قيم مناقضة
يضع المجتمع النساء في تناقض حاد؛ ففي الوقت الذي يُجْرِي لهن عمليات جسمية ونفسية ليفرض عليهن العفَّة ويعدم إحساسهن بمُتعة الجنس يطالبهن بإمتاع أزواجهن وإرضاء شهواتهم وقتما شاءوا وكيفما شاءوا، فإذا عجزت الزوجة عن أن تُلبي رغبة زوجها طلقها أو تزوَّج غيرها أو هجرها وخرج ليُعربد خارج البيت مع المومسات أو غيرهن من النساء.
وفي الوقت الذي يُبيح فيه المجتمع — لأسباب تجارية واقتصادية إذاعة الأغاني الملتهبة بالشبق والتأوهات وعرض الأفلام والرقصات الجنسية المثيرة للغرائز — يحرم على البنات والنساء التأثُّر بهذا السَّيل الذي لا ينقطع ليل نهار من أجهزة الراديو والتليفزيون والسينما والمسارح وغيرها من وسائل إعلامية.
وإذا كان المجتمع حريصًا على العفة التي يدَّعيها، وإذا كان المجتمع حريصًا على الحفاظ على القوانين الأخلاقية التي يتظاهر بالحفاظ عليها من أجل الشرف، فكيف يُفسِّر المجتمع تنازله عن هذه القيم الأخلاقية بإباحته عرض أجساد النساء عارية في الأفلام والرقصات، وعرض أجساد النساء عاريات فوق المجلات المصورة وفوق إعلانات زجاجات الخمر وغيرها من الإعلانات؟ أليس هذا دليلًا على أن الذي يحرك المجتمع حقيقة ليست هي القيم الأخلاقية، وإنما هي القيم التجارية ومنطق الربح والخسارة.
وما أسهل أن يتنازل المجتمع عن قيمه الأخلاقية إذا ما تعارضت مع قيمه التجارية، ويغض الطرف عن التهتك والانحلال الذي يشيع في الفنون الرخيصة ووسائل اللهو الفاسدة، ولا يضيره أن يكون جسد المرأة العاري هو أساس الإعلان عن البضائع من أجل الربح، بل لقد أصبحَت المجتمعات الرأسمالية تُبيح الحرية الجنسية لأفرادها من الرجال والنساء من أجل تكديس رأس المال وتقوية النظام الرأسمالي الاستغلالي.
وتتحمَّل النساء أكثر من الرجال وزر زيف المجتمع، وتدفع النساء أكثر من الرجال ثمن التعارض الذي يُواجهُه المجتمع بين قيمه التجارية وقيمه الأخلاقية، والسبب في ذلك هو أن الرجل هو الذي يحتكر الحكم في المجتمع وهو الذي يصدر القرارات التجارية والأخلاقية المتعارضة.
وتعيش المرأة التناقض الاجتماعي بحدة؛ فهي يجب أن تكون باردة عفيفة طاهرة لا تحس الجنس، وهي يجب أن تكون أداة متعة وتشبع زوجها بالجنس حتى الثمالة، وجسدها عورة يجب إخفاؤه بمقاييس الأخلاق، وجسدها مباح ويجب تعريته بمقياس الرواج التجاري والإعلانات عن البضائع، ولا أظن أن هناك استغلالًا أشد من هذا الاستغلال، ولا امتهانًا أشد من هذا الامتهان اللذين تعيشهما المرأة؛ فهي تصبح فريسة بين قوتين متنازعتين متضاربتين كقطعة لحم بين فكين ضاريتين.
وكل هذا طبيعي في مجتمع فقدت فيه المرأة مكونات شخصيتها وأُفرغت من إنسانيتها، وتحولت إلى شيء أو أداة؛ فهي تارة للإعلان، وهي تارة أداة للشراء والاستهلاك، وهي تارة أداة للإمتاع وخدمة الشهوات، وهي تارة وعاء للأطفال، وهي تارة سلعة تباع وتُشْتَرى في سوق الزواج.
ويَسري بالطبع عليها ما يسري على الأشياء؛ فهي أكثر قيمة حين تكون جديدة أو «بكرًا» لم تُسْتَخْدَم من قبل، ويهبط ثمنها بالاستخدام السابق أو الزواج السابق وتصبح امرأة نصف عمر، لا تجد من يتزوَّجها إلا رجل من ذوي العاهات أو الأمراض يعدُّ نفسه مناسبًا لها.
