الفصل الثالث
١
وجدت محاسن أنها لم تعد تطيق الصبر على ما هي فيه، وأنه لم يبقَ لها ما تتعزى به، أو تتطلع إليه، وتشدِّد بالأمل فيه؛ فأبوها لا يفتأ يغيب عن بيته ليلة أو ليلتين كل بضعة أيام، ويبيت في حيث لا تعلم، مع صاحبته، ويزعم أنه إنما كان في «مهمة»، وتبلع هذه المهمات معظم ماله، فلا يدع لبيته إلا القليل الذي ليس به اكتفاء، وإذا عاد من «مهمة» برم بالبيت ومن فيه، وأظهر الشكاسة والشراسة، وأبى إلا أن يكون بركانًا منزليًّا في صورة آدمية، واتسعت الهوة على الأيام بين عياد وأهل بيته، وكانت محاسن تجاهد ما وسعها أن تُلقي من ناحيتها على هذه الهوة جسرًا، غير أنها أخفقت؛ لأن أباها لم يتكلف من ناحيته شيئًا من التمهيد أو المعاونة، ولجَّ في نهجه الأعوج، فكان يفسد كل ما هيأت، ويهدم كل ما بنت.
وكانت أمها ضعيفة وهنانة، لا خير فيها ولا اعتماد عليها، غير أنها كانت صابرة لا تشكو ولا تتذمر، وكانت محاسن كثيرًا ما تقول لها إن طراوتها هذه هي التي أطمعت فيها زوجها وشجعته على ركوب رأسه، وإهمال حق بيته عليه، فكانت الأم تؤمِّن على كلامها وتتأوه، وتتنهد ثم تسأل: وماذا يسعني؟! ما حيلتي؟! الصبر طيب. ولم يكن صبرها عن حكمة وبُعد نظر، بل عن ضعف ورخاوة وبلادة.
واستشارت محاسن الأستاذ حليمًا؛ فما كانت تعرف أحدًا غيره تستطيع أن تُفضي إليه بهذه الأمور؛ فعجز عن أن يشير عليها بما فيه خير أو يدلها على ما هو خليق أن يكشف الغُمة ويفرج الكرب.
فسألته: وما رأيك؟ ألا أستطيع أن أزاول عملًا أكسب به رزقًا؟ إنه لا بدَّ لنا من مال أفيده، وأعوض به النقص؛ فإن أبي يزداد كل يومًا ضنًّا وتقتيرًا؛ لأنه يزداد كل يوم تورطًا مع صاحبته.
قال: وأي عمل تستطيعين أن تؤديه؟!
قالت: أستطيع أن أتلقى دروسًا في الكتابة بالآلة الكاتبة، ثم أعمل في مكتب محامٍ أو في شركة، فما قولك؟
قال: والله إنه لرأي، ويبدو لي أن هذه هي الوسيلة الوحيدة، ولكني أخشى عليك.
فتعجبت وسألته: مم؟
قال: أخشى أن يوقعك سوء الحظ … تعرفين ما أعني، فقد يتفق أن يكون الذي تعملين عنده أو له خنزيرًا فيستغل حاجتك إلى عملك، وأنت مع الأسف ثرثارة طيبة القلب؛ إذا آنست رقة وعطفًا من إنسان أقبلت عليه وأفرغت له كل ما في قلبك.
وكان هذا صحيحًا، كما عرف الأستاذ بتجربته الشخصية؛ فما كادت تجلس إليه ساعة، وتطمئن إلى عقله وعلمه حتى أطلعته على ما ينبغي أن يُستر من دخائل البيوت وأسرارها.
فابتسمت محاسن وقالت بلهجة واشية بمرارة النفس: إذا كان هذا كل ما تخاف، فاطمئن، فقد علمتَني ما فيه الكفاية.
فأطرق وقال كأنما يحدث نفسه: هذه وخزة أليمة، وأعترف أني أستحقها، ولكن ما كان جاء عفوًا وعلى غير قصد، والحمد لله الذي وقاك — ووقانا — سوء العاقبة، وإنه ليُخيَّل إليَّ أن كل شيء في هذه الدنيا قضاء وقدر؛ من كان يظن أن الذي لا يحدث إلا في الفلتات النادرة، وفي مرة من كل خمسين ألف مرة، يحدث لنا من أول مرة؟ وعلى الرغم من هذا التحرز والاحتياط؟! سوء حظ ليس إلا، أو قدر جرى به القضاء؛ كنت ذات يوم واقفًا في شرفة بيتي، فرفعت عيني إلى البناء المواجه لنا، وهو عمارة ضخمة عالية فرأيت غلامًا منحنيًا على حافة الشرفة، وكان في الطبقة الرابعة، فذُعرت؛ فقد كان نصف الغلام متدلِّيًا، وهممت بأن أصيح به ولكن الصوت وقف في حلقي فلم يخرج من فمي شيء، ورأيت أمه مقبلة تعدو، ولكنه انقلب وهوى قبل أن تدركه، تصوَّري هذا؛ غلام يسقط من الطبقة الرابعة على الرصيف المبني من الحجر، أو من الأسفلت، سيان، وبصرت برجل يمشي على الرصيف وقد قارب أن يكون في طريق الغلام إلى الأرض، فأيقنت أن الغلام سيتفتت عظمه، وأن الرجل سيصيبه أيضًا سوء، وتصوري غلامًا يقع من هذا الارتفاع على أم رأس رجل، ألا يمكن أن يدقَّ عنقه؟!
وضحك الأستاذ، فجذبته محاسن من كتفه، وسألته بلهفة: وماذا جرى؟
قال وهو لا يزال يرتجُّ من الضحك: جرى؟! جرى؟! لا شيء، نجا الغلام، ونجا الرجل، هل تصدقين هذا؟!
قالت: الحمد لله، ولكن كيف؟ كيف؟
قال: اسمعي يا ستِّي، لو كان الغلام وقع من الشرفة إلى الأرض مباشرة لكان قد قُتل، ما في هذا شك، ولكن القدر شاء أن تحدث المعجزة؛ فساق هذا الرجل الغافل الذي كان يمشي على الرصيف ولا يدري أن غلامًا يهوي، ولم يسقط الغلام على رأس الرجل، وإنما سقط أمامه، على مسافة شبر أو شبرين منه، فاضطرب الرجل ورد رأسه إلى الوراء، ودفع يديه إلى الأمام، وهو لا يدري ماذا يتقي بهما، دفع يديه فدفعتا الغلام، فانقطع خط السقوط وزالت قوته؛ لأن الغلام تحول عن طريق الهبوط؛ كان يهوي من أعلى إلى أسفل، فانتهى هويُّه باندفاعه في خط أفقي، فلما سقط بعد ذلك على الأرض كان سقوطه من ارتفاع متر أو حوالي ذلك ليس إلا، فلم يضره ذلك، إي نعم، كل شيء في هذه الدنيا قسم وحظوظ وأرزاق؛ هل تعرفين كيف عرفت أباك؟ (وضحك مرة أخرى) قصة لطيفة: كنت سائرًا في الطريق وعيني على الأرض، وإذا بكفٍّ تلطمني وتكاد تلقيني على الأرض، وكان أبوك هو الذي لطمني، ولم يكن يتعمد ذلك، لكنه — كما تبينت — كان يتحدث ويلوح بيديه، فأصابتني كفه، وأسرف في الاعتذار كما كان يسرف في التلويح بذراعيه، وأبى إلا أن يسقيني شايًا في مقهًى، وهكذا عرفتك أنت، فهل آمنت أن كل شيء في دنيانا قدر وقسمة؟
فربَّتت له على كتفه وقالت: ثق أني لا ألومك على شيء، ولكنه لا يسعني إلا أن أشعر بألم ومرارة؛ لأني كنت ضحية هذا القدر؛ فاعذرني إذا فاضت المرارة على لساني.
