الأسباب الحقيقية
لم تعُد الأسباب الحقيقية التي دعت المجتمع إلى خلق الفروق الضخمة بين الرجل والمرأة خافية على هؤلاء الذين يَقرءون التاريخ ويَدرُسون حركة التطورات الاجتماعية والاقتصادية في تاريخ البشرية منذ الإنسان حتى أيامِنا هذه.
ولستُ بصدد سردها وتحليلها من البداية حتى الآن، ولكني سأسوق بعض الحقائق التي تكشف عن تلك الأسباب وعن أن المجتمع هو صانعها وليس الطبيعة.
في عهد الصيد وعهود ما قبل التاريخ كان الإنسان البدائي ينتقل من مكانٍ إلى مكان ليَصيد طعامه، وكان الرجال والنساء يعيشون معًا ويَتزاوَجون، وحينما يولد الأطفال يُصبحُون أفرادًا في القبيلة أو العشيرة بصرف النظر عن آبائهم أو أمهاتهم، ولم يكن الإخوة أو الأخوات هم أبناء أو بنات أب واحد أو أم واحدة، كانوا جميعًا أبناء القبيلة بالتساوي، وكانت المرأة تتزوَّج عددًا من الرجال والرجل يتزوَّج عددًا من النساء، وأطلق «باكوفين» على هذا النوع من العلاقات المتعدِّدة بالزواج الجماعي.
وقد تَوصَّل بعض الباحثين في عهود ما قبل التاريخ إلى هذا النوع من العلاقات الجماعية التي كانت تُخْجِل الباحثين؛ لاعتقادهم أنها كانت تدلُّ على همجية الإنسان البدائي وعدم تمديُنه، ولكن أحدهم وهو «ليتورنو» كان أكثر شجاعة وأمانة وقد استطاع أن يصفَ هذه العلاقات الجنسية، ويشرح «فردريك إنجلز» في كتابه «أصل العائلة» كيف تطوَّرت العلاقة الزوجية في عهود ما قبل التاريخ، وأن تعدُّد العلاقات الزوجية ليس معناه انحطاط الإنسان الأول، وأن الوحدانية في التزاوج ليس معناه سمو الإنسان الحديث، وكتب إنجلز: «إذا كانت الوحدانية في التزاوج هي قمة الفضائل فلا بدَّ أن أكثر الكائنات فضيلةً هي الدودة الشريطية التي يشتمل كل جزء من أجزاء جسمها (والتي تتراوَح ما بين ٥٠–٢٠٠ جزء) على جهازَي التذكير والتأنيث.»
وكشف ليتورنو من أبحاثه العِلمية في مختلف أنواع القرود والثدييات عن أنه لا تُوجد علاقة في الثدييات بين درجة الذكاء وشكل العلاقة الجنسية.
وكان «بيكوفين» أول من اكتشف النظام الأموي الذي كان يسود في العهود البدائية والبربرية، ففي هذه الأسر الجماعية لم يكن من السهل معرفة الأب، لكن الأم كانت معروفة؛ لأنها هي التي تلد الأطفال، ولهذا نُسِبَ الأطفال إلى أمهاتهم، وكانت الأم هي عصب العائلة.
وكانت المرأة تقوم بأكثر أعباء الحياة، وكانت لها مرتبة أعلى من مرتبة الرجل، وكانت العشيرة تَحترمها احترامًا كبيرًا.
ثم عرف الإنسان تربية الماشية والأغنام ولم يكن يملك إلا البيت والملابس وأدوات الطعام وقوارب صيد وأدوات للزينة، ولم يكن يُنْتِج إلا طعامه، لكن تربية الماشية والأغنام، ثم بعض الأعمال المعدنية البدائية والنسيج، ثم زراعة الأرض جعلت إنتاجه يزيد عن حاجته فتجمَّعت لديه بعض الثروة وأصبح مالكًا لأرضه.
ولأن تناسُل الإنسان لم يكن بالسرعة التي تتناسَل بها الأغنام والماشية؛ فقد بدأ المالك البدائي يشعر بحاجته إلى أشخاص آخرين ليُعاونوه في الزراعة وتربية الماشية، وبدأ الإنسان الأول يغزو القبائل الأخرى ويَصطاد منها بعض الأسرى يسوقهم معه إلى أرضه وبيته ليكونوا خدمًا وعبيدًا.
