دستور البحث العلمي والفلسفي عند العرب
- (١)
«هل هو»: سؤال يبحث عن وجدان شيءٍ أو عن عدمه، والجواب نعم أو لا.
- (٢)
«ما هو»: سؤال يبحث عن حقيقة الشيء.
- (٣)
«كم هو»: سؤال يبحث عن مقدار الشيء.
- (٤)
«كيف هو»: سؤال يبحث عن صفة الشيء.
- (٥)
«أي شيء هو»: سؤال يبحث عن واحد من الجملة أو عن بعض من الكل.
- (٦)
«أين هو»: سؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن رتبته.
- (٧)
«متى هو»: سؤال يبحث عن زمان كون الشيء.
- (٨)
«لِمَ هو»: سؤال يبحث عن علة الشيء المعلول.
- (٩)
«مَنْ هو»: سؤال يبحث عن التعريف بالشيء.
حصر العرب بهذا الدستور المحكم متجهات البحث العلمي والفلسفي، غير أنهم لم يطبقوا هذا الدستور تطبيقًا يقتضيه التفريق الحتمي بين كفايات العقل الإنساني، فإن كفاية العقل المستمدة من الحواس مباشرة، ينبغي لها أن تختص بجهات من هذا الدستور لا تتعداها، وكذلك كفاية التأمل، فإذا عرض سؤال معضل في مسألة علمية أو فلسفية رأيتهم يحاولون تطبيق هذا الدستور عليها جميعًا، فسؤال يحتمل أن يكون من باب «ما هو» لا ينبغي أن ينظر فيه من باب «كيف هو» أو «أين هو» أو «متى هو»، فإذا اشترك بابان أو أكثر في الإجابة عن «سؤال» ما، يجب أن يفرق بين أجزاء السؤال، لتكون الإجابة عن كل جزء من اختصاص الباب الذي هو داخل فيه، حتى لا تختلط كفايات العقل التي فرق بينها الطبع، بتخالط الأوجه التي تنشأ عن سؤال في العلم يمت إلى الفلسفة بسبب، أو سؤال في الفلسفة فيه طرف من العلم، ولو أنهم طبقوا هذه الأبواب بحسب ما يجب، لكانوا أول الواضعين للطريقة العلمية في البحث، تلك الطريقة التي يفخر أهل عصرنا بها، ولكن لكل عصر حكمه، ولعل السبب في أنهم لم يطبقوا هذا الدستور على الوجه الذي ينبغي راجعٌ إلى وراثتهم عن اليونان بالذات.
- أولًا: باب «هل هو»: وهو سؤال يبحث عن وجدان شيء أو عدمه، والجواب نعم أو
لا.
الموجود يقتضي الواجد لأنهما من جنس المضاف٤ — ووجدان الشيء لا يخلو من إحدى طرق ثلاث: إما بإحدى القوى الحساسة، وإما بإحدى القوى العقلية التي هي الفكرة والروية والتمييز والفهم والوهم الصادق والذهني الصافي، وإما بطريق البرهان الضروري، وليس لإنسان من طريق إلى المعلومات غير هذه، وأما معنى العدم فهو ما يقابل كل نوع من هذه الطرق الثلاث فيقال: معدوم من درك الحس له، ومعدوم من تصور العقل، ومعدوم من إقامة البرهان عليه.
- ثانيًا: باب «ما هو»: سؤال يبحث عن حقيقة الشيء.
هذا السؤال يبحث عن حقيقة الشيء، أو كما يقول الفلاسفة: عن «ماهية» الشيء، و«ماهية» لفظ منحوت من لفظي «ما هو»، وحقيقة الشيء تعرف بأمرين: الأول الحد، والثاني الرسم، ذلك بأن الأشياء جميعًا لا تخرج عن نوعين: مركب كالجسم، وبسيط كالهيولي والصورة، والأشياء المركبة تعرف حقيقتها إذا عرفت الأشياء التي هي مركب منها، فإذا قيل: ما حقيقة الطين؟ قيل: «تراب وماء» مختلطان، والحكماء يسمون مثل هذا الوصف «الحد»، وحدُّوا الجسم: بأنه «الشيء الطويل العريض العميق»، وفي قولهم: الشيء إشارة إلى «الهيولي» أي المادة، وفي قولهم: الطويل والعريض والعميق إشارة إلى الصورة؛ لأن حقيقة الجسم ليست بشيء غير هذه التي ذكرت في حده.
