قيمة الوثائق الديموطيقية في العهد البطلمي الأول في تفهُّم حياة الشعب المصري من كل الوجوه
أما اللغة المصرية القديمة، أو الكلام المقدس كما عبَّر عنه المصريون منذ أقدم العهود فكانت منذ بداية انتشار الديموطيقية، أو بعبارة أخرى اللغة العامية آخذة في الانزواء شيئًا فشيئًا في العهد البطلمي وما بعده، حتى أصبحت لا تُستعمَل إلا على جدران المعابد التي كانت لا تزال منتشرة في طول البلاد وعرضها انتشارًا عظيمًا لا يقل عما كان عليه في أزهى عصور الدولة المصرية القديمة في أبهى عصورها، ومع ذلك فإن ما كان يظهر منها في صورة مراسيم ملكية وضعتها الكهنة عن طيب خاطر بأمر من الملك كان يتبعها ترجمة باللغة الديموطيقية، وأخرى باللغة الإغريقية التي كانت وقتئذٍ من الوجهة القانونية اللغة الرسمية للبلاد.
ولما كان الشعب المصري الأصيل متمسكًا بتقاليده القديمة منذ أقدم العهود؛ فإنه استمر في تدوين كل شئونه باللغة الديموطيقية، ولم يحاول قط تعلم اللغة الإغريقية حتى دخل الإسلام البلاد، ومن أجل ذلك يجد الباحث في تاريخ عصر البطالمة أن مصر كانت تتألف بوجه عامٍّ من شعبين منفصلين الواحد منهما عن الآخر؛ من حيث الثقافة والدين والحياة الاجتماعية والتقاليد، وقد حتَّم ذلك على الباحث في تاريخ مصر في عهد البطالمة أن يفحص تاريخ الشعب المصري في تلك الفترة بوصفه وحدة قائمة بذاتها في كل أحواله، وإن الرابطة التي تربطه بالشعب المقدوني الإغريقي الذي كان يسيطر على أرض الكنانة وقتئذٍ لا تتعدَّى خيطًا رفيعًا جدًّا قد يُقطَع في أية لحظة، وإن شُقَّة الخلاف بينهما كانت واسعة إلى حدٍّ بعيد، وإن التأثير الذي أحدثه كلٌّ من الشعبين على الآخر لم يكن عميقًا بدرجة محسَّة، وبخاصة من الجانب الإغريقي، وذلك لأن الشعب المصري — كما نعلم — كان متمسكًا بمصريته إلى أقصى درجة من حيث التقاليد الدينية، وطرق الحياة التي مارسها منذ آلاف السنين؛ وذلك في حين نشاهد أن الشعب المستعمر وهو الشعب المقدوني الإغريقي كانت له حضارته النامية، وهي التي أخذ ينشرها في مصر وغيرها من بلدان آسيا، وقد أخذت هذه الحضارة تتطور على مرِّ الأزمان، وأخذ المستعمرون يفيدون منها على حساب الشعب المصري المستضعف، لدرجة أن أصبحت البلاد المصرية ضيعة يستغلها ملوك البطالمة لأنفسهم ومن حولهم لحسابهم الخاص، في حين كان الشعب المصري يئنُّ تحت عبْء الفقر والحرمان من جرَّاء الضرائب الفادحة، وسوء المعاملة في بلاده هو.
وعلى أية حال ازدهرت على ضفاف النيل حضارة هيلانستيكية على حدة كان لها شأن عظيم من حيث تقدُّم العلوم الإغريقية، والآداب الإغريقية؛ فكانت في الواقع مدينة إغريقية لحمًا ودمًا، ولا تمُتُّ إلى الحضارة المصرية في شيء اللهمَّ إلا ما نقله المستعمرون الإغريق منذ أزمان طويلة مضت.
ومما يُؤسَف له جد الأسف أن الشعب المصري لم يَسِر في ركب الحضارة مع المقدونيين والإغريق الذين استعمروا البلاد، بل ظلَّ جامدًا قابعًا في عقر داره منعزلًا عن العالم الخارجي وعن المستعمر الذي كان لا يتصل به إلا في فلاحة الأرض والأعمال اليدوية الأخرى التي كانت تحتاج إلى مجهود بدني؛ هذا بالإضافة إلى أن أكبر سبيل للتفاهم بين الشعبين وهي اللغة كانت معدومة بينهما؛ وذلك لأن الإغريقي كان لا يُقدِم على تعلم اللغة المصرية، لأنه لم يكن في حاجة إليها؛ لأنه السيد، وأكثر من ذلك، لأنها كانت لغة معقدة صعبة حتى على أهلها، ولا نزاع في أن عدم اختلاط المصري بالعالم الخارجي وقتئذٍ يرجع أصله إلى عامل اللغة.
(١) اللغة الديموطيقية
لا نزاع في أن اللغة المصرية القديمة لم تكن من السهولة بحيث يمكن كتابتها وقراءتها مثل اللغات الأخرى التي كانت متداولة في العهد البطلمي، ولا غرابة في ذلك فإن هذه اللغة كانت ولا تزال — حتى يومنا هذا — غاية في الصعوبة، فالذين يعرفون هذه اللغة من بين علماء الآثار — وبخاصة في مصر — هم نَفَر قليل جدًّا لا يُعَدون على الأصابع؛ هذا فضلًا عن أنها لم تظهر وتنتشر في مصر إلا في فترة كانت فيها الحضارة المصرية بالنسبة للمدنية الإغريقية شيئًا لا يكاد يذكر؛ ومن أجل ذلك كان تعلُّم هذه اللغة في عصرنا الحاضر لا يُعَد بالموضع الهام لأؤلئك الذي لا يبحثون إلا عن تاريخ مصر من الوجهة الإغريقية في مصر.
وعلى أية حال فإن الاهتمام بالشعب المصري، ودراسة تاريخه، وحياته الاجتماعية أخذت تشغل بعض الشيء مكانة في بحوث بعض علماء الآثار، وذلك على الرغم من صعوبة اللغة الديموطيقية التي دُوِّنت بها حضارة المصريين القدامى في تلك الفترة من تاريخهم؛ غير أن الاهتمام بالديموطيقية لم يكن مُحسًّا إلى الدرجة التي كانت تُبذَل في حلِّ متون اللغة المصرية القديمة في العهود التي سبقت ظهور الديموطيقية، أو لحلِّ المتون الإغريقية بمصر في عهد البطالمة وما قبله بقليل، ولا أدلَّ على ذلك من أن المتحف البريطاني قد بدأ يجمع أوراقًا ديموطيقية منذ عام ١٨٣٤ ميلادية، ومع ذلك فإنه لم ينشر منها إلا بعض وثائق قليلة؛ نشرها العالم الفرنسي «ريفيو» والعالم النمسوي «ريخ» والأثري الكبير «جرفث» وزميله سير «هربرت تومسون».
وقد ظلت الحال كذلك في المتحف البريطاني إلى أن نشر الأثري «جلانفيل» بعض هذه الأوراق عام ١٩٣٩ ميلادية، وهي التي تحدثنا عنها في الجزء السالف، وفي هذا الجزء من مصر القديمة.
وليت الأمر يقتصر على ذلك؛ إذ لدينا فجوة أخرى كبيرة بدأ العلماء في سدِّها، لتساعد على معرفة تاريخ مصر القومي في هذه الفترة؛ وذلك أن اللغة المصرية القديمة، أو بعبارة أخرى: اللغة المقدسة التي كان يستعملها الكهنة ورجال الدين عامَّة في صلواتهم وعباداتهم ومنشوراتهم وفي نقش معابدهم؛ قد دخل عليها عامل جديد قصده رجال الدين، وأعني به عامل الغموض والاحتكار، وتفسير ذلك: أن الكهنة أرادوا أن يقصروا هذه اللغة على أنفسهم، ومن ثَم أخذوا يعبِّرون عن صلواتهم وشعائرهم برموز تختلف في كثير من الأحيان عن تلك التي كان يستعملها المصريون القدامى في نقش معابدهم وفي شعائرهم، لدرجة أن لغة هذا العصر قد أصبحت من الصعوبة بمكان، وأن الذي يعرف اللغة المصرية القديمة جيِّدًا لا يفهم منها إلا القليل، وربما كانت قراءته لها خاطئة، ومن أجل ذلك أخذ علماء الآثار يوجِّهون عناية خاصة لدرس اللغة المصرية القديمة، أو بعبارة أخرى: لغة المعابد ورجال الدين في ذلك العهد بصورة جِدِّية.
