كثب منها محطة للأتوبيس، وقلَّما يخلو الرصيفان من فتيات أو نسوة ينتظرن ليركبن ويتلفتن يَمْنَةً وَيَسْرَةً، ويمشين خطوات من القلق أو الملل: فتبدو له صدورهن، وظهورهن، وجنوبهن، وسيقانهن كأوضح وأقرب ما تكون بفضل المجهر، فإذا جاء الليل وخلا بنفسه، حاول أن يتمثل الصور التي رآها في نهاره، واعتاد من جَرَّاء هذا حين يكون على الطريق أو في الترام أن ينظر إلى كل سيدة أو فتاة وهي مقبلة ثم وهي مدبرة، ولكن الفتيات الناهدات كنَّ أحب إليه؛ لأنه وجد أنهن أقدر على ابتعاث نفسه وتحريك شعوره المكبوت، وعلى الرغم من إقباله على النظر وطول تحديقه في القدود، كان يجد عناءً في إحضار صورهن إلى نفسه في خلواته، فقد كانت القدود المتخيلة تختلط وتتداخل ويتسرب بعضها في بعض، فيزوغ بصره، ولا يستطيع أن يتشبث أو يحتفظ — على فرط التوضيح — بصورة قوام واحد لا يموج أو يضطرب أو يتداخل في غيره، فيعود وكأنه ناظر إلى إحدى تلك المرايا التي تشوه الشخص فتجعله كله رأسًا أو كرشًا، وتفعل به غير ذلك من المسخ للتسلية.
ولم يكن الأستاذ حليم همُّه التسلية، وإنما كان همُّه سد خلَّة حقيقية وإخماد ضرم يشتد منه حر جوفه من طول الفطام.
وكان لفرط حيائه، ولما نشأ عليه من الاحتشام والتعفف، ولبخله أيضًا، لا يخطر له، ولا يقدر حتى لو خطر له، أن يتخذ له خليلة، أو أن يعرف إحدى هؤلاء الطوَّافات اللواتي يَنْقَدْن لمريدهن ويَقْرَرْنَ لما يصنع بهن. أما الزواج بأخرى غير سميحة فمسألة ليس فيها مجال للنظر.
وعلى الأيام صارت أحلام يقظته، مقرونة بأحلام منامه، وكانت أحلامه في أول الأمر ممعنة في الغمض، فإذا استيقظ لم يجد ما يذكر منها، وكان معظمها يدور على ما تشتهي نفسه ولا يجد الوسيلة إليه؛ ثم برز من بينها حلم صار يتكرر من حين إلى حين، ويزداد مع التكرار وضوحًا وجلاء حتى كأنه خاطر مخامر، وسُرَّ هو به، فراح يعيده على ناظره في يقظته؛ ذلك أنه كان يرى نفسه في منامه يلتقي بأنثى على صورته هو، وكانت تشبهه في كل شيء إلا في الدمامة وفيما يتميز به رجل من امرأة، فكأنها العنصر الأنثوي الذي لا يخلو منه كيان رجل، قد انتُزع وتجسد بشرًا، وكأن الأستاذ حليمًا قد آض بذلك إنسانين: واحدًا مكتملًا يجتمع فيه ويتسق عنصرَا الذكورة والأنوثة على نسبةٍ ما في اليقظة، وواحدًا ينشطر في المنام شطرين منفصلين: ذكرًا وأنثى، متحابين متواصلين متراضيين متوافقين على الاستغناء بنفسيهما عمَّا عز مطلبه في حياة اليقظة وثقلت عليهما وطأة حرمانه؛ فلا حاجة به بعد ذلك إلى تألُّف النافرة منه، أو مراجعة الممسكة عنه.
وكان أطيب ما وجد من هذا الحلم الذي طال ترداده حتى صار عنصرًا ثابتًا في حياته الخاصة المحجوبة، أنه كان يفيد منه شعورًا مزدوجًا، أي شعور عنصريه المتبدِّيَين في المنام، فازدهاه ذلك، وخُيِّل إليه أنه بذَّ الرجال الذين لا يرون ما يرى بوجدانه ما لا يجدون، بفضل هذا الازدواج في شخصيته، وإدراك ما لا يستطيعون أن يدركوه ولا تخيُّلًا.
