نظرة عامة عن حياة بطليموس الرابع ونهاية حكمه
وفضلًا عن ذلك كان من الضروري حفر قناة لإنزالها في البحر. على أن «بطليموس» لم يقف عند هذا الحدِّ في هذا النوع من الهواية، فقد تخطاه عندما أقام قصرًا عائمًا غاية في الأبهة والفخامة، وكان الغرض منه أن يتخذه لشخصه وحاشيته، ومن حوله من الندامى للنزهة، ولإقامة الليالي الحمراء فيه على متن النيل، وهذا القصر العائم كان يحتوي على قاعات ولائم وحجرات نوم، كما كان يحتوي على خارجات ذات عُمُد ودهاليز للنزهة؛ وعلى قدر كبير من الأخشاب الثمينة والعاج والبرنز والذهب والطنافس والأبسطة من كل نوع، ومن ثَم نرى أن «بطليموس الرابع» كان بلا شك مخبول العقل؛ إذ قد سخر العلم والفن في خدمته لإنتاج مثل هذه الكماليات المنقطعة النظير، والتي لا تفيد شعبه في شيء، بل كانت لمتعته وملذاته الشخصية، وإشباع غروره، وحبه للعظمة، وكل ذلك على حساب الشعب الكادح من المصريين، ولكن يجب علينا ألا نسلِّم بكل ما ذكرناه هنا على أنه حقيقة لا يتطرق إليها الشك؛ وذلك لأن الذي قص علينا هذه الأعاجيب هو «كالليكسين» الروديسي عند وصفه لنا الاستعراض العظيم الذي يظهر فيه فخامة هذا الملك وعظمته، وهو نفس المؤلف الذي وصف لنا عظمة «بطليموس الثاني» وأبهته فيما سبق.
على أنه من المحتمل أن «كالليكسين» قد وصف قصره العائم السالف الذكر فيما بعد، وأن هذا النوع من القصور العائمة كان قد أقيم من أجل أحفال أعياد إله الخمر «ديونيسوس» من نوع لم يكن معروفًا، والواقع أن عبادة «ديونيسيوس» قد استحوذت على لُبِّ هذا العاهل مما كان يدعو إلى الضحك؛ لأننا نعلم أن الرجل المؤمن هو الذي يكون دائمًا قلبه مملوء بآلهة، ومن البدهي أن ما وصل إلينا من تاريخ هذا العاهل جاء عن طريق ما كتبه «بطليموس بن أجيسارخوس» السالف الذكر، والواقع أن «بطليموس» على الرغم من الجرائم التي ارتكبها لم يكن من الجبن والخوف بدرجة تجعله يفر متراجعًا أمام سخرية أهالي الإسكندرية ونكاتهم اللاذعة التي كانت تصوَّب إليه من كل حَدَب وصَوْب.
والواقع أن الإخلاص الذي أولاه «بطليموس الرابع» للإله «ديونيسوس» كان يشبه نظامًا يجمع بين أحفال الخمر، وأعياده الشعائرية مع عبادة الإله «سرابيس»؛ وهذا النظام يعد جزءًا من الأسباب التي جعلت «بطليموس الرابع» يُعتبَر مصلحًا دينيًّا. هذا، وقد امتدت عنايته بأمور الدين إلى ديانة المصريين أنفسهم؛ إذ الواقع أنه يعد من بين البطالمة الذين أقاموا المعابد المصرية القديمة العظيمة في أنحاء البلاد كما سنرى بعد، غير أنه يُلحَظ أنه قد وجَّه جهوده لكلٍّ من المباني المصرية والإغريقية على السواء؛ ولن نكون مغالين إذا قررنا هنا أنه لم يُسمَع عن ملك آخر قد أفرغ عنايته بكل ما لديه من قوة؛ ليخلق الاتصال الوطيد من جديد بين العرش والمذبح، وذلك لأنه حتى عهده كان البطالمة يتركون الكهنة المصريين يحفلون ببنوة الملوك الإلهية على حسب الشعائر التي كانت تقام للفرعون، غير أنهم وجدوا أنه ليس من اللائق نقل هذه الشعائر الفخمة إلى وثائق اللغة الإغريقية حيث كانت على ما يُظَن تظهر سخيفة.
