الأسرة والمدنية
إنَّ الأسرة الأبوية التي بدأت ببداية الملكية وازدهرت في العهود الإقطاعية واستمرت في العهود الرأسمالية؛ أصبحت تمرُّ بمرحلة دقيقة خطرة بعد أن ساعدت المدنية والتقدم الصناعي المتزايد على عزلها شيئًا فشيئًا، وتقليل عددها وتقطيع أواصرها وصلاتها، حتى أصبحت الأسرة حين تغلق بابها عليها تصبح وكأنما انفصلت عن الدنيا وانفصلت الدنيا عنها.
ويُجْمِع علماء المجتمع على أن الأسرة في المجتمعات الصناعية المتقدمة قد وصلت إلى مرحلة التناقض مع المجتمع، ولعل هذا هو السبب في ذلك التفكك الذي أصاب الأسرة، وأصبح كالظاهرة العامة في معظم هذه البلاد المتقدمة؛ فالزوج إما هارب أو يفكر في الهرب من زوجته، والزوجة إما كسَرَت قيود الملل والوحدة والخدمة أو تفكر في كسرها، والأبناء والبنات ضجروا من آبائهم وأمهاتهم وهربوا من البيت المنعزل البارد، وتجمَّعوا على شكل حركات ثائرة متمردة بعضها هيبز وبعضها بيتينكس وبعضها بيتليز … إلخ، يستعينون بالمخدرات والمنبهات على خلق المجتمع الذي يُريدون.
ولا شكَّ أن كثيرًا من الناس لا يدركون التغيُّر الذي يحدث في العلاقات الاجتماعية؛ لأنها تتغير ببطء، كذلك بالنسبة للعلاقات الأسرية التي تتأثر بطبيعة الحال بنظام المجتمع، ولو أننا تتبعنا تغير المجتمع الإنساني من البدائية إلى المجتمع الزراعي ثم الصناعي؛ لأدركنا التغيُّرات التي حدثت في الأسرة بتغير نظام المجتمع.
ويمكن لنا أن نُدرك أثر التصنيع على الأسرة التي شكَّلها من قبلُ المجتمع الزراعي إذا تتبعنا ما فعلته المدنية (التي نتجت عن التصنيع والتقدم العلمي) بالمجتمع؛ فقد أحدثت المدنية تقسيمًا في جميع الأعمال والوظائف التي كانت تتم داخل الأسرة. إن التقسيم الاقتصادي للعمل في المجتمع المتمدين الحديث يرتكز على الفصل بين وحدات الإنتاج التي تنقسم بدورها إلى عديد من الفروع والتخصصات.
وفي مجتمعنا الحديث يُمكننا أن نفرق بين تخصصات وقطاعات مختلفة مثل الاقتصاد والسياسة والثقافة والشئون الاجتماعية والشئون الدينية … إلخ.
وهكذا سببت المدنية الفصل بين العلاقات التي كانت قائمة داخل الأسرة الجماعية البدائية، ولا شكَّ أن هذا الفصل قد أتاح نوعًا من الاستقلال وانعزال كل قطاع عن الآخر، ولم يعد من المُمكن (إلا لقلَّة قليلة من الناس) أن تحتفظ بنظرتها الشاملة لمختلف القطاعات وأن تلمس تأثير أحدها على الآخر.
ولعلَّ أهم نتائج هذا الفصل هي تلك التي حدثت من الفصل بين أعمال الفرد الواحد؛ فالذي يعمل مثلًا في قطاع السياسة وفي قطاع الثقافة لا بدَّ وأن تكون له وظيفتان، ولا بد أن يقسم نفسه بين مركزَيه.
وقد وقع هذا الفصل بشكل حاد واضح حين انتقلت أعمال الإنتاج خارج البيت والأسرة وانتقلت معها علاقات العمل أو العلاقات المهنية، ولم يكن هذا الفصل عضويًّا فحسب؛ لأن العلاقات داخل الأسرة تختلف كثيرًا عن العلاقات في المجتمع الكبير. إن العلاقات الأسرية في أساسها علاقات شخصية وعاطفية، أما العلاقات في مُختلف قطاعات المجتمع فهي في أساسها علاقات نفعية غير شخصية.