ولم يستطع المالك البدائي أن يُورِّث أبناءه أرضه؛ لأنَّ أولاده كانوا يُنْسَبون إلى أمهاتهم، وكانت الأرض تذهب إلى أقارب الأم بحُكمِ قرابة الدم.
وحينما زاد الإنتاج وزادت الثروة وزادت معها المِلكية الخاصة فرض الرجل سيطرته أكثر وأكثر، وانتزع من الأم حقَّها الأول ليَنسِب أولاده إليه ويورثهم أرضه وأملاكه.
ويقول إنجلز: إنَّ ضياع حق الأم في النَّسب كان هزيمة النساء التاريخية الكبرى؛ فقد سيطر الرجل على البيت أيضًا، وأصبحت المرأة عبدًا له تقوم على خدمة شهوته، وتكون أداةً لإنجاب أطفاله، وأعطى نفسه حقَّ قتلها كما كان يَقتل عبيده.
وبدأ النظام يتطور أكثر وأكثر لصالح الرجل بطبيعة الحال، وفرض الرجل على المرأة أن تكون له وحده حتى لا يَختلِط أولاده بأولاد الغير، وأعطى نفسه حقَّ تعدُّد الزوجات والخليلات، فأصبحت الوحدانية في الزواج فرضًا على المرأة وحدها.
ومن هنا نبعَت القيم الأخلاقية التي تحكم على المرأة بالعفة والوحدانية في الزواج، وتعطي الرجل حرية الاتصال بمن يشاء من النساء وتعدُّد الزوجات، وقُيِّدَت المرأة بالقوانين التي تسحب من أطفالها شرعيتهم إذا لم يعترف بهم أبوهم، سلب الرجل حق الأم في الجنين الذي ينمو في أحشائها، وجعَل نفسه مالكًا لهذا الجنين، يمنحه اسمه فيصبح ابنًا شرعيًّا يستحق الميراث ويستحق الحياة في المجتمع، أو لا يَمنحُه اسمه وينكره فيصبح طفلًا غير شرعي يحكم عليه المجتمع وعلى أمه بالموت أو الحياة الذليلة التي هي الموت سواء بسواء.
ويُخْفِي المجتمع الدوافع الاقتصادية الاستغلالية التي نشأت بنشوء الملكية الخاصة، والتي فرضت العفة على المرأة وليس الرجل، ويسوق دوافع أخلاقية، لكن الحقائق التاريخية والعلمية تُثبِت في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع أن القيم الأخلاقية والقوانين تخضع للضرورة الاقتصادية، ليس أدلَّ على ذلك من التطورات التي حدثَت في علاقة الرجل والمرأة بعد أن تغير المجتمع من الزراعة إلى التصنيع ومن التصنيع إلى عهد التكنولوجيا والآلات الحديثة، كذلك تغيَّرت علاقة الرجل والمرأة في بعض البلاد بانتقال المُجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
في الفترات الأولى لعهد التصنيع كان المجتمع فقيرًا يعاني من انخفاض شديد في المستوى الاقتصادي للناس، وكانت ولادة الأطفال خارج الزواج تُهدِّد المجتمع اقتصاديًّا، ولم تكن المرأة تعمل وتعول نفسها بل كانت عالة على الرجل؛ ولهذا اشتدَّت القيود الأخلاقية على النساء وحرمت العلاقة الجنسية خارج الزواج وأدانت الأطفال غير الشرعيين.
وحينما انتعش المجتمَع اقتصاديًّا — بتطور الصناعة — وزادت الثروات وارتفع المستوى الاقتصادي والثقافي للناس؛ وبالتالي انخفض عدد المواليد بدرجة شديدة؛ أصبح المجتمع يعاني من نقص في السكان فإذا به يتغاضى عن ولادة الأطفال بأيِّ شكل سواء داخل الزواج أو خارجه.