ومنذ هذه اللحظة كانت توجد على ما يظهر طريقتان مميزتان في العبادة الأسرية البطلمية من الوجهة الشعيرية الإغريقية، وكل من هاتين الطريقتين قد قُلِّدت فيما بعد مع بعض تغيرات بوساطة العبادة الإمبراطورية عند الرومان، ولما كانت العبادة البطلمية تعد النموذج للعبادة التي سار على نهجها أباطرة الرومان في المديريات فقد كانت موجهة إلى مؤسس الأسرة، وإلى الحاكم دون اشتراك الملكات في ذلك. هذا، ونعلم أن مجمع بلدية «رومة» قد أحيوا التقليد القديم، وبذلك كرموا سلسلة الزوجات الملكية المتصلة بالتعبد إليهن، وإقامة شعائرهن، وهذا التمييز الحاذق قد مُحِي جزء منه على يد الخلف الثاني للملك «بطليموس الرابع» وهو «بطليموس السادس» الذي عين في مدينة «بطلمايس» في عام ١٥٤ق.م كهنة بقدر عدد الأسماء التي كانت في قائمة ملوك الأسرة، هذا مع إبعاد الملكات إلا في الحالات التي تكنَّ فيها هاتيك الملكات موضع تأليه خاص، وهؤلاء الملكات المؤلهات الخاصات — اللائي كانت الملكة «أرسنوي الثانية» تعد أعظم مثال بارز بينهن — كنَّ دائمًا موضع محبة زوجية رسمية أو تقًى بنوي، وعلى ذلك يحق لنا أن نُدهَش غاية الدهشة عندما نرى أن «بطليموس» «فيلوباتور» أي محب والده هو في الوقت نفسه الذي قتل والدته أو حرض على قتلها؛ قد نصب في الإسكندرية كاهنة للملكة «برنيكي» والدته التي فضلًا عن ذلك قد احتلت مكانة مقدسة أعلى من الكاهنة حاملة السلة الذهبية أمام الملكة «أرسنوي الثانية» محبة أخيها، ولكن من الجائز أن «بطليموس الرابع» قد ندم على فعلته، وكفَّر عن سيئته بهذا العمل.
أما «أجاتوكليس» سميره الماكر الوضيع، وصاحب السلطان العظيم في إدارة شئون البلاد في الداخل والخارج، وذلك لما بينه وبين «بطليموس» من محبة وصداقة في ميدان الخلاعة، فقد أراد أن يزيد في قوته وسلطانه على الملك، وقد توصل فعلًا إلى ما يرغب فيه بأن قدم له أخته الحسناء «أجاتوكليا» التي أشعلت في صدر «بطليموس» نار الشهوة البهيمية العمياء التي كثيرًا ما تودي حتى بأعاظم الرجال إلى مزالق الضلالة، وإلى ارتكاب كل الجرائم.
ولما أخذت هذه الفاتنة على الملك كل مشاعره، وأصبح أسير جمالها، أرادت أن تنتهز الفرصة لتتخلص من «أرسنوي الثالثة» زوجه الشرعية، وذلك ليخلو لها الجو، وتكون هي وحدها صاحبة السلطان فعلًا، ووصلت في نهاية الأمر إلى القضاء على حياة هذه الملكة التي أخلصت لزوجها في ساعة الخطر في موقعه رفح كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق. غير أنه بموت «أرسنوي» أصبحت البلاد فريسة في أيدي «أجاتوكليا» وأخيها «أجانوكليس» وأمهما، والواقع أن هذه الأسرة الوضيعة لم تكتف بالسيطرة على الملك، بل سيطرت على المملكة بأسرها؛ فقد كانوا يظهرون على ملأ الناس الذين كانوا يحبونهم، وكان لهم موكبهم الخاص بهم، وقد حرص «أجاتوكليس» على أن يكون دائمًا بجوار الملك، وبذلك حكم البلاد؛ فكانت النساء يتصرفن في وظائف المدافعين عن الشعب من حكام وقواد، ولم يكن هناك في المملكة من هو أقل سلطانًا من الملك نفسه، وفي الوقت الذي كان فيه «بطليموس» بهذه الصورة سجين حبه، وكأنه في غفلة عما يدور حوله وهو في أحضان فاتنته وافاه القدر المحتوم.
غير أن خبر وفاته بقي سرًّا خفيًّا؛ ليهيِّئ الفرصة لوصيفات «أجاتوكليا» لتنهبن ما في القصر الملكي من كنوز، وفي الوقت نفسه ليتخذ «أجاتوكليس» من التدابير ما يكفل له الاستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد بالاشتراك مع عصبة أقل ما يقال عنهم إنهم رجس من عمل الشيطان.