على أن هذا كان ربما أقلقه وأزعجه؛ فقد كان يخشى أحيانًا أن يكون مظهر شذوذ منكر، أو آية ضعف، أو عرضًا لمرض، وكان كثيرًا ما يهمُّ أن يعرض أمره على طبيب، فيصده الحياء إذا لم يصده البخل، ويعود فيقول لنفسه إنه ليس من فعله، وإنه يحدث له عفوًا، وفي منامه حين يضعف سلطان الإرادة، أو يستقل العقل الباطن عن العقل الواعي، وإنه على كل حال لا حيلة له فيه ولا قدرة على منعه، ثم إنه لا يرى منه ضيرًا؛ فما زال هو هو في حياته العامة، وعلى العهد به مع الناس، وما أنكر الناس منه شيئًا، ولا بدا عليهم أنهم يفطنون إلى هذا التحول الباطني الذي اعتراه، بل ليس هناك ما ينبئ أنهم واقفون على حقيقة ما بينه وبين امرأته، فقد كانت هي بادية السعادة بما صارت إليه من الرهبانية، وبولدها الوحيد الذي لا تبغي من الولد غيره.
غير أن هذا لم يطمئنه، وكيف السبيل إلى اطمئنانِ مَن لا يدري، ومن لا يزال يقول في صفة حاله وفي تعليلها وفيما عسى أن يكون لها من آثار بالظن والتخمين؟! وقد ألح عليه خاطر أفضى به إلى ضعفٍ محسوس؛ ذلك أنه قال لنفسه: إن تمثُّل عنصر الأنوثة في الرجل — ذلك الشطر المكنون أو المغلوب على أمره في اليقظة — في المنام له بشرًا، ليس بالأمر المألوف أو الشائع، وإن كان العلم لا يعيا بتفسيره، والعنصران: الذكورة، والأنوثة مندمجان لا ينفصلان، وتفاعلهما على نسبتهما في كيان الرجل هو الذي يكسبه شخصيته الخاصة وما تتميز به من خصائص القوة أو الضعف أو غير ذلك، وهما كموجتين غابت إحداهما في الأخرى، فصارتا موجة واحدة وكُلًّا لا يتجزأ، أو كمصباحين متفاوتين اجتمع ضوءُهما، فالنور المنبعث منهما معًا وحدة وجملة يستحيل أن تتبين معظمها من أقلِّها، فإذا أمكن انفصال هذين العنصرين فيما يحس الرجل — ولو في منامه — أفلا يكون هذا تصدُّعًا في كيانه، وإن بقي ثابتًا متماسكًا فيما يرى ويحس في اليقظة؟! وإذا أمكن أن نتصور تيارًا مغنطيسًا يلم ذرات أحد العنصرين ويجمعها ويعزلها عن ذرات العنصر الثاني، أفلا يكون مؤدَّى هذا نقض الشخصية التي كان قد أثمرها اتحاد العنصرين واندماجهما؟ واقتنع الأستاذ حليم بهذا المنطق، وراح يقول لنفسه: إنه كان كائنًا حادثًا من امتزاج عنصرين وتزاوجهما، فصار ينقصه على الأقل متانة الامتزاج، فهو كالبناء المتصدع المُشفِي على الانهيار، ولا مفر من أن تحدث هذه الركاكة الطارئة في بناء الإنسان؛ ركاكةً في قوته وفتورًا في قدرته على العمل والاحتمال، ورخاوة وقلة غناء، ولم يمنعه أن يقتنع بهذا أنه في يقظته يبدو كما خلقه الله، ولا نقص أو تهافت فيه ولا تغير؛ فقد قال لنفسه — كأنما كان مُغرًى بإقناعها: إن كل ما بين اليقظة والنوم من الفرق أن سلطان العقل الواعي يفتُر في أثناء النوم، وأن الإرادة تضعف، فيسع ما وراء الوعي أن يتبدَّى، والأحلام راجعة إلى هذا، فدلالتها عظيمة، ومن الضلال والحمق الاستخفاف بها أو إهمال أمرها. وهكذا ظل يلح على نفسه بهذا وما إليه حتى أيقن أن به ضعفًا جنسيًّا لا مراء فيه ولا حيلة، ووطَّن نفسه على ذلك فسكنت أعصابه إلى هذا اليقين، لطول ما ألحَّ في رياضتها عليه.
وكان في وسعه أن يريح نفسه ويستعيد الثقة بها والاطمئنان إلى سلامته وبرئه من هذا الضعف لو قصد إلى طبيب؛ فما خلق الله الأطباء عبثًا، ولكن حياءه وبخله أبيَا عليه إلا أن يغرياه بالتفلسف على نفسه حتى فسد الأمر.