وأما الأشياء التي ليست مركبة من شيء فحقيقتها تعرف من الصفات المختصة بها، مثال ذلك: إذا قيل: ما حقيقة «الهيولي»؟ فيقال: جوهر بسيط قابل للصورة لا كيفية فيه البتة، وإذا قيل: ما الصورة؟ فيقال: هي التي يكون الشيء بها ما هو، وهذا ما يسميه الحكماء «الرسم»، والفرق بين «الحد» و«الرسم» أن الحد مأخوذ من الأشياء التي يتركب منها المحدود، والرسم مأخوذ من الصفات المختصة بالمرسوم: وفرق آخر: أن الحد يخبرك عن جوهر الشيء المحدود ويميزه عما سواه، والرسم يميز لك المرسوم عما سواه لا غير.
- ثالثًا: باب «كم هو»: سؤال يبحث عن مقدار الشيء.
الأشياء ذوات المقادير كلها نوعان: متصل ومنفصل، فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان: العدد والحركة، وهذه الأشياء كلها يقال فيها «كم هو».
- رابعًا: «كيف هو»: سؤال يبحث عن صفة الشيء.
والصفات كثيرة الأنواع، وسوف نشرح ذلك عند كلامنا في المقولات.
- خامسًا: «أي شيء هو»: سؤال يبحث عن واحدٍ من الجملة، أو عن بعض من الكل، إذا قيل: طلع الكوكب، فيقال: أي كوكب هو؛ لأن الكواكب كثيرة، وأما إذا قيل: طلعت الشمس فلا يقال: أي شمس هي؛ إذ ليس من جنسها كثرة.
- سادسًا: «أين هو»: سؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن مكان رتبته.
والفرق بين المكان والرتبة: أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكل الأجسام، فإذا قيل: أين زيد؟ فيقال: في البيت، أو في موضع آخر غير البيت، وأما المحل فهي صفة للعرض: والعرض نوعان: جسماني وروحاني، فالأعراض الجسمانية حالة في الأجسام، فإذا قيل مثلًا: أين البياض؟ فيقال: عرض حال في الجسم الأبيض، وهكذا بقية الأعراض التي هي محمولات في غيرها، وأما الأعراض الروحانية فحالة في الجواهر الروحانية فإذا قيل: أين العلم؟ فيقال: عرض حالٌ في نفس العالم، وكذلك بقية الأعراض الروحانية كالسخاء والعدل والشجاعة وغير ذلك.
وأما الرتبة: فهي من صفات الجواهر الروحانية، فإذا قيل: أين النفس؟ فيقال: هي دون العقل وفوق الطبيعة، وإذا قيل: أين الخمسة؟ فيقال: بعد الأربعة وقبل الستة، والجواهر الروحانية لا توصف بالمكان ولا بالمحل، وإنما بالرتبة.
- سابعًا: «متى هو»: سؤال يبحث عن زمان كون الشيء.
والأزمان ثلاثة: ماضٍ كأمس، ومستقبل مثل غدٍ، وحاضر مثل اليوم.
- ثامنًا: «لِمَ هو»: سؤال يبحث عن علة الشيء المعلول.
والعلل أربع: علة هيولانية، وعلة صورية، وعلة فاعلية، وعلة تمامية، فالعلة الهيولانية هي المادة التي يصنع منها الشيء، والعلة الصورية هي الهيئة التي يكون عليها الشيء كالاستدارة أو التربيع أو الاستطالة أو التكور، والعلة الفاعلية هي الصانع الذي يعمل الشيء، والعلة التمامية هي الغرض من الشيء، وكل معلول لا بد له من هذه العلل الأربع، فإذا سألت عن علة شيء؛ فاتجه بفكرك أولًا عن أيها تسأل حتى يكون الجواب بحسب السؤال.