قال: إني عاذر وشاكر، ولا تحسبي أنك أنت وحدك الضحية — وإن كان أمرك أبْين وأوضح؛ فإني أنا أيضًا أصبحت إنسانًا آخر، ولكن دعي هذا، ولنعد إلى العمل الذي تنشدين.
وأمدها بقدر يسير من المال تستعين به على التدرب على الآلة الكاتبة في أحد المكاتب أو المعاهد المعدة لذلك، فلما أتقنت الكتابة بها بسرعة كافية، قدمها إلى مدير شركة تجارية كبيرة، وأوصاه بها خيرًا، ورشحها حُسن وجهها قبل أن ترشحها الكفاية، فأفرد لها حجرة قريبة، فيها سجادة نفيسة، وكراسي مكسوة بالجلد الثمين، ومكتب ضخم عليه لوح من البلور، ومروحة كهربائية للصيف، ومدفأة للشتاء، وعنقود من مصابيح الكهرباء يتدلى من السقف، وقال لها إن مرتبها في البداية سيكون ستة جنيهات، وإنه يزيد مع الاجتهاد، وغمز بعينه وهو يضيف إلى ذلك أن حظها بين يديها.
وفي اليوم التالي دعاها إليه، فوقفت بين يديه، فأومأ إليها أن تقعد، وشرح لها واجباتها، وهي هينة، لا تتجاوز كتابة بضع صفحات أو رسائل على الآلة الكاتبة، وإثبات تواريخها وأرقامها في دفتر، والاحتفاظ بصور منها في الملفات الخاصة بموضوعاتها المختلفة، وسألها عن أبيها وعمله، ومسكنها، والطريق الذي تسلكه، وكان يهش لها ويتلطف في الحديث معها، ويكرر لها ألَّا حدَّ لتجزية المجتهد على اجتهاده، وقال لها وهو يصرفها بلطف إن في وسعها إذا شاءت أن تستلف من مرتبها، واقترح عليها أن تقترض نصف مرتب شهر، على أن ترده أقساطًا، فشكرت له عطفه.
ولكن الأستاذ حليمًا نصح لها بألَّا تفعل، وقال إنه خير لها أن تأخذ مرتبها كاملًا في أول كل شهر، ليتسنَّى لها حسن التدبير، وإقامة الأمور على حدود مضبوطة، والتصرف بغير اضطراب، وحذرها من المدير؛ فما يعرفه معرفته، ولا هو مطلع على دخائله، وقد يكون المراد من اقتراحه التعسير لا التيسير، لتضطرب أمورها فلا تنقطع حاجتها إليه للاستئذان في الاستلاف، فيبدو كأنه يغمرها بفضله، وهو ما عدا أن شجعها على التطلُّب، حتى لا يبقى لها آخر الشهر سوى «شوية» يسيرة لا تبلغ أن تكون كافية، وهكذا تظل في عسرة دورية وحاجة إليه لا تنتهي، ومن يدري حينئذٍ ماذا يحاول، وبماذا يهم؟! وختم محاضرته بقوله: إني أراه فخًّا فحاذريه.
فتحرزت، وصبرت على قلة الخير، واستحقت في آخر الشهر مرتب عشرة أيام، فلم يحمل إليها أحدٌ شيئًا، ومضت أيام وهي لا تسأل ولا تُعطَى، فعادت إلى الأستاذ حليم فقال لها: لعلهم آثروا أن يضموا الأيام العشرة إلى الشهر الحالي، أو عسى أن يكونوا قد أسقطوها من حسابهم وعدُّوها أيام تجربة، ومرانة على العمل. على كل حال يحسن أن تنتظري وتتأني، وافرضي أنك لم تلتحقي بهذه الشركة إلا اليوم، وأجرك على الله، وحذارِ أن تُظهري اللهفة، أو أن تقولي أو تفعلي ما يدلُّهم على أنك لست بخير، فما أراني أطمئن إلى هذا المدير، وإن صدري لتحك فيه أشياء منه، لا أدري لماذا؟ فما أنبأتني بشيء يوجب هذا، ولكنه شعور غامض لا أعرف له باعثًا وأرجو أَن يكون كاذبًا.
وكان المدير مقتصدًا في ملاطفتها، غير مسرف في حفاوته بها، فزال ما كان يهجس في خاطرها من كلام الأستاذ حليم وسوء ظنه، أو فتر على الأصح، وكان ربما دخل عليها غرفتها فتنهض، فيشير إليها أن تقعد، ويقول: لا داعي لهذا، ثم إني لن أطيل الوقوف، ويحدثها فيما جاء له، فإذا امتد نفَس الكلام قعد على ذراع كرسي واعتمد على مكتبها، ويسألها أحيانًا وهو يهمُّ بالانصراف عن عملها، أهو ثقيل؟ وهل هي راضية عنه؟ فتشكره، فيهز رأسه ويخرج.
٢
ومضت الأيام، ولم يحدث شيء، وأقبل الشتاء فكثر العمل وقلَّت فترات الراحة، ولكنه كان على الجملة أطيب وأخف على النفس من العمل في الصيف، وكانت تعود إلى مكتبها في الشركة بعد الظهر في الساعة الرابعة وتمكث إلى السادسة، وكثيرًا ما كان المدير يصرفها قبل ذلك رفقًا بها، إذا لم يكن ثَمَّ ما يستلزم بقاءها.
وانتظمت حياتها، واطَّردت على وتيرة واحدة؛ فكانت تخرج من بيتها كل صباح — ستة أيام في الأسبوع — في منتصف الساعة الثامنة، فتبلغ الشركة حوالي التاسعة، فتدخل غرفتها الدافئة، وتنضو معطفها، وتنظر في مرآتها الصغيرة وتسوي شعرها، وتصلح ثيابها، ويمر بها الموظفون الآخرون فيحيونها وهم في مدخل الباب، أو يدخل منهم واحد يثرثر معها لحظة، ويقدم المدير حوالي الحادية عشرة، فيدعوها إليه، ويناولها بعض الرسائل، فتشتغل بها إلى الظهر، ثم تتهيأ للخروج في منتصف الساعة الأولى، وفي المساء يكون عملها أكثر، إلا أنه لا يكلفها شططًا.