ومما يُؤسَف له جد الأسف أن الذين اهتموا بهذه الدراسة قليلون جدًّا، وهم وأولئك الذين يدرسون اللغة الديموطيقية سواسية من حيث العدد، ومن أجل كل ذلك نجد أن المؤرخين الذين أرادوا كتابة تاريخ مصر من الوجهة القومية البحتة قد ألقَوا بأقلامهم عندما اعترضتهم هذه الصعوبات التي لا قِبَل لهم بها في عهد البطالمة، بل تركوا المجال للمؤرخين الهيلانستكيين، وذلك — كما قلنا — لأن مصادر التاريخ المصري القومي القُحَّ قد أعوزهم فهمها، ولا تزال تعوزهم حتى الآن إلى درجة كبيرة جدًّا؛ يضاف إلى ذلك: أن المدنية الهيلانستيكية قد غطَّت على المدنية المصرية وقتئذٍ بما كان لأهلها من علوم وآداب وفلسفة خيَّمت على كلِّ ما سواه في تلك الفترة، وذلك بتشجيع من ملوك البطالمة الذين كانوا في ظاهرهم فراعنة، وفي باطنهم مقدونيين ذوي ثقافة هيلانية بحتة، لدرجة أنه لم يصادفنا حتى الآن ملك من هؤلاء البطالمة كان يعرف اللغة المصرية القديمة؛ هذا إذا استثنينا الملكة «كليوبترا» التي خُتم بها عهد البطالمة، فقد قيل: إنها كانت تتكلم المصرية أي الديموطيقية.
والواقع أنه حتى يومنا هذا لم يحاول مؤرخ واحد كتابة تاريخ مصر من الوجهة القومية المصرية في عهد البطالمة، بل كل ما كُتِب ينحصر في تاريخ الإغريق في مصر دون الإشارة بصورة جدية إلى الدور الذي لعبه الشعب في تلك الفترة الطويلة من تاريخ أرض الكنانة؛ ومن أجل ذلك أصبحت العناية بدرس اللغة الديموطيقية ودرس النصوص المصرية القديمة في عهد البطالمة من الأهمية بمكان من الوجهة القومية؛ من أجل ذلك أصبح من الواجب على من أراد أن يتتبع خيوط المدنية الفرعونية التي تظهر للقارئ العادي أنها قد قُطِّعت، وتفكَّكت عُراها بحلول البطالمة ومعهم مدنيتهم الهيلانستيكية في مصر؛ تعلُّم اللغة الديموطيقية، ومنذ عهدٍ قريب أظهر بعض علماء اللغة المصرية عامةً ميلًا عظيمًا لدرس اللغة الديموطيقية، وكذلك درس اللغة المصرية الخاصة بعهد البطالمة، وما ذلك إلَّا لأنهم وجدوا أن درس هاتين اللغتين يقدِّم معلومات ثمينة لمعرفة حياة الشعب المصري من كل الوجوه في هذا العهد الطويل؛ هذا بالإضافة لما نعرفه من المصادر الإغريقية، وما كتبه لنا المؤرخون القدامى بوجه عام.
(٢) الوثائق الديموطيقية
اتَّضح من درس الوثائق الديموطيقية التي حُلَّت رموزها حتى الآن أنها تحتوي على قصص شيِّقة تُعَد من روائع الأدب، كما تحتوي على متون دينية تضرب بأعراقها إلى أصول العقائد المصرية القديمة، ومتون سحرية، ووثائق خاصة بالنجوم، ومتون قضائية تشمل عقود بيع وشراء، ورهن ووصايا، وزواج وطلاق، وقوانين دينية ودنيوية، وإيجارات أطيان وبيوت ووظائف، وقسمة ومشاركة، وضمانات منوَّعة، وبيع وظائف … وغير ذلك مما كان يجري في تلك الفترة من معاملات، ولا نزاع في أن كل هذه المعاملات تعكس ضوءًا ساطعًا على سرِّ الحياة في هذا العهد، وما كان للشعب المصري من تقاليد وعادات خاصة به في تلك الفترة التي دُوِّنت فيها هذه الوثائق.
ولا نزاع في أن المتون الديموطيقية الخاصة بالشئون القانونية، وهي التي قد بقيت مهملة من جانب علماء الآثار في تلك الفترة، وكان أول من أبرز أهميتها بعد الأثري الكبير «بركش» الذي أرسى قواعد هذه اللغة ووضع لها أجرومية؛ الأثري الفرنسي «يوجين ريفيو» فقد خصص معظم دراساته لهذا الفرع من العلوم المصرية القديمة، وله فيها مؤلفات تعد الأساس الأول لدرس القانون المصري في هذه الفترة، ولا يكاد يشك إنسان في أهمية ما أنتجه في هذا الباب، وبخاصة عندما نعلم أن المصريين القدامى كانوا هم السابقين في هذا المضمار، وقد قفا الرومان أثرهم، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن المصريين القدامى هم الذين وضعوا الأسس القانونية القويمة للعالم المتمدين، وعنهم أخذ الإغريق كما أشرنا إلى ذلك في غير هذا المكان، ومن أجل ذلك فإن درس القانون المصري يعد من المعلومات التي لا غنى عنها لمن أراد أن يدرس القانون الروماني درسًا مقارنًا.
هذا فضلًا عن أن هذه القوانين المصرية تُعتَبر عنصرًا أساسيًّا لمن يريد فهم الحياة المصرية القديمة في تلك الفترة من الوجهتين الاجتماعية والاقتصادية كما جاءت في المتون الديموطيقية؛ وذلك لأنها تلقي ضوءًا ساطعًا على مركز السكان المصريين، وبخاصة أهل الوجه القبلي ومصر الوسطى الذين كانوا يُعَدون شبه منعزلين عن الوجه البحري وعن الإسكندرية التي كانت تعد مدينة إغريقية من كل الوجه، لدرجة أنها كانت تعتبر جزءًا منفصلًا عن سائر البلاد المصرية، وعلى الرغم مما جاء من أخطاء في الترجمة، وفي النقل فيما كتبه «يوجين ريفيو» فإنه لا يزال يعد من أهم المصادر في الوثائق الديموطيقية بوجه عام.
والآن سنحاول، بما لدينا من وثائق ديموطيقية عن مختلف نواحي الحياة المصرية، وهي التي أوردنا ترجمتها أو ملخصها في الأجزاء الثلاثة الأخيرة من هذه الموسوعة، وما يحتويه هذا الجزء الذي نحن بصدده؛ أن نضع صورة عن الحياة المصرية في مختلف الميادين الاجتماعية في تلك الفترة التي أغفلها المؤرخون، وبخاصة في العهد البطلمي.
ولا نزاع في أن هذه الصورة لن تكون كاملة من كل الوجوه، وذلك لأننا لا زلنا في بداية الطريق نحو حلِّ المتون الديموطيقية التي تزخر بها متاحف العالم، والتي لا تزال في جوف تربة أرض مصر. يُضاف إلى ذلك أن ما وصل إلينا من متون ديموطيقية من أرض الدلتا لا يكاد يُذكَر؛ إذ الواقع أن معظم ما وصل إلى أيدينا من وثائق ديموطيقية عُثِر عليه في الوجه القبلي، وبخاصة في إقليم «طيبة»، وكذلك وصل إلينا كثير من الوثائق الديموطيقية من الفيوم ومصر الوسطى، كما أشرنا إلى ذلك عند التحدث عن هذه الوثائق؛ ومن أجل ذلك فإن الصورة التي سنضعها هنا عن الحياة المصرية في تلك الفترة لن تكون كاملة شاملة بل معظمها محلِّية.
وقبل أن نتناول الوثائق الديموطيقية التي يرجع تاريخها من أول «الإسكندر» حتى نهاية عهد «بطليموس» الرابع؛ بالبحث والتحليل، لا بد لنا من أن نرجع إلى أصول الموضوعات التي سندرسها هنا منذ ظهور الكتابة الديموطيقية؛ أي منذ عهد الأسرة الخامسة والعشرين مقتفين في ذلك أثر تدرج الوثائق وتطورها على حسب الأحوال الاجتماعية والسياسية التي اجتازتها البلاد.
(٣) وثائق المعاملات وتطورها
وقد بقيت الحال كذلك حتى فتح «شبكا» الكوشي البلاد المصرية حوالي عام ٧٥٠ق.م ومنذ ذلك العهد نجد أن الوثائق الديموطيقية القانونية أخذت تظهر فُجاءَة في مجموعات قوية تتخللها فجوات من الزمن منقطعة، وبخاصة في الفترة التي حاربت فيها مصر بلاد الفرس وبعد موت «دارا الأول» حتى عهد «دارا الثالث».