وعلى الرغم من أن الأخذ بما قاله «جان الأنطاكي» لا يُعتَمد عليه إلى حدٍّ ما؛ إذ كان في قدرته أن يرجع إلى مصادر أوثق في هذا الصدد، إلا أنه مع ذلك ما أكده من وقائع يتفق بصورة أحسن عما ذكره لنا «جوستن» إذا ما قرن بمتن أورده لنا المؤرخ «بوليبيوس»، عُثِر عليه حديثًا.
وعلى أية حال فإن المجرمين الذين اشتركوا في إخفاء موت الملك وقتل الملكة قد استولى عليهم الفزع، ورأوا أن الوقت قد حان لإعلان تولية الملك الجديد على عرش البلاد، كما وجدوا أنه من الضروري في الوقت نفسه أن ينشروا الشائعة بأن «بطليموس الرابع» قد حضره الموت وهو على فراشه، وأنهم في طريقهم لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتولية خلفه، وبعد مضي ثلاثة أيام أو أربعة على هذا الخبر جمع كل من «أجاتوكليس» و«سوسيبيوس» عظماء رجال الدولة، وأكد لهم موت الملك والملكة، وفرضا حدادًا عامًا بمناسبة هذا الحادث على حسب عادة البلاد؛ وعلى أثر ذلك وُضِع التاج على رأس الملك الطفل، وأُعلن فرعونًا على البلاد؛ وبعد ذلك قُرِئت وصية ملفقة جاء فيها أن الملك قد نصب كلًّا من «أجاتوكليس» و«سوسيبيوس» وصيًّا على الملك الطفل، وأخيرًا نجد أنهما حثَّا الموظفين على أن يظهروا بمظهر الرعايا الموالين، وأن يحافظوا على حقوق هذا الملك الطفل.
وبعد الفراغ من كل ذلك حمل هذان الماكران إناءين من الفضة وادَّعيا أن واحدًا منهما يحتوي على بقايا عظام الملك، والثاني يحتوي على بقايا رفات الملكة «أرسنوي الثالثة» والواقع أن أحد الإناءين كان فيه بقايا رفات الملك المتوفَّى حقيقة، غير أن الإناء الآخر كان مملوءًا بالعطور وحسب، وبعد الانتهاء من تمثيل هذه المهزلة أمر هذان الوغدان في الحال إقامة حفل جنازي للملك والملكة، وفي خلال ذلك ظهر للعيان ما حل بالملكة، وذلك أنه على إثر إفشاء أمر موتها أخذ القوم يتساءلون عن الأحوال التي ماتت فيها، ولمَّا لم يتلق الشعب أي جواب شافٍ، وأن حقيقة الأمر لم تنشر بل ظلت موضع جدال أدَّى إلى ازدياد خطورة الموقف في نفوس كل أفراد الشعب؛ يضاف إلى ذلك أن الجم الغفير من سكان الإسكندرية كانوا في حالة هياج شديد، وقد لوحظ أنه من جهة موت الملك لم يَنْبِس أي فرد من الشعب بِبِنْت شفة، ولكن فيما يخص الملكة «أرسنوي» فقد عاد إلى ذاكرة بعض الناس هجر الملك لها، وعزلتها عن الشعب، كما كان يمر بخاطر بعضهم الآخر ما كانت تتجرعه من سوء معاملة، وحط كرامة منذ بداية حياتها التي كانت خاتمتها البؤس والتعاسة، ثم الاغتيال، ولقد بلغ من ذهول الشعب وحزنهم عليها درجة جعلت سكان المدينة يملئون جوها بالنحيب والعويل بصورة مستمرة حتى إنهم بمقدار عطفهم عليها كان سخطهم وكرههم وغضبهم على «أجاتوكليس» وأسرته التي كانت سببًا في كلِّ ما حلَّ بمليكتهم الشهيدة من مآسي انتهت بالموت غدرًا.
ولما كان «بوليبيوس» يعتقد في صحة هذا الخبر فإنه لم يجد من المناسب أن يفسِّر لنا ماذا كان مصير جثمان «أرسنوي». فهل يا ترى قد صدرت الأوامر بإخفائه حتى لا تكشف الآثار التي تُركَت على جثتها بالخنجر الذي طعنت به أو من آثار السم؟ … ولا نزاع في أن إعلان خبر موت الملك والملكة في آن واحد على الشعب بتقديم آنيتين فيهما بقايا جسمانهما لأمر يدعو إلى الشك والريبة؛ وبخاصة أن هذا الإعلان أذيع فجأة وبدون سابق إنذار بمرض الملك أو الملكة.
