الفصل الخامس
١
لم يكن أحد يعرف عمر جبران، ولكن الذين استوطنوا أبا قير كانوا يستطيعون أن يخبروك أنهم جميعًا جاءوا في أوقات شتَّى فألْفوه هناك، كأنما كان بعض وجوه الأرض، وأنه منذ عشر سنوات، أسنَّ من أن يعمل عملًا، وقد يبالغ بعضهم فيقول: إنه هو والبحر توأمان، ولعله هو كان أجهل الناس بسنِّه؛ فقد ولد قبل أن تُعرف شهادات الميلاد، وكان هو إذا روى ما وقع له في شبابه يردُّه تارة إلى عهد إسماعيل، وتارة أخرى إلى عهد عباس الأول، وتتفاوت سنُّه في الرواية الواحدة بين خمس عشرة وخمس وعشرين أو ثلاثين، وتلك مسافة من العمر لا تُعِين على ضبط الحساب.
غير أنه — على تخبخب جلده، وذهاب أسنانه، وضموره وانحنائه — لم تخبُ عينه ولم تغرورق من الكبر، وكانت فيه بقية جَلَد، وكان يستطيع أن يمشي وحده، مضطربًا، ولكنه ما كان يقعد أو ينهض إلا بمعونة.
وقد قضى حياته كلها في الإسكندرية، ورملتها، ولم يتعلم القراءة والكتابة، ولم يركب قطُّ قطارًا أو ترامًا، أو سيارة، ولكنه على هذا رأى ووعى ما لم يرَ غيره ممن جابوا الأرض وركبوا البحر، فكان على فقره غنيًّا.
وكانت له عين سريعة الفطنة إلى الجمال في مظاهره جميعًا، فلا عجب إذا كان غنيًّا، وقد ناهز المائة إذا صح حساب الحاسبين، وفي صباح كل يوم من أيام هذا العمر المديد كان يرقب ميلاد هذا المشهد الجليل الذي يتكرر ولا يُسأم على ساحل بحر الروم، ويتأمل اختضاب البحر بأشعة الشمس الطالعة، ثم زرقته السحرية عند الظهيرة، وخضرة الحقول السندسية والظلال الواضحة التي يلقيها كل ذاهب في الهواء، وفي كل مساء كان يشهد آية الغروب ويرقب غموض أسطورتها واستسرارها.
وكان كلما ارتفعت به السن، وقعد به الكبر، يزداد حبًّا لهذه المشاهد التي لا تتغير كالإنسان، ولا ينقص جمالها أو يعدو الزمن على جدَّتها كما يعدو على السفائن والثياب والبُنى، حتى النساء لم يعد لهن في نظر جبران ما كان لهن من ظرف ورشاقة، وفتنة وإغراء في شبابه.
وهكذا صار جبران لا يصلح لشيء، إلا أن يأخذ بيده واحد من حفدته إلى ظل شجرة عتيقة مثله على مقربة من الساحل، ويتركه هناك على كرسي وعلى ساقيه شملة مخططة من صوف، ينظر إلى البحر الذي لا يهدأ ولا يستريح، حتى يدخل الليل فيرتد به وقد فاز بالمتعة التي لا تبلى جِدَّتها.
ولم تره محاسن أو حمدي، ولم يعرفا قطُّ هذا الأثر المتخلف من زمان غبر، ولكنه هو رآهما مقبلين يدلفان إلى صخور الشاطئ ويقفان عندها — تحت عينه النافذة — وللمرة الأولى منذ سنوات طويلات المدد، هَمَّ بأن ينهض وحده، فقد أحس أن هذين لا ينبغي أن يتطفل على حبهما إنسان، ولكن ساقيه خذلتاه، فبقي حيث هو، لا يريم مكانه ولا يتحرك غيرُ إنسان عينه، كأنه أصل شجرة عادية لم يبقَ منها إلا بعض ساقها.
ورقَّ قلبه الكبير لهما، واشتهى — وقد عزه النهوض — أن يظلا حيث يراهما؛ فما أخذت عينه منذ زمان طويل عاشقين كهذين على ساحل البحر الأبدي.