وكانت هذه الوثائق تؤلف على وجه التقريب سلسلة من الكتابات الديموطيقية والآرامية والإغريقية والقبطية والعربية، إلى أن بطل استعمال البردي في الكتابة في القرن التاسع بعد الميلاد، والتباين الظاهر في هذه الوثائق يحتِّم وجود بعض التغيُّر القانوني أو التجاري في الوقت المذكور في الوثائق، ومن الجائز أن نعترف بأن كل قرن في حياة بردية يضيف إلى ما قد يصيبها أو يعرِّضها إلى خطر الفناء، حتى إذا سلمت من خطر الرطوبة والأرضة والنار، وهذه عوامل قد أفنت ملايين من هذه الوثائق التي لم يبقَ منها لنا إلا عدد قليل، وعلى أية حال فإن قِدم هذه البرديات العظيم وحده لا يمكن أن يفسِّر لنا قلة الوثائق القانونية من العهود القديمة؛ وذلك لأنه قد بقي لنا عدد كبير من البردي من أنواع أخرى.
ومن الجائز أنه لدينا أسباب عدة تبرهن على زيادة الوثائق القانونية، فُجاءَة في عهد الأسرة الخامسة والعشرين؛ فمن ذلك ازدياد الحركة التجارية بحرًا وبرًّا في خلال الألف سنة الأولى قبل الميلاد مما حتَّم قيام طبقة غنية من التجَّار، وسبَّب تبادل الملكيات من كل نوع بسرعة بين أفراد الشعب؛ يضاف إلى ذلك أن الاتصال بأهالي فينيقيا وغيرهم من قوم الجنس السامي الذين كانوا رجال أعمال وتجارة واسعة؛ قد فتح أعين المصريين إلى ضرورة إتقان معاملاتهم.
ومهما يكن من أمر حتى إذا اعتبرنا بيان «ديدور» بأنه لا قيمة له، فإنه يمكن أن نأخذ بالإشارة التي يقدمها لنا هنا متنه؛ وذلك لأنه يتفق تمامًا مع الحقائق المعروفة، وإذا تركنا جانبًا التفاصيل فإنه في استطاعتنا أن نعترف أنه حوالي سنة ٧٥٠ق.م كانت طريقة عدم الدقة في تسجيل الأمور القضائية التي كانت حتى هذه اللحظة عادية قد لوحظت في مصر السفلى، وذلك أنه حتى هذا الوقت كانت الاعترافات الرسمية، وهي عقد الأيمان أمام الشهود والمجالس، وبخاصة أمام مجالس المدينة ومشايخ القرية والموظفين؛ السلاح الرئيسي للعقد القانوني والمعاملات، ومنذ هذا الوقت فصاعدًا نجد أن التسجيل كتابةً كان صاحب المكانة الممتازة، ولا غنى عنه في المعاملات.
ومن ثَم نجد أن كثرة الوثائق القانونية نسبيًّا في عهد الأسرة الخامسة والعشرين وما بعدها يرجع أصلها طبيعيًّا أولًا إلى ازدياد عدد المعاملات، وإلى الحاجة الملحَّة إلى سجل مدوَّن.
(٤) الأوراق البردية المبكرة
والآن يتساءل المرء ما هو أقدم عهد سُجِّلت فيه الكتابة الديموطيقية؟
والجواب على هذا السؤال لا يمكن تحديده بصورة قاطعة؛ وذلك لأن الكتابة الديموطيقية — كما وضحنا ذلك من قبل — هي عبارة عن التطور الطبيعي للكتابة الهيراطيقية بصورة أكثر اختصارًا، ففي بعض الوثائق القانونية التي عُثِر عليها في «طيبة» منذ عهد الأسرة العشرين يمكن وجود فقرات خطية غاية في الاختصار تظهر فيها مميزات الخط الديموطيقي، وتدل شواهد الأحوال على أن كلًّا من الكتابة واللغة قد أخذت تتغير منذ ذلك العهد حتى الأسرة الواحدة والعشرين، وذلك على الرغم من أن الجزء الأعظم من المتون التي وصلت إلينا كان دينيَّ الصبغة، وقد حافظت على صورتها الهيروغليفية أو الهيراطيقية. والواقع أن الأوراق البردية التي كُتِبت بخطٍّ مبسَّط من عهد الأسرة الواحدة والعشرين نادرة جدًّا، والسبب في ذلك: هو أن ما وجد من العهد الذي تلى لم يكد يمثل — فيما وصل إلينا من متون — المجاميع البردية الخاصة بهذا العهد.
غير أن الكتابات العادية على البردي أخذت من جديد عند نهاية القرن الثامن تظهر وبها وثائق قانونية مؤرخة بالأسرة الخامسة والعشرين، أو بعبارة أخرى العهد الكوشي، ومن ثَم أخذ يُطلَق على كل هذه الوثائق تسهيلًا للأمور لفظة ديموطيقية، وذلك على الرغم من وجود بعض الأشكال الهيراطيقية سائدة في نفس الوثيقة المكتوبة بالديموطيقية، والواقع أنه قد لوحظ أن الأوراق البردية التي مصدرها طيبة حتى عهد الملك أحمس الثاني قد حافظت على أسلوب كتابة لا يكاد يُطلَق عليه لفظ هيراطيقي، غير أنه قد اتخذ طريقًا أخرى مختلفة في تطوره عن الديموطيقي، ولكن شيئًا فشيئًا اندمج في الأخير، وهذا النوع من الكتابة قد عُبِّر عنه عند علماء الآثار المصرية الأحداث بعبارة الهيراطيقية الشاذة، ولا بد أن الخط الديموطيقي الحقيقي قد نما واكتمل في مصر الوسطى والوجه البحري.
وتسهيلًا للفهم يمكن أن تُميَّز الوثائق الديموطيقية التي يرجع تاريخها إلى ما قبل الدولة المقدونية بالديموطيقية المبكرة، وذلك على الرغم من وجود بردية فريدة في بابها في متحف «اللوفر» مؤرخة بعهد دارا الثالث، وليس لها علاقة من حيث الصيغ والأسلوب في الكتابة؛ ليجعلها منفصلة عن الأوراق التي من عهد «الإسكندر».
وقد وضع لنا الأثري «ريفيو» فهرسًا في عام ١٨٩٦ ميلادية، هذا بالإضافة إلى ما نشره بعد ذلك، يحتوي على مائة وثيقة كتبت بالخط الهيراطيقي الشاذ، وبالخط الديموطيقي طبعي، هذا فضلًا عن أنه قد نشر حوالي أربعين وثيقة منسوخة غير أنها تحتوي على أخطاء.
ويحتوي متحف اللوفر على أكبر مجموعة تشمل خمسين عددًا، ويتلو متحف «اللوفر» من حيث عدد الأوراق البردية متحف «تورين» الذي يحتوي على إحدى عشرة بردية، ثم مجموعة «جون ريلندز» وتحتوي على تسع برديات. أما المتحف البريطاني، ومتحف برلين، ومتحف القاهرة، ومكتبة جامعة «ستراسبورج» ومكتبة «باريس» الأهلية فتحتوي كل منها على عدة برديات، هذا إلى وجود أمثلة فردية في متحف «الفاتيكان» ومتحف «فينا» ومجموعة «جولنيشيف» في «لننجراد»، ويلفت النظر هنا أنه على الرغم من أن عدد الإضمامات التي في مجموعة «ريلندز» يظهر صغيرًا بجانب ما وُجِد في متحف «اللوفر» فإنه يوجد ثلاث من بينها عظيمة الحجم أكثر من المعتاد، كما أنه توجد رابعة كبيرة جدًّا مكتوبة بخط صغير لدرجة أنه يمكن القول إن المتون التي تحتويها مجموعة «ريلندز» التسعة قَدْر ما في كل إضمامات البردي الديموطيقية التي ترجع إلى العهد المبكر الموجودة في متحف «اللوفر» بما في ذلك حتى أسماء الشهود التي على ظهر البرديات.
هذا، ولا بد أن نقول صراحة إن الأستاذ «ريفيو» قد قدم لعلماء الديموطيقية خدمة كبيرة بما قام به من نشر الأوراق الديموطيقية المبكرة منذ عام ١٨٨٥ حتى عام ١٩٠٢م من عهد الأسرة السادسة والعشرين، والعصر الفارسي منذ أول حكم «دارا الأول» و«دارا الثالث». هذا بالإضافة إلى وثائق أخرى غيرها من تلك الفترة وما قبلها، وقد ترجمنا معظمها في الجزأين الثاني عشر والثالث عشر من هذه الموسوعة على حسب ترتيبها التاريخي.