- تاسعًا: «من هو»: سؤال يسأل عن التعريف للشيء، أي تحديده ولا يحتاج إلى شرح لأنه بيِّنٌ بذاته.
تحت هذه الأبواب التسعة حصر العرب كمية السؤالات التي ترد على الأشياء من أي نوع تكون، وإنما هم وضعوها لتقرب من فهم المتعلمين النظر في المنطق الفلسفي قبل الإقدام على درس «إيساغوجي» وهو المدخل لذلك العلم.
وهنا ينبغي لنا أن نشرح المقولات العشر، التي هي «قاطيغورياس» عند اليونان، ونقلت إلى العرب مع ما نقل إليهم من منطق «أرسطو»، حتى إذا فرغنا من شرحها أمكننا أن نوازنها بذلك الدستور القويم.
- الأول: جنس الجوهر: ليس له حدٌّ، ولكنَّ له رسمًا٥ ورسمه أن القائم بنفسه، القابل للأعراض المضادة.
ما هو النوع عند القدماء: النوع معنًى يشمل جملة الأشخاص المتفقة في الصورة، المختلفة في الأعراض، وبيان هذا أن الحكماء لما نظروا في الموجودات فأول ما رأوا الأشخاص مثل زيد وعمرو وخالد، ثم تذكروا في من لم يروهم من الناس الماضين، فعلموا أن كلهم تشملهم الصورة الإنسانية وإن اختلفوا في صفاتهم من حيث الطول والقصر والسواد والبياض، والشهلة والفطسة، وما شاكل من الصفات، فقالوا: كلهم إنسان، ولذا سموه: «نوعًا»، وعلى هذا القياس سائر أشخاص الحيوانات من الأنعام والسباع والطيور وغير ذلك.
هذه هي الخطوة الأولى، أما الثانية: فإنهم رأوا أن الحياة تشملهم كلها، فسموها الحيوان، ولقبوها الجنس الشامل لجماعات مختلفة الصور، وهي — أي الصور— أنواعٌ له، ثم نظروا في أشخاص أخر كالنبات والشجر وأنواعها فعلموا أن النمو والغذاء يشملها كلها، فسموها «النامي» وقالوا: هي جنس «أي النامي» والحيوان والنبات نوعان له.
ثم انتقلوا بالنظر إلى الأشياء التي لا هي حيوان ولا نبات، أي الحجر والماء والنار والكوكب، فرأوا أنها كلها أجسام، فسموها: جنسًا، ورأوا أن الجسم من حيث هو جسم لا يتحرك ولا يعقل ولا يحس ولا يعلم شيئًا، غير أنهم وجدوه بعض الأحيان متحركًا متعقلًا ومصنوعًا فيه الأشكال والصور والنقوش والأصباغ، فعلموا أن مع الجسم جوهرًا آخر هو الفاعل في الأجسام؛ أي المؤثر فيها بما يكسبها هذه الأفعال والآثار، فسموه روحانيًّا، فجمعوا هذه كلها في لفظة واحدة وسموه: «الجوهر»، فصار الجوهر بذلك جنسًا: والروحاني والجسماني نوعان له، والجسم جنس لما تحته من النامي والجماد وهي نوعان له، والنامي جنس لما تحته من الحيوان والنبات وهما نوعان له، والحيوان جنس لما تحته من الناس والطير وغير ذلك.
فالإنسان بذلك نوع الأنواع، والجوهر جنس الأجناس، والجسم والنامي والحيوان نوع من جنس المضاف، ذلك بأنها إذا أضيفت إلى ما تحتها سميت: أجناسًا لها، وإذا أضيفت إلى ما فوقها سميت: أنواعًا لها.
- الثاني: جنس الكم: أشياء هي أعراض في الجوهر مثل ثلاثة أرباع وأربعة أرطال وخمسة مكاييل وما شاكل يجري مجراها جميعًا يشملها جنس الكم أو مقولة الكم.