هذه فتاة حرة، عارية الرأس ممشوقة القوام، جميلة الهندام؛ انظر يا جبران إلى هذه اليد البضَّة الصغيرة التي تريحها على كتف حبيبها، تأمل بنانها وجمال هذا الإبهام، ومرونة هذا الرسغ، وحسن هاتين الساقين، ورأسها المرفوع فوق هذا العنق الأسطع، والخصل الملتوية التي كأنما يومض فيها ألف نجم ونجم، الله تعالى هو الذي أبدع هذا الشعر، لا الحلاقون، والشمس هي التي غذَّته بنورها مذ كانت صغيرة.
والفتى الواقف إلى جانبها أهلٌ لها، ما في هذا شك؛ طويل عريض معتدل القامة، وقوي متين؛ رجل، رجل كما ينبغي أن يكون الرجل؛ تأمل ذراعيه وكتفيه وصدره الواسع العميق ورأسه العاري أيضًا يعتدل فوق كتفيه، وعينه صريحة، ووجهه ناطق بالنبل والخير، فهي معه في أمان من المخاوف، رجل صريح قوي القلب وفي، كلا لا يتغير مثل هذا لعزته، كما لا يتغير البحر الذي ينظران إليه.
وسَرَّ جبران وشرح صدره أن حمدي تناول راحة محاسن ورفعها إلى شفتيه ولثم بنانها، ثم قعدا وظهراهما إلى جبران المعجب المغتبط وعيونهما على البحر الذي يحبه حبًّا جمًّا.
وقال حمدي: هذا ما لم أكن أجرؤ حتى أن أحلم به.
قالت، التي لو سئل عنها جبران، وهو يرمقها، لقال إنها خُلقت أحسن مما يقول من يصف: ولا أنا كنت أحلم بهذا، ولكني من فرط السعادة أخشى …
قال: لا تخشي شيئًا، سنتزوج، الساعة إذا شئت، ما عليك إلا أن تأمري فأجيء بمأذون، فما أظن إلا أن ها هنا مأذونًا.
قالت: كلا، ليس الآن، أقول لك الحق إني لا أدري ماذا ينبغي أن أصنع، ولا أكتمك أني … تعلم ما أعني، ولماذا لا أُفصح؟! إني أحبك، وأخشى أن تطير مني، أخشى من هذا الحب أن يقصيك عني، ولكني أحسب أن التريث أَولى؛ لا من أجلي أو أجلك، ولا من أجل أبي، بل، الحقيقة أني لا أدري من أجل من، لا تضحك مني، فإن هذا أول حب لي، وأحسبها أول حيرة أيضًا، لا ليست أول حيرة، ولكنها أول حيرة سارة.
قال: لا داعي للحيرة، ألسنا قد اتفقنا؟!
قالت: وماذا تنوي أن تصنع مع …
قال: مع التي تزوجتني؟ لا شيء، وماذا عسى أن أصنع؟ هي التي بيدها الأمر فلتفعل ما تشاء، وليس يسعها أكثر من تطليقي، وا خجلتاه! ولكنك تعذرينني؟ أرجو ألا تحتقريني.
وتناول كفها بين كفيه، وهي تبتسم له ابتسام العطف والفهم، ومضى هو في كلامه فقال: إنها ما اتخذتني إلا تكأة، وجعلت الأمر بيدها لتكون حرة حينما تريد، وليست بحريصة عليَّ؛ فما كنت زوجها إلا بالاسم، ولا عرفتها كما يعرف الرجل امرأته، ولا عبَأت هي شيئًا بفراري، أو لعله ينبغي أن أقول: نشوزي؛ فإني — وأنا الرجل — أصبحت في مكان المرأة المستعصية الكارهة النافرة، وضحك ثم قال: لا أخشى على كل حال أن تطلبني إلى محل الطاعة.
فقالت محاسن: لماذا هذه المرارة؟! أرجو ألا تحمل على نفسك هذه الحملة؛ كان ما كان، فليكن أيضًا ما يكون، عِدني ألَّا تفكر على هذا النحو أبدًا.
فوعدها، ونهضت، فهمَّ بالنهوض، فلمست كتفه وأومأت إليه أن يبقى، وقالت: سأسبقك، ودعني نصف ساعة، ثم الحق بي.