(٥) مجموعة الوثائق الهيراطيقية الشاذة
وقد أمكننا من درس الوثائق المصرية وترجمتها أن نضع لها الترتيب التالي بصورة عامة؛ وذلك أن نموَّ الصيغ التي كانت تُكتَب بها هذه الوثائق قد اختلفت من عصر لعصر، وقد وصلت إلى تطور عظيم قبل قضاء «الإسكندر» على الدولة الفارسية، ومن أجل ذلك نجد أن الوثائق التي من عهد «دارا الأول» تختلف اختلافًا بيِّنًا جدًّا عن تلك التي دُوِّنت في العهد المقدوني، والواقع أنها تقدمت أكثر من حيث مادة الصيغ عن التي دُوِّنت في عهد الملك «أحمس الثاني»، ومع ذلك نجد في وثائق أحمس هذا كثيرًا من النقاط التي تتقابل فيها مع وثائق العصر البطلمي، ومن جهة أخرى نلحظ أنه عندما نرجع إلى الوراء حتى عهد الأسرة الخامسة والعشرين، أي العهد الكوشي، فإنا لا نكاد نجد أيَّ أثر لصيغة نهائية ثابتة لهذه الوثائق. هذا إذا استثنينا التاريخ الذي تؤرخ به الوثيقة والصيغة الافتتاحية للطرفين المتعاقدين، وهي التي فيها: «يقول الطرف الأول للطرف الثاني.» هذا إلى وجود أسماء الشهود في نهاية الوثيقة.
وتدل الموازنة على أنه يوجد وجه شبه، بل أكثر بين العقود البطلمية، والتي من عهد «أحمس الثاني» كوجه الشبه الذي يوجد بين عقود «أحمس الثاني» والتي من عهد الملك «تهرقا»، وهذه الحقيقة قد أصبحت واضحة لنا وضوحًا بيِّنًا عندما رأينا أن معظم عقود الملك «بسمتيك الأول» وحتى بعض عقود «أحمس الثاني» قد اتبعت التقاليد التي سارت عليها عقود «تهرقا» وذلك بأنها كانت مميَّزة تمامًا من حيث الكتابة والصيغ عن سائر عقود «أحمس الثاني».
وعلى ذلك يمكن أن نفصل مجموعة الوثائق التي تنتمي إلى عهد «تهرقا» عن التي سمَّاها «جرفث» الهيراطيقي الشاذ، والواقع أنها من حيث الخط مميزة بدرجة عظيمة، غير أنها خارجة عن خط سير تطور الكتابة الديموطيقية، وذلك لأنه توجد كتابة مشابهة لها من عهد الأسرة الواحدة والعشرين والثانية والعشرين في أوراق بردية وُجِدت في طيبة، وهي محفوظة الآن في برلين. أما من حيث اللغة فإنها أقدم من أول سلسلة برديات ديموطيقية عادية ظهرت، ولكنها قريبة من أوراق الأسرة الواحدة والعشرين الطيبية.
هذا وتحتوي كل هذه الوثائق تقريبًا على عقد يمين بالإله «آمون» والفرعون، وهذا أمر غير معروف في كل الوثائق إلا في أقدم سلسلة عقود من طراز العقود الديموطيقية العادية. يضاف إلى ذلك أن الشهود في سلسلة العقود الديموطيقية العادية يوقعون مجرد أسمائهم، إلا عندما يعيدون كل صورة العقد بحذافيره، وفي سلسلة عقود الهيراطيقية الشاذة يستعمل الشهود صيغة تشهد بصحة كل ما هو مكتوب أعلاه أو ما يشبه ذلك، ثم يؤرخون الوثيقة.
وفي غالب الأحيان يقتبسون بعض أجزاء هامة من العقد نفسه، ويُلحَظ أن الوثائق المكتوبة بالخط الهيراطيقي الشاذ تبتدئ بتاريخ السنة التي يحكم فيها الملك دون ذكر اسم الملك كأنه أمر معروف ولا ضرورة لذكره. أما العقود الديموطيقية العادية فإنها تؤرخ كل وثيقة ولو كانت غير هامة باسم الملك حتى بداية عهد البطالمة. ومن المحتمل أن أهم خاصية تمتاز بها الوثائق الديموطيقية الشاذة هي أن الثمن بالنقد الفضي يُذكَر دائمًا بصورة واضحة على لسان المشتري أو المستلف في هذه الأوراق، في حين أنه في الوثائق العادية نجد على الرغم من أن الثمن يُشار إليه بأنه دُفِع فضة فإن مقداره لسوء حظ الأثريين المصريين يحذف دون استثناء تقريبًا، وقد يرجع السبب في ذلك إلى الخوف من الإجحاف ببيوع مستقبلة؛ وذلك بذكر بيان ليس بالشيء الجوهري للعقد.
والواقع أن كل المتون المدونة بالهيراطيقية الشاذة يمكن البرهنة على أنها جاءت من منطقة «طيبة» وذلك ببراهين من صلب الوثائق، وفي حالات قليلة يعزز ذلك المكان الذي وجدت فيه الوثيقة. يضاف إلى ذلك أنه ليس لدينا أي برهان على أن أية وثيقة منها جاءت من مكان آخر، وكل ما لدينا من أدلة يبرهن في الواقع على أن «طيبة» تكاد تكون هي المصدر الوحيد للعقود التي في متناولنا حتى أوائل العهد البطلمي. هذا وليس لدينا وثيقة واحدة من وثائق طيبة المنشورة ومؤرخة قبل «أحمس الثاني» قد دُوِّنت بالخط الديموطيقي العادي.
ومن جهة أخرى نجد أن كل المتون التي عُثِر عليها في «الحيبة» بمصر الوسطى، وترجع إلى السنة الواحدة والعشرين من عهد «بسمتيك الأول»؛ قد كتبت بالخط الديموطيقي العادي، وذلك على الرغم من أن أقدم كتابة من هذا النوع كانت بالخط الهيراطيقي، وعلى ذلك فإنه من الواضح أن الخط الهيراطيقي الشاذ سواء أكانت وثائقه من طيبة في الأصل أم لا، فإنه متناسل من هيراطيقي الأسرة الثانية والعشرين، وأنه ظل باقيًا في منطقة طيبة المحافظة، في حين أن الأسلوب العادي كان يشق طريقه نحو الجنوب من الوجه البحري كما هو المحتمل؛ وأنه قد حل محله في منطقة «طيبة» الخط الديموطيقي العادي في عهد حكم «أحمس الثاني» الطويل الأمد، وقد ذكرنا كل هذه الوثائق التي دُوِّنت بالخط الهيراطيقي الشاذ، والتي بالخط الديموطيقي العادي في الجزأين الثاني عشر والثالث عشر من مصر القديمة.
(٦) السجلات الرسمية للوثائق
وقد دلَّ الفحص الدقيق على أن هذه الوثائق كانت تُحفَظ دون أي شك في سجلات رسمية، وأخرى خاصة بكل أسرة من الأسر صاحبات الشأن على ما يظهر.
وقد كانت تُحفَظ هذه السجلات في إدارات خاصة منذ أقدم العهود، كما يدل على ذلك وجود الألفاظ والتعابير الدالة على هذه الإدارات وموظفيها، ولكن مما يُؤسَف له كثيرًا أن الحفائر التي عُمِلت في مصر لم تكشف لنا عن وجود مبانٍ لسجلات فعلية من هذا النوع، وقد حاول بعض الأثريين إثبات وجود سجلات في مدينة «هابو» وذلك على أثر الكشف عن أوراق بردية كبيرة الحجم جدًّا قيل إنها جاءت من سجلات «جمي» (مدينة هابو الحالية)، ولكن دلَّت كل الشواهد والأحوال على أن هذه الأوراق التي نُسِبت إلى مدينة «هابو» لم تكن في الواقع قد جاءت منها، وكل ما نعرفه أن معظم هذه الأوراق قد اشتُري من تجار الآثار الذين تعودوا تضليل الأثريين فيما يتعلق بالأماكن التي عُثِر فيها على الآثار المعروضة للبيع، وعلى ذلك فإن معرفة مصدر أية قطعة أثرية مسروقة كان في معظم الأحيان من أصعب الأمور وأخفاها، وربما كان الملجأ الوحيد لمعرفة قيمة الأثر هو ما عليها من نقوش، وحتى في هذه الحالة قد لا يتوصل الإنسان إلى المكان الذي كُشِف فيه الأثر.
