نعود بعد ذلك إلى ما ناله «أنتيوكوس» من انتصارات على الثائرين في ممتلكاته، فنجد
أنه نال لمدة
قصيرة عدة انتصارات باهرة أفسدت على عدوه كل حسابه، فمن ذلك أنه هجم على «مولون» وكسر
شوكته في أول
نزال دار بينهما، ولما رأى «مولون» الثائر أنه يواجه الملك الشرعي خارت قواه وشعر بأنه
لا محالة
مَقضِيٌّ عليه،
١ ومن أجل ذلك أخذ يتقهقر، غير أن «أنتيوكوس» لحق به على نهر دجلة، وأرغمه على خوض
المعركة، ولم يدم القتال طويلًا؛ إذ وجد الثائر أن بعض جنوده قد انضمت إلى جيش «أنتيوكوس»
كما فر
بعضهم الآخر.
لهذا فقد انتحر «مولون» خوفًا من أن يقع في الأسر، وقد قفَّى أثره في ذلك معظم شركائه،
ومن جهة
أخرى فرَّ «نيولاوس» Neolaos أخ «مولون» على جناح السرعة إلى فارس
حيث التقى بأخيه الآخر المسمى «إسكندر» وما لبث أن قتل «نيولاوس» والدته وأطفال «مولون»
وبعد ذلك
قضى على حياته بيده.
وعندما رأى «إسكندر» ذلك استولى عليه الهلع، وقضى نحبه بيده أيضًا، وذلك في ربيع
عام ٢٢٠ق.م
وقد صلب «أنتيوكوس» جثة «مولون» عند مدخل مضيق جبال «زاجروس» Zagros لتكون عبرة للخارجين على الملك، وأخذ بعد ذلك «أنتيوكوس» في الهجوم ثانية
على بلدة «أتروباتين» التي كانت تحت سلطان «أرتابازان» وهو الذي كان قد تآمر على جاره
شطربة «ميديا»
وعلى مليكه «أنتيوكوس» وعندئذٍ استولى الفزع على «أرتابازان» الذي كان طاعنًا في السن،
وعقد مع
الملك صلحًا بالشروط التي ارتضاها «أنتيوكوس»، والظاهر أن الأخير قد قنع بأن يكون صاحب
السيادة
رسميًّا وحسب وأن تُدفَع له جزية زهيدة.
موقف أنتيوكوس في سوريا
أما موقف «أنتيوكوس» في سوريا أثناء غيابه في الشرق فكان موقفًا فريدًا في بابه حقًّا؛
وذلك
أنه عندما عاد وجد أن آسيا الصغرى لم تكن خاضعة له؛ إذ كان وقتئذٍ في يدي «آخاوس» الذي
كان قد خرج
عليه، ولكنه من المحتمل أن الأخير كان قد أسف فعلًا على خروجه هذا، وبخاصة عندما نعلم
أنه كان صاحب
سلطان هناك، ولم يكن هناك ما يدعو لهذا الخروج، يضاف إلى ذلك أنه على ما يظهر لم يكن
في مقدوره أن
يبادر «أنتيوكوس» بالهجوم وبخاصة أن «أتالوس» صاحب «برجام» كان له بالمرصاد من خلفه،
إذا لم تشد
مصر أزره وتأخذ بناصره، ومن جهة أخرى يُلحَظ أن مصر كانت تتخذ ظاهرًا موقف الحياد وإن
كانت في
الواقع شريكة في الجُرْم مع «آخاوس»، وعسكرت بجيشها عند «سليوسي»، وبذلك أصبح في مقدور
جيشها أن
يأخذ «أنتيوكوس» على غِرَّة إن هو ابتعد عن عاصمة ملكه ليقوم بحملة على آسيا الصغرى،
وكان الأسلم
«لأنتيوكوس» كي يضرب «آخاوس» أو يجعله يعتذر اعتذارًا شريفًا عن جرمه هو المبادرة بقهر
هذا العدو
المقنَّع الذي كان يتحين الفرصة، والذي كان يعتقد أنه يمكنه أن يختار ساعة هجومه.