٣
وكان معها في الشركة شاب ظريف أنيق الملبس رطب اللسان، يسمونه نسيم بك لسخاء يده ومروءة قلبه، لا مجاملة وتلطفًا، وهو شاب أبى له والده الثري إلا التجارة دون الزراعة التي كان مبتغاه أن يشتغل بها في ضيعته الواسعة، وكان والده صديقًا للمدير راتب بك فألحقه بشركته ليتدرب، ووضعه عند أولى درجات السلم ليرقى فيه ويتعلم، فلم يمتعض نسيم بك ولم يتسخط، بل أقبل على ما وُكل إليه من الأعمال — تسجيل الرسائل الصادرة والواردة وتوجيهها — بنشاط وخفة ومرح، وكان يقول لزميله في الغرفة: اقتدِ بي يا صاحبي، فإنك خليق إذا ثابرت مثابرتي، وأخلصت كإخلاصي أن ترتقي، حتى تتولى إدارة هذه الشركة العظيمة، إي نعم؛ فإنك أولى من صاحبنا راتب بحجرته الوثيرة ومكتبه الطويل ومقعده الدوار، ولست أحب أن أذكر إنسانًا إلا بخير، ولكن الحقيقة أني لا أرضى عن صاحبنا راتب كل الرضى، انظر مثلًا إلى الصدرية التي كان يرتديها أمس! أو لا تنظر؛ فإنها تؤذى العين، هل يليق أن يلبس إنسان صدرية كهذه؟! يُخيَّل إليك أنها من ألوان غروب الشمس لولا أننا نعلم أنها من صوف، وتأمل ربطة الرقبة، والحذاء … أوه! لا لا لا، وإني لأحاوره وأداوره وأعالج أن أصلح ذوقه، ويبدو لي أحيانًا أني سأنجح، ولكنه يبدو لي في أحيان كثيرة أخرى أنه يفلت مني ويرتدُّ وينأى، على أني لست يائسًا من قدرتي على تهذيبه وتثقيفه، الصبر طيب يا صاحبي، كما كانت جدَّتي تقول، تالله ما كان أحكَمها — عليها رحمة الله — ولكني أضيع وقتك وأشغلك عن عملك، وهذا لا يجوز، كلا، لا يجوز؛ فإننا هنا — أنا وأنت — لنجعل من هذا المكتب الذي نحن فيه نموذجًا، أما كيف فمسألة أخرى، ننظر فيها حين يجيء أوانها، وسيجيء هذا الأوان ولا شك، وسيجيء يوم تسيِّر فيه مصلحة السكة الحديدية قُطرًا مخصوصة بأجور مخفضة للمتلهفين على رؤية هذا المكتب النموذجي وزيارته، على نحو ما تسيِّر قطار الآثار في الشتاء، وقطار البحر في الصيف، والآن يجب أن أكف عن الكلام، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف بأن حديثك ممتع؛ فقد آن أن نعمل، فإن منافسينا في التجارة لا يغمض لهم جفن، وهم ساهرون متربصون، ليغتنموا فرصة إهمالنا، وقد شاع وذاع وملأ الأسماع أن نسيمًا وعزت صديقه الحميم يقولان ولا يعملان. فأخوف ما أخاف أن تثب الشركات الأخرى وتخطف من أيدينا تجارتنا، هيا بنا إذن إلى العمل.
ولم يكن المدير يدري ماذا خبأ له القدر حين قبِل أن يُلحق نسيم بك بالشركة مرضاة لوالده؛ فقد راح يطارده، ويقفو أثره في كل مكان، وعرف أنه عضو في نادٍ فدخل فيه أيضًا، والتقى به ذات ليلة في النادي فأنغض إليه رأسه بالتحية ومضى إلى المكتبة، فدعا المدير أحد الخدم وأسرَّ إليه شيئًا.
ودخل الخادم على نسيم بك في المكتبة وقال له: معذرة يا سيدي، هل حضرتك عضو؟
قال: أنا نسيم.
فعاد يسأل: يعني أنك عضو؟
قال: برافو، ما أذكاك! ولست أشك أنك سررت سرور الجميع حين طيَّر النادي الخبر إلى أرجاء المعمورة وأعلن إلى الأَمْلاء قاطبة أني أصبحت عضوًا، أم تراك كنت في شاغل من عملك حينئذٍ؟ إذا كان هذا هكذا فإني أقدم لك احترامي، فإني أنا أيضًا أعمل، نعم أنا عضو، فهل لك أن تبلغ سعادة راتب بك أسفي، وأني عضو، وأني أديت ما يجب أداؤه من رسم الدخول والاشتراك؟
وفي ليلة أخرى دخل على راتب بك في النادي وهو جالس وبين يديه صحيفة، فهوى إلى كرسي إلى جانبه بقوة، فالتفت راتب بك، فقال نسيم: آه، هذا نحن، إنها دنيا صغيرة، فنحن لا نزال نلتقي فيها، فلم يجب المدير بشيء، فنادى نسيم خادمًا وقال له: أرجو أن تتفضل عليَّ بفنجان من القهوة، وأنت يا راتب بك؟
قال راتب بك: لا شيء.
قال: ولا شيء لراتب بك.
وانصرف الخادم وعكف راتب بك على الصحيفة، فتركه نسيم لحظة ثم قال: لقد تلقيت اليوم رسالة من والدي.
فارتمت الصحيفة على حجر راتب بك، وقال وهو ينظر إلى نسيم شزرًا: وما لي أنا؟!
فتكلف نسيم الدهشة والألم وقال: إيه يا دنيا! من كان يظن أن رجلًا كوالدي — ينطوي لك على الإكبار والحب — ورجلًا له مثل مواهبك العظيمة تقع بينهما النَّبْوة وتحلُّ الجفوة؟! على أني مستعد لإصلاح ما لعله فسد إذا سمحت لي.
قال هذا لظهره، فقد ألقى الصحيفة، ونهض وخرج.
ولم يزل نسيم يلجُّ في تعقب المدير حتى كف عن الذهاب إلى النادي.
وشكا نسيم إلى زميله عزت بثَّه وخيبة أمله فقال: إني لا أدري ماذا أقول في صاحبنا راتب؟ ولعلِّي مخطئ، ولكني كنت أتوقع أن يرحب بابن صديقه، ويتلقاه في كل مكانٍ مفتوحَ الذراعين، ولكني أرى وجودي في النادي يثقل عليه، وقد بذلت كل ما وسعني لأكسب رضاه وأفوز بحسن رأيه ومودته، ولكنه كان يقابل جهودي بالسخط والاستنكار ومغادرة المكان، لم تبقَ لي حيلة يا صاحبي إلا الصبر، وهو كما علمتك، طيب.
وكان نسيم هذا هو الذي حمى محاسن من الملل، وردَّ وجه الحياة وضيئًا، وأشاع في نفسها الرضى والاستبشار؛ فقد كان لا يفتأ يدخل عليها ويتحدث إليها فيضحكها ويسليها، وقد يدعوها إلى العشاء فيقول لها مثلًا: تواترت إليَّ الإشاعات بأن على مقربة من شركتنا العظيمة التي تعتمد علينا في أعمالها الجليلة النافعة، مطعمًا يتكفل بأن يوفر للإنسان ما أتلف الكدُّ في العمل من أنسجة البدن، بثمن زهيد، وقد نظرت الساعة إلى وجهي في المرآة، فراعني ما عراه من الذبول والتغير، فقلت لنفسي: إنك يا نسيم ضحية الإخلاص في العمل، وإني لأخشى أن يقتلك اجتهادك، وحينئذٍ ماذا يكون؟ كيف تقف هذه الشركة على قدميها بدونك؟! فما قولك؟ أليس هذا حقًا؟
فتضحك محاسن، وتسأله: ثم ماذا؟
فيقول: وأنتِ أيضًا، صاحبنا راتب يرهقك بما يكلفك فوق طاقتك، وسأخاطبه في هذا، وأؤنبه عليه، ولكنه لا يجوز — ولا يفيد — أن أفعل هذا ومعدتي فارغة، وجسمي هزيل، ولوني ممتقع، وصوتي خافت من الضعف، فتعالي نجرب هذا المطعم الذي يقول عنه روَّاده إنه هو المطعم الذي يحتاج إليه، وكان يبحث عنه، أساطين التجارة وأقطابها وعُمدها وأسنادها مثلنا، وسننظر في أمر صاحبنا راتب فيما بعد، وإنه ليعز عليَّ أن أدعه ينتظر، وما أشك في أنه سيقضي ليلته حائرًا قلقًا مسهَّد الجفن، ولكنه لن يضيره أن يتعلم الصبر، كما تعلمناه نحن العاملين المجدين، فتعالي.
وكان خير ما فيه أنه لا يحاول أن يغازلها، كأنها رجل مثله، فكانت تحمد له سيرته معها، وتخلد إليه بالثقة ولا يساورها قلق، وإن كان لا يرضيها في سريرتها أنه لا يبدو عليه أنه يشعر بأنها فتاة لها جمال وفتنة. على أنها كانت تتعزى بأنه ما كان ليُقبل عليها ويطيب نفسًا بصحبتها لولا أنه يرى أن لها حظًّا من الجمال، وحدثت نفسها أنها تؤثر أن يظل كما هو، لا يقاربها بغزل.