وكانت هذه أول مرة تزينت فيها محاسن لحبيب، فلما صعد إليها حمدي ورآها وقف، كأنما صدَّه شيء، وفتح فمه من الدهشة وندَّت عنه آهة إعجاب بحسنها، وكانت في ثوب أبيض من الحرير مطرز بفصوص من خرز بنفسجي، ومفتوح الجيب، يكشف عن أعلى الصدر والظهر، وحول جيدها عقد من اللؤلؤ زاده رقة ونصاعة، وفي أذنيها قرطان — من لؤلؤ أيضًا — وفي شعرها هلال مكلل بفصوص شتَّى الألوان على هيئة النجوم، وعلى يمناها سوار مفتول من فضة، وقد طاف برأسها وهي تضع هذه الحلي أنها بعض ما أهدى إليها نسيم.
ودنت منه ولصقت به حتى شعر بدقات قلبها السريعة، فجمعها بين ذراعيه، وضمها إليه بقوة، فطوقت عنقه بيديها وتعلقت به وثنت رأسه إليها، فالتقت الشفاه في قبلة حارة تركتهما ينتفضان، فحملها على يديه كأنها طاقة زهر، ومضى بها إلى الطارقة وقعد وهي في حجره.
وهمس في أذنها: هل تعلمين أنك من وزن الريشة؟ فضحكت، وثنت إليه وجهها، واستدارت شفتاها للقبل.
٢
وكل شيء في هذه الدنيا اتفاق، أو حظوظ وقسم، وقلَّما يغني التدبير والسعي والطلب غناء المصادفة، وما أكثر ما «تأتي المقيم — وما سعى — حاجاته، عدد الحصى، ويخيب سعي الطالب.»
وقد سعت أم سميرة سعيًا حثيثًا لتحمل سميرة على تطليق زوجها، أو على معاشرته معاشرة الأزواج، بعد أن طاشت، وتسرعت، وسلكت سلوك المأفون الأخرق، فما كان لكل هذا داعٍ، وكان في وسعها أن تنأى عن محمود دون أن تتزوج غيره، وأن تصرفه وهي خافضة وادعة، فإن جهد النفس واحد، وما تتجشم من مرارة القطيعة لا يختلف في الحالين، فأما وقد دفعتها خفة العقل والسفه إلى ما فعلت، فإن عليها أن تراجع نفسها وتشاور عقلها، فإما أن تحيا حياة طبيعية، وإما أن تكف عن هذا العبث الذي تتكلفه وتضيف به عذابًا إلى عذاب، وتفيء إلى ما هو أرشد وأولى بأن يبلغها سؤلها؛ فما من شك في أن محمودًا انتسخ أمله وقنط لما رآها تزوجت، ولعله زاد نفورًا لما علم أنها جعلت العصمة في يدها، فإنه شاب فيه إباء مرٌّ، وله خلق وعر، وقد كان يثقل عليه أن لها مالًا، فلا بد أنه كره منها أن تستعلي على الرجال، ولكنه خليق إذا علم أنها أصبحت حرة طليقة غير موثقة — وإن كان الزمام في يدها — أن تخايله صورتها، ويعاوده طيفها، وتمثلها المنى لقلبه بعد أن أشاح بوجهه عنها يأسًا منها، فما يموت الحب هكذا، ولو كان لهو ساعة لبقيت له بذكراه نوطة في القلب وعلوق بالضمير، وما تنقصه إلا قدحة زناد تطيِّر شرارة تردُّه مسجورًا، والأرجح أن محمودًا حاني الجوانح والقلب على حبه مذ حدث ما حدث، ولعله يتجلد ويعاند، ويكابر، ونفسه — وهو يدري أو لا يدري — موكلة بسميرة، مملوءة من حبها، وعسى أن تكون ما زالت عنده مرعى الأماني، ورضى النفس، وحسب الهوى، يراها بالود وإن لم يرها بالعين، ويدنيها الفكر المفجوع حتى تتراءى له توهمًا. ولكن هذا كله يظل علة شقوة لهما كليهما ما دامت موثقة بهذا الوثاق السخيف، وإن كليهما لمحل عمَّا هو حقه، فإما أن تسكن سميرة إلى الواقع الذي اختارته بفساد عقلها ونزقها، وإما أن تتنكب لتهيئ فرصة جديدة لمحمود ولنفسها.
ولكن منطق الأم الحكيمة المجربة لم يُقنع سميرة التي كبر عليها أن تُقر بالغلط بل بالنزق والخفة، فظلت معاندة جامحة، حتى كان يومٌ.