(٧) الوثائق الديموطيقية التي تنسب إلى عهد البطالمة الأول
وعلى أية حال لدينا معلومات عن بعض المجموعات الديموطيقية التي عُثِر عليها في طيبة، وقد ترجمنا معظمها فيما سبق، غير أنها مجموعات خاصة لأُسَر، كما تدل شواهد الأحوال على ذلك عند الكشف عنها؛ وذلك لأنها كانت توجد في جِرار من الفخار مدفونة تحت رقعة مسكن، أو مودعة في مكان خفيٍّ في أحد أركان السكن، وهذه كانت عادة مصرية توارثها القوم جيلًا عن جيل في كثير من الأسر.
ولدينا عدة مجموعات من الوثائق تُنسَب إلى أُسَر بعينها من العهد البطلمي كُشِف عنها في طيبة، وأهم هذه المجموعات ما يأتي:
(٧-١) مجموعة اللوفر
تدل محتويات هذه المجموعة على أنها مستخرجة من مدينة «طيبة»، ويرجع الفضل في كشف النقاب عن محتوياتها، وحلِّ رموزها من الوجهة القانونية إلى الأثري الفرنسي «يوجين ريفييو» الذي أشرنا إليه فيما سبق، والواقع أنه أول من حاول بصفة جدية ترجمة العقود الديموطيقية والوثائق القانونية بوجه عام، فقد نشر سلسلة من الأوراق البردية البطلمية المستخرجة من طيبة.
وُلِد هذا العالم عام ١٨٤٣ ميلادية، وتعلَّم اللغات الشرقية، واللغة المصرية القديمة على أستاذه «مسبرو» وفي عام ١٨٦٧م تخصص في الديموطيقية، والظاهر أنه نقل كل ما وقع تحت بصره من كتابات ونقوش ديموطيقية، ونشر عددًا عظيمًا من المتون والمقالات، غير أنه كان متسرعًا غير منظم؛ مما أدى إلى ارتكاب أغلاط عدة في مؤلفاته، وفي عام ١٨٨٠م أسَّس مجلة أطلق عليها اسم «المجلة المصرية»، وقد كتب معظم محتوياتها بخط يده، وقد استمر يناضل في ميدان حلِّ رموز اللغة الديموطيقية، وبخاصة من الوجه القانونية حتى عام ١٩١٢ م، وهي السنة التي مات فيها في باريس، وعلى الرغم من أن النسخ الديموطيقية التي نقلها «ريفيو» كانت مليئة بالأخطاء؛ مما أدى إلى نقد العلماء الذين جاءوا بعده لأعماله، وكذلك نقد التراجم التي وضعها للنصوص، فإن ما خلَّفه لنا من تراث علمي لا يزال له أهميته الأساسية في هذا المضمار، وذلك لأنه يعد حتى الآن المصدر الوحيد لعدد كبير من الوثائق المنشورة لدى العلماء المشتغلين بالديموطيقية، ومن أجل ذلك فإنه من المرغوب فيه بصورة جدية أن يعاد طبع أعماله هذه طبعة علمية مع صورها الفوتوغرافية على النسق الحديث.
ويرجع الفضل في الوصول إلى هذه النتيجة إلى الأستاذ «جلانفيل» كما أشرنا إلى ذلك من قبل في الجزء السابق من هذه الموسوعة. هذا ويرجع الفضل كل الفضل للأستاذ المصري مصطفى الأمير في درس المجموعة الأخيرة بصورة رائعة في كتابه الذي ظهر حديثًا عن أوراق فيلادلفيا. يضاف إلى ذلك: أنه توجد علاقة بين سجل برديات اللوفر، وسجل البرديات المحفوظة بمتحف «برلين» كما سنرى بعد.
(٧-٢) مجموعة «برلين»
(٧-٣) مجموعة مانشستر
نشر هذه المجموعة الأستاذ «جرفث» في كتابه الخالد عن الأوراق البردية الديموطيقية الموجودة في مكتبة «جون ريلندز»، وهذا المؤلف يعتبر عمدة لكل من أراد درس اللغة الديموطيقية، وذلك على الرغم من تقادم العهد على طبعه.
(٧-٤) مجموعة الأوراق البردية الديموطيقية الموجودة بالمتحف البريطاني
(٨) الأوراق البردية التي في مجموعة «كارنرفون»
عثر كل من الأثري «كارتر» و«كرنرفون» في الدير البحري على برديتين في جبَّانة «ذراع أبو النجا» عام ١٩١٢، وهاتان البرديتان تؤرخان بالسنة الرابعة من عهد الملك المصري الذي كوَّن لنفسه ملكًا في داخل مصر في عهد الملك «بطليموس الخامس» وهاتان الورقتان خاصتان ببيع أرض بوصفها جزءًا من هبة للإله «آمون» على الشاطئ الغربي لمدينة «طيبة».
(٨-١) مجموعة أوراق متحف القاهرة
يوجد بالمتحف المصري عدة أوراق من العهد الأول للبطالمة، وقد تحدثنا عنها وترجمناها فيما سبق، ولا يفوتنا أن نذكر هنا من بين هذه الأوراق بردية قصة «ستني خعمواس» التي ترجمناها فيما سبق، وهذه البردية فضلًا عن أنها من أهم القصص الأدبية الرائعة التي خلَّفها لنا المصريون القدامى، فإنها تلقي ضوءًا ساطعًا على عوائد الزواج، والاحتفال به، هذا فضلًا عن أنها تذكر لنا بعض التقاليد التي لا تزال باقية حتى الآن في مصر العليا.
ومما سبق نفهم أنه حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت جبَّانة «طيبة» تكاد تكون المصدر الوحيد للأوراق البردية الخاصة بعهد البطالمة، والواقع أن المجاميع القديمة لا يكاد يوجد من بينها وثيقة لم تكن من «طيبة» أو «منف»؛ وقد استمرت «طيبة» تقدم لنا سنويًّا بعض البرديات من هذا النوع، ولكن الحفائر التي عُمِلت في «البهنسا» والفيوم في خلال أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين قد أسفرت عن محصول غزير من الأوراق البردية الإغريقية والديموطيقية في عدد قليل من السنين يفوق ما قدمته لنا «طيبة» في قرن من الزمان، هذا بالإضافة إلى أنه قد عُثِر على بعض أوراق من هذا النوع في مواقع كثيرة بالوجه القبلي، ولكن بكَمِّية قليلة.
وعلى أية حال نرى مما عرضناه من أوراق بردية أن الشواهد القانونية، والعوائد الاجتماعية كانت أغزر وأوضح في العصر البطلمي أكثر من العهود التي سبقته، غير أن ذلك لم يغير من الطباع والعوائد التي انتهجها لنفسه المصري منذ أقدم العهود فقد استمر يزاولها، ويسير على هديها، ولسنا مبالغين إذا قلنا إن الكثير من هذه العادات والطباع لا تزال موجودة في الوجه القبلي وحتى في الوجه البحري، وبخاصة في الجهات التي لم تدخل فيها المدنية الحديثة.
(٨-٢) موقع جبَّانة «طيبة» في العهد البطلمي
ولحسن الحظ نجد أن نفس البرديات تقدم لنا أحسن البيانات عن هذا الموضوع. حقًّا نعرف الكثير عن جغرافية «طيبة» الواقعة على ضفتي النيل منذ الأسرة الحادية عشرة حتى نهاية الدولة الحديثة، كما أشرنا إلى ذلك في الأجزاء السابقة من «مصر القديمة»، غير أن معالم هذه المدينة أصابها البلى والتخريب بصورة مُحسَّة من جرَّاء ما حلَّ بها من خراب على يد الآشوريين فهُدِّمت مبانيها، وانخفض عدد سكانها، يضاف إلى ذلك أنها في العهد الأخير من حكم البطالمة قد أصابها الخراب الشامل في زمن «بطليموس التاسع»؛ ومن ثَم أصبحت في زوايا النسيان شيئًا فشيئًا، وتضاءل ما فيها من سكان، وتقسموا جماعات، وتناثروا في أرجائها الخربة، وفي النهاية أخذوا ينزوون في حرم المعابد على الشاطئ الأيمن للنيل، أو في القرى التي على الشاطئ الأيسر لهذا النهر.