ومن الغريب مع ذلك أن حياءه لم يمنعه أن يُسِرَّ إلى صديق له أنه يجد نفسه في هذه الأيام فاترًا لا نشاط له؛ فزعم له صديقه أن هذا طبيعي؛ لأنه يعيش بين الكتب لا في الدنيا، وجرَّه معه مرة إلى مجلس لهو لا كلفة فيه عليه، فألفى نفسه أميل إلى الصغيرات منه إلى غيرهن، وآنس بهن، وأقدر معهن على إرسال نفسه على السجية، وتناسي ما يعانيه من توهم الضعف.
ولم يتجاوز الأمر حد المؤانسة والمجالسة والمفاكهة، ولكن الأستاذ حليمًا انصرف من هذا المجلس وهو يعتقد أن علاجه أن يلتمس مجالسة الفتيات الصغيرات في خَلقهن وأسنانهن؛ فإن الدقة في خلقهن توحي إليه معني القوة، وصغر سنهن يشجعه ويرد إليه الثقة بنفسه لغرارتهن وقلة تجربتهن — على الأقل نسبيًّا، وسره أن فتح الله له هذا الباب وهيأ له مخرجًا يعفيه من ثقل وطأة الشعور بالضعف، وما من أحد إلا وهو ينشد القوة والبأس والسطوة، أو يدَّعيها على صورة من الصور إذا لم تكن مما وهبه الله وآتاه، وقد كان حسْب الأستاذ حليم ما آتاه الله من العقل والعلم، ولكن ذلك الضعف الحقيقي أو المتوهم كان يثقل عليه وينغص عيشه، ويأخذ على عقله كل متوجَّه؛ بل هو الذي كان يوحي إليه ما يصدر عنه من قول أو فعل، فهمُّه في حياته أن يداريه، أو يعوضه إذا أعياه أن يتغلب عليه، أو يقويه.
وقد انتهى به المطاف إلى محاسن؛ لأنه شام منها عقلًا وفطنة تعرف بهما قدره، وغرارةً تجعلها تتطلع إليه، وقد طمست شهرته العلمية ضعفه الخفي، وتخيل القليل منه كثيرًا عظيمًا في نظرتها، وآنس منها ثقة به أغرتها بالبث والقول بشجوها، ومصارحته بأخفى الأسرار، وكانت تجد من بساطته وحسن فهمه وسرعة فطنته وإقباله عليها مع سنه وأدبه ما يسهل عليها ذلك، فاتخذت منه قسيسًا تعترف له، واتخذ هو منها تلميذة، وارتضت هي هذا المحل، فأقبل عليها يعلمها ويعرفها بالحياة وهو جاهل بها، أو لعل الصحيح أنه كان يمتحن فيها نظرياته وآراءه، وقد يكون الأصح أن نقول: إن نوع استجابتها له كانت دروسًا يتلقاها عنها ويستفيدها منها.
ولم يكن أعجب من منظر هذا الأستاذ الضاوي المعروق الذي جلله الشيب — أو كاد — وهو يتأبط ذراع الفتاة الصغيرة ويرتاد بها منازه المدينة، ولم يكن في منظرهما أو حالهما ما يدل على علاقتهما، فكان الذي يرى وقار الشيب واحتشام الرجل ويؤثر حسن الظن يحسبها بنته، والذي يرى رقَّته لها وتحفِّيه بها وضحكه إليها ولطفه في مخاطبتها يستريب ويُنكر، أو يتردد على الأقل بين طرفي الاعتقاد غير قادر على الترجيح أو الجزم.
وكان إذا لقي — وهي معه — بعض زملائه القدامى، لا يضطرب ولا يتكلف، بل يقول لصاحبه في بساطة: بنتنا محاسن، ويبتسم، فينصرف الرجل وأكبر ظنه أنها بنت أخ أو أخت.