وكان محمود قد كف عن حضور السباق، مخافة أن يلتقي في حلبته بسميرة، فتهيج حرقاته، ويصدر عنه ما لا يحمد أو يليق، ثم أُلحق بخدمة الحكومة وصار ذا وظيفة، فردَّ البطاقة إلى الصحيفة التي كان يكتب إليها مكتفيًا بالاعتذار بأن «صاحب بالين كذاب»، ولم تكن الوظيفة تستنفد وقته أو مجهود شبابه، وإنما كان يخشى أن يشهد السباق — كما قلنا — فيتفق أن تكون سميرة هناك، وحينئذٍ ماذا يصنع؟ يتحمَّل؟ يغضي؟ يُظهر الفتور وقله الاكتراث؟ يحيِّيها؟ يجتنبها؟ وهي، ماذا عساها تصنع؟
ثم خطب غيرها؛ فصنع كما صنعت، وإن كانت هي البادئة، والبادئ أظلم، ولا جناح عليه، ولكنه يحسن أن تطوى تلك الصفحة القديمة طيًّا ليس له من نشر، ولما لم يُكتب له أن يكون مع محاسن أكثر توفيقًا، كفر بالمرأة، واعتقد أنها مبنية على الغدر، وأنها حُوَّلٌ قُلَّبٌ، لا وفاء لها ولا عهد، وأن من الخير أن يظل حياته مستفردًا واحدًا.
وصار يتسلى عمَّا ساءه من زمانه بالاختلاف مع إخوانه إلى المراقص ودور اللهو الأخرى، إلى أن كان يومٌ أقيمت فيه حفلة راقصة لمساعدة معهد خيري، فذهب مع صاحب له، فانتحيا ناحية وراحا يرمقان الناس — والنساء على الخصوص؛ فما كان بين الرجال تفاوتٌ يُذكر، وكلهم يرتدي ما يسمى ثياب السهرة، أما النساء فكانت ثيابهن وزينتهن معرض أزياء وأذواق.
وإنه لجالس يدير عينه في هذا الحشد الذي لا يسكن إلا ليموج، وإذا بسميرة داخلة على ذراع فتًى وسيم قسيم يشق بها الجمع، ويقبل على الناحية التي هو فيها، وكانت مرتفعة بضع درجات، فكأنما شُكَّ في خاصرته سيف، فانتفض واقفًا، واندفع هاربًا بغير تفكير، فعلقت قدمه بطرف البساط فانكبَّ على وجهه، وهوى على الدرجات، وأصابت سنُّ إحداها ساقه، فهاضتها، فبقي منطرحًا لا يقدر على حركة.
وكان صاحبه قد دهش، ثم أفاق، فلما رآه طريحًا خفَّ إليه، وكان خلق كثير قد اجتمع حوله وحفَّ به، فجعل صاحبه يدفع الناس ويفرقهم عنه، حتى وصل إليه، فألفى سميرة — وإن كان لا يعرف أن اسمها سميرة — جاثية على ركبتيها، وقد أحاطت ظهره بيسراها وأراحت رأسه على صدرها، وهي تدعو الناس — وتشير إليهم بيمناها — أن يتفرقوا ليتنفس.
وجثا صاحبه مثل جثوِّها، وقال وهو يمد يديه ليرفعه عن صدرها: عنك يا هانم، وشكرًا لك.
قالت: لا لا لا، هذا شأني أنا، ما شأنك أنت؟! اذهب عنَّا، تعالَ يا نسيم واحمله معي.
قال صاحبه: إني معه، وأنا صديقه.
قالت: قلت لك إن هذا شأني أنا، ألا تفهم؟! تعالَ يا نسيم.
فدنا منهما نسيم وقال: بل هو شأن الإسعاف الذي يمثل آل نسيم روحه في كل موقف يدعو إليه. وأشار إلى خادمين واقفين ينظران مع الناظرين، ويزيدان الزحام والضيق ولا يصنعان شيئًا، وقال: إن وقفتكما جميلة، ولكني مضطرٌّ أن أحرم الجمهور جمال هذا المنظر، فهل لكما أن تتفضلا بمعاونتي على حمله إلى السيارة، شكرًا، لم يخب أملي في شهامتكما.
وحملوه برفق إلى السيارة، وكانت سميرة لفرط اضطرابها تعترض طريقهم وتدور حولهم، وتسير مرة أمامهم ومرة خلفهم، وتارة عن يمينهم وأخرى عن يسارهم كالكلب الوفي، حتى أرقدوه في السيارة، وقعد على الأرض فيها معه نسيم، واتخذت هي مقعد القيادة، وانطلقت إلى بيتها وخلفت صاحبه على الرصيف فاغرًا فمه كالأبله.