وهذا هو ما يحدث الآن في بعض البلاد المتقدمة ومنها السويد؛ فقد سبَّب التطور الصناعي ارتفاعًا كبيرًا في الثروات، كما أنَّ المدنية والتقدم الثقافي وخروج المرأة إلى العمل قد أحدث هبوطًا كبيرًا في عدد المواليد، وبسبب الازدياد المضطرد في الثروات والقلة المضطردة في عدد الأيدي العاملة والسكان؛ فقد اضطر المجتمع السويدي مثلًا إلى دفع مكافآت للأم التي تلد طفلًا سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، وهكذا حصلت الأم غير المتزوجة على مكافأة المجتمع عن طفلها الوليد بدل العقاب القديم، وتمتَّع الطفل غير الشرعي بجميع الحقوق التي يتمتَّع بها الطفل الشرعي.
وهناك عامل اقتصادي آخر هو خروج المرأة للعمل خارج البيت، ولم يسمح لها المجتمع بذلك الدور الجديد خارج البيت الذي قيَّدها به إلا بسبب الضرورة الاقتصادية التي نشأت مع التصنيع؛ فقد أصبح المجتمع في أشد الحاجة إلى الأيدي العاملة وبالذات في فترات الحروب حين كانت الحرب تسحب كثيرًا من الأيدي العاملة من الرجال، واضطرَّ المجتمع إلى الاستعانة بالنساء بل والأطفال أيضًا، ولم تَحتفِظ النساء — بطبيعة الحال — في مثل ذلك المجتمع الاستغلالي بالمساواة مع الرجال في الأجور أو حقوق العمل الأخرى، لكنها تحرَّرت من الانغلاق داخل البيت، وتحرَّرت من كونها عالةً على الرجل، وأصبحت قادرة على إعالة طفلها الذي تلده سواء اعترف به الرجل أم لم يَعترف، ومن هنا حصلت المرأة في كثير من البلاد الصناعية المتقدِّمة على حقها الطبيعي القديم في منح اسمها لطفلها، ولم تعُد مثل هذه المجتمعات تُفرِّق بين الأطفال الحاصلين على أسماء أمهاتهم، وهؤلاء الحاصلين على أسماء آبائهم سواء داخل الزواج أو خارجه، وفي بعض البلاد يَحصل الطفل على اسمَي الأب والأم معًا، ثم يختار من بعدُ الاسم الذي يفضله لنفسه.
وقد يَندهش بعض الناس حين يُدركون أن القيم الأخلاقية تتغير وتتبدَّل في المجتمع حسب الضرورة الاقتصادية، بل لعلَّهم يَندهشون أكثر حين يدركون أن الحقائق العلمية ذاتها تتغير بتغير النظام الاجتماعي والاقتصادي، وقد لا يكون غريبًا أن تتغير بعض النظريات والحقائق في العلوم المتَّصلة بالنظام الاجتماعي كعلم القانون أو علم المجتمع أو علم الاقتصاد، ولكن أن تتغير الحقائق والنظريات العِلمية في علوم مثل الطب أو علم النفس، فهذا يدل على أن العلم في المجتمعات الاستغلالية يُستغل أيضًا، ويصبح رجال العلم كرجال القضاء والبوليس؛ أحد أدوات الحكم.
وقد كشف بعض علماء النفس أخيرًا عن خطأ الكثير من الحقائق والنظريات التي نشَرها علماء النفس في ظلِّ المجتمع الرأسمالي وعلى رأسهم سيجموند فرويد؛ مثال ذلك: نظرية «التسامي» وهو الاصطلاح الذي وضعه فرويد لعمَلية توجيه الطاقة الجنسية في الإنسان إلى أعمال في المجتمع غير جنسية.
ويقول علماء النفس الجُدُد: إن مفهوم «التسامي» نبَع من الضرورة الاقتصادية التي سادت المجتمع الرأسمالي في بداية عهده بالتصنيع حين كان المجتمع ينتقل من الزراعة إلى الصناعة، كان المجتمع في ذلك الحين محدود الإمكانيات، ولم تكن الصناعة تقوم على الآلات وإنما على الجهد الإنساني؛ ولهذا كان المجتمع في أشد الحاجة إلى عَرقِ العُمال وجهدهم ليل نهار، ولم يكن يستطيع المجتمع أن يُحقِّق هذا إلا بالقوَّة عن طريق القهر المادي أو الاجتماعي، وكذلك بجعل العمل والصناعة ضرورة نفسية عن طريق خلقِ قيَم أخلاقية تُمجِّد العمل وتجعله واجبًا مقدسًا وليس واجبًا فحسب.