على أنه كان يؤْثر المكان البعيد الذي لا يطرأ فيه عليهما من يعرف ومن لا يعرف، وكان في ضاحية نائية، فيقصد إليها بها في آخر النهار ومعه زجاجة صغيرة مبططة كانت لدواء، فيها شراب، حتى إذا بلغه وجد عبد الفتاح بائع القازوزة، فألقى عصاه عنده، ويجيئهما عبد الفتاح بكرسيين، وبالثلج والماء لشرابهما، وبخبزات مستديرة يابسة مخلوطة بالسمسم، وقطعٍ رقاقٍ من الجبن لطعامهما، وكان هو يشرب قدحه ويستطيبه ويتمطق أيضًا، أما هي فكانت تذوقه وتزوي وجهها وتقبضه، فيضحك، وكان يحرص على أن يدعها تتحدث، مكتفيًا بحسن الإصغاء والابتسام المشجع، وهزِّ الرأس من حين إلى حين علامة الموافقة أو الفهم، فتفتح له قلبها وتدلق كل ما فيه، وقلَّما كان يثقل عليها برأيه وكلامه، ولكنه كان لا يسعه أحيانًا إلا أن ينصح لها متلطفًا معها ويوجهها إلى ما هو أرشد وأحجى وأولى بأن ينيلها مبتغاها، أو راحة القلب من وجع الدماغ، ويسرُّه منها ويغرُّه أنها كانت تصدر عن رأيه في كل حال.
وكانت محاسن مزَّاحة طيبة الحديث تقبل الملاعبة ولا تضن بالقبل، ولكنها لا تطاوع على ما سوى ذلك، وكان هو قانعًا بهذا القدر، لا ينشد ما جاوزه — وإن كان يشتهيه — ولا يخطر له أن يغافلها، أو يغالطها أو يستدرجها أو يشجعها على ترك التحصن؛ لأنه كان يجد الكفاية من الاستمتاع في هذا القدر من التقارب للغزل، ويرى أن إخلادها إليه بالثقة والاطمئنان قد حمَّله أمانة، وقد اعتاد الكبح والحرمان، فأيسر الأمرين أن يمضي على ما ألِف، وأعسرهما أن يتعرج، ثم إنه كان يخشى عاقبة الطمع، ويتقي أن يهجم — لو أن في طبعه أن يهجم — فيقعد به ما يتوهم أنه صار إليه؛ فقد كانت ثقته بنفسه مضعضعة.
غير أنه كان من العسير أن يلتقيا مرة بعد مرة، وأن تكون بينهما هذه الصحبة المتينة الطويلة، وأن يكون كل منهما للآخر ناموسه وصاحب سره، لا ينشرح للكلام أو يتبسط فيه إلا معه، دون أن يقع شيء ما، وقد أعان على ذلك ويسَّره اطمئنان محاسن إليه وثقتها بعقله وما تتوهمه من خبرته ومعرفته، وليَّنها له طول تقاربهما للغزل، وغلبتْه هو على عقله لهفته على امتحان نفسه، وخيلت إليه اللهفة أن في وسعه أن يغالطها ويستر ضعفه بحيلةٍ ما، إذا أخفق؛ فإنها غريرة، خليقة أن تحسب كل شيء منه هو الغاية التي ليس وراءها غاية، وشجعه اطمئنانه إلى سلامة العاقبة، وظل أيامًا مترددًا مترجحًا، ولكن ما يدفعه كان أقوى مما يصده.
وجاءته يومًا تقول إنها لم تُقْرِ في شهرها وأنه لو لم يمسسها لما أوجست خيفة، فذعر المسكين ولم يعد يدري ماذا يقول أو يصنع، وأنحى على حظه، ولعن نحس طالعه، على أن خوفه كان عليها وجزعه من أجلها، ومن العجب أنها — على قلقها — كانت هي التي تطمئنه وتحاول أن تُذهب عنه الروع.
وذهبت إلى طبيب تعرفه، ولم تزد على أن قالت إنها لم تُقْرِ، فوصف لها حقنًا وعقاقير؛ منها ما يفيد القوة، ومنها ما هو للتنظيم، فلم يفد ذلك.