وقد وطد «أنتيوكوس» العزم على مهاجمة «سوريا الجوفاء» وأن يقضي على عدوه في «سليوسي»
فجمع في
ربيع عام ٢١٩ق.م جنوده في «أباما» وأرسل طليعة بقيادة القائد «تيودوتوس هميولوس» Theodots Hemioleos واحتل المضايق التي كانت تؤدي إلى
«سوريا الجوفاء»، وبعد ذلك نجده على حين غفلة بدلًا من أن يُشاهَد سائرًا في نفس الجهة
التي كان
ينتظر أن يتبعها، نجده قد تحول مع الجزء الأعظم من جيشه متجهًا نحو «سليوسي» التي كانت
وقتئذٍ
محاطة برًّا وبحرًا، ومن ثَم اتخذ تدابير تنطوي على مهارة أدت إلى اختصار المقاومة؛ فبعد
أن قام
«أنتيوكوس» بهجوم أدَّى إلى إشاعة الجبن في نفوس أولئك الذين لم يمكن شراؤهم بالمال؛
رأى القائد
الأكبر «ليونتيوس» Leontios أنه محاط بخونة، ومن أجل ذلك أسرع
بوضع سلاحه، وبهذا انتهى الاحتلال المصري لمدينة «سليوسي»، وهذا يذكرنا بهزيمة السليوكيين
منذ
عشرين عامًا وحصارهم في عاصمتهم، وبعد هذا الفتح كان في مقدور «أنتيوكوس» أن يبتدئ —
بثقة أكثر من
ذي قبل — الحملة التي كان مضطرًا أن يتخلَّى عنها في عام ٢٢١ق.م وكانت فرص نجاحه من هذه
الناحية
تفوق آماله، ومن الغريب أنه جهل أو تجاهل أنه كان له فعلًا حليف في «سوريا الجوفاء» لا
يمكن
الاعتماد عليه بل كان يعد خائنًا، وليس هناك حاجة لشرائه بالمال، ولأنه كان مستعدًا لتقديم
خدماته
لينتقم لنفسه وحسب عما أصابه من أضرار، وهذا الحليف هو مناهضه في حمله عام ٢٢١ق.م المسمى
«تيودوتوس» الأيتولي، ولا يخفي أن رئيس الجنود المرتزقة الجامح هذا؛ كان قد اعتقد أنه
سينال بعض
الحقوق باعتراف «بطليموس الرابع» له بالجميل، ولكنه لما رأى أنه لم يُقابَل منه إلا بعدم
الاكتراث
ونكران الجميل، أخذ يتحدث عن خدماته بصوت عالٍ بعض الشيء؛ فكان ذلك إيذانًا لعدِّه بين
المشكوك في
إخلاصهم، ومن ثَم عُدَّ بين الأفراد الخطرين، وهم الذين تعوَّد «سوسيبيوس» أن يتخلَّص
منهم بالقتل؛
غير أن «تيودوتوس» نجا من الكمين الذي نُصِب له؛ ومن ثَم فَهِم من أين صُوِّبت له الضربة،
وعلم أنه
لا عيش له في القطر المصري، ولا بد من مغادرته هذه البلاد، ومن المحتمل أنه كان يعرف
القرار الذي
اتُّخذ لتعيين خلفه «نيكولاس الأيتولي» الذي كان في طريقه ليحل محله، وذلك عندما عزم
على دعوة
«أنتيوكوس» إلى «سوريا الجوفاء» … وعلى ذلك استولى على «بطالمايس» وجعل صديقه «باناتولوس» Panaetolos يستولي على صور، وكتب إلى «أنتيوكوس» الذي كان لا
يزال في «سليوسي» أن يسرع بكل ما لديه من قوة؛ واعدًا أن يسلمه المدينتين اللتين يمكن
أن يُعدَّا
مفتاحي «فينيقيا» و«سوريا الجوفاء».
وعندما وصلت «أنتيوكوس» هذه الرسالة التي لا يُحتَمل تصديقها تردد لحظة ليتأكد من
حقيقة
الأمر، وعما إذا كانت هذه الرسالة تخفي وراءها فخًّا نُصِب له؛ غير أنه لم يكن بالرجل
الذي يتردد
طويلًا، وعلى ذلك اتخذ أقصر طريق، وسار بأقصى سرعة مخترقًا وادي «مارسياس»، غير أن «تيودوتوس
هميوليوس» لم يكن في مقدوره دون أي شك تمهيد الطريق، ومن أجل ذلك نجد أن الجيش السوري
قد تصادم
كذلك مع حصني «بروخي» و«جرها» وهما اللذان وقفًا في طريقه منذ عامين مضيا، ولم يتمكن
من اختراقهما،
ولكنه في هذه المرة تغلَّب المهاجمون على حصن «جرها» واقتحموه، أما حصن «بروخي» فقد قاوم
العدو؛
ولذلك فإن «أنتيوكوس» خوفًا من ضياع الوقت ترك معظم الجيش أمام «بروخي» وأسرع بجنوده
المسلحين
بأسلحة خفيفة لنجدة «تيودوتوس» الأيتولي الذي كان محاصرًا في «بطاليمايس» بجيش يقوده
«نيكولاوس»،
ولم ينتظر هذا القائد الملك، بل حاول بطريقة قطع طريق التقهقر، غير أن «أنتيوكوس» فهم
الفخ الذي
نُصِب له، وعندئذ عاد أدراجه دون أن يدخل «بطاليمايس» زاحفًا بجيشه ودَاهَم في ممرِّ
«بريت»
Bryet الضباط «نيكولاوس» و«لاجوراس»
Lagoras والأيتولي و«دروي مين»
Droymene ثم انضم
إلى جيشه الذي كان في هذا الوقت قد استولى على حصن «بروخي».