ولما بلغوا البيت تركت السيارة ومن فيها وذهبت تعدو إلى أمها حتى إذا لقيتها صاحت بها وجدته، وجدته.
فقالت لها أمها: وجدته؟! من عسى أن يكون هذا؟!
وكان لها عذرها إذا لم تفهم؛ فما كانت اطَّلعت على الغيب، فقالت سميرة: ومن عسى أن يكون سواه؟!
قالت الأم: حلمك، إن الله مع الصابرين، ألا تقولين …
قالت سميرة: صابرين؟! أهذا وقت الصبر وهو مكسور في السيارة؟!
فضحكت الأم وقالت: وجدته! وليس هذا وقت الصبر! لأنه مكسور في السيارة! ومع ذلك تتركه وتجيء تتكلم بما لا يفهم! طيب.
ونهضت الأم ودعت الخدم وأمرتهم أن يحملوا «المكسور» وأمرت وصيفتها أن تعد له غرفة، وقصدت هي إلى التليفون فدعت طبيبًا.
وكان محمود لا يزال فيما يشبه الغيبوبة، من الألم الحاد، والذهول، واعتلاج العواطف في صدره الذي صار كالخضمِّ، فكان ينظر ولا يكاد يدرك ما يجري حوله وما يُصنع به، ولكنه كالمُدار به، لا قدرة له على قول أو عمل.
ورأته الأم فابتسمت وهزت رأسها، وقالت لنفسها: ما أقلَّ غناء التدبير!
وقال لها نسيم: يا سيدتي، كوني منصفة، ألا أستحق على الأقل فنجانًا من القهوة، ودعي الشكر، وإن كنتُ أهلًا له، وليست هذه ساعته على كل حال؛ على أني بذكائي المعهود، وفراستي التي لا أظنك إلا معترفة بأنها صادقة، أرى أني سأكون أهلًا لشكر أعظم، في أوانه، وما أرى أوانه إلا قريبًا، إي نعم.
فقالت الأم: ماذا تقول؟ عن أي شيء تتكلم؟ ومن أنت أولًا؟
قال: لكل سؤال جوابه عندي، فأنا — ولا فخر — نسيم، رفيق السهرة المنبوذ، أو المنسي بعد أن وجد العصفور عشه، فهل اقتنعت الآن بما وصفت لك من ذكائي؟ أما ماذا أقول، فأظن أنك سمعتِه، ولا بأس مع ذلك من الإعادة؛ فقد تكون فيها إفادة، نعم سمعتِني يا سيدتي أقول: إني أستحق فنجان قهوة بما قدمت من معونة مشكورة على رد العصفور إلى قفصه.
قالت: آه، فهمت، لماذا لم تقل هذا من الأول؟
قال: معذرة إذا كنت قد وثبت إلى النهاية وتخطيت البداية، وهذه آفة آل نسيم جميعًا؛ كلهم وثَّاب الذهن كما ترين، ولكني أرى جرسًا يتدلى من هذه النجفة البديعة، فحبذا لو ضغطت زره بأصبعين من يدك الجميلة.
وكانت سميرة في أثناء ذلك قاعدة على السرير الذي أرقدوا عليه محمودًا، وكانت لا تنفكُّ تحنو عليه وتقبِّل ما بين عينيه وجبينه وخديه ورأسه حتى أذنيه وأنفه، وكلما همَّ بكلام وضعت راحتها على فمه لتمنعه، وكلما أدار وجهه ردته إليها برفق وعادت إلى التقبيل والتنهد والتشهد.
وأخيرًا ابتسم، لم يسعه إلا أن يبتسم، وقد هدأ الثبج المربد، والموت المعتلج، وتسنَّى أن تبصر عين الضمير ما كان اصطخاب الأواذيِّ يحجبه ويطويه.
وقالت له: لن أدعك تفر مني مرة أخرى، والحمد لله على ما أصابك؛ فلن تستطيع أن تغافلني وتهرب.
فهمَّ بأن يقول إنه لم يكن هو الذي فرَّ منها، ولكنه عدل عن الجدل والخلاف في مثل هذه الساعة، وأشار إلى فمه، فمالت عليه، وأراحت صدرها على صدره، وضمته وقبلته.