وتستمدُّ الفضائل مضمونها من هذه النظرة المبتورة إلى المرأة التي خبرت الرجل والحياة لا تصبح أقل من المرأة الجاهلة الساذجة فحسب ولكنها تُصبح مرفوضة كأنما الخبرة عاهة.
ولأنَّ الرجل يشتري المرأة بالزواج لتخدمه وتكون أداة إمتاعه ووعاء ينجب أطفاله، فهو يختار تلك الفتاة التي تصغره في السن بأعوام كثيرة ليظل جسدها شابًّا قادرًا على الخدمة والإنجاب طوال حياتها معه لا تدركها الشيخوخة أبدًا طالما هو على قيد الحياة وإن أصبح عجوزًا في التسعين من عمره. إن رجلًا في الأربعين لا يتردد في الزواج من طفلة في السادسة عشرة، بل إنه قد يكون في الخمسين أو الستين ويعدُّ نفسه مناسبًا لفتاة في العشرين أو أقل من ذلك أيضًا!
والرجل يُفضِّل الفتاة الغريرة الساذجة أو «القطة المغمضة» فلا تعرف لنفسها ولا تدرك لجسدها رغبات، ولا تفطن إلى أن عقلها له احتياجات وطموح، وهذا طبيعي بمنطق البيع والشراء؛ فالذي يذهب إلى السوق ليشتري عبدًا أو يؤجر خادِمًا فإنما يختار الأكثر شبابًا ليعمل كثيرًا بغير كلل أو ملل، والأقل ذكاءً والأقل احتياجات ليأكل ولا يُطالب لنفسه بشيء، وبهذا يكون إنتاجه أكبر ما يُمكن واستهلاكه أقل ما يمكن، ويحصل مالكه أو مستأجره من ورائه على ربح كبير.
ومن هنا نظرة الرجل إلى المرأة كجسدٍ يجب أن يكون شابًّا دائمًا، ويقلُّ سعر المرأة كلما تقدمت في العمر، ومن هنا مفهوم المجتمع لشباب المرأة وجمالها … شباب المرأة هو تلك السنوات التي تكون فيها قادرة على الخدمة قادرة على الإنجاب، وتبدأ من يوم ابتداء الطمث (في المتوسط يكون عمر الفتاة ١٥ عامًا تقريبًا) وتنتهي بانقطاع الطمث (في المتوسط يكون عمر المرأة ٤٥ سنة تقريبًا).
وهكذا ينكمش عمر المرأة عن عمر الإنسان الطبيعي ويصبح ثلاثين عامًا فقط تعيشها (هذا إذا أسعدها الحظ واستطاعت أن تنجو من المشاكل العديدة التي تتربص بها)، فإذا ما انقطع الطمث قيل: إنها وصلت سن اليأس وأصبحت وكأنما انتهت حياتها.
وبالرغم من أن تكوين المرأة الجسمي والنفسي يساعدها على أن تعيش عمرًا أطول من عمر الرجل في معظم الأحيان، إلا أن المجتمع حَكَمَ على المرأة بعمر يكاد يكون نصف عمر الرجل؛ ففي الوقت الذي يصل فيه الرجل في نظر المجتمع إلى قمة النضوج الإنساني وقمة الشباب (٤٠–٤٥ سنة) تصل فيه المرأة إلى سنِّ اليأس، وتُصبح — وهي في قمة نضوجها وشبابها واكتمال خبرتها بالحياة — عجوزًا عاقرًا انتهت مهمتها في الحياة وتُدْفَن اجتماعيًّا وهي على قيد الحياة.
ويستمد الجمال مفهومه من هذه النظرة المحدودة إلى المرأة؛ فالمرأة الجميلة هي الفتاة الصغيرة صاحبة الجسد الغضِّ وإن كان عقلها جاهلًا أو مشوهًا، يحكم المجتمع على جمال المرأة بمقاييس جسمية فحسب، ويُصبح جمال المرأة مرهونًا بحجم أنفها وحجم شفتيها ونهديها وردفيها، ويعيبها أن يزيد حجم أنفها بضع ملِّيمترات أو أن تقلَّ استدارة ردفيها بضعة سنتيمترات، أما الرجل فلا شيء يعيبه إلا «جيبه»، وإن كان له بدل الأنف اثنان وبدل البطن كرش عال.
ويُثبت الفن والأدب هذا المفهوم المحدود للجمال، وكم من أغانٍ وأشعار وروايات ترنَّمت بتلك الحسناء التي يتهدَّل شعرها على كتفَيها الناصعتَين المستديرتين، وعيونها ذات الأهداب الطويلة وشفتيها القرمزيتَين ونهديها البارزين وخصرها الضامر وساقيها … إلخ، وكأنما جمال المرأة ليس إلا جمال جسدها، أما عقلها وشخصيتها فلا أحد يهتم بهما.