٣
وبعد ذلك زحف «أنتيوكوس» على رأس جيشه على طول الشاطئ، وقد استقبله «باناتولوس» في
«صور» كما
استقبله «تيودوتوس» في «بطاليمايس» وقد وجد في دار صناعة كل من هذين الثغرين مواد كثيرة،
وبوجه خاص
أربعين سفينة منها عشرون مسلحة، وسطحها عالٍ يحتوي كل منها على أربعة صفوف على الأقل
من المجدفين،
٤ وكان من نتائج هذا النصر السريع أن انتشر الذعر في الإسكندرية والظاهر أن «سوسيبيوس»
لم يكن ينتظر شيئًا من ذلك، أو على الأقل لم يكن قد اتَّخذ أي استعداد لملاقاة العدو،
زعمًا منه أن
«مولون» و«آخاوس» كانا كافيين لشغل «أنتيوكوس» ومناوشته، وقد حسب أنه باستثناء خيانة
«تيودوتوس»
الأيتولي أنه سيكون من دواعي فخره أنه سيجعله يختفي في الوقت المناسب. والآن نرى أن السليوكي
«أنتيوكوس» بعد أن أصبح السيد المسيطر على أكبر ثغور ساحليَّة في سوريا وفلسطين، ويقود
جيشًا
عظيمًا محاربًا، ولواء النصر معقود على جبينه، أخذ يزحف على ما يُظَن لغزو مصر نفسها
قبل أن يتخذ
المصريون العدة لحماية حدودها.
وعندما سمع «بطليموس» بزحف جيش العدو على بلاده أخذ يفيق من خموله، ودعته وسكره، في
حين بدأ
«سوسيبيوس» ومعه «أجاتوكليس» سمير الملك يظهران بعض النشاط الضعيف فوضعا كلَّ ما لديهم
من قوة
حربية عند بلوز (الفرما) وصدرت الأوامر بفتح الترع في هذا الإقليم لمياه النيل، وملأ
الآبار بالماء
العذب؛ لتكون بمثابة خط دفاع أمام العدو، وفي الوقت نفسه نُقِل مقر الحكم من «الإسكندرية»
إلى
«منف» التي كانت — في حالة غزو البلاد بطريق البر — أكثر تهديدًا من «الإسكندرية»، وكذلك
كان زحف
العدو واقترابه منها قد يؤدي لقيام ثورة تهدد سلطان البطالمة.
والواقع أن هذه الاستعدادات الأولية كانت كافية لإلقاء الرعب والفزع في نفس «أنتيوكوس»
الذي
كان يفكر في الانكسارات المريعة التي أصابت فيما مضى «برد يكاس» ومن بعده «أنتيجونوس»
الأعور في
أحوال أكثر ملائمة، وقد فصلنا القول في ذلك في الجزء السابق من هذه الموسوعة؛ ولذلك فإنه
رأى من
الحزم أن يؤمِّن أولًا ممتلكاته في «سوريا الجوفاء» التي كان قد دخلها دون أن يمشق الحسام،
لا سيما
أنه لم يخرج منها حتى الآن القائد المصري «نيكولاوس»؛ فقد أمضى زمنًا في حصار «دورا»
وهي حصن صغير
كنعاني كان قد احتمى فيه «نيكولاوس»، ولم يمكنه الاستيلاء عليه، يُضاف إلى ذلك أنه كان
قلقًا من
حركات «آخاوس»؛ ولذلك فإنه لما رأى فصل الشتاء قد حلَّ، أصغى إلى اقتراحاتٍ قُدِّمت له
في هذا
الوقت المناسب من جانب مبعوثَيْن أوفدهما «بطليموس الرابع» للمفاوضة، وانتهى الأمر بعقد
هدنة مع
عاهل مصر لمدة أربعة أشهر كان «أنتيوكوس» على حسب تصوره يظن أنها ستكون مقدمة لعقد صلح
نهائي.