وعلى أية حال فإن الطريق التي اتبُعت في الاحتفال بتشييع جنازتهما كان أمرًا مخالفًا لما كان يجري به العرف بالنسبة لملوك هذه الأسرة، ومن أجل ذلك كان هذا الاجراء مدعاة لتعليق أهل الإسكندرية بأقوال مريبة، ولقد كان من حق الشعب في مثل هذه الظروف أن يرتاب، وتذهب به الظنون كل مذهب؛ وذلك لأن «بطليموس الرابع» قد مضت عليه فترة طويلة لم يره الشعب بينهم؛ ولقد ذهب بعض المؤرخين في قوله إلى أن أهالي الإسكندرية لم يروه رأي العين منذ سنين؛ ومن ثم ظن بعضهم أنه قد مات منذ زمن طويل.
وفي تلك الأثناء التي كان يدبر فيها ملكا «سوريا، ومقدونيا» غزو أملاك مصر كان كل من «أجاتوكليس» وشركائه في المؤامرة التي نفذوها في حيرة من أمرهم، ولم يكن في مقدورهم وجود سبيل للخروج من الورطة التي زجُّوا بأنفسهم فيها إلا بالجرأة والمخاطرة، وتدل ما لدينا من معلومات على أن «أجاتوكليس» هو الذي لعب الدور الأول في هذه الحوادث المحزنة، أما «سوسيبيوس» شريكه فكان يقفو أثره؛ لأنه لم يكن في استطاعته أن يتخلَّى عن الموقف الحرج المخزي الذي أوجد نفسه فيه، وإلا ضاعت حياته. حقًّا كان هذا الرجل المسن المحنك في نهاية مجال حياته السياسية، ولا شك في أنه كان يريد أن يختم حياته بوصورة أكثر هدوءًا من التي أوجد نفسه فيها، وبخاصة بعد اغتيال الملكة، وموت الملك، وانفضاح سر المؤامرة التي أودت بحياة الملكة غدرًا وخيانة.
ويتساءل المرء عما لو كان قد امتد أجل «سوسيبيوس» واشترك في كسب النجاح الذي أحرزه زميله «أجاتوكليس» الذي لم يدم طويلًا، ولم يدل على شيء إلا على سوء التدبير، وقلة البصيرة؟ ومهما يكن من أمر فإن «سوسيبيوس» لم يمتد به الأجل لينال العقاب الذي كان يستحقه، أما «أجاتوكليس» فتدل الحوادث على أنه قد أفلح في الواقع لمدة في مقاومة الشعب، وتوبيخه، وفرض نفسه وصيًّا على الملك الطفل، وكان يأمل أن يحكم باسمه؛ ولكن في وسط هذه الاضطرابات، والذهول والدهشة التي عمَّت الجميع، كانت القلوب مملوءة بالغيظ والحنق عليه، ومع ذلك لم يكن هناك من يصرخ الصرخة الأولى المدوية التي تطلق الثورة الكامنة في نفوس الشعب الحائر من عقالها، وذلك لأن «أجاتوكليس» وبطانته قد اتخذوا كل العدة لعدم قيام فتنة، ولكن على الرغم من كل هذه الاحتياطات المشددة فإن نار الثورة اندلع لهيبها معلنة ساعة محاكمة المجرمين أمام محكمة الشعب الثائر، وهي التي قضت بموت «أجاتوكليس» بسبب ما ارتكبه من جرائم، وبخاصة قتل الملكة «أرسنوي الثالثة»، كما سنرى بعد في الجزء التالي من هذه الموسوعة.
وقد حدث بعد ذلك أنهم هربوا من السجن، ولاقوا حتفهم كما ذكرنا ذلك من قبل.
A. Arnold J. Toynbee. Helenism The History of a Civilization, P. 141.
وهذه الوثيقة على الرغم مما فيها من صعوبات لغوية في الترجمة فهي هامة من حيث اهتمام «بطليموس الرابع» بعبادة «ديونيسوس» الذي يُقابِل عند المصريين الإله «أوزير»، وقد فحص هذا الموضوع الأستاذ فريرز بالتطويل في كتابه المشهور الغصن الذهبي The Golden Bough.
راجع Berlin No. 11774. Verso; Wilcken’s Comment, Archiv VI. P. 413.