فلم يزد على أن قال: آه، من حلاوة القبلة ورضى النفس.
وكانت أم سميرة قد بقيت مع نسيم ولم تصعد؛ لتتيح للشتيتين أطول اجتماع، وعرفت منه أن أخته من صديقات سميرة، واستطاعت بعد عناء أن تقف على ما وقع؛ فقد كان لا يفتأ يحاورها ويداورها.
وقالت له أخيرًا: لماذا تتكلف هذا الأسلوب؟ أتراك خاب لك أمل؟
قال: آل نسيم يخيب لهم أمل؟! كلا، إنما يخيب أمل من يخيب فيه أملهم.
قالت: إنك تدوخني، فلماذا لا تتكلم كخلق الله؟!
قال: سمعًا وطاعة، وسترين أني أقدر على هذا أيضًا، وهاكِ مثالًا، أظن أن القادم هو الدكتور.
(وكان هذا صحيحًا.)
وقال الدكتور لنسيم بعد أن سلَّم وعرف ما دُعي له: ألا تصحبني؟
قال نسيم: كلا، بل تصعد وحدك، ولا تخف؛ فإني هنا.
فألقى إليه الطبيب نظرة مبتسمة، وصعد.
•••
لو درت محاسن بما حاق براتب بك بعدها، لكان أول ما هو خليق أن يجري لها بخاطر أن الله قد انتقم لها من هذا الظلوم الشرس الطويل اللسان، ثم لكانت حرِيَّة أن تبتسم ويدركها عليه العطف وتقول: مسكين!
ذلك أن راتب بك انحدر ضحى نهارٍ مشمسٍ من أيام الربيع يزينه زهر حديقته، فلولا أن هذا مستحيل — في مصر على الأقل، وفي القاهرة على وجه أخص — لقلنا مع أبي تمام إنه كان يبدو — النهار لا راتب بك: «كأنما هو مقمر.»
وكان راتب بك يدير عصاه، وينفخ الدخان ووجهه إلى السماء، والسيجار الغليظ بين أصبعين من يده ليسا أقل غلظًا، ولكنه لم يكن يشعر بالرضى المعتاد عن نفسه وعن الدنيا، وخُيِّل إليه وهو يدخل في السيارة أن فطوره في هذا الصباح لم يكن مريئًا، بل كان بشعًا عسر الابتلاع، كأنما كان بغير إدام أو كان فيه حصى، وأن القهوة أيضًا كانت لها زُهومة، كأنما كانت قد خُلطت بشحم.
ولم يستغرب ألَّا يشعر بقَضَض الطعام، وزُهومة القهوة، إلا بعد أن أكل وشبع، وارتوى بل تَضَلَّع، وأتى على نصف السيجار الأسود — أو البنِّي — الغليظ، وإنما كان يستغرب، وهو مضطجع في سيارته الفخمة، أنه يشعر بامتلاء غير معهود ولا معقول — إذا اعتبرنا سخطه على طعامه في هذا الصباح — وهو امتلاء يمنع أن يواصل التفكير المنتظم فيما كان يشغله مذ فتح عينه على النهار.
ودخل مكتبه ممتلئًا، وكان عهده بنفسه أنه يدخل منتفخًا، والنفخة — ولو كانت كذابة — تفيده لذة، أما هذا الامتلاء فلا يفيده إلا كربًا واضطرابًا وارتباكًا.
وانحطَّ على كرسيه الدوَّار، وما كاد يفعل حتى زوى ما بين عينيه وأرسل يده تحته تتحسس، وكان مقعد الكرسي من خيزران فأنَّى له هذه الوثارة والطراوة، كأنما طُرحت عليه وسادة؟
ورد الكرسي — دفعه إلى الخلف بفخذيه — ونهض واقفًا، وذهبت يداه تتحسسان بدنه، ثم رفع إحدى قدميه ودس يده في ساق البنطلون، فلمست شيئًا ما كان ينبغي أن يكون هناك، فما اعتاد أن يرتدي تحت البنطلون سوى السراويل القصيرة الساقين، ووقف هنيهة، ويده مدسوسة تحت الساق، وفمه فاغر، وعيناه شاخصتان لا تطرفان من فرط الدهشة.