- أولًا: الوظيفة البيولوجية أو التناسل: إن شرطًا أساسيًّا لاستمرار أي مجتمع وبقائه أن يعوض موتاه بالمواليد الجديدة، وإن جميع الأسر بجميع أنواعها البدائية والمتحضِّرة تقوم بهذه الوظيفة.
- ثانيًا: الوظيفة الاقتصادية: إن احتياجات الحياة لا بد أن تنتج وتوزع بين أفراد ذلك المجتمع.
- ثالثًا: الوظيفة السياسية: على كل مُجتمَع أن يخلق الوسائل التي بواسطتها يحقق نظامًا داخليًّا وخارجيًّا لمواجهة الصراعات.
- رابعًا: الوظيفة التعليمية: إن الأحداث والنشء والأطفال الصغار لا بد أن يتدربوا ليصبحوا أعضاء عاملين يشاركون في أعمال المجتمع المختلفة.
- خامسًا: الوظيفة الدينية: لا بد أن تُوجد الوسائل لحل الأزمات العاطفية والاحتفاظ بالإحساس بمعنى الحياة، وأن يوجد الانسجام بين أهداف الفرد وأهداف المجتمع.
ويقول علماء المجتمع: إنَّ هذه الوظائف كانت تتمُّ جميعًا داخل الأسرة الزراعية قبل عهد التصنيع. كانت الأسرة كبيرة العدد يعيش فيها الأب مع أبنائه وأحفاده، كانت الأسرة تنتج وتستهلك ما تنتجه وتكفي ذاتها، وكان الأبناء يتعلمون من آبائهم ثم يعملون معهم، وكانت النساء والبنات يقمن بأعمال البيت وإعداد الطعام.
كانت الأسرة وحدة سياسية بذاتها، وكان رؤساء القبائل هم أصحاب السلطة، وهم الذين يضعون القرارات ويحكمون سياسيًّا، كانت قوة الفرد تعتمد على قوة أسرته ولم يكن في إمكان فرد أسرة أن يفعل شيئًا أو تكون له قوة ما، وكان وضع المرأة أقل من وضع الرجل بعد أن أصبح الرجل هو مالك الأرض وسَلَبَ منها حقَّها في النسب وأصبح هو صاحب الحق في الإنتاج، وحرم المرأة حقها من الإنتاج وترك لها حق الاستهلاك فحسب، وهكذا أصبح هو الذي يعول وهي التي تخدم.
وتطور المجتمع وعُرِفَت الصناعة وتطورت وحدثت المدنية وانعكس كل ذلك على الأسرة، ويقول علماء المجتمع: إن هذا الثلث الأخير من القرن العشرين يشهد نوعين من الأسر هما نتاج التطور الصناعي والمدنية الحديثة: النوع الحديث جدًّا من الأسرة والذي بدأ يظهر ويغزو المجتمعات المتقدمة في بعض بلاد أوروبا وبعض أجزاء أمريكا ويُسميه العلماء بالأسر الجماعية أو «الكوميون»، والنوع الثاني هو الأسرة التقليدية الشائعة في معظم أنحاء العالم ويُسمِّيها العلماء بالأسرة الوحيدة النواة، وتتكوَّن من الأب والأم وأولادهما فقط، أما في أسر الجماعية أو الكوميون فإن مجموعة من الناس تعيش معًا داخل هذا الكوميون يتقاسمون كل شيء بالتساوي، فإذا ما حدث زواج بين الرجل وامرأة فإنهما يحصلان على حجرة واحدة لهما، وحين تلد الأم طفلها فهي لا تحتفظ به في حجرتها وإنما تأخذه إلى دار الأطفال المنشأة في ذلك الكوميون، حيث يقوم على رعايته عدد من النساء والرجال المتخصصين في رعاية الأطفال، ويمكن للأم إذا أرادت أن ترضع طفلها بنفسها أن تزوره في دار الأطفال في مواعيد الرضاعة، أما إذا لم تستطع إرضاعه لنقص في لبنها أو لأي سبب آخر فهناك الرضاعة الصناعية، ويزور الأب والأم أطفالهم من حين إلى حين ليداعبوهم ويتحدثوا إليهم.
