العرب قبل الإسلام
كذلك قد انحدر إلينا من أخبارهم أنهم عرفوا مدرسة «جنديسابور» من أعمال «خوزستان» التي أسسها «كسرى أنو شروان»، وكان حكم كسرى بين ٥٣١–٥٧٨م، فاتصل أثناء حروبه في سورية (تلقاء إمبراطورية بوزنطية) بتعاليم اليونان، فضَيَّف فئة من فلاسفتهم، عقيب الأمر الذي أصدره الإمبراطور «يوستنيانوس» بغلق المدارس والمعابد في أثينا.
وفي الفهرست لابن النديم (ص٢٤٢) أن الذين وفدوا على «كسرى» من فلاسفة اليونان سبعة، فأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية، فنقلوا المنطق والطب وألفوا كتبًا طالعها هو ورغَّب الناس فيها، ومن الدلالات البالغة على أن عناية كسرى بمن استوفد من فلاسفة اليونان كانت كبيرة، أنه وضع في المعاهدة التي عقدها مع إمبراطورية بوزنطية نصًّا خاصًّا بهم ضمن لهم به حريتهم المدنية والدينية، وأنهم أحرار في أن يعودوا إلى بلادهم فيما لو أرادوا العودة.
وممن اشتهر في مدرسة جنديسابور من العرب قبل الإسلام طبيبان هما الحارث ابن كلدة وابنه «النضر» الذي ذكره الرئيس ابن سينا، وكان مع الذين هزموا يوم «بدر» فأسر وقتل، وقيل: إن الذي قتله هو «علي بن أبي طالب» (راجع أبا إسحاق الحصري الكيرواني في زهر الآداب ص٢٧ ج١)، وكلاهما من ذوي قرابة النبي ﷺ فهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، فنسبه يلتقي ونسب النبي في الجد الثالث.
كذلك كان للعرب معرفة بعلم النجوم قبل الإسلام، قال المرحوم الأستاذ «نلينو» في كتابه المعروف «تاريخ الفلك عند العرب في القرون الوسطى»، ص١٠٥–١٠٨ ما يلي:
-
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ (سورة الإسراء ٤٤).
-
اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ (سورة الطلاق ١٢).
-
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (سورة المؤمنون ١٧).
-
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا (سورة فصلت ١٢).
-
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (سورة نوح ١٥).
-
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (سورة نوح ١٥).
-
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (سورة النبأ ١٢).
قال: والمحتمل أن العرب كانوا يسمون سماء كوكب فلكه كما ورد في الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (سورة الأنبياء ٣٣): لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (سورة يس ٤٠).
ثم قال: كانت أهل البادية من أحوج الناس إلى معرفة الكواكب الثابتة الكبرى ومواقع طلوعها وغروبها؛ لأنهم كثيرًا ما اضطروا إلى قطع الفيافي والقفار ليلًا مهتدين برؤية الدراري، فلولاها لضلت جيوشهم وهلكت قوافلهم في الكثبان والبراري، كما ورد في سورة الأنعام (الآية ٩٧): وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
فلا غرو أنهم عرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسموها بأسماء مخصوصة، يذكر جزء منها في أشعارهم مثل الفرقدين والدبران والعيوق والثريا والسماكين والشِّعريين وغيرهما، ولكن لا يتوصل إلى فهم سعة معرفتهم بالكواكب الثابتة إلا من اطلع على كتاب أبي الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي (المتوفى سنة ٣٧٦ﻫ/٩٨٦م) في الكواكب والصور؛ فإنه عند وصف كل صورة على طريقة الفلكيين، جمع أسماء الكواكب المستعملة عند عرب البادية، فبلغت هذه الأسماء عدد نحو مائتين وخمسين أو أكثر، فمن كتاب عبد الرحمن الصوفي ومن أقوالهم في منازل القمر، ترى أيضًا أنهم في إثبات الصور النجومية، سلكوا طريقة فلكيي اليونان، حتى لا نجد في الأكثر موافقة بين صورهم وصور اليونان.
هذا طرف مما وصل إلينا من علم العرب قبل الإسلام، على أن التدقيق في أشعارهم يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا ذوي نظر نافذ وقريحة وضاءة يستدل بها على استعدادهم الفطري لاستيعاب المعارف، على أنه لا ينبغي أن نغفل عن أن ما ضاع من آثار الأقدمين، وبخاصة علومهم التي لم يقيدوا إلا طرفًا منها، يحول دون الحكم الصحيح على مقدار ما حصلوا من المعارف والفنون المختلفة، ولا يخرج العرب عن حكم ذلك فإنهم في جاهليتهم تجري عليهم الأحكام التي جرت على غيرهم من أهل الحضارات القديمة، وهم في إسلامهم قد نزلت بهم من النكبات والكوارث ما لا يقاس به ما نزل بالأمم الأخرى، إلا أن يكون القياس مع الفارق البعيد.