علم الفلك
قال ابن العبري: «وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة مات أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني المعروف بالبتاني أحد المشهورين برصد الكواكب، ولا يعلم أحد في الإسلام بلغ مبلغه في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركتها وكان أصله من حران صابئًا.»
إن من أشرف العلوم منزلةً علمَ النجوم لما في ذلك من جسيم الحظ وعظيم الانتفاع بمعرفة مدة السنين والشهور والمواقيت وفصول الأزمان وزيادة النهار والليل ونقصانهما، ومواضع النيِّرَيْنِ وكسوفهما، وسير الكواكب في استقامتها ورجوعها، وتبدل أشكالها ومراتب أفلاكها وسائر مناسباتها، وإني لما أطلت النظر في هذا العلم ووقفت على اختلاف الكتب الموضوعة لحركات النجوم، وما تهيأ على بعض واضعيها من الخلل فيما أصلوه فيها من الأعمال وما ابتنوه عليها وما اجتمع أيضًا في حركات النجوم على طول الزمان لما قيست أرصادها إلى الأرصاد القديمة، وما وجد في ميل فلك البروج على فلك معدل النهار من التقارب، وما تغير بتغيره من أصناف الحساب، وأقدار أزمان السنين، وأوقات الفصول واتصال النيرين التي يستدل عليها بأزمان الكسوفات وأوقاتها، وأجريت في تصحيح ذلك وإحكامه على مذهب بطلميوس في الكتاب المعروف بالمجسطي بعد إنعام النظر وطول الفكر والروية، مقتفيًا أثره متَّبِعًا ما رسمه؛ إذ كان قد نقص ذلك من وجوهه، ودل على العلل والأسباب العارضة فيه بالبرهان الهندسي العددي الذي لا تدفع صحته، ولا يُشَكُّ في حقيقته فأمر بالمحنة والاعتبار بعده، وذكر أنه قد يجوز أن يستدرك عليه في أرصاده على طول الزمان كما استدرك هو على أبرخس (راجع القفطي ص٥٠ و٥١ طبع مصر) وغيره من نظرائه.
ووضعت في ذلك كتابًا أوضحت فيه ما استُعْجِم، وفتحت ما استُغْلِق، وبينت ما أشكل من أصول هذا العلم وشذ من فروعه، وسهلت به سبيل الهداية لما يؤثر به ويعمل عليه في صناعة النجوم، وصححت فيه حركات الكواكب ومواضعها من منطقة فلك البروج على نحو ما وجدتها بالرصد وحساب الكسوفين وسائر ما يحتاج إليه من الأعمال وأضفت إلى ذلك غيره مما يحتاج إليه، وجعلت استخراج حركات الكواكب فيه من الجداول لوقت انتصاف النهار من اليوم الذي يحسب فيه بمدينة الرقة، وبها كان الرصد والامتحان على تحذيق ذلك كله.
وفي حدود سنة ٨٢٨ للميلاد أمر الخليفة أبو جعفر المأمون بقياس درجة من الهاجرة لاستقراء جرم الكرة الأرضية وقام بهذا العمل أربعة من علماء الهيئة مدونة أسماؤهم في صفحات التاريخ.
قد قام بتحقيق حصة الدرجة طائفة من القدماء كبطلميوس صاحب المجسطي وغيره، فوجدوا حصة الدرجة الواحدة من العظيمة المتوهمة على الأرض ستة وثلاثين ميلًا وثلثي ميل، ثم قال بتحقيقه طائفة من الحكماء المحدثين في عهد المأمون وحضروا بأمره في برية سنجار وافترقوا فرقتين بعد أن أخذوا ارتفاع القطب محررًا في المكان الذي افترقوا منه، وأخذت إحدى الفرقتين في المسير نحو القطب الشمالي، والأخرى نحو القطب الجنوبي، وساروا على أشد ما أمكنهم من الاستقامة، حتى ارتفع القطب للسائرين في الشمال، وانحط للسائرين في الجنوب درجة واحدة، ثم اجتمعوا عند المفترق وقابلوا على وجوده، فكان مع إحداهما ستة وخمسون ميلًا وثلثا ميل، ومع الأخرى ستة وخمسون ميلًا بلا كسر، فأخذ بالأقل وهو ستة وخمسون ميلًا.