وجميع الأعمال في هذا الكوميون مفتوحة للرجال والنساء بالتساوي، والمرأة تعمل كالرجل ولها نفس الحقوق والواجبات ولا تفقد اسمها بالزواج ولا تتحمَّل مسئولية تربية طفلها.
وقد أصبحت في هذا الكوميون جميع الوظائف الخاصة بالإنتاج والاستهلاك خارج الأسرة، ولم يعد استهلاك الفرد يتأثَّر بطبقة الأسرة الاجتماعية.
وقد قام عدد من الباحثين بدراسة هذا النوع من الأسر، وخرجوا من هذه الأبحاث بأن كثيرًا من المشاكل التي تعترض الأسرة التقليدية قد حُلَّت؛ فقد تحرَّر الأب والأم من قلق وعبء مسئولية الإنفاق على أطفالهما ورعايتهم، وأصبحت العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة عاطفية خالصة وحرة لا تُفسدها مطالب الأبناء الاقتصادية الملحَّة وقلق الآباء الدائم لتأمين مستقبل أبنائهم وتعليمهم، وتحرَّرت المرأة من مسئولية أعمال البيت والأطفال، وتفرَّغت كالرجل للعمل خارج البيت، ولم تعُد مشاغل البيت والأولاد تعطلها أو تؤخر فرص نبوغها وتنمية قدراتها الفكرية، وتحرَّر الأبناء من سيطرة الأم والأب عليهم، وتحرَّروا من الفروق الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تفصل بينهم حسب ارتفاع أو انخفاض طبقتهم وأسرهم، وحظوا جميعًا بفرص متكافئة في النمو والتغذية والتعلم والعمل، وتوصَّل الباحثون إلى أن كثيرًا من الأمراض النفسية والعُقَد التي كانت تصيب الطفل في الأسرة الصغيرة قد انتهت؛ فقد كان الطفل في الأسرة الصغيرة يعيش معظم وقته في عزلة موحشة بسبب الانعزال الذي أحدثه التطور الصناعي والمدنية على الأسرة، وبسبب الاتجاه الحديث إلى الإقلال من عدد الأطفال وتحديد النسل، وفي مثل هذه الأسرة المنعزلة القليلة العدد يُحْرَم الطفل من كثير من العلاقات الاجتماعية والإنسانية الضرورية لصحته النفسية ولنمو شخصيته ونضوجها.
وقد كشفت بحوث العلماء في المجتمعات الصناعية المتقدمة أن ازدياد التطور الصناعي قد زاد من عزلة الأسرة بتكوينها الراهن، وأن المشاكل تعددت داخل الأسرة وشملت جميع أفرادها سواء كانوا آباء أو أمهات أو أبناء إلى الحد الذي جعل الأسرة في وضع يتناقض مع صالح المجتمع ويعرقل تقدمه.
وحيث إن المجتمع لا بد أن يبقى ويستمر فلا يمكن للأسرة أن تبقى إلا إذا تغيرت واتخذت شكلًا آخر لا يتناقض مع المجتمع.
وقد وصف أحد العلماء الحال التي وصلت إليها الأسرة في معظم بلاد أوروبا وأمريكا في مجتمعنا الحديث، فقال: إن معظم الأسر تتكوَّن من الأب والأم وطفل أو طفلين، وأن الأب في معظم الأحيان هو الذي يعمل ويغيب طول النهار عن البيت، وأن الأم في معظم الأحيان هي التي تبقى في البيت لتعدَّ الطعام وتنظف البيت وترعى الأطفال.