حمل السفيران المصريان إلى «منف» مقر الملك وقتئذٍ التأكيداتِ بأن «أنتيوكوس» قد
وافق على
مجموع النقاط المتنازع عليها، كما وافق على كل العروض المعقولة، وإن ملك مصر كان على
استعداد لفتح
باب المفاوضات في «سليوس» الواقعة على نهر الأرنت، وكان «أنتيوكوس» قد ذهب ليقضي فصل
الشتاء تاركًا
حاميات في «سوريا الجوفاء» كما كلف «تيودوتوس» الأيتولي العناية بكل الشئون.
٥
ومما تجدر ملاحظته هنا الموقف الذي اتخذه «آخاوس» في عام ٢١٩ق.م؛ فقد قال «بولبيبوس»
فقط أن
«أنتيوكوس» أراد أن يُمضِي فصل الشتاء في «سليوسي»، لأن «آخاوس» كان يتآمر بطبيعة الحال
عليه،
وساعد جهارًا «بطليموس الرابع» غير أن مساعدته كانت محصورة في تبادل الآراء والمشاريع.
«أنتيوكوس» يغزو المواقع التي في أيدي المصريين في سوريا وفلسطين حتى رفح
الواقع أن وزراء «بطليموس الرابع» وبطانته لم يكونوا مخلصين فيما عرضوه على «أنتيوكوس
الثالث»
الذي أوقع نفسه عن طيب خاطر — أو بعبارة أدق على غفلة منه — في الفخِّ الذي نُصِب له،
وذلك أن
وزراء «بطليموس» قد عملوا بقدر المستطاع على إصلاح الأخطاء التي ارتكبوها في الماضي ظنًّا
منهم أن
الأحوال في الخارج تجري على حسب ما يريدون؛ وتفسير ذلك أنهم عندما أُخِذوا على غِرَّة
بتتابع
الحوادث المفجعة التي حاقت بمصر وممتلكاتها وبخاصة في سوريا، أرادوا قبل كل شيء أن يكسبوا
بعض
الوقت لإصلاح أخطائهم، وقد توصلوا إلى ذلك بأن فتحوا باب المفاوضات السياسية مع خصمهم
والإطالة في
أجلها إلى أن تكْمُل تجهيزاتهم الحربية، وبعد ذلك يكونون على استعداد لأن يقْلِبوا «لأنتيوكوس»
ظهر
المِجَنِّ، ويعلنون عليه الحرب، والواقع أنهم خدَّروا أعصاب «أنتيوكوس» ووقع فعلًا في
حبائلهم.
ففي أثناء ما كان رجال السياسة من الطرفين يتبادلون المذكرات بين «سليوسي» و«منف»
كانت
الإسكندرية قد أصبحت معسكرًا مترامي الأطراف حيث كان الضباط المدربين على فنون الحرب
يقومون بتدريب
الجنود المرتزقين الذين انخرطوا في سلك الجيش المصري من كل حَدَب وصَوْب من البلاد المجاورة،
هذا
وقد ذكر لنا المؤرخ «بوليبيوس»
٦ عند تناوله حوادث هذه الحرب؛ أسماء رؤساء الجنود المرتزقين الذين كانت لهم شهرة واسعة
في هذه الفترة في العالم الإغريقي.
وأهم ما يلفت النظر في تكوين هذا الجيش الذي أعده «بطليموس الرابع» لمحاربة «أنتيوكوس»
هو أنه
كان يحتوي على حوالي عشرين ألف مقاتل من الجنود المصريين القُحِّ، وقد قُدِّر عدد هذا
الجيش كله
بحوالي خمسة وسبعين ألف مقاتل تجمَّعوا كلهم في صعيد «الإسكندرية» وهؤلاء الجنود نظموا
فرقًا بعضها
من المشاة يحاربون بالحِراب بقيادة «سوسيبيوس» نفسه، يضاف إلى ذلك ستة آلاف مقاتل من
الجنود
اللوبيين انقسموا قسمين أحدهما من المشاة، والآخر من جنود الفرسان، وعلى أغلب الظن كانت
هذه هي
المرة الأولى التي سمح فيها ملوك البطالمة بوضع السلاح في أيدي مواطنين من أصل مصري،
وتدريبهم على
حسب النظم الحربية الإغريقية المقدونية، والواقع أن «بطليموس الرابع» ورجال حاشيته الذين
كانوا
يديرون مقاليد الأمور قد اضطُروا إلى ذلك اضطرارًا ملحًّا، على الرغم من أنه — على ما
قيل — لم
تحدث تجربة مثل هذه في تنظيم الجيش البطلمي وإعداده، وذلك لأن البطالمة كانوا يخشون المصريين
بوجه
عام، ولا يرغبون في أن يجازفوا بتجنيدهم في الجيش العامل بوجه خاص.