وكانت «طيبة» في تلك الفترة من تاريخ البلاد لا تزال تُعرَف باسم «ني» (أي المدينة) وحسب في هذه الوثائق الديموطيقية السالفة الذكر.
أما جبَّانة «طيبة» فكانت تعرف بجبَّانة «جمي» وتقع في غربي «طيبة»، ومن ثَم نرى أن كلًّا من المدينة والجبَّانة تتميز الواحدة عن الأخرى، فكان يقال في المتون بيتي في «ني» ومقابري في جبَّانة «جمي». هذا وكان يشار لكل من المكانين بالشرق والغرب؛ فالشرق هو المدينة، والغرب هو الجبَّانة، ولا غرابة في ذلك، فإن المصريين كانوا يرمزون للحياة بالشرق، وللموت بالغرب.
وكانت مدينة «طيبة» على حسب ما جاء في الوثائق الديموطيقية البطلمية مقسَّمة حيَّيْن؛ الحي الشمالي لطيبة، والحي الجنوبي لها، وفي الوقت نفسه نجد أن كلًّا من هذين الحيين ينقسم مساحات صغيرة محددة.
ففي الحي الشمالي جاء ذكر مركزين في المتون الديموطيقية؛ وهما الحي الشمالي لطيبة في بيت البقرة، وقد تحدَّثنا عنه في الجزء الرابع عشر، والحي الشمالي لطيبة عند «بوابة عبادة الشعب» (؟) وكذلك نجد في الحي الجنوبي لطيبة موضعين مميزين؛ الأول: يُدعَى الحي الجنوبي لطيبة في غربي ردهة الإله «خنسو» في «وست-نفر-حتب» على النهر، والآخر يُدعَى الحي الجنوبي لطيبة في شمالي مدينة «أبي» وطريق بولهول للإلهة «موت» على النهر.
ومن ذلك يتضح أن الأماكن التي في الشمال وفي الجنوب من طيبة لا بد كانت دون شك تقع على الضفة اليمنى للنهر.
وقد جاء في الوثائق الديموطيقية ذكر المدارس والسجون في الحي الجنوبي.
(٨-٣) مدينة هابو في العهد البطلمي
لقد ظل اسم مدينة «هابو» يُذكَر في المتون المصرية منذ الدولة الحديثة حتى نهاية العصر الروماني، ولا زالت المباني الدينية لهذه المدينة حتى الآن تُعَد من أفخم وأروع ما خلَّفه المصريون في كل عصور التاريخ المصري القديم.
- (١)
المعبد الرئيسي الذي أقامه «رعمسيس الثالث».
- (٢)
الحرم الداخلي للمعبد المقام من اللبنات.
- (٣)
السور العظيم المبني من اللبنات.
- (٤)
يوجد بين هذين البناءين الأخيرين عدة بيوت لخدم المعبد في الجنوب، وفي الشمال توجد المصالح الإدارية، وحديقة المعبد، والبركة المقدسة.
- (٥)
معبد «آمون» الصغير.
- (٦)
الجدار الخارجي المنخفض، ويبعد نحو ١٢ مترًا من جدار السور العظيم.
- (٧)
البوابة الشرقية المحصنة، وهي التي تسمى المجدل، والميناء، والقناة التي تتصل بالنيل أمام هذه البوابة.
- (٨) البوابة الغربية المحصنة.١٥
وتدل شواهد الأحوال على أن موقعها على حسب ما لدينا من وثائق ديموطيقية ربما كان «دير المدينة» أو «مدينة هابو» فقد ذكر الأثري «برويير» أنه كان يوجد في «دير المدينة» بعض بيوت مِلْك موظفي المعبد وحسب، وليس هناك قرية أو مدينة بالمعنى الحقيقي ازدهرت في العهد البطلمي في هذا الجزء من «طيبة» الغريبة.
أما مقابر العهد البطلمي في هذه الجهة فكانت جبَّانة «ذراع أبو النجا».
(٩) درس صيغ العقود الديموطيقية الطيبية في العهد البطلمي
- (١)
التاريخ.
- (٢)
الطرفان المتعاقدان.
- (٣) صلب العقد نفسه، ويحتوي على:
- (أ)
الصيغة الافتتاحية.
- (ب)
موضوع العقد.
- (جـ)
الصيغة القانونية.
- (د)
المصادقة.
- (أ)
- (٤)
المسجل.
- (٥)
الشهود.
- (٦)
تأشيرة بالإغريقية تدل على أن الوثيقة قد سُجِّلت بوساطة موظفين من الإغريق.
وهذه الأقسام هي التي سرنا على هديها عند ترجمة الوثائق، وذلك تسهيلًا لفهمها دون عناء، وسنتحدث عن هذه الأقسام ببعض التفصيل، وسيرى القارئ أن هذه الوثائق — كما وُجِدت في العهد البطلمي — تتفق في كثير من النقاط مع العقود التي لا زلنا نراها تُحرَّر بأيدي كتبة من أهل القرى الذين ربما كانوا منحدرين من أصلاب أولئك الذين دوَّنوا هذه الوثائق الديموطيقية، وبخاصة الكتبة الأقباط الذين نشاهدهم يقومون بهذه الوظيفة في العِزَب والكُفُور والقرى … وحتى في البلدان الصغيرة، وقد أخذوا طبعًا في الانقراض شيئًا فشيئًا.
-
التاريخ: يحتوي التاريخ في أكمل صورة له في الوثيقة أو العقد البطلمي على ثلاث نقاط.
أولًا: تُذكَر السنة التي كان يحكم فيها الملك عند كتابة الوثيقة، وكذلك الشهر واليوم، ولكن أحيانًا تُذكَر السنة والشهر دون ذكر اليوم، وقد ظن بعض علماء الديموطيقية أنه عند إغفال ذكر اليوم يكون المقصود أول يوم في الشهر، غير أن هذا الزعم ليس إلا مجرد نظرية،٢١ وقد اعتاد مترجمو هذه الوثائق ذكر الشهر القبطي، غير أن المصري قد اتبع في التوقيت الأصلي؛ أي ذكر الفصل، ثم الشهر بالرقم. مثال ذلك: فصل الصيف الشهر الأول … وهكذا، وأحيانًا نجد في بعض الوثائق ذكر الشهر المصري، وما يقابله في الأشهر المقدونية.
يأتي بعد التاريخ اسم الملك الفرعون، والنعوت التي كان يُوصَف بها إذا كان له نعوت، وكذلك زوجه ونعوتها.
وأخيرًا تُذكَر أسماء الكهنة والكاهنات الذين كانوا يُعيَّنون سنويًّا، وتسمى باسمهم السنة، وهذه الكهانة أسَّسها البطالمة في المدينتين الإغريقيتين؛ وهما الإسكندرية و«بطولمايس» وذلك ليكونوا قوة توازن النفوذ السياسي الذي يكان يتمتع به الكهنة المصريون، وقد أسس «بطليموس الثاني» كهنة الإسكندر الأكبر، وكهنة الإلهين الأخوين المتحابين، وكاهنة «أرسنوي» محبة أخيها، وهي المعروفة بحاملة السلة الذهبية (كانيفور)، وهؤلاء الكهنة قد ازدادوا طوال العهد البطلمي؛ وذلك لأن كل ملك كان يُنصِّب عند تولِّيه العرش كاهنًا له وكاهنة للملك، ومما يجب التنويه عنه هنا أنه في الوثائق الديموطيقية البطلمية المبكرة كان يُذكَر فقط أسماء كهنة الإسكندر الأكبر، ولكن منذ عهد «بطليموس الرابع» فيلوباتور كانت تضاف أسماء كهنة البطالمة الذين سبقوه، وهؤلاء الكهنة كانوا بطبيعة الحال من أصل إغريقي، وعلى ذلك كانت تُكتَب أسماؤهم بحروف ديموطيقية بقدر المستطاع، ولما كانت كتابة هذه الأسماء تُسبِّب بعض الصعوبة فإنه كان يُهمَل ذكر الأسماء، ويُكتَفى بالإشارة إليها أحيانًا؛ فنجد مثلًا في وثيقةٍ أن الكاهن قد بدأ — كما هو المعتاد — بذكر سنة الحكم، واسم الملك، واسم كاهن الإسكندر، ثم يقول بعد ذلك: «وباقي كتابة بروتوكول الإسكندرية.» والمقصود هنا بكلمة بروتوكول كل المادة الافتتاحية التي تشمل: التاريخ، والأسماء الملكية، وأسماء الكهنة الحوليين.