ولهذا فقد صاحَبَ تجمُّع رأس المال في تلك الأزمنة الأولى للرأسمالية مجموعة من قيَم أخلاقية تَرتكِز على العفة والتطهر والعزوف عن متع الحياة والاستقامة بشتَّى أشكالها، وسُمِّيَت هذه القيم بالقيم الأخلاقية البيوريتانية (أو العظيمة النقاء).
وقد ظهرت هذه القيم البيوريتانية في إنجلترا وبلاد أوروبا المُختلفة على شكل الأخلاقيات البروتستانتية المتزمِّتة.
وكان علماء النفس في ذلك الحين — وعلى رأسهم فرويد — قد خرجوا إلى الناس بذلك المفهوم الذي أطلقوا عليه «التسامي»، ويَرتكِز على أن الإنسان الذي يكبِت غريزته الجنسية، ويحوِّلها إلى أعمال أخرى غير الجنس، فهو يتسامى بها إلى أعمال أخرى أكثر قيمةً وأكثر نبلًا.
وحينما بلَغ المجتمع درجة عالية من التصنيع، وارتفع مستوى المعيشة، وانخفض عدد ساعات العمل، ولم يَعُد العمل يَعتمِد على القوة الجسمية للإنسان، حينها أصبحت قوة الإنسان مُرتفعة الثمن.
وحينما استدعى التطور التكنولوجي واستمرار التطور الاقتصادي زيادة في استخدام الآلات والمكنات، حينئذ فقدت القيم الأخلاقية البيوريتانية وظيفتها، وأصبح من الطبيعي لمجتمع استهلاكي ألا يُمجِّد قيم العزوف عن متع الحياة والاستقامة والادِّخار والتسامي وغيرها من القيم التي تُقلِّل استهلاك الفرد.
وبدلًا من ذلك أصبح المجتمع في حاجة إلى أن يصنع لنفسه أخلاقيات أخرى تَعتمِد على إشباع رغبات الإنسان وحاجاته، بل وخلق احتياجات جديدة في الإنسان، وتمجيد معنى الإنفاق والاستمتاع بالحياة.
وممَّا لا شك فيه أن التغيير الأخير الذي حدث في نظرة البلاد الرأسمالية المُتقدِّمة إلى القيم الأخلاقية وفي اتجاه هذه البلاد إلى تحطيم المحظورات التقليدية على علاقة الرجل والمرأة وتحرير الجنس من قيوده القديمة هذا التغيير لم يَحدُث إلا نتيجة تغيُّر الوسائل لتجميع رأس المال.
إنَّ «التسامي» وتحويل الطاقة الجنسية إلى أعمال أخرى لم تَعُد ضرورية كما كانت من قبل، حيث إنَّ إشباع الرغبة الجنسية لم يَعُد يؤثر على الإنتاج كما كان يُؤثر عليه في مجتمع غير آلي.
ويقول بعض العلماء: إنه بالإضافة إلى ما سبَق فإنَّ الحرية الجنسية أصبحت ضرورية لحماية المجتمع الرأسمالي مِن التمرُّد والثورة؛ فقد نتج عن التقدم التكنولوجي والآلي أن انخفضَت كمية الجهد والوقت اللذَين يبذلهما الإنسان في العمل، وبازدياد وقت الفراغ عند الناس بدأت الأذهان تَتنبَّه إلى مساوئ النظام الرأسمالي وإلى مظاهر عدم المساواة أو الظلم الواقع على الطبقات الكادحة من المجتمع، وهكذا رأى الرأسماليُّون تصريف هذه الطاقة إلى الجنس بدلًا من أن تَتجمَّع وتُصبح قوة تمرُّد وثورة ضد المجتمع القائم.
على أن هذا الوضع الجديد لا يعني ازدياد الحرية الجنسية فحسب. إنَّ الاهتمام في المجتمع الاستهلاكي يُمكن أن يتحوَّل أيضًا إلى اصطناع احتياجات في الإنسان لشراء الأشياء وامتلاكها، إنَّ هذه الاحتياجات تُصبح مصنوعة حين تدفع الإنسان إلى شراء أشياء لا يحتاجها وإنما يرغب في امتلاكها فحسب.