٤
وكان نسيم متكئا على مكتبه ذات مساء على عادته بعد أن يفرغ من عمله، فقال له عزت: اسمع يا نسيم.
وكان الموظفون جميعًا يحرصون على تلقيبه بالبكوية، فاستغرب إسقاطها الآن، وأحس أن أمرًا جللًا أنساه ذلك، ولم يكن يعبأ بهذا، أو يبالي كيف يخاطبه الناس، ولكن مخالفة العادة تلفت النظر.
فقال: هاتِ ما عندك يا صاحبي، فقد أعرناك السمع؛ قل، وأفِض، فإنه يُخيَّل إليَّ أن على صدرك أكثر من هذا القميص الذي أستأذنك في القول إن ألوانه شتَّى لا تعجبني، وإذا كان ما بك من الهم ثقيلًا كألوان قميصك، فإن لك أن تثق بعطفي، فألقِ بكل ذلك أمامي؛ بالهمِّ وبالقميص جميعًا.
قال عزت: إن محاسن في غمرة.
محاسن في … ماذا تعني على وجه الدقة؟
أعني أن صاحبنا يصبُّ على رأسها وابلًا من التأنيب والتوبيخ.
هل تريد أن تقول إن زفيفًا من غضبه هبَّ عليها؟
فضحك عزت وقال: إنه إعصار؛ لقد دخلت عليه الساعة، وأؤكد لك أنه كان يرمي بكل ما على مكتبه، ويزمجر، ويزأر، وينفخ، ولا يتيح لها فرصة للكلام.
فقال نسيم: مسكين، وإني لأرثي له.
فتعجب عزت وقال: ترثي؟ أولى أن ترثي لها، لقد نهرني وطردني، ولا أكتمك أني خرجت أعدو.
وماذا كان يقول لها؟
لم ألبث لأسمع، فقد رماني بنظرة تشُكُّ كذُبابة السيف.
فقال نسيم: إني مع إعجابي بقوة حنجرته، وبراعته في بعثرة الأشياء، وعلوِّ لسانه في التقريع، لا يسعني إلا أن آخذ علمًا رسميًّا بما أبلغتني، فإن محاسن فتاة حساسة رقيقة الشعور، ولست أقبل أن يتلف لها صاحبنا راتب أعصابها على هذا النحو، وسأنظر في الأمر، وسأسأل محاسن، ولن أتهور أو أطيش، فإذا وجدت أن لصاحبنا راتب عذرًا في انفجار بركانه الآدمي، فإنه سينجو من العقاب، أما إذا تبينت أنه أساء إلى محاسن بلا موجب، فإني أكون مضطرًّا إلى إنصافها منه.
وكانت محاسن، لما دخل نسيم، مذهولة، ولم يكن يخفى عليها أنها أخطأت خطأ فاحشًا، في كتابة ما وكل إليها، وزادت في خطئها ووضعت بعضًا مكان بعض، وعنونتها إلى جهات غير جهاتها، فدقَّ الذين تلقوها التليفون للمدير مستغربين، ولكنها كانت قد قضت ليلة سوداء لم يغمض لها فيها جفن، فقد انتاب أمها مغص كلوي شديد، وقد تركتها تتلوى، فكان ما كان من الخطأ والتخليط.
واطمأنت على أمها في المساء، فلما كان اليوم التالي، وجاءت إلى المكتب وراجعت صور الرسائل، فطنت إلى ما وقعت فيه من أخطاء شتَّى، وهمَّت أن تُطلع المدير على الحقيقة، ولكنه سبقها فدعاها إليه، وكان أكبر ظنها أن يلفت نظرها ويسألها عن علة هذا الخطأ، حتى إذا عرَفَ عَذَر، والأمر على كل حال هيِّن، وليس من شأنه أن يضر الشركة أو يجر عليها خسارة. ولكن الذي لم تكن تتوقع هو أن تتلقى كل هذا التوبيخ الأليم واللعن الوجيع، وفوقه الطرد من الشركة، على ذرى أمواج كالجبال المتقلعة من البذاءة.
وماذا تصنع الآن؟ أي عمل آخر يمكن أن تظفر به؟ وما العمل إذا لم توفق إلى وظيفة وقد بالغ أبوها في التقتير في النفقة لمَّا علم أن لها مرتبًا؟
أدارت كل هذا في نفسها وهي حائرة واجمة، وطحنت بأضراسها نصف القلم الذي كان في يدها وهي لا تدري، وإذا بنسيم يدخل ويقول بلا تمهيد: اتصل بي أن صاحبنا راتب كان يمتحن أمامك مقدرته الخطابية أو مبلغ ذلاقة لسانه وقوة بيانه، فهل أقنعك بفصاحته وبلاغته؟
فوثبت إلى قدميها، وقد خطر لها أن نسيمًا هو الرجل الذي يسعها أن تعوذ به في محنتها.
وقالت بسرعة: اسمع يا نسيم — وأهملت هي أيضًا البيكوية؛ (كل امرئ يهملها اليوم) — إني في مأزق، وقد تستطيع أن تشير عليَّ كيف أصنع، فهل لك أن ترافقني إلى مكان أشرب فيه فنجانًا من القهوة؟
قال: اقتراح سديد، ولا شك أن الشركة ستفتقدني، وتبحث عني فلا تجدني، ولكن صاحبنا عزت كفء لتصريف الأعمال في فترة غيابي، وأنا أثق به، ففي وسع الشركة أن تطمئن، فلنذهب إذن لتشربي قهوتك، ثم تقصِّي عليَّ القصة بالحرف الواحد، يعني من غير أن تنسي براعات صاحبنا راتب، فإنه — كما تعلمين بالتجربة، وأعلم بالسماع — من فحول البلغاء، وقد اتصل بي اليوم من مصادر شتَّى لا يرتقي إليها الشك أنه كما يقول الفرنجة: قد فاق نفسه.
قال بعد أن سمع القصة: هذه الحدة المباغتة من أجل غلطة يسيرة تبدو لي غريبة، وقد درسنا — أنا وأنت — الطبيعة الإنسانية درسًا عميقًا، وغصنا في بحرها اللُّجِّيِّ طويلًا، فنحن لا نستطيع أن نسلِّم بأن خطأ ما، من آنسة رقيقة مهذبة، يمكن أن يهدم سدود الأدب كلها ويطلق كل هذا السيل المتدفق من السلاطة، ولا شك أن صاحبنا راتب غليظ الطبع، وقد أتعبني ترقيقه، ولولا ما تعرفين من طول أناتي وحلمي وحبي لخيره لقنطت، ولكن آل نسيم براحهم بطيء، ولكنا نتحدث عنك لا عن آل نسيم، وإن كان الكلام فيهم يطيب ويحلو، ويعزُّ عليَّ أن أحرمك لذة الاستماع إلى وصف ما وهبهم الله من السؤدد والنجابة وآتاهم من العزم والحزم، ولكنه ما كل ما يتمنى المرء يدركه يا صديقتي، فاصبري وتجلَّدي، وحسبك عزاءً عن هذا الحرمان أن فرعًا من هذه الدوحة الكريمة الأصول، يجلس معك ويؤنسك ويطربك، ويطيِّب خاطرك، كلا، لا داعي للشكر، والآن نعود إلى مولانا راتب، فهل تظنين أن الأصوب أن أدخل في هذا الأمر أو أخرج؟
قالت: لست فاهمة.