ثم استوى واقفًا وأعمل يديه — بلا تفكير — في أزرار البنطلون يفكها بسرعة، فكان ما خاف أن يكون؛ ذلك أنه نسي أن يخلع المنامة (البيجامة) فارتدى البنطلون فوقها. وأوسع نفسه ذمًّا ولعنًا، وهو يُخرج رجليه من الساقين، ويلقي بالبنطلون على المكتب ريثما يخلع سراويل المنامة.
ولو أن الله كان قد أراد به خيرًا لفكر قليلًا قبل أن يفعل ذلك، أو لخطر بباله إما أن يتجلد ويصبر على أن يظل بنطلونه محشوًّا بأكثر من جذعه حتى يئوب إلى بيته فيصنع بثيابه ما شاء، ويطرح عن بدنه منها ما يكره، وإما أن يتحول إلى الحمام فيوصده على نفسه، ويفعل ما هو فاعل في مكتبه بغير عقل، ومن غير أن يكلف نفسه أن يستوثق من الباب، وصحيح أن هذه غرفته الخاصة، وأن بابها غير مفتوح، وأنه لا يدخل عليه فيها داخل بغير استئذان، ولكنها ليست حصنًا منيعًا لا يُنال؛ وآية ذلك أن الآنسة ريا التي حلَّت محل محاسن، فتحت الباب بخفة، ثم ردته برفق ودخلت تمشي على أطراف أصابعها — أو ذُنَابة حذائها الدقيق — وعلى ذراعها طائفة من الأوراق، وبين أصبعيها قلم، وعلى فمها وفي عينيها ابتسامة خفيفة، تمهيدًا لتحية اللسان.
ولم تخطُ سوى خطوتين اثنتين — أو خطوة ونصف خطوة، فقد ظلت قدمها اليسرى متخلفة؛ رأس حذائها على الأرض وكعبه مرفوع في الهواء — وغاضت الابتسامة، وثبت الحملاق، وتدانى ما بين الجفون، وما بين مخطَّي الجبين أيضًا، وتحركت الشفتان بكلام لم يتبينه راتب بك ولكنه سمع صوته، فرفع رأسه مرتاعًا، وهوى شخصه فغاب في الفضاء القليل بين الكرسي والمكتب — ما خلا رأسه فقد ظل فوق خط الماء — وصاح: اخرجي، اخرجي، ألا ترين أن هذا ليس وقت الدخول؟!
قالت بهدوء: إني أرى كثيرًا مما لم أكن أتوقع أن أراه، وقد سلبني ما رأيت الإرادة أو القدرة على الحركة.
فعاد يصيح: أقول لك: اخرجي، ألا تسمعين؟! ماذا يقول الناس إذا دخل داخلٌ ووجدك هنا؟
قالت: لا تخف عليَّ؛ فإنهم سيقولون فيك أولًا.
وأحس راتب بك أن هذا الشطر من المنامة قد تدلى إلى قدميه واختلطت جملته بهما، فشرع يرفع قدمًا بعد قدم ليخرجهما ويخلصهما، عبثًا؛ فقد كانت الحركة غير ميسورة وهو قاعد القرفصاء برغمه، وفخذاه إلى بطنه ويداه على ركبتيه.
وأتعبه تكلفه حركةً ليست في خير الأحوال بالهينة، فكيف على طرف المكتب! فضاق صدره وانطلق لسانه يقول: ألا تنوين أن تخرجي؟! ماذا عسى أن يقول الناس؟
وكانت ريا فتاة خبيثة، تُحسن اغتنام الفرص اللائحة، فقالت: إنهم خليقون أن يقولوا إنك دعوتني لشهود هذا المنظر وآثرتني به في غرفتك الخاصة.
فكاد عقله يطير وزعق: امشي، اخرجي، فأنت مطرودة.
قالت: صحيح؟! وما قولك في أن أصيح كصياحك، وأخرج كالقنبلة، وأجمع موظفي الشركة عليك؟
وكانت وهي تقول ذلك تبدو لراتب بك كأنها تستحلي الكلام، وتستطيب المنظر الذي رسمت له خطوطه الكبرى، وتركت له العناية بالتفاصيل.
قال بصوت ضعيف: أعوذ بالله منك! طيب اخرجي، فلن أطردك، ودعيني أفعل ما أنا فاعل.
قالت ببرود: وهذه الأوراق؟
فأسعفه صوته وصاح: أهذا وقته؟! سبحان الله العظيم!
قالت: سؤال قبل أن أخرج، لماذا لبست المنامة تحت البنطلون؟
قال: لا أردي، وما شأنك أنت؟! أقول لك: اخرجي.