وتختلف المجتمعات الرأسمالية في الأسلوب الذي تتحرَّر به من الأخلاقيات البيوريتانية باختلاف التقاليد الموروثة في المجتمع، هناك مجتمع — مثل مجتمع السويد والدانمارك مثلًا — قد ورثا تقاليد قوية تُحرِّم الإجرام والعنف، بينما التقاليد الموروثة التي تحرِّم الجنس أقل قوة، والعكس صحيح في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ورث المجتمع الأمريكي (من كثرة الحروب الأهلية والصراع العنصري) تقاليد تُبيح العدوان والعنف وتجعل المجتمَع يتقبلها أكثر من تقبله للتحرُّر الجنسي؛ ولهذا فقد أصبح المجتمع الأمريكي يَميل إلى إباحة العنف والجريمة أكثر من إباحته للحرية الجنسية.
حينما كنت في نيويورك سنة ١٩٦٦م كدتُ أُقْتَل في منتصَف النهار في ميدان واشنطن بإحدى الرصاصات الطائشة التي كانت تنبعث من سيارة طويلة أنيقة ركبها عدد من الشباب.
ومن كثرة الجرائم وانتشارها فقد عزَّزت ولاية مدينة نيويورك (في ذلك العام الذي عشته فيها) قوات الأمن وبالذات في القطارات التي تَسير تحت الأرض، وأصبح بكل عربة رجل بوليس على الأقل، وكانت صديقاتي الأمريكيات يَنصحنني بعدم الخروج ليلًا.
وقد زرت السويد والدانمارك في سنة ١٩٧١م، وكنت أهبط من حجرتي في الفندق بعد منتصف الليل لأسير في شوارع ستوكهولم أو كوبنهاجن الهادئة الآمنة الخالية إلا من بعض العاشقين والعاشقات.
وقد شهدت بالطبع مقدار الحرية الجنسية التي يُبيحها المجتمع السويدي والدانماركي لأفراده الرجال والنساء، واطلعت على بعض الأبحاث التي أُجْرِيَت في السنوات الأخيرة في السويد والتي تثبت أن ٩٨٪ من الأزواج والزوجات سبق لهم ممارسة الجنس قبل الزواج، وأن ٢٪ فقط من الرجال أو النساء لا يُمارسون الجنس قبل الزواج، هذا وقد أصبح الشباب من الجنسَين في هذه البلاد يميلون أكثر وأكثر إلى نبذ فكرة الزواج بعقد مكتوب.
ولم تعدْ هناك فروق بين الرجل والمرأة من حيث الحرية الجنسية، وكما كان من حق الرجل أن يُمارس الجنس وقتما شاء ومع من يرغب من النساء أصبح من حق الفتاة أن تفعل بالمثل.
وتلاشت القيمة الأخلاقية التي تعدُّ ممارسة الجنس بغير عقد الزواج خطيئة وإثمًا، ومن أقوال روبرت بريفولت في كتابه «الإثم والجنس» سنة ١٩٣١م: «إن المساواة الاقتصادية والسياسية للرجال والنساء تفرض المساواة الأخلاقية، وهكذا تكون النتيجة المنطقية أن أخلاقيات المرأة في المستقبل ستُصبح كأخلاقيات الرجل الفيكتوري المسيحي المحترم، وهذا يعني بطبيعة الحال انهيار الأخلاقيات المسيحية.»
ولا شكَّ أن استقلال المرأة الاقتصادي بسبب العمل خارج البيت هو العامل الأساسي في مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، ومنها حق الحرية الجنسية، على أن هناك عاملًا آخر لعب دوره أيضًا، وهو اكتشاف وسائل منع الحمل؛ فقد أصبحت العلاقة الجنسية لا تؤدِّي إلى ولادة طفل بغير إرادة الأم.
كما أنَّ حق الأم في الإجهاض أصبح مكفولًا في بعض المجتمعات المتقدمة، وأصبح الاتجاه إلى إباحة الإجهاض يزيد شيئًا فشيئًا في مجتمعات متعدِّدة ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، وتساوت النساء في عديد من البلدان من حيث الحصول على إجهاض نظيف وتحت إشراف طبي وبأجر زهيد دون التعرض لاستغلال بعض الأطباء لمثل هذه العملية حين تُؤدَّى من وراء القانون.