قال: معذرة، إنما أعني أن من السهل أن أذهب إلى مولانا راتب وأقول له: اسمع يا صاحبي! لقد كنت عنيفًا، واسمح لي أن أقول: سليطًا طويل اللسان، مع صديقتي محاسن، من أجل غلطة تافهة ميسورة التدارك، وأنا لا أسمح لإنسان أن يخاطبها بهذه اللهجة التي تفرق الشعر الجميل المسدل على أذنها الصغيرة وتجرحها، فعجِّل بالاعتذار إليها، والتمس الصفح منها، واجثُ على ركبتيك بين يديها، فإن فعلت فإني أعِدك أن أعينك على تألُّفها من نفرتها، وإلا فأنت الجاني على نفسك، يا «براقش» هذا العصر، وبعد أن أُفرغ في كلتا أذنيه هذه الخطبة البليغة …
فضحكت محاسن وقالت: عفوًا وشكرًا؛ ما يدريني ويدريك؟! لعله أصم …
فقاطعها وهو يلوح بيمناه: إذن نهمل مولانا راتب، ولا نُعنِّي أنفسنا بتهذيبه وإصلاحه، الحق معك، فإنه ليس أهلًا لكل هذا العناء، ولقد ساورتني الشكوك من زمان طويل؟ ولكني كنت أشفق عليه وأقول لنفسي: مهلًا يا نسيم، إذا كنت ستنفض يدك منه فمن ذا غيرك يتولى إصلاحه؟! على كل حال …
فقالت محاسن: اسمع، إني أرجو ألَّا تشغل نفسك بهذا الأمر؛ فقد انتهى، وكان ما كان، ولن أعدم وظيفةً في مكانٍ ما.
قال: وما حاجتك إلى وظيفة وأنت موظفة؟! يُخيَّل إلى من يسمع كلامك أنك عاطلة!
قالت: ولكني طُردت، فكيف أكون موظفة؟
فهز رأسه وهو يبتسم ثم قطَّب وقال: ومن هذا الذي يجرؤ أن يطردك وأنا حي أُرزق؟!
فوضعت يدها على يده وقالت: خلِّنا في الجد، أرجوك.
قال: وهل أنا أهزل؟! ألا تعلمين — أم تراني نسيت أن أخبرك — أنك مستشارة خصوصية لي؟ لقد كنت أظن أن الواقع من الأمر يغني عن التبليغ الرسمي.
قالت: شكرًا لك، وإنك لظريف، وعطوف، ولا أدري ماذا كنت أصنع لولاك، ولكنك تعلم كما أعلم أني لا أستطيع أن أدعك تفعل هذا، إنها لمروءة عظيمة، ولكن …
فقال: إنك تؤلمينني يا صديقتي، وهذا الذي تقولينه لم يجرِ لي قطُّ في خاطر، أنا وأنت من رجال الأعمال — أعني أني أنا من رجال الأعمال وأنت من … من … انظري كيف تخذلني الألفاظ، فكيف بمن هم دوني امتلاكًا لناصيتها؟! نعم كلانا تاجر شاب، وقد عرضت عليك عملًا، فإن التجار لا ينفقون أموالهم جزافًا؛ عرضت عليك هذا بالفعل لا بالقول، فرحبتِ به، بالفعل أيضًا لا بالقول، ويسرُّني أن أبلغك رضاي عن حسن أدائك لواجباتك وإن كانت خفيفة هينة إلى الآن؛ فما زادت على رفض الدعوات التي تلقاك من أصحاب التيجان، والإصغاء إلى آرائي القيمة في الحياة والناس، وقد كان أجرك زهيدًا أيضًا؛ فنجان قهوة، أو تذكرة سينما، أو عشاءً خفيفًا …
فقالت: لا تمزح، فإني …
قال: لا تقاطعي من فضلك؛ فإن حسن الإصغاء في صمت وسرور هو أول واجب على المستشار الخاص، كنت أقول إن واجباتك إلى الآن هينة وكذلك أجرك، ولكني قررت أن أضيف إليها واجبات جديدة، وأن أزيد الأجر؛ فإنه ينبغي أن يكون على قدر المشقة، وعلى قدر الاجتهاد تكون الترقية، نعم ترقيتك من مستشارة إلى …
قالت: لا أدري كيف أشكرك، ولكنك تعلم أن هذا إحسان.
قال: إحسان؟! يا له من لفظ ثقيل قبيح! وإن كان الفعل في ذاته جميلًا! ولكن ما لنا وللإحسان الآن ونحن نتكلم في أعمال تجارية؟! أرجو ألا تقحمي هذا اللفظ مرة أخرى في أحاديثنا الجدِّيَّة، واسمعي، لقد هداني التفكير الطويل العميق إلى أن فلاحًا مثلي لا يفيده ما تعلم من التجارة التي حذقها علمًا وعملًا، وأحاط بها خُبرًا، إلا إذا طبق ما أفاد من المدرسة ومن تجاربه في الحياة، وقد تعلمين أو لا تعلمين أن لي ضيعة عظيمة، كانت أمي بعيدة النظر صادقة الفراسة في نجابتي، فأورثتني إياها، وخلفتها لي، وفلاحونا لا يحسنون الزراعة، فمن واجبي أن أتعلم وأعلمهم كيف يتقنونها؛ لتكون الغلة أوفر، وهناك واجب آخر؛ ذلك أن فلاحينا قد يجيدون زرع الأرض ولكنهم لا يحسنون عرض المحصول للبيع، وما أكثر ما يُوكَسون ويُبخَسون، ويغبنهم سماسرة السوء، وهم إذا ربحوا مرة يخسرون مرات، لجهلهم بالتجارة، فواجبي — وأنا الخبير الحاذق — أن أعلمهم كيف يبيعون، لأستفيد ويستفيدوا، ومن هذا البيان ترين يا صديقتي أن واجباتك كمستشارة لي ستكون عديدة وشاقة، وأنا واثق من قدرتك على الاضطلاع بهذه الأعباء الجسيمة، بفضل ما اكتسبته من الخبرة في هذه الشركة، وما استفدته مني في أحاديثنا الكثيرة.
وعلى ذكر الشركة أقول: إنه يحسن أن نذهب للقاء مولانا راتب؛ فما أشك في أنه الآن قلق مضطرب يتساءل عني أين اختفيت؟ وماذا يصنع بغيري؟!
فسألته: نذهب إليه؟ وأنا … وأنا … ما الداعي؟ قال: وجودك ضروري، لا بدَّ منه، وأول درس يجب أن تتعلميه في وظيفتك الجديدة، وإن كانت قديمة، هو طاعة الرئيس، تعالي.
وذهبت معه إلى النادي وهي قلقة، فألفيا راتب بك في حجرة المكتبة يدخن سيجارًا ضخمًا، وكان قد علم أن نسيمًا انقطع وكف عن الحضور، فاطمأن وعاد يختلف إلى النادي في أوقات الفراغ.
وقبل أن يدخلا عليه، دعا نسيم الخادم وأمره أن يجيئه بكأس من الكونياك المعتَّق، وقال لمحاسن وهو يدخل بها وبالكأس في يده: لا تحسبي أن هذه الكأس لي؛ فإني لا أشرب خمرًا، ولكنها لمولانا راتب؛ فإنه يوشك أن يتلقى صدمة، وقد يحتاج إلى منعش، وما أظن به إلا أنه ضعيف القلب وإن كان عالي الزعقات، على كل حال، لا ضير من الاحتياط.
ودخل ويده ممدودة بالكأس، ورأى راتب بك هذا الموكب، فدُهش وقطَّب، ووضع نسيم الكأس برفق على المنضدة أمام راتب بك وجلس إلى جانبه، وجلست محاسن إلى الخلف قليلًا، وتكلف المدير قلة الاكتراث، وتظاهر بأنه لا يراهما، وأقبل على سيجارته يمص وينفخ الدخان.