وقد اتَّضح أن غياب الأب الطويل يترك أثره السلبي في نفسية الطفل، كما أن وجود الأم الدائم يُسبِّب للطفل كثيرًا من المشاكل النفسية الأخرى منها عقدة أوديب، وقد أثبتت أبحاث الدكتور جاروسلاف كوخ في تشيكوسلوفاكيا أن قدرات الطفل تتعطَّل عشرة أضعاف بسبب الدور الذي يلعبه كطفل أمه ولعبتها المدلَّلة، وقد وضع الدكتور جاروسلاف في بحثه الأطفال الحديثي الولادة في بيئة معينة بعيدًا عن أمهاتهم، وكانت النتيجة أنهم أصبحوا قادرين على تسلُّق السلم في ٨ شهور فقط.
وحيث إن معظم الأسر أصبحت تحدِّد نسلها بحكم التطور الاقتصادي والمدنية؛ فقد أصبح الطفل في معظم الأحيان بغير إخوة أو أخوات، وافتقد بذلك كثيرًا من العلاقات الضرورية لتكوين خبرته في الحياة.
وتنعكس هذه المشاكل على الطفل ووالديه وتتوتر العلاقة بين الآباء والأبناء، وما إن يبلغ الابن سن الرشد حتى يفكر في الهروب من أسرته ليعيش مع من يختار.
وبالرغم من أن التطور الصناعي قد ساعد على أن تخرج المرأة إلى العمل خارج البيت، وأن تستردَّ — بحكم هذا العمل — بعض حقوقها المسلوبة، إلا أن الدور الذي فرضه عليها المجتمع من حيث الخدمة بالبيت وتربية الأولاد يجعلها عاجزة في كثير من الأحيان عن الجمع بين العمل خارج البيت وداخله، وتضطرُّ إلى البقاء بالبيت، ويقول العلماء: إنه ما لم يحمل المجتمع عن المرأة أعباء البيت وتربية الأولاد فلن تحظى النساء أبدًا بالمساواة أو الحرية أو تكافؤ الفرص.
ولأن تربية الأطفال وتعليمهم والإنفاق عليهم هي مسئولية الأسرة الصغيرة المكوَّنة من أب وأم؛ فإن تحقيق المساواة والعدالة بين الأطفال وتحقيق تكافؤ الفرص بينهم لا يمكن أن يحدث مهما تشدَّق المجتمع بهذه الشعارات، وقد قام أحد علماء المجتمع ببحث في السويد بين طلبة الجامعات، فاتضح له أن ١٤٪ فقط من طلبة الجامعات ينتمون إلى الطبقة العاملة، على حين أن الطبقة العاملة تمثل ٥٢٪ من الشعب السويدي، وعلى هذا فإن عددًا كبيرًا من أطفال الأسر من الطبقة العاملة يُحْرَمون من التعليم العالي؛ بسبب عجز آبائهم عن دفع نفقات التعليم.
-
الزواج: حيث تُنظِّم قوانين علاقة الرجل بالمرأة.
-
الأبوة (والأمومة): حيث تنظم العلاقة بين الأجيال المتعاقبة.
-
الأخوة: حيث تنظم علاقة الأطفال من نفس الأبوين.
ويقوم الزواج على التَّفرقة بين دور الجنسين في الحياة؛ فالرجل يعمل خارج البيت ويعول الأسرة، والمرأة تعمل داخل البيت ويعولها الرجل، وهكذا يقوم الزواج على تأكيد الفروق بين الرجل والمرأة، ويُثبت العلاقة بينهما من حيث العائل والمعال والمالك والمملوك والخادم والمخدوم، وتختلف قوانين الزواج والطلاق من مجتمع إلى مجتمع في تفصيلاتها، ولكن جوهرها واحد، تمتدُّ جذوره بعيدًا منذ بدء الملكية الخاصة وسلب الرجل لحق الأم الطبيعي، ويشتد عوده في المجتمع الإقطاعي ويستمر في المجتمع الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة والاستغلال.