وقد اعترفت هذه المجتمعات (للأسباب السابق ذكرها) بحق المرأة في اللذة الجنسية كالرجل، وأدَّى ذلك إلى اهتمام العلماء بالمرأة وبدراسة الأسباب التي تحول بينها وبين الإحساس بلذة الجنس، ولعلَّ أهم هذه الأسباب هو ما يُسمَّى بالبرود الجنسي الذي يصيب النساء بالكبت وضغوط المجتمع.
وقد أجرى كينزي سنة ١٩٥٣م بحثًا بين الزوجات الأمريكيات اللاتي لم يمارسن الجنس قبل الزواج، فاتَّضح له أن ٤٠٪ منهن لم يَعرفْن قمة اللذة في الجنس خلال السنة الأولى من الزواج، وأن ٣٥٪ منهن لم يعرفنها بعد ١٠ سنوات من الزواج.
وقد زاد اهتمام العلماء والباحثين بدراسة البرود الجنسي عند المرأة، وخرجوا بأن الكبت والضغوط الاجتماعية هي السبب الأساسي لهذا البرود، وتعدَّدت البحوث الطبيعية التي تدرس أثر الكبت والحرمان على المرأة والرجل على السواء، وفي جميع مراحل العمر من الطفولة حتى الشيخوخة، وخرجت هذه البحوث بأن للكبت والحرمان آثارًا شديدة الضرر على جسم الإنسان ونفسه وعقله في مراحل النمو المختلفة منذ الولادة حتى الممات، وأن الضرر على الجهاز العصبي والغددي لا يقلُّ عن الضرر على الجهاز التناسُلي بل يزيد.
إنَّ أيَّ جهاز في الجسم يحتاج إلى تنشيط لينمو، وكذلك الجهاز التناسُلي إذا حُرِمَ من التنشيط حُرِمَ من النمو.
وعلى حسب درجة الحرمان من التنشيط تكون درجة الحرمان من النمو؛ إذا كان الحرمان من التنشيط (أو الكبت) شديدًا أصيب الجهاز التناسُلي بضمور يُسمَّى طبيًّا باسم الضمور التكويني الناشئ من الخمول الوظيفي، ويُصاب مثل هذا الشخص بضعف جنسي، ويظهر هذا الضعف بوضوح على الأشخاص المكبوتين الذين يَمتنعون عن مزاولة أي نشاط جنسي، وحينما يتزوَّجون مُتأخرًا يصابون بتلك الحالة المعروفة طبيًّا باسم «الارتخاء الجنسي الناشئ من الامتناع»، ويؤدِّي هذا الحرمان أو الكبت الشديد إلى تعطيل النمو العقلي، وينتج عن ذلك ضعف في الإدراك والشعور والسلوك، وقد صوَّر الدكتور يوسف حلمي جنينة — أستاذ الأمراض العصبية بجامعة القاهرة — أثر هذا الكبت الجنسي على الجهاز العصبي، وقال: من المعروف أن حرمان المخ من المؤثرات الصوتية أو الضوئية في الصغر يؤدِّي إلى الصمم والبكم أو العمى، فإذا كان المخ يتأثَّر لهذه الدرجة بحرمانه من مثل هذه المؤثرات الخارجية المُكتسَبة فماذا يكون مصيره إذا حُرِمَ من المؤثرات الجنسية الغريزية المتعلِّقة باستمرار الحياة؟ ويقول الدكتور جنينة: إنَّ كثيرًا من التربويين لا يزالون يعتقدون أن الإعلاء المبكر للغرائز أكبر صيانة لها من الجموح والانحراف، وهذا في رأيه اعتقاد خاطئ؛ لأنَّ عملية الإعلاء الجنسي التي تقوم بها المراكز المخية العليا تتطلَّب طاقة جنسية، وهذه الطاقة تتطلَّب مادة، وهذه المادة تتطلب نموًّا ونضجًا جنسيًّا، وهذا النمو الجنسي يتطلب تنشيطًا؛ أي إن الإِعلاء لا يحدث في رأيه إلا بعد عملية النمو والنضج الجنسي وما يتطلَّبانه من تنشيط مستمر.