ولكن نسيمًا لم يتركه، فقال بلهجة الأسف: إن واجبي ثقيل، وأنا أؤديه وأنا كاره له. فهل أنت مصغٍ يا راتب بك؟
فقال راتب بك: قابلني غدًا في المكتب.
فقال نسيم: آسف، فلن تراني غدًا في المكتب.
وقرب الكأس من راتب بك.
ومضى هو في كلامه فقال: خذ رشفة من هذا. تشجع، وثق أن الصدمات لا تلبث أن يفتُر أثرها وإن كانت تدوِّخ في أول الأمر، وبعد أن تفيق تجد أن الشمس لا تزال تشرق، وأن الدنيا ما زالت بخير.
فضجر راتب بك وسأله بحدة: ماذا تريد؟
قال: العجلة من الشيطان. لقد كنت أريد أن أخفف من وقع الخبر الأليم بالتلطف فيه، ولكن كما تشاء، اعلم إذن أننا قررنا — أنا والآنسة محاسن — أن نستقيل من عملنا بالشركة، وإني آسف، ولكن للضرورة أحكامًا، ونصيحتي لك أن تتلقى هذا بالصبر.
فكاد الرجل يثب من الغيظ، وهمَّ بكلام، ولكن الله لم يفتح عليه بأكثر من: من أنت يا … يا … ولعله خشي أن يخسر المعركة إذا هو جازف بمنازلة هذا الفتى الذرب اللسان، فأمسك وانحط على الكرسي.
وقال نسيم وهو يخرج ويجر محاسن: ليس هذا ما كنت أتوقع، وإني لأعلم أنها صدمة قوية، فإن الخسارة لا تعوض، ولكني كنت أظن أنك أعقل وأذكى من أن تحاول إقناعنا بالبقاء، لا لا، كان ظني بك غير ذلك.
وخرجا.
وتركا الرجل ينفخ، ويضرب كفًّا بكف.
٥
هنئني يا أستاذي.
مبروك، ولكن ما هي الحكاية؟
أصبحت مستشارة.
مستـ … مستـ … تعنين … ماذا تعنين؟
ألا تعرف ما هو المستشار؟ يطرح عليك الموضوع، فتبحثه، وتدرسه ثم ترى فيه الرأي، فيؤخذ بما ترى.
فهمت، أعني … ألا يمكن أن تبدئي من البداية؟
فقصت عليه محاسن القصة، فهز رأسه وقال: يُخيَّل إليَّ أن هذا أمرٌ له ما بعده.
قالت: إنك سيئ الظن.
قال: ليست المسألة مسألة سوء ظن أو حسن ظن، وكل امرئ — إلا أنت على ما يظهر — يستطيع أن يفطن إلى الآخر من هذا الأول، ومن الجليِّ أن نسيمًا هذا يرمي إلى الزواج.
قالت: ولكن هذا مستحيل، من أنا حتى يتزوجني؟! أما قلت لك إنه واسع الغنى؟
قال الأستاذ: لا تكوني بلهاء؛ الرجل يحبك، ما في هذا شك، وفقرك لا يعنيه؛ لأنك أنت همه لا المال الذي عنده منه فوق الكفاية.
قالت: ربما، ولكن هذا لم يخطر لي قطُّ، ماذا أصنع الآن؟
قال: لا شيء، تبقين كما أنت، ولا تغيرين شيئًا من حالك معه، حتى يخطو هو الخطوة الثانية.
قالت: وماذا يكون العمل حينئذٍ؟
قال: الأمر واضح؛ ترجعين إلى الطبيب لينجز لك وعده.
قالت: لا أستطيع أن أخدع نسيمًا، وأنت تعلم أن هذا هو الذي دفعني إلى مجافاة محمود.
قال: يا محاسن أطيعيني ولا تركبي رأسك، إنك فتاة حَصَانٌ قاصرة الطرف ولست بغَرورٍ فاجرة، والذي كان إنما كان بسوء الحظ، وكان الذنب كله لي، وليس من العدل أن تبوئي أنت بإثمه، وأن تظلي طول عمرك ضحية له، فما جنيتِ شيئًا، وإنما أنا الذي جنيت، وقد يسر الله النجاة، ومن العسير أن تقنعي شابًّا يحبك ويُكبرك ويعرف فيك العفة والتحصن، ببراءتك، وإن كان لا شك فيها، وعهدنا بالرجل يكون كريمًا رحيب النفس واسع العقل، يؤثر على نفسه في كل شيء، إلا فيما يتعلق بامرأة يحبها ويريدها لنفسه، فإنه ينقلب أنانيًّا فظًّا لا يغضي عمَّا يرى أو يسمع من هناتها ولو كان لا ذنب لها فيها، ولا يتغافل عمَّا كان أو يكون منها، ولو كان فلتة وبرغمها، وهذا هو الأغلب والأعم، وهناك من لا غيرة لهم، وهؤلاء قلة، ولا يقاس عليهم، فاسمعي مني، ولا تحمِّلي نفسك وزرًا ليس من العدل أن تحمليه، ولا تضيعي نفسك وتشقيها بقلة العقل، وبالإسراف عليها في الظلم، ولا تخيبي أيضًا أمل هذا الشاب. ولو كان أسنَّ، أو أكثر تجربة للحياة وعثرات الحظ فيها لأشرت عليك بخلاف ذلك، أي بالمصارحة، ولكنه غني مرفَّه؛ لم يعرف إلا التوفيق، ولم يشعر بغير الاطمئنان والثقة، ولم يبلُ ما في الدنيا من ظلم ونكد طالع وعرك ووطء وتفتيت، وقد يكون على خلاف المعهود في أمثاله، ولكن السلامة في الاحتياط والتحرز، فأطيعيني من فضلك تسعدي.
فقالت: إن عقلي مقتنع، ولكن قلبي يحدثني أن الأكرم والأشرف — إذا تكلم، ولست أظنه فاعلًا — أن أصارحه بكل ما كان، بلا زيادة أو نقص، ولم لا؟! لست متزوجة رجلًا إلا بعد أن يعرفني على حقيقتي بلا تمويه أو تزوير.
قال: هذا أكرم ولا شك، ولن تعدمي رجلًا يفهم ويعذر ويهمل الأمر كله، ثم يجيء يوم يغضب فيه لأمرٍ ما، فيتحرش بك ويعيِّرك بزلَّة يحمل تبعتها سواك في الحقيقة، ويمنُّ عليك بالصفح عنك، فيفسد الأمر كله ويسود عيشك بعد ذلك، كلا إن الذي أشير به أسلم وأحكم، حتى نرى أي رجل هو؛ أعني نسيمًا هذا.
فردت وقالت: على كل حال، لا يزال أوان ذلك بعيدًا.
قال: لست أراه بعيدًا، ومع ذلك يجب أن توطني نفسك من الآن على أحد النهجين.
فوعدت أن تفكر، وتنبئه.
•••
وأقلق الأستاذ حليمًا ما سمع منها، وكان هو في سريرته يؤثر المصارحة، فإنها أقوم وأسلم في النهاية، ولكنه أشفق عليها أن تكفر بالعدل في هذه الدنيا.