وفي وثيقة أخرى بالمتحف المصري٢٢ No. 50149 نجد أن الكاتب بدلًا من ذكر الكهنة الحوليين اكتفى بقوله: و«الكهنة والكاهنات.» ولم يعلم أن أهمية ذكر هؤلاء الكهنة والكاهنات كان عظيمًا جدًّا للتأريخ في الوثائق الناقصة التي ضاع منها اسم الملك، وقد اهتم مؤرخو الأحداث بوضع قوائم لهؤلاء الكهنة والكاهنات الحوليين، فكان أول من وضع قائمة بذلك هو المؤرخ بلومان٢٣ عام ١٩١٢، ثم أكملها بقدر المستطاع سير «هربرت تومسون»؛ وبذلك أصبح في مقدور الباحثين في تاريخ البطالمة أن يضعوا تواريخ محددة بدلًا من الحدس والتخمين بطرق أخرى كالخط٢٤ الذي كُتِبت به الوثيقة.ومما يطيب ذِكرُه هنا أن هذه الطريقة في التأريخ بحوليات الكهنة والكاهنات في العهد البطلمي كان قد سبق إليها الآشوريون، وذلك في عهد الملك «أداد نيراري الثاني» (٩٠٩–٨٨٩ق.م) إذ اتفق أنه منذ عهده قد بدأت قائمة «اللمو» أو الحكام الحوليين تُحفَظ في سجلات في سنين متتالية دون حذف حتى نهاية الإمبراطورية الآشورية، وتفسير ذلك: أن موظفًا كبيرًا — بما في ذلك الملك نفسه — كان يعين مرة في خلال حياته؛ ليخدم لمدة عام واحد بوصفه «لمو»، وكلمة «لمو» تقابل في الإغريقية كلمة Eponym أي الذي يطلق اسمه على شيء، ومن ثَم نشأت القوائم الحولية التي تحتوي على أسماء «لمو» وقد أُطلِق عليها قوانين «لمو» (راجع مصر القديمة الجزء الحادي عشر).وأخيرًا يُلحَظ أن الأوراق البردية الإغريقية كانت تحتوي على عدد كبير من الكهنة والكاهنات الحوليين أكثر مما وجد في الأوراق الديموطيقية، وسبب ذلك — كما قلنا — صعوبة نقل الأسماء الإغريقية إلى الديموطيقية؛ وعلى أية حال فإن ما وجد في كل من الأوراق الإغريقية والديموطيقية يكمل بعضه بعضًا.
-
الطرفان المتعاقدان: لقد حرص المصري كلَّ الحرص على إظهار شخصية كل من المتعاقدين بصورة لا تقبل الجدل؛ ومن
أجل ذلك جرت العادة ذِكْر اسم كل من الطرفين مع ذكر اسمَيْ والديه، فيقال: فلان ابن فلان
وأمه
هي فلانة، يقول لفلان ابن فلان وأمه هي فلانة؛ هذا بالإضافة إلى ذكر وظيفة كلٍّ من الطرفين
أو
حرفته، وفي بعض الأحيان كان يُذكَر الواحد منهم بالاسم المشهور به.
هذا ونجد في الوثائق الديموطيقية المبكرة أن النموذج المتَّبَع كان واحدًا؛ ولكن منذ عهد الملك «أحمس الثاني» وما بعده نجد أن اسم الأب والأم يذكران باستمرار في كل من الطرفين.
وربما كان السبب في ذلك هو أن كلًّا من المتعاقدين كان يحمل نفس الاسم، وفي عهد البطالمة نجد أن الأطراف المتعاقدة تميَّز بوظائفهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم كما كانت الحال في العهد الأول في النصوص الديموطيقية، أو الهيراطيقية الشاذة، ونجد كثيرًا أنه كان يضاف لأحد الطرفين لقبه الذي كان يُنادَى به بين عشيرته.
ويُلحَظ كذلك في هذه الوثائق أن جنسية المتعاقدين من غير المصريين كانت تُذكَر فيقال فلان الإغريقي، أو الإغريقي المولود في مصر، أو الكوشي أو الفارسي المولود في أرض الكنانة، وحتى في الوثائق التي ترجع إلى أصل طيبي نجد المصري الذي ينسب إلى هذه المدينة كان زيادة في الدقة يوضح أصله بنسبة نفسه إليها، أو إلى أية بلدة جاء منها، فيقال: فلان الطيبي أو الأسواني أو الأشموني، وهذه نسب نسمع بها في أيامنا كثيرًا، فيقال: فلان المنصوري أو الفيومي.
أما في الوثائق التي ترجع إلى عصر البطالمة المتأخر فنصادف كثيرًا أوصافًا تحدِّد الأطراف المتعاقدة، وتنطبق في عهدنا على أوصاف التشبيه الذي يحدث في أيامنا عند استخراج بطاقة الشخصية ففي ورقة في «برلين»٢٥ نقرأ أن أحد الطرفين المتعاقدين وُصِف بأنه يبلغ من العمر أربعين عامًا، وأنه قوي أسود اللون أعور، وعلى جبينه ندبة، وفي ورقة أخرى في متحف «برلين» كذلك٢٦ وُصِفت امرأة بأنها تبلغ من العمر ٣٣ عامًا، متوسطة القامة، لونها لون الشهد، وشعرها طويل.وقد لوحظ أنه عندما كان الطرف الأول يحتوي على أكثر من شخص واحد فإنه بعد ذكر أسمائهم وذكر أسماء آبائهم وأمهاتهم تأتي عبارة تدل على أنهم على تفاهم تام في موضوع العقد، فيقال إنهم يتحدثون «بفم واحد».
وعندما كانت توجد صلة قرابة بين الطرفين المتعاقدين فإن هذه القرابة كانت تُذكَر، ويستمر الطرف الأول يخاطب الطرف الثاني بقرابته له في صلب العقد، وهذه الصلة يكون التعبير عنها سهلًا ميسورًا عندما تكون بين الأبناء والبنات والإخوة والأخوات؛ ولكن تصبح صعبة عندما تتعدَّى القرابة ذلك، ويرجع السبب في ذلك إلى أنه لا توجد في اللغة الديموطيقية ألفاظ تعبر عن ابن العم والعم أو العمة أو بنت العمة وابن الأخ (كما هي الحال كذلك في معظم الأحيان في اللغة العربية)، ومن ثَم فإن التعبير عن القرابة يصبح معقَّدًا في صلب العقد عندما تكون هناك إشارة لغير الطرفين المتعاقدين؛ مثال ذلك أنه يقال في مثل هذه العقود: أختي بنت أمي أي أختي من أمي، وبنت أخي الأكبر أي بنت أخي، وابن أخت والدي = ابن الخال، وكذلك يقال والد والدي = جدي، وفلان أكبر أولاد أختي الصغرى من والدي = ابن الأخت، وهكذا فإنه على الرغم من أن هذه التعابير تخدش الأذن بالنسبة لنا، فإنها كانت من الضرورة بمكان لفهم الوثيقة، وصحة شرعيتها.
-
صلب العقد: يأتي بعد ذكر الطرفين المتعاقدين نفس مادة العقد، وما تحتويه من نقاط أساسية، وهذه النقاط
يمكن ترتيبها كالآتي:
- اولا:الصيغة الافتتاحية: وتختلف في ألفاظها على حسب طبيعة العقد، والموضوع الذي يتناوله، وإن كانت بعض العقود
على الرغم من اختلاف موضوعاتها تُفتتَح بنفس العبارة، وعلى أية حال تنحصر موضوعات العقود
الدالة على كُنْهها في أصناف العقود التالية:
- أولًا: عقد اتفاق ببيع: ويُعبَر عن الصيغة الافتتاحية فيه هكذا: لقد دفعتَ لي مبلغ كذا، أو قد جعلتَ قلبي يرضى بقطعة النقد (الفضة) مقابل كذا (وهنا يُذكَر العقار المباع)، وهذه الصيغة نجدها في العقود الخاصة ببيع العقار المنقول والثابت.
- ثانيًا: عقد تنازل، ويبتدئ بالكلمات التالية: «لقد نزلت لك عن حقي فيما يخص كذا.»
- ثالثًا: عقد رهن: مقابل شيء يعادل قيمة المبلغ الذي حُرِّرت من أجله الرهنية، ويبتدئ بالكلمات التالية: إن لك عندي كذا قطعًا من الفضة (أي إني مدين لك بكذا) وذلك مقابل النقود التي تسلمتها منك، وإني سأردها لك في تاريخ معين، وإذا لم أردها في نفس التاريخ فعندئذٍ تكون قد جعلت قلبي يتفق على الثمن نقدًا، وهو الخاص بالرهن كذا (يقصد هنا أنه أصبح لا حق له في الشيء المرهون، وقد رضي الراهن بالنزول عن الشيء المرهون).