وكما استمدَّ الجمال مفهومه القاصر من النظرة الاجتماعية القاصرة إلى المرأة كذلك يعبر مفهوم الأنوثة عن هذه النظرة ذاتها؛ فالأنوثة هي الضعف والسذاجة والسلبية والاستسلام، وهي صفات كلها تتفق مع الدور الذي حدَّده المجتمع للمرأة وهو خدمة الرجل وإرضاؤه، الأنوثة هي أن تتميَّز المرأة بصفات الخدم المطيعين المُستسلمين الضعفاء، أما الرجولة فهي أن يتميَّز الرجل بصفات الأسياد من قوة إيجابية وحزم وعقل وحكمة.
واستمد الشرف مفهومه من هذه النظرة، شرف البنت مثل عود الكبريت يولع مرة واحدة، وبعدها تنتهي البنت وتُلْقَى في صفيحة القمامة كعود الكبريت المستهلك، أما شرف الرجل فيمكن أن يولع آلاف المرات أو ملايين المرات ولا يستهلك أبدًا.
ولن تتغير مثل هذه المفاهيم ما لم تتغيَّر نظرة المجتمع إلى المرأة كجسد فحسب، لن تتغير هذه المفاهيم إلا بعد أن تُصبح المرأة في نظر المجتمع إنسانة متكامِلة العناصر جسمًا وعقلًا ونفسًا.
حينئذ يُصبح جمال جسمها وعقلها ونفسها، ويصبح جمال الرجل هو جمال جسمه وعقله ونفسه، ولن يكون الجمال مفروضًا على المرأة وحدها، بل كل إنسان — رجلًا كان أو امرأة أو طفلًا أو كهلًا — يجب أن يكون جميلًا بهذا المعنى الشامل للجمال (جمال الجسم والنفس والعقل)، جمال النفس هو ذلك الجمال الذي يشعُّ من نفس سليمة بغير عقد، هو تعبير الصدق والحب في العينين، هو حيوية النفس ومرحها وإقبالها على الحياة، وجمال العقل هو ذلك الجمال الذي يشع من الأفكار المتقدمة التي تحقِّق للإنسان يومًا بعد يوم مزيدًا من الرقي والحب والإخاء والعدالة والمساواة.
وجمال الجسم ليس مجرَّد استيفاء مقاييس موضوعة، وإنما هو صحة الجسم ورشاقته وخفَّته وقدرته على أداء وظائفه بأعلى كفاءة، القوام لا يكون جميلًا إلا إذا تحرَّك الجسم كله برشاقة وخفة من أجل هدف ورغبة صادقة، العينان الجميلتان لا تكونان جميلتين إلا بمقدار ما تعبران عن صدق المشاعر والأفكار، الجمال هو الصدق والصدق هو الطبيعة والطبيعة هي قدرة الجسم والعقل والنفس على أداء وظائفها بأعلى كفاءة ممكنة، الساقان خُلِقَتَا لتسيرا وليس للانثناء فوق الشلتة، والمخ خُلِقَ ليستقبل المعلومات ويستنتج منها أفكارًا جديدة وليس للجمود داخل الجمجمة حبيس الأفكار القديمة والخزعبلات، القبح هو أن يُطلَّ الكذب من العين (أي عين) وإن رُسِمَت بمهارة فائقة بخطوط وظلال حديثة، واليد خُلِقَت لتعمل وتبتكر، أما اليد التي لا تعمل شيئًا سوى أن تدلك أصابعها بالكريم فهي يد عاطلة قبيحة مهما بلغت أصابعها من النعومة والبضاضة، والأعضاء التناسلية خُلِقَت لتُمارس وظيفتها الجنسية وليس لأن تُخْصَى أو تُبْتَر أجزاؤها، الشرف هو صدق الجسم وصدق العقل وصدق النفس في كل إنسان سواء كان رجلًا أو امرأة، والأنوثة هي إيجابية المرأة في الحياة وقدرتها على استخدام جسمها وعقلها ونفسها بأعلى كفاءة، والرجولة هي إيجابية الرجل في الحياة وقدرته على استخدام جسمه وعقله ونفسه بأعلى كفاءة.
وهكذا نجد أن الفروق بين الرجل والمرأة تتلاشى وتتلاشى معها الصفات والمفاهيم التي تفرق بينهما، والتي تجعل الرجولة نقيض الأنوثة، والأنوثة نقيض الرجولة.