واستغرب أنه فاته في حديثه معها أن يسألها عمَّا تطوي لنسيم هذا، أهو يبلغ أن يكون حبًّا؟ أو هو يقاربه ويسهل أن ينمو، كالماء يعمِّق تحدُّرُه مجراه؟ ولا شك أن محاسن تستظرفه؛ فإنه على ما يستفاد من كلامها خفيف على الأفئدة، فوق أنه كريم معوان، غير منان، يعطي مبتدئًا وكأنه هو الذي يأخذ، ويصنع معك الجميل ويزجي إليك الشكر كأنك صاحب الفضل فيه، وأخلَق بمن كان خفيف الروح، سخي اليد، ذرب اللسان، حلو الفكاهة، حسن المعاشرة ظريفها، أن تُفتح له القلوب. ولا ريب في أنه يحبها، وإلا لَما صنع كل هذا لها، ولكن هل هي تحبه؟ ولعلها لو سئلت لترددت، فقد خُيل للأستاذ حليم أن نسيمًا حملها وطار بها بجناحين من ظرف الشخصية وحلاوة اللسان، فهي مُدَارٌ بها، لا تدري إلى أين يُمضى بها؛ لا بل لا ترى أن في طاقتها حتى أن تفكر لسرعة الكرِّ والخطف فيه، ولما يشغلها من فتنة القول والعمل، وتعجبها لجدَّتها عليها أيضًا، فما رأت من قبل أحدًا كنسيم.
وما له؟ ألا أثر له في الموضوع؟ أليس المال كل شيء في دنيانا هذه؟! أليس هو الخير والشر، والفضيلة والرذيلة؟! أليس كل أمر مرتهنًا به إذا اعتُبر الواقع؟! من يدري؟! فإن للمال لسحرًا، وقد رثت حال محاسن، وعانت ضنوكة غير هينة؛ لا لفقرٍ بأبيها، فما أنزف ولا أكدى، وإنما طاش وماق، وكان ما كابدت وثقُل عليها من الشدة والشظف هو الذي دفعها إلى التماس الكفاية من طريق الوظيفة؛ فالتقت بهذا الشاب، وما كادت تخفق حتى دفع يده فانتشلها وأنقذها من العَود إلى الحاجة والتطلُّب، فماذا يمنع أن تطمع في خصب العيش ونضارة الحياة ووفرة الخير والاستراحة من هذا الهم؟! ولن تحتاج إلى تكلف التحبب إلى مثل نسيم؛ فإنه محبب إلى القلوب.
وخطر للأستاذ حليم أنه قد يستطيع أن يمتحن مروءة نسيم، ورحابة نفسه، وسعة عقله، ومبلغ استعداده للتسامح والإنصاف، فيقص عليه قصة محاسن معزوَّة إلى غيرها، ثم ينظر وقعها في نفسه؛ فإذا ساء الوقْع ظل على ما أشار به عليها من الكتمان، وإذا رآه يتلقى الأمر بصدر واسع وإدراك صحيح، كان لا بأس مما تذهب إليه محاسن من المصارحة، في أوانها. غير أن هذا يتطلب أن يعرفه أولًا، وأن يخالطه زمنًا متريثًا متربصًا؛ فما يُعقل أن يروي له الخبر في أول لقاء لهما.
وصار السؤال: هل ترضى محاسن أن تمهد له هذا التمهيد، وأن تدعه يمضي في هذه التجربة؟
ودار في نفسه أن لو كان هو أصغر سنًّا، وغير ذي زوجة وولد … لماذا قُسم له أن تكون زوجته مستعصية عنيدة؟ لقد كان يحبها، وما زال غير كاره لها، وما انفكَّ مستعدًّا أن يصل ما انقطع، ويستأنف ما مضى، وصار كأنه من أخبار القرون الأولى، ولكن هيهات! وسيظل ولا معاذ له غير خياله وأحلامه، وإنها لأطيب من الواقع؛ فإن الحقيقة محدودة بحدود الطاقة التي لا سبيل إلى مغالطة النفس أو الغير فيها، وما يستفاد منها من المتعة ينقصه — وكثيرًا ما ينغصه — ما تخطئه ولا تجده عند شريكك مما تطمع فيه، وتتطلع إليه، ولعلك كنت تحلم به. أما في الخيال فإنك تتصور ما شئت كيف شئت، على هواك، وتنحَلُ نفسك من الطاقة ما حلا لك، وليس للمرء سلطان على الأحلام، ولكن الراسب فيما وراء الوعي يطفو فيها، والكامن يبرز، ويتمثل ويتجسد، وتتألف منه صور بعضها مما يُشتهى، ففيها قدر من العوض عمَّا حُرمه بسوء حظه.
وحدَّث الأستاذ حليم نفسه أن أكبر ظنه أنه لطول ما عاش بين خيالاته وأحلامه، خليق أن لا يرضى عن الحقيقة لو تيسرت له، فإنها لن تكون إلا دون ما يرتسم في ذهنه من الصور، ثم راجع نفسه وقال: إن هذا شأن كل إنسان، فما من إنسان إلا وهو يحلم ويتخيل، إلا أن يكون بليدًا مغلق النفس؟ وما من أحد إلا وهو يدرك — إلى حدٍّ ما — بُعد ما بين الحقيقة والخيال، وبعض الناس لا يبالي هذا الفرق، ولا تعنيه إلا الحقيقة وما يفيد منها، والبعض يلوذ بخياله ليسد له النقص ويعوض ما فاته، وهؤلاء مساكين؛ فإنهم إذا لجُّوا في التخيل أو لجَّت بهم الحاجة إليه، كانوا خُلقاء أن يتبرموا بالحياة ويتسخطوا حظهم ويستقلُّوا نصيبهم من خيرها، وأشقى الناس من كانوا مثله؛ قد سُلبوا الحقيقة كلها وحُرموها أجمعها، ولم يبقَ لهم من مسعفٍ سوى هذا الخيال، وإنه ليُسعف ولكنه لا يُرضي ولا يُقنع، وما تزداد به النفس إلا اشتهاء لما عزَّ مناله، ولا تزداد به الأعصاب إلا تعبًا وإعياء، ولا تزداد به الطبيعة إلا تشويهًا ومسخًا.
ورثى الأستاذ حليم لنفسه، وتنهد، وأحس أنه مُشْفٍ على البكاء، ثم كبح نفسه واستحى أن يتلقى — حتى فيما بينه وبين نفسه — ما تجيء به الحياة بغير الصبر والجلد، وقال إن له أسوة حسنة فيمن يعيشون رهبانًا وزهادًا؛ ثم عاد يقول: إن هؤلاء لا يكون حالهم خيرًا من حالي إذا كانوا قد حُملوا على الزهادة، أما إذا كانت الزهادة عن رأي أو عقيدة فذاك حريٌّ أن يعينهم على الاحتمال، ويشغلهم ويصرفهم عمَّا أشاحوا عنه، ثم هز رأسه وقال: ومع ذلك ما أظن بهم إلا أنهم يحتاجون إلى رياضة شاقة طويلة، بل دائمة، وإلى التلهي عمَّا تركوا — إي نعم، التلهي — بالعكوف على ما انقطعوا له، وتساءل: أترى لا تخايلهم صور ما زهدوا فيه؟! لا بدَّ أنها تلوح لهم أحيانًا فتقض مضاجعهم وتؤرق جفونهم، وكيف يستقيم بال من يخالف آيينَ الحياة؟!
وسندعه لخواطره هذه؛ فما لها انتهاء، وإنه ليتفرج ويذهب بها هنا وهناك، ثم يكرُّ إلى رأس أمره، ولا حيلة له يعرفها، ولا مخرج يهتدي إليه، إلا أن يتخذ خليلة، وقد خطر له هذا مرارًا فنحَّاه، واستعاذ بالله منه، واستبشع أن يطوف برأسه، وحدَّث نفسه أنه حتى لو كانت نفسه تطاوعه لما عرف الوسيلة، وضحك وقال: ثم إن الخليلة تكلف مالًا، يفتح الله يا سيدي؛ الأحلام أرخص.