وكم يُفاجأ المرء حين يطلع على بعض نماذج من قوانين الزواج والطلاق في مختلف المجتمعات، بعضها يبدأ بالنص على أن الزوج يملك زوجته وله حق تأديبها، وبعضها يعطي الحق للزوج أن يُطلِّق زوجته إذا خانته ولا يعطي الزوجة حق تطليق زوجها إذا خانها، وبعضها يعطي الحق للزوج أن يسلب اسم زوجته فتُسمَّى باسمه، ويسلب أموالها ويتصرف في أملاكها كما يشاء، وبعضها يحرم الزوجة من الإرث ويُفضِّل عليها أقارب الزوج من الرجال، وبعضها يحرم الزوجة من أطفالها إذا طُلِّقَت أو يحرمها من نفقة الزوج … إلخ، نماذج متعددة تدل على نوع العلاقة التي يفرضها الزوج على المرأة.
أما النوع الثاني من العلاقات في الأسرة فهو الأبوة والأمومة، وقد اتضح للعلماء الذين درسوا هذا النوع من العلاقة أن سلطة الأب أو الأم هي أبرز صفة لهذه العلاقة؛ فالعلاقة بين الأب وابنه تقوم على سلطة الأب على ابنه؛ فهي علاقة صاحب سلطة وشخص صغير بغير سلطة، هي علاقة كبير أعلى بصغير أدنى، علاقة عائل بشخص يحتاج إلى هذه الإعالة ولا يستطيع أن يعيش بغيرها، ويقول العلماء: إن مثل هذه العلاقة لا بد وأن تقوم على الأوامر من قِبَل صاحب السلطة والطاعة للشخص الصغير، وهذا يفسِّر تلك المشاكل المتعدِّدة التي تنشأ بين جيل الآباء وجيل الأبناء وذلك العقاب الذي يُوقعه الآباء بأبنائهم أحيانًا حين يحرمونهم من الإعالة أو نفقات التعليم، وذلك الصراع المستمر بين الآباء والأبناء بسبب رغبة الأبناء في التحرُّر من قبضة الآباء، وإصرار الآباء على تشكيل أبنائهم بالشكل الذي يريدونه ووضعهم في القالب الذي وُضِعُوا هم فيه من قبل.
وكما يقول دافيد كوبر: إن نتاج التربية داخل الأسرة هو أبناء حصلوا على الطاعة ولكنهم فقدوا أنفسهم وإرادتهم وشخصيتهم.
هذا بالإضافة إلى الأضرار النفسية التي ثبت أنها تحدث للأطفال بسبب أمومة أمهاتهم الزائدة عن الحد؛ فالأم في الأسرة الصغيرة الباردة المنعزلة تعوض عن وحدتها بالتصاق شديد بطفلها، وبهذا الحنان المريض تعطل الأم طفلها عن النمو والنضوج، وتحرمه من وسائل تحقيق ذاته بسبب عدم قدرته عن الاستقلال عنها، وقد اتَّضح أن حالات الشذوذ الجنسي التي أصبحت تتزايد بين الذكور أحد أسبابها تلك الأمومة المريضة في الأسر الحديثة؛ فالأم تفطم طفلها عن اللبن لكنها تعجز عن فطامه نفسيًّا لا بسبب حب الأم، ولكن بسبب أنانية الأم التي تشعر بالوحدة والانعزال، ويختار الابن الشذوذ الجنسي كمحاولة من جانبه ليزيد من إحساسه بذاته عن طريق الاختلاف عن الآخرين، إنها محاولة لينكر أن ذاته لم تنفصل عن أمه وليخفي عجزه عن هذا الانفصال، كما أنها أيضًا رغبة من الابن في إرضاء أمه وعدم إثارة غيرتها وذلك بأن يحب رجلًا وليس امرأة.
أما النوع الثالث من العلاقات داخل الأسرة فهو علاقة الأخوة، وهي العلاقة الوحيدة في الأسرة التي تقوم على المساواة الحقيقية؛ لأنها تتمُّ بين أفراد مُتساوين في الحقوق والواجبات، لكن الأسرة في العالم الحديث أصبحت تفتقد هذه العلاقة السوية رويدًا رويدًا بسبب تحديد النسل والنقص الشديد في عدد الإخوة والأخوات داخل الأسرة.