- ثالثًا: جنس الكيف: الكيف لا هو جوهر ولا هو كم، وإنما هو صفات كالبياض والسواد والحلاوة والحموضة، وهي أعراض للجوهر، فالجوهر موصوف بها، وهي قائمة به، وكلها صور متممة له.
- رابعًا: جنس المضاف: هناك أشياء شتى تقع على شيء واحد لا يتغير في ذاته، بل يتغير من أجل إضافته إلى أشياء شتى، وهذا ما سموه: جنس المضاف أو مقولة المضاف، فالرجل مثلًا يكون أبًا وابنًا وأخًا وزوجًا وصديقًا وعدوًّا، وجميعها أشياء تقع بين اثنين يشتركان في معنى من المعاني، وذلك المعنى لا يكون موجودًا في ذاتيهما، ولكن في نفس المفكر.
- خامسًا: جنس الأين: يشمل معاني غير معاني ما تقدم؛ مثل: فوق وتحت وها هنا وهناك وما شاكل ذلك فسموها: «الأين» أو مقولة الأين.
- سادسًا: جنس المتى: يشمل معاني تدل على الزمان؛ مثل: يوم وشهر وسنة وحين ومدة وما شاكل ذلك فسموها: «المتى» أو مقولة المتى.
- سابعًا: جنس الوضع: يشمل معاني تدل على وضع الشيء مثل قائم وقاعد ونائم ومنحنٍ ومتكئ ومستند ومستلقٍ فسموها: «الوضع» أو مقولة الوضع.
- ثامنًا: جنس المِلْك: مثلها قولك به وعليه وله ومنه وعليه وعنده وما شاكل ذلك، فسموها: «المِلْك» أو مقولة الملك.
- تاسعًا: جنس أن يفعل: وهو يدل على تأثير الفاعل.
- عاشرًا: جنس أن ينفعل: مثل قولك انقطع وانكسر وانبعث وانبجس، وهو جنس يدل على أثر الفاعل في المنفعل.
لقد جمع المنطق في هذه الأجناس كل موجود من الجواهر والأعراض وما كان وما يكون، وليس في مقدور أحد أن يتوهم شيئًا خارجًا عن هذه الأجناس وما ينطوي تحتها من الأنواع والأشخاص.
غير أن حصر هذه الأجناس إنما هو قانون للعقل، فإذا شرع العقل ينظر في حقائق الأشياء أو في ظواهرها، احتاج في تطبيق هذا القانون إلى دستور، وهذا الدستور قد فصل في التسعة الأبواب التي سبق أن ذكرنا، ومن هنا ترى أن بين قانون المنطق ودستور التطبيق تضايفًا لا ينفصم وعلاقة لا تتصدع، وإلى هنا كان الوضع العلمي صحيحًا لا غبار عليه، لا من ناحية القانون المنطقي ولا من ناحية الدستور الذي يطبق به ذلك القانون، فمن أين إذن جاء ذلك التخالط الذي نلحظه في الموضوعات التي تضمنها العلم الواحد عند العرب؟ كما تضمن الفلك علم التنجيم، والكيمياء علم تحويل العناصر، والطب علم التأثر بالبروج إلى غير ذلك، كيف اختلط المعلوم بالمجهول، وكيف امتزجت أشياء الغيب بأشياء الشهادة؟ هذا ما نحتاج للكلام فيه إلى موازنة بين القانون المنطقي الذي هو المقولات ودستور البحث الذي هو تلك التسعة الأبواب، ثم إلى استقراء ما يمكن أن يستقرأ من مجموع ذلك.
وقد يطول الكلام في الموازنة بين القانون المنطقي ودستور البحث العلمي، وقد يكون الكلام في هذه الموازنة ذا قيمة علمية كبيرة، غير أن المقام ليس مقام الكلام في هذا الموضوع، وإنما نكتفي بأن نقول: إن دستور البحث العلمي عند العرب قد قام على مقولات أرسطوطاليس.