وعلى أية حال انقضى شتاء عام ٢١٩-٢١٨ق.م في مفاوضات لم تُسْفِر عن أية نتيجة كما
توقع
«سوسيبيوس»؛ فقد أرسل الأخير وهو في «منف» في صحبة «بطليموس» إلى «سليوسي» سفراء للمفاوضة،
مُخْفِين عن «أنتيوكوس» كل التجهيزات والاستعدادات الحربية التي كانت قائمة على قدم وساق
في
الإسكندرية، وفي خلال هذه المفاوضات قدم المصريون اعتراضات اقتُبست من المعاهدة السابقة
التي وقعت
في عام ٣٠٢ق.م بين الملوك الذين تحالفوا على «أنتيجونوس» وهي التي أعلن فيها المتفاوضون
السوريون
أنها قد أُلغيَت بمقتضى القسمة النهائية التي أُبرِمت بين المتحالفين نهائيًّا.
٧ غير أن «بطليموس الأول سوتر» لم يقبل هذه القسمة التي لم تسلِّم له بحق الاستيلاء على
«سوريا الجوفاء» التي كان قد وُعِد بها في المعاهدة الأولى، وعلى هذا الأساس نجد أن المناقشة
التي
دارت حول هذه النقطة لم تسفر عن أي تقدم في حَسْم الخلاف، وفي نهاية الأمر عندما استعدَّ
المصريون
للحرب، وأرد «بطليموس» أن يوقف المفاوضات؛ معلنًا أنه لا بد من أن المعاهدة التي تُبرَم
بينه وبين
«أنتيوكوس» تشمل موادها ما يرضي حليفه «آخاوس» وعندئذ ثار «أنتيوكوس» وأبى كلَّ الإباء
أن يَدخُل
عاصٍ بل وخارجٌ عليه في شروط المعاهدة، ومن ثَم قطع حبل المفاوضات.
والواقع أن خيبة أمله كانت كبيرة؛ وذلك لأنه كان يأمل حتى آخر لحظة أن تصبح «سوريا
الجوفاء»
وبلاد فينيقيا جميعًا ملكًا له، وأن مستشاري «بطليموس الرابع» لن يجسروا على منازعته
في قطعة من
تلك البلاد؛ وذلك لأن هذا كان سيجرهم إلى أخطار مهلكة، يضاف إلى ذلك أن «أنتيوكوس» —
اتكالًا على
تخيلاته هذه — أهمل تدريب جنوده حتى يكونوا على أهبة الاستعداد لخوض غمار الحرب، ومع
ذلك فإن
الإحوال قد اضطرته إلى خوض نار حرب قد يخسر فيها كل ما أحرزه في حملته المظفرة السالفة.
وعلى أية حال لم يتوان «أنتيوكوس» في أن ساق جيشه لمقابلة العدو من جديد مخترقًا
بلاد «سوريا
الجوفاء» وقد حاذى في سيره هذه المرة الساحل الفنيقي، وكان أسطوله يمخر عباب البحر في
إثره بقيادة
«ديوجنيتوس» Diognetos، وقد قدم له أهل «رودس» عن طيب خاطر
محالفتهم، كما انضم له — عند «داموراس» Damouras الواقعة على
الساحل بين بيروت و«صيدا» — القائد «تيودوتوس» وبعد ذلك بقليل تصادم مع مقدمة جيش «نيكولاوس»
الذي
كان يحتل وديان «بالاتانوس».
أما المصريون فقد أفادوا من تباطئ المفاوضات؛ إذ في خلال ذلك كانوا قد كدَّسوا المؤن
والذخائر
عند غزة، وكذلك كانت الإمدادات قد وصلت إلى «نيوكولاوس»، كما أُرسِل إليه أسطول مؤلف
من ثلاثين
سفينة من ذوات الأسطح. هذا فضلًا عن أربعمائة سفينة حمل بقيادة أمير البحر «بريجين» Perigene، وعلى ذلك كان الجيشان والأسطولان على استعداد لخوض
المعركة.