وكان هو لا يستقر، ولا يدري بمن يعوذ، ومن يشاور؛ فإن المشاورة تقتضي البث والمصارحة، وذلك ما لا يقوى عليه، ومن سخر القضاء أن عيادًا كان هو الذي أنقذه؛ ذلك أنه لاحظ عليه الاضطراب والوجوم والكمد، فسأله عن خَطْبه، فتلجلج، وماذا تراه يستطيع أن يقول لأبي محاسن؟! ولم يفته ما في الموقف من تهكم الأقدار، فضحك — وشر البلية ما يضحك — وألهمه الله أن يلفق قصة طويلة عريضة اخترع كل ما فيها إلا ما يقيمه ويقعده، فطيب عياد خاطره، ودله على طبيبة نظارة مدققة، وعرض أن يرافقه إليها، ولم يكن عياد خالص النية فيما عرض، فقد نازعته نفسه أن يرى هذه الفتاة ويعرفها، وطمع أن تتصل أسبابه بأسبابها، غير أن الأستاذ حليمًا أبى المرافقة، وهل كان يسعه غير ذلك؟ وقصد إلى الطبيبة وحده أول الأمر ليستوثق من أنها لا تعرف محاسن، لما اطمأن مضى بها إليها، فعالجتها علاجًا حكيمًا فيه بُعد نظر واحتياط لكل ما هو محتمل، حتى لا تسيء إلى الفتاة من حيث تريد أن تُحسن، وكانت تطلب حقنًا وتصف وصفات بلدية تعرف من خبرتها أنها نافعة شافية، وكان الأستاذ حليم يدور على الصيادلة والعطارين ينشد عندهم ما يؤمر أن يجيء به، وقد أنساه الجزع بخله وكزازته فانبسطت يده بعد طول الانقباض، وقضى أسابيع ثلاثة لا يذوق النوم إلا غِرارًا، وإن كان ثقيل النوم كأنما يشرب مُرَقِّدًا، وكان يصحب محاسن كل يوم إلى الطبيبة، وينتظر في مقهًى قريبٍ، وفي ظنه أن كل جالس أو عابر ينظر إليه ويتعجب، وربما كبر في وهمه أنهم يتهامسون أو يتغامزون عليه بلحظ العين وإيماءة الأصبع، ويتساءلون فيما بينهم عمن يكون؟ وماذا قذف به على هذا الحي؟ فكان يلهج في سره بالابتهال إلى الله أن يتوب عليه ويعفيه من الحاجة إلى غشيان هذا المقهى.
ودعته الطبيبة إليها يومًا وأنبأته أنه لم تبقَ لها حيلة، وأن عليه أن يقصد إلى طبيب أخصائي، فما يسعها هي فوق ما صنعت، وأنها تخشى على نفسها، وعلى محاسن أيضًا، إذا هي حاولت شيئًا آخر، فتوسل إليها، والدمع يجول في عينيه، أن ترشده إلى هذا الأخصائي، فهزت رأسها وقالت بلهجة الأسف والإشفاق، إنها لو كانت تعرف أحدًا لما اجترأت أن تتوسط له في مثل هذا الأمر، ولكنها دلته على طبيبة أجنبية قد يهديها الله فتسدي إليه هذه اليد.
فمضى بمحاسن إليها، ودفعه اليأس وخوف الإخفاق إلى مصارحتها بالأمر كله، فما بقي من هذا بد، عسى أن ينفعه عندها الصدق ويعطِّفها على الفتاة في محنتها، وكانت تصغي إليه وهي مطرقة تزوم، وهو يتفرس في وجهها لعله يلمح فيه ما يستبشر به، ولما انتهى قال: هذه هي الحكاية، واضطجع وفوض أمره إلى الله.
فقالت له: اسمع يا بك، أنا طبيبة، نعم، ولكني لا أستطيع أن أتكلف مثل هذا الأمر، لا جهلًا بل خوفًا. غير أن الفتاة جديرة بالرحمة، فإذا شئتَ استشرتُ في أمرها طبيبًا، وسنرى ما يكون، فعودا غدًا في مثل هذه الساعة.
وخرج لا يدري أيطمئن أم يقلق، وثقلت وطأة هذه الجرة عليه، حتى لتمنى أن يقنط؛ فإنه أرحم، وكانت محاسن تضحك منه، فيزجرها ويروح يهول عليها بما يقدر أنه سيكون ويسهب في الوصف ويتوسع في البيان كأنما يجد لذة في تعذيب نفسه، حتى يكاد يخلع قلب المسكينة.
ولكن الله لطف بعبديه، والله يضع رحمته حيث يشاء، وتشهد أستاذنا حليم، ولكن ما عانى من الكرب جاوز طاقته، فآلى ألا يعود.
وصارت محاسن بعد ذلك أهدأ، وأكثر اتزانًا، وأقل خفةً، فلو رآها الذين كانوا يقولون إنها طامحة الطرف لا تبالي أن تدنو من الرجال لتعجبوا، وأنَّى لهم أن يعلموا أنها امتُحنت أقسى امتحان، وأن عزمها كان مستقرًّا على الانتحار، وأن تكلُّفها أن تظل ضاحكة السن قد كلَّف أعصابها شططًا؟
وأنَّى لمحمود أن يعرف السر فيما صارت تتعمد أن تبديه من التبرم به والإعراض عنه؟