علم الرياضيات
وهنا يحق لنا أن نتساءل: «ماذا كان في ذلك تأثير العقل العربي؟ وماذا ترك من الآثار؟»
يخطر بالبال عند هذا السؤال علم الجبر، على أن لعلم الجبر تاريخًا يتقدم وجود العرب، لهذا نتكلم فيه باختصار لنعرف تاريخ نشأته وكيف انتقل إلى العرب وماذا كان أثرهم فيه؟
نتساءل: في أي عصر وفي أي بقعة من بقاع الأرض وجد علم الجبر؟ ومن هم أول الذين كتبوا فيه؟ وكيف نشأ؟ وبأية وسيلة من الوسائل وفي أي عهد من التاريخ ذاع ذلك العلم؟
كان الاعتقاد السائد في القرن السابع عشر أن رياضيي اليونان لا بد من أن يكونوا قد استكشفوا تحليلًا دقيقًا لطبيعة علم الجبر على الصورة التي عرف بها في الأعصر الحديثة، وبه استطاعوا أن يحللوا تلك المعضلات التي لا يسعنا إلا الإعجاب بثبات قدم كتابهم في معالجتها، وأنهم أخفوا طرق التحليل وأظهروا النتائج فقط.
على أن هذه الفكرة قد تبددت الآن! فقد دلت المستكشفات الحديثة على أن رياضيي القدماء كان عندهم طريقة التحليل، ولكنها اقتصرت على الهندسة، وأنهم لم يعرفوا من الجبر على صورته الحديثة شيئًا، غير أنه إن لم يثبت لدينا أن متقدمي الإغريق كانوا على علم بالتحليل الجبري؛ فإننا نجد في عصورهم الأخيرة آثارًا تدل على أن مبادئ التحليل الجبري كانت معروفة عندهم.
في أواسط القرن الرابع الميلادي، وهو عصر بلغت فيه الرياضيات أحط دركاتها، قنع المشتغلون بذلك العلم بأن يعلقوا على ما كتب الذين تقدموهم، على أنه بالرغم من ذلك بدأ علم الجبر يتبوأ المكان اللائق به بين العلوم والمعارف الإنسانية.
قد يصح أن يقال: إن «ديوفانتس» هو واضع علم الجبر في اللغة اليونانية وبين الإغريق، غير أن الدلائل تدل على أن المبادئ الأولية التي بثها في كتابه كانت معروفة من قبل، وأنه ابتكر فيها مبتكرات ذات بال، ومن الثابت أن هذا العلم ظل واقفًا عند الحد الذي تركه فيه «ديوفانتس» حتى نقلت مقالات إلى إيطاليا في بدء النهضة العلمية.
وجاء في أخبار الحكماء ص١٢٦ أن «ذيوفنطس» اليوناني الإسكندراني فاضل مشهور في دقته وتصنيفه وهو صناعة الجبر، وله كتاب مشهور مذكور خرج إلى العربية وعليه عمل أهل هذه الصناعة، فكأن «ديوفانتس» كان من نوابغ مدرسة الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي.
•••
كان أول ما كشف كتاب «ديوفانتس» الذي ألمعنا إليه مكتوبًا باليونانية في أواسط القرن السادس عشر الميلادي في مكتبة قصر الفاتيكان، والراجح أن يكون قد نقل إليها عندما سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح.
إن كتاب «ديوفانتس» إن كان ذا شأن كبير في تاريخ علم الرياضيات؛ فإن أوروبا الحديثة لم تتلقَّ ذلك العلم بداءة ذي بدءٍ عنه، بل عن طريق العرب، فإن العرب كانوا بعد اليونان أول من عرف للعلوم قيمتها الحقيقية، في ذلك الزمان الذي كانت فيه أوروبا غارقة في ظلمات الجهالة، فحملوا أمانة العلم، وأدوها للذين من بعدهم كاملة غير منقوصة بل مزودة بثمار العقل العربي.
ولقد ثبت من التقاليد التاريخية أنهم صرفوا أكبر عناية في جمع ما كتب رياضيو اليونان وترجموا كتبهم وكتبوا عليها تعليقات وشروحًا ذات أثر كبير في تقدم علم العدد، يكتفي في الدلالة على ذلك أنه لولا ما كتب العرب في تلك العلوم لما عرفت أوروبا شيئًا عن هندسة إقليدس مثلًا.
ينسب العرب استكشاف الجبر عادةً إلى أحد رياضييهم، محمد بن موسى، الذي عاش في أواسط القرن التاسع الميلادي في عهد الخليفة المأمون العباسي، والمحقَّق تاريخيًّا «أن محمد بن موسى» ألف مقالة في الجبر، فإن ترجمة لاتينية لتلك المقالة كانت قد أذيعت في عصر النهضة العلمية في أوروبا، غير أنها فقدت، على أن القَدَر قد حَفِظَ نسخة من الأصل العربي لا تزال في مكتبة «بودلي» بجامعة أكسفورد، ويقال فيها: إنها نسخت سنة ١٣٤٢ ميلادية، وينوه ناسخها في أول صفحة من صفحاتها بأن كاتبها فلان «العربي القديم» وعلى هامش تلك الصفحة تعليق فيه ما يدل على أنها أول مقالة كتبت في الجبر وأذيعت بين «المسلمين»، أما المقدمة ففضلًا عن تعريفها بالمؤلف فإنها تثبت أن «محمد بن موسى» كان يحثه الخليفة المأمون العباسي على أن يجمع في كتاب واحد ما تناثر خلال كتب الرياضة من مبادئ الحساب الجبري، وكانت هذه الفقرة سببًا في أن يعتقد الباحثون في تاريخ العلوم أن «محمد بن موسى» جمع كتابه هذا جمعًا من عدة مؤلفات كانت متداولة بين أيدي طلاب العلم في البلاد العربية أو من مؤلفات وصلت إليهم في لغات أخرى.
على أننا لا نجد من دليل يؤيد وجهة نظر الآخذين بهذا الرأي، فإنه لم تجْرِ عادة المؤلفين لا من العرب ولا من غيرهم أن يُعَرِّفوا بأنفسهم في مقدمات يضعونها لمؤلفاتهم، إذن فمقدمة كتاب «محمد بن موسى» التي يعثر فيها على ذلك القول من عمل غيره، والراجح أيضًا أنها وضعت لنسخة نسخت من الكتاب بعد زمان «محمد بن موسى» أو في سِنِي حياته ثم تداولتها الأيدي بالنقل حتى وصلت إلى مكتبة «بودلي»؛ ولهذا نرجح أن كتاب «ابن موسى» لا يمكن أن تميز فيه ناحية النقل على ناحية الابتكار الصرف.
وقد اشتغل الهنود والعرب بعلم الجبر، غير أنهم لم يضيفوا إلى موضوعات اليونان فيه شيئًا يذكر ولم يستعملوه إلا في حل المسائل العددية وبقي عندهم مسلكًا متوعرًا وهم يعتبرونه حسابًا عاليًا.
ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن كتاب ديوفانتس لم ينقل إلى العربية إلا في عصر كان العقل العربي قد أخذ يتمشى فيه مرة أخرى نحو الغيبيات.