وقد بدأ «أنتيوكوس» بالهجوم وانقض بجيشه، وكان مقسمًا ثلاث فرق لملاقاة «نيكولاوس»
في حين أن
الأسطولين تقدما لخوض معركة بحرية أيضًا، وقد أسفرت المعركة عن نصر السوريين، وعلى ذلك
ولَّى
«نيكولاوس» الأدبار مع جنوده مشتَّتين إلى «صيدا»؛ حيث انضم إليه في الحال «بريجين»،
وأخذت صيدا
دون إبطاء في تحصين نفسها غير أن السوريين لم يروا أنه من الحكمة محاصرته، فأبحر «ديوجنتيوس»
إلى
صور في حين كان «أنتيوكوس» يبتعد عن الشاطئ، ودخل بجيشه في إقليم الجليلي الخصب، ولم
يلبث أن
سلَّمتْ «فيلوترا» Philotra الواقعة على الشاطئ الغربي لبحيرة
جنيزاريت، ثم استولى على «سيتوبوليس» Scythopolis التي تقع على
مسافة من «فيلوترا» وأخيرًا استولى على «أتابيريون» Atabyerion
المحصنة بهجومه عليها، وبذلك وجد «أنتيوكوس» أنه أصبح صاحب السلطان على كل الجزء الشمالي
من
فلسطين، ثم عبر بعد ذلك نهر «الأردن» وغزا بيري Perie، وقضى على
الحاميتين المصريتين في «أبيلا» و«جادارا» وبعد ذلك استولى على «فيلادلفيا» (رابات-آمون)
بعد حصار
مضنٍ، وبعد أن ساعده العرب الذين كانوا يقطنون في الجهات المجاورة.
وهذه الانتصارات السريعة المتتالية قد أسفرت عن انشقاق في صفوف الجنود المرتزقين،
بل وبين
الموظفين المصريين، ولا أدلَّ على ذلك من أنه بعد الاستيلاء على حصن «أتابيريون» انضم
أحد رجال
«بطليموس» الذي يُدعَى «سيراس»
Ceraeas إلى جانب «أنتيوكوس»، ثم
حذا حَذْوَه أحد القواد الحربيين ويُدعَى «هيبولوكوس»
Hippolochos
التسالي، وقاد معه للمعسكر السوري فرسانه الذين كان يبلغ عددهم أربعمائة فارس.
٨
ولما دخل فصل الشتاء رأى «أنتيوكوس» أن ينهي حملته، ولكن ضمانًا للمحافظة على فتوحه
وضع حامية
عند غزة؛ وفي مدينة «رابات-آمون» كان يعسكر القائد «نيكاركوس» بقوة كبيرة، وفي الشمال
وضع تحت
قيادة كل من «هيبولوكوس» و«سيراس» خمسة آلاف من جنود «سماريا». أما «أنتيوكوس» نفسه فإنه
ذهب بعد
ذلك ليقيم معسكرات الشتاء في «بطوليمايس».
٩
وفي خلال هذه الانتصارات لم نسمع شيئًا عن الجانب المصري؛ وكانت كل الأحداث تدل على
أن «سوريا
الجوفاء» قد فُقِدت من مصر دون شك، وعندما أخذ «سوسيبيوس» يُظهِر بعض النشاط، كان ذلك
بعد فوات
الوقت؛ إذ لم يكن في مقدوره أن يرسل قوات كافية لملاقاة العدو، هذا إلى أنه لم يجعل حليفه
«آخاوس»
يقرر مساعدته بصورة جدية؛ وذلك لأن الأخير كان دائمًا مترددًا مما جعله يبقى مع جنوده
في
«بيزيديا»، في حين كان «آتالوس» ملك برجام يستولي على المدينة تلو المدينة على الساحل
الأيوني،
ولكن الاستيلاء على «سوريا الجوفاء»، كان له فائدة حيوية مُحسَّة، ومن أجل ذلك نجد أن
الحملتين
الطاحنتين اللتين شنَّهما «أنتيوكوس» لم يثبِّطا من عزيمة «سوسيبيوس» التي لا تعرف الكلل،
والواقع
أنه لم يخطر بباله أن يسلِّم للعدو على طول الخط ويخضع له، بل كان في نهاية الأمر مستعدًّا
ليجرب
حظه بآخر ما لديه من قوة وعتاد؛ ليسترد «سوريا الجوفاء» إلى أملاك مصر.