قالت: إنه منظر لا تراه الواحدة منا كل يوم، وفي شركة تجارية، ومكتب كهذا.
فقال محتجًّا: هل يتصور عقلك الوسخ أن هذه عادة لي؟!
قالت: يحسن ألَّا تعتادها.
وخرجت بخفة كما دخلت، وردَّت الباب وراءها، فنهض الرجل وأتمَّ ما كان بدأ، ولعن نفسه والوجه الذي أصبح عليه في يومه، وجرأة ريا وقلة أدبها، وحدَّث نفسه أنه سيلقى منها ويلًا. وطوى المنامة ورمى بها — لقلة عقله مرة أخرى — في سلة الورق المهمل.
ودق الجرس فدخلت عليه ريا مرة أخرى، فألفته جالسًا إلى مكتبه على عادته فقالت: هذا أحسن.
وهم بأن يزجرها عن العَود إلى الموضوع، ولكن فراش المكتب دخل في هذه اللحظة بالصينية وعليها كوب ماء بارد وفنجان قهوة، ووضعها على المكتب، ودار لينصرف فلمحت عينه المنامة فانحنى، ومد يده فأخرجها ورفعها، وتأمل ألوانها الزاهية، ولمسها وفركها بأصابعه، وهز رأسه معجبًا بحريرها الطبيعي النفيس، ثم حوَّل وجهه إلى راتب بك وسأله: هل هذه لك يا بك؟
وكان راتب بك قد غض بصره عجزًا منه عن النظر إلى الفراش وهو يقلب المنامة أو شطرها الأسفل — أطرق وأبقى عينه على المكتب، فقال: لا. ولم يرفع رأسه.
قال الفراش: وماذا جاء بها إلى هنا؟ لقد كنست المكتب ونظفته ولم تكن هذه في السلة.
فأحس راتب بك أن رأسه يدور، فقد صار كل امرئ يجترئ عليه بالخلاف والمجادلة، حتى الفراش.
وتشدد وقال: أراك لا تصدقني؟! شيء جميل يا حسنين! اخرج وارمها حيث شئت ولا تكلمني فيها مرة أخرى، سامع؟
وانصرف الفراش، فقالت ريا: أتظن أنك كنت حكيمًا؟!
فسألها راتب بك: ماذا تعنين؟
قالت: تركت المنامة لحسنين.
قال: وماله؟ ماذا أصنع بها؟! إني لا أطيق أن أراها مرة أخرى، ولا أنت أيضًا.
قالت: شكرًا، ولكن كل موظفي المكتب سيرونها الآن، وسيعرضها حسنين عليهم واحدًا واحدًا، ويقول لهم إنه وجدها ملقاة في السلة وأنا معك …
فصاح بها مقاطعًا: ألا تخجلين؟
قالت: هذا شأني أنا، وقد كنت أبين لك شأنك، أنت حر.
فوضع رأسه بين يديه وقال كمن يحدث نفسه: يا له من نهار أسود! ما العمل الآن؟
قالت: ألا ترى أنه يَحسن بك أن تكون لطيفًا معي؟
فنظر إليها نظرة ملؤها الحقد والمرارة، وقال: لطيف معك؟! أهو ذاك؟!
قالت بهدوئها الذي لا يفارقها: نعم، وتذهب بي مرة إلى السينما، أو إلى …
قال، بلهجة الزراية: ويراني الناس معك؟! مع مثلك؟!
فأطرقت ريا تتدبر قوله هذا، ثم رفعت رأسها ونظرت إليه وقالت: ولمَ لا؟ إنك لست دميمًا جدًّا.
فصاح: إيه؟!
قالت: لا تزعق، فما أظن بموظفيك إلا أنهم قريبون من الباب.
قال — بصوت خافت: إنكِ أوقح من رأيت في حياتي.
قالت: لست أوقح منك؛ ألم تخلع منامتك أمام عيني؟!
قال: ما حيلتي؟! أنتِ دخلتِ بلا استئذان، فرأيت ما رأيت، لماذا لا تدعين هذا الموضوع؟ إن عملي معطل.
قالت ونتغدى اليوم عند الحاتي؟
قال: طيب، طيب.
وكانت هذه هي البداية، وهي حسْب القارئ، وفيها عبرة كافية سقناها غير باخلين بها على من يطيل لسانه على البنات الطيبات.