ويقول العلماء: إنَّ افتقار الأسر الحديثة لهذه العلاقة هو الذي يدفع الشباب إلى البحث عنها خارج الأسرة؛ وذلك عن طريق تجمعاتهم الخاصة حيث يعيشون علاقة الأخوة التي يفتقدونها في أسرهم، وإن تجمعات الهيبز وما شاكلها ما هي إلا محاولات الشباب لتعويض هذه العلاقة الأساسية التي تنقصهم داخل بيوتهم.
ويعتقد البعض أن بدء ظهور الأسرة الجدية الجماعية أو الكوميون ما هي إلا بسبب عجز الأسرة الصغيرة عن تلبية حاجات أفرادها، وأن علاقة الأخوة هي العلاقة الأساسية داخل هذه الكوميونات؛ فالأطفال في دارهم يعيشون معًا ويمارسون علاقة الأخوة مع زملائهم من نفس السن، وقد ثبت أن هذه العلاقة هي التي تُساعد على نمو شخصياتهم وتُكْسِبهم خبرة بالحياة على أسس من المساواة والتبادل العادل، وتلعب دورًا كبيرًا في إثراء نفوسهم بالحب والإخاء وتنمية ملكاتهم على الإبداع والخلق.
إن انعزال الطفل داخل أسرته الصغيرة في المجتمع الصناعي الحديث يُفقر شخصيته ويحرمه من الخبرة والعلاقات الإنسانية المتعددة، ويُعلِّمه الأنانية والانغلاق على نفسه، كما أن علاقته بأبيه وأمه تقوم على الفرض لا الاختيار، فإذا ما مُنِيَ طفل بأب سكير أو أم سكيرة فلا بد له أن يستسلم لهذا القدر؛ لأنه لا يستطيع أن يختار غيرهما.
ويرى بعض الباحثين أن تحرر الأطفال (في الكوميونات) من سلطة الآباء والأمهات جعلهم أسرع في النمو الجسدي والنفسي والفكري، وأن اختلاطهم بزملائهم خلَّصهم من الأنانية والأثرة، كما أن الآباء أيضًا تخلَّصوا من كثير من الأنانية التي تربَّت معهم داخل أسرهم، وأصبحوا يشعرون بالحب لأطفال الغير كما يشعرون بالحب لأطفالهم، وكذلك الأطفال أصبحوا يحبون عددًا كبيرًا من الناس ولا يخافون الغرباء.
وقد ساعد هذا على ازدياد درجة الإنسانية في الفرد، ولم تعُد العلاقة البيولوجية أو رابطة الدم هي التي تفرض نفسها على الأفراد، ولم يعد الأخ يتحيز لأخيه خاطئًا أو مصيبًا لأنه أخوه، ولم يعُد رئيس العمل يتحيَّز لقريبه لأنه من أسرته، ولم يعُد الأب يحنو على ابنه فحسب ويقسو على أبناء الآخرين، وحلَّت العلاقات الإنسانية الإرادية محلَّ العلاقات البيولوجية اللاإرادية، ولم يعد هناك طفل يتحمَّل وزر أخطاء أبيه أو أمه، ولم تعد هناك امرأة تخدم ورجل يسود؛ فقد تخلَّص الزواج من مفهوم النفعية وأصبحت العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على أساس من تبادل الحب الحقيقي.
ويقول هؤلاء العلماء: إن هذه الأسرة الجماعية الجديدة بالرغم من بعض المشاكل التي تواجهها إلا أنها استطاعت أن تتخلَّص من ذلك التناقض الحاد القائم بين مصلحة الفرد داخل الأسرة الصغيرة وبين مصلحة المجتمع الكبير. إن الأنانية التي تفرضها الأسرة على الأب والأم وأطفالهما تعزلهم عن المجتمع وتُضعف إمكانياتهم في الإحساس بمشاكل الآخرين.
إن الأب في أكثر المجتمعات تقدمًا في العالم الحديث يستطيع أن يمرَّ بعربته الفارهة بجوار طفل راقد على الرصيف فلا يكاد يشعر بأيِّ ألم أو إحساس يدفعه إلى التوقف لحظة، ويعود إلى بيته حيث يطبع قُبْلَة الرضا والسعادة على وجه ابنه الراقد في راحة ونعيم تحت أثمن البطاطين.