٦
كانت أعمال «المستشارة» هينة طفيفة، لا تأخذ من وقتها إلا قدر ما يضيع من وقت المترفات المنعمات في المنازه والمطاعم ودور السينما؛ فهي في بيتها معظم النهار إلا إذا دعاها إلى الغداء، ثم تلقاه فيتنزهان ساعة، أو يدخلان ملعبًا، أو ينتحيان ناحية في «جروبي» أو «صولت» وما ماثلهما، ويتعشيان في الأغلب ويفترقان.
وكان معها على ما عوَّدها من الحذلقة الظريفة، واللطف والتحفِّي في غير مبالغة، ودون تكلف للتودد، وكان مرتبها عشرة جنيهات غير ما تحتاج إليه لثيابها وزينتها، وقد اعترضت على هذا وقالت إنها لا تستحق منه قرشًا، وإنه يعوِّدها البذخ، فماذا عساها تصنع إذا فقدت وظيفتها الجديدة؟!
فقال لها: تعالي نتفاهم؛ فإني أراك تجورين عليَّ، وتوسِّعين نطاق حقوقك، وتعتدين بذلك على حقوقي، نعم، فإن عمل المستشار هو أن يشير لا أن يعترض، والاعتراض هو عملي أنا، ويجب أن يعرف كل منَّا وظيفته ويقف عند حدودها، فإني أخشى أن تتداخل الحدود ويختلط الأمر، ويضطرب الحال، وقد عرضت عليك وظيفة مستشار، وقبلت، ففرغنا من هذا، وأنا أقر وأعترف أن المرتب قليل، بل ضئيل، إذا قيس إلى الجهد المضني الذي تبذلينه، وإنها لمروءة منك أن ترضي به، وستتسع أعمالنا وتعظم بفضلك، فيتسنى حينئذٍ أن نجزيك التجزية العادلة …
فقاطعته ضاحكة: أنا أقول إنه كثير، فتعتذر لي من قلَّته كأني كنت …
فقال: آه! اختلاف رأي، فلنبقَ مختلفين إذا شئت؛ فإن رقي العالم لا يتيسر إذا كان الناس كالنسخ العديدة من صحيفة أو كتاب؛ فخلِّك على رأيك في الاستكثار، وسأبقى على رأيي في الاستقلال، وكلما لاحت فرصة تجادلنا، ومن يدري؟! لعلنا نتفق آخر الأمر، ربما …
فلم تجد فائدة من الكلام.
وكانت إذا خلت بنفسها تتساءل عن نوع شعورها نحوه؛ أهو حب؟ وتهز رأسها، وتقول إنها تستظرفه جدًّا، وتعدُّه صديقًا حميمًا، وتُحلُّه من نفسها محلًّا لا ينازعه فيه منازع، وتشكر له حسن صنيعه معها، ولا تجحد فضله، بل نعمته عليها، ولكنها لا تنطوي له على ذلك الحب الذي يلقي بالمرأة على الرجل ويستغرقها ويأخذ عليها كل متوجَّه.
واستغربت، وهي تدير عينها في قلبها، أن تجد أن للأستاذ حليمًا علوقًا ونوطة بقلبها، لا تشبهها ولا تدانيها مودتها لنسيم؛ فإن نسيمًا أقرب إلى الأخ أو الخدن، أما حليم فإنها تشعر له بحنَّة — خفيفة، نعم، ولكنها حنَّة — تورث قلبها خفقة، وقد سايرت حليمًا وانقادت له، ولكنها لا تشعر أنها يمكن أن تنقاد على هذا النحو لنسيم، وإن كانت غارقة في نعمته.
وكانت لها جارة في مثل سنها، رأتها تتمشى عصر يوم في الحديقة الواسعة المهملة، فأقبلت عليها تحادثها، كما تفعل أحيانًا.
وكانت الجارة قد راقبت محاسن بعد أن لفت نظرها أنها صارت أنفس ثيابًا وأكثر احتفالًا بزينتها، فما لبثت أن استطردت إلى ما جاءت من أجله وقالت: هذا يوم جميل لا ينقصه إلا …
وأمسكت وحدقت في وجه محاسن، فقالت هذه: إلا ماذا؟
قالت الجارة: إلا الحبيب.
فأدهشت محاسن هذه الصراحة، ولم تزد على أن زامت.
فضحكت الجارة: أيدهشك قولي يا محاسن؟ ربما، ولكن ألا تتمنين، عندما تنقشع السحب، وتصفو السماء، وتسطع الشمس، وتحمى الأبدان، أن يُقبل عليك حبيبك، والحب يطل من عينيه، وذراعاه مفتوحتان، وشفتاه متهيئتان للتقبيل والهمس الحلو؟!
فاضطرم وجه محاسن، فما خاطبها أحد — رجل أو امرأة — بمثل هذا الكلام الصريح من قبل.
وقالت الجارة: ليس في هذه المُنى شيء منكر؛ فإنها طبيعية، وإذا لم يشعر الشاب والفتاة بهذه الحاجة، فلن يكون زواج، وإذا امتنع الزواج انقطع النسل وخربت الأرض.
فقالت محاسن محتجة: أي كلام هذا؟!
قالت الجارة: ما له؟ إن الحب طبيعي، وقد خُلقنا له، فلماذا تخجلين منه؟!
فلم تجب محاسن، فألحت عليها جارتها وسألتها: هل تزعمين أنك لم تفكري قطُّ في الحب، أو لم تحلمي بحبيب؟!
قالت محاسن: ربما، أحيانًا، ولكن …
قالت: إذن لماذا كل هذا التكلف؟!
قالت محاسن: ليس هذا تكلفًا ولكن الكلام … عيب.
قالت: عيب؟! كلا، إن الحب — الحب الحقيقي — شيء مقدس لا عيب فيه، وإلا فلماذا يتزوج الناس؟!
فسكتت محاسن، وخطر لها أن لعل فريدة جارتها الجريئة أعلم منها وأفهم وأدرى، وقد تستطيع أن تفتح لها عينيها، وتخرجها من حيرتها، فسألتها: قولي لي يا فريدة: كيف تتصورين الحبيب الذي تتمنين؟
قالت فريدة: الحبيب الذي أتمنى، ما أكثر ما رأيته بعين خيالي؛ طويل، نحيل، جميل الشعر ناعمه، أسود العينين، خفيف الدم، بسَّام، مليح الفكاهة، يعيش من يوم إلى يوم، ولا يصدع رأسه بالتفكير في الغد، ويداه طويلتان صغيرتان رقيقتان، ووجهه شاحب قليلًا، ولكنه غير متهضم أو دميم، وحديثه يحرك الخيال.
فقالت محاسن، قبل أن تستطيع كبح لسانها: كلا، إنه لا يشبه ما أتخيل، فالرجل الذي أراه في أحلامي — أحلام اليقظة — طويل عريض الكتفين، متين البنيان، أسمر اللون، حسن الصورة، وذقنه فيها نقرة صغيرة، وهو مرهوب البأس، ولكنه رقيق القلب، عطوف على الضعفاء، ولا يهاب شيئًا، وهو مرح، يقهقه حين يضحك، ولكن في صوته نبرة حزن؛ لأنه قاسى في حياته شدائد وذاق آلامًا.
وأمسكت فجأة، فقد كانت كأنها تتكلم وهي نائمة.
فقالت فريدة: أنا لن أرضى عن حبيبي هذا إلا إذا كان حسن الهندام؛ فإني أكره الرجل الذي يهمل مظهره، ويترك شعره يطول أو لحيته تنبت، ولا يكوي ملابسه، وعندي أن الرجل ينبغي أن يُعنى بثيابه كالمرأة.
فقالت محاسن: حسبنا أحلامًا.
ولما قابلت نسيمًا في ليلتها خجلت؛ فما كان فيه شيء من صفة الحبيب الذي تتخيله وتحلم به.