- رابعًا: عقد هبة أو تقسيم، ويبتدئ بالكلمات التالية: لقد وهبتك ملكي كذا.
- خامسًا: عقد قسمة: ويبتدئ هكذا: لقد قسمتُ معك وتقاسمتَ معي.
- سادسًا: عقد اعتراف بتسليم نصيب، ويبتدئ بالكلمات التالية: إني راضٍ بنصيبي كذا، وهو الذي خصَّني من كذا.
- سابعًا: عقد سلفية نقود أو غلة أو نبيذ … أو غير ذلك، ويُفْتتَح هكذا في سلفية النقد:
«إني مدين لك.» وفي سلفية القمح مثلًا: لقد استلفت منك كذا إردبًا من القمح أو الشعير،
وربحها محسوب فيها عليَّ باسم الغلة التي أعطيتها.
هذا وقد تطورت عقود السلفية إلى ارتباط بشروط لا بد من الوفاء بها، مثال ذلك عند إقامة مبنى بين جارين يكون فيه أحد الطرفين قد ارتبط بتنفيذ شرط للطرف الثاني، فيقول في ذلك الطرف الأول: إني مسئول أمامك عن كذا، وقد يكون الارتباط خاص بدفع ضرائب للمشرف على الجبَّانة مثلًا، فيبتدئ العقد في هذه الحالة بالكلمات التالية: إني مسئول أمامك بألَّا أسبِّب لك خسارة في موضوع كذا.
- ثامنًا: عقد تعهد بإعادة شيء مُعار (= إعارة)، وفي مثل هذه الحالة يبتدئ العقد بالكلمات التالية: إني راضٍ باللوحة التي أخذتها من يد فلان، وهي التي أعارها لي بمقتضى اتفاق في عام كذا، وليس لي حق عليك فيما يتعلق بهذه اللوحة المدوَّنة أعلاه.
- تاسعًا: عقود إيجار الأطيان وغيرها: وعقود الإيجار تُبْرَم إما لإيجار أراضٍ أو إيجار بيوت أو وظائف كهنة، ويبتدئ العقد في مثل هذه الحالات بالكلمات التالية: لقد أجَّرت لي بيتك مثلًا، أو لقد أجَّرت لك أراضٍ، أو لقد أجَّرت منك أرضك، أو وظيفتك الكهانية … إلخ.
- اولا:الصيغة الافتتاحية: وتختلف في ألفاظها على حسب طبيعة العقد، والموضوع الذي يتناوله، وإن كانت بعض العقود
على الرغم من اختلاف موضوعاتها تُفتتَح بنفس العبارة، وعلى أية حال تنحصر موضوعات العقود
الدالة على كُنْهها في أصناف العقود التالية:
ولما كان موضوع إيجار الأطيان يُعَد من الأمور البالغة الأهمية في مصر بوجه عام منذ أقدم العهود، فإنه لا بد لنا بهذه المناسبة أن نقف قليلًا، ونتحدث عن هذا الموضوع ببعض التفصيل، وبخاصة عندما نعلم أن مصر منذ أقدم عهودها كانت بلادًا زراعية.
والواقع أنه ليس هناك أمة من بين أمم العالم ينطبق عليها بحق أن الزراعة كانت أساس كل ثقافتها مثل مصر الفرعونية، وهذا الحكم يكون له منزلة بالغة الأهمية عندما نقرنه بطبيعة تربتها المنوَّعة، وليس لدينا أي شك في أن مصر تتألف من شريط ضيق من الأرض الميسرة للزراعة، وهي وإن كان المطر لا يسقط في وسط الصحراء التي تُكَنِّفها من الجانبين فإنها مع ذلك تُروَى من ماء نهرٍ مستوٍ منسوب مائه منخفض بالنسبة لمستوى منسوب الصحراء لدرجة أن ريَّها يكاد يكون من الأمور المستحيلة أثناء مدة طويلة من السنة، ومن ثَم فإن هذه البقعة من العالم تبدو في ظاهرها بأنها ليست بالمكان الذي يكون أكثر من غيره مناسبةً لقيام حضارة عظيمة فيه، ومع ذلك فقد أصبح موطن مدنية غاية في العظمة والضخامة والسؤدد.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن طبيعة التربة والنهر والمناخ قد ساعدت على زراعة تلك البقعة، وكذلك وهبتها في الوقت نفسه طبيعتها الخاصة بها المنقطعة القرين، وذلك لأنه فضلًا عما أحدثته الزراعة من تطوُّر اقتصادي مركب، قد قامت فيها حكومة وطيدة ثابتة الأركان؛ فنهر النيل وفيضانه السنوي المنظم على البلاد قد شكَّل بطبيعة الحال تفكير القوم وسلوكهم في مجمل مظاهرهم الحيوية بصورة عامة، ولا غرابة في ذلك فإن نهر النيل قد ربط أجزاء هذه البلاد المستطيلة الشكل المترامية الأطراف بعضها ببعض بوصفه طريقًا من طرق النقل الممتازة، ولما كان فيضان هذا النهر قد يصبح خطرًا إذا زاد عن حدِّه، أو نقص في ارتفاعه عما تحتاج إليه البلاد من ماء، فإنه مع ذلك لم يكن في الوقت نفسه موردًا فيَّاضًا طوال العام لسدِّ حاجة أرض الكنانة؛ مما دعا إلى جعل تكاتف المجتمع المصري وتآزره سويًّا من الأمور الملحَّة لحفظ كيان البلاد وسيرها إلى الأمام، ومن ثَم نشأت الحاجة إلى الشروع في عمل أنظمة للريِّ أخذت تزداد على مرِّ الأيام والدهور حتى آخر مرحلة يقوم بها رجال الثورة، وهو السد العالي الذي يُعَد آخر مظهر من مظاهر تكاتُف الشعب في حفظ كيان أرض وادي النيل وساكنيه، ومن جهة أخرى نرى أن حكومة البلاد كانت تتمتع بحكومة تلائمها وقتئذٍ، وهي ملكية مطلقة؛ وذلك لأجل أن تبقى على كيانها من حيث كل ما هي في حاجة إليه، يُضاف إلى ذلك أن وظائف هذه الحكومة التي كانت تسير على هديها في تلك الفترة قد حتَّمت استخدام الأرض بطرق مفيدة إلى أبعد حدٍّ؛ لأن الزراعة كانت المورد الرئيسي لثروة البلاد.
والظاهر أن الطبقات الدنيا كان معظمها مأجورين يعملون بصفة مستديمة في ضِياع الفرعون، والأغنياء، والمعابد أيضًا (هؤلاء يُسمَّون في عصرنا الحديث «التملية»).
والصورة الاتباعية التي يمكن استخلاصها من المُزارِع في الدولة القديمة وما بعدها هي التي حصلنا عليها من مناظر قبور الأغنياء، وهي التي تمثل لنا صورة الفلاح العامل في أملاك الفرعون، وضِياع الأغنياء، والظاهر منها أن حظَّ هذا الفلاح العامل الكادح كان يسير على حسب خطوطٍ رسمها أصحاب الضِياع، وما لهم من قوة مادية من حيث الثراء والجاه. على أن ما وصل إلينا من وصفٍ تقليدي عن حظِّ الفلاح، وإن كان قد بولغ في تصوير شقائه وتعاسته عندما كان يُقرَن في كتاباتهم بالكاتب الذي كان يتمتع بميزات خاصة في هذا العصر، فإنه كان ينعم ببعض الاستقلال، والواقع أنه كان — لسوء طالعه — عليه أن يهتم بما عساه أن يقع من أخطار الأوبئة، ونمو الأعشاب الطفيلية التي كانت تلتهم غذاء زراعته، وكذلك كان عليه أن يحسب حساب اللصوص، وما قد يحدث من قلة المحصول عندما يباغته الكاتب لتسجيل ضريبة المحصول وجمعه منه في آنٍ واحد، وكذلك كان عليه أن يهتم بالغرامة التي كان يفرضها المشرف على الماشية التي نَفَقت في مزرعته.
ولا نزاع في أن معلوماتنا عن الحالة القضائية والاقتصادية بالنسبة للمزارع المصري القديم ضئيلة إلى حدٍّ بعيد بطبيعة الحال، وذلك لعدم وجود براهين مباشرة في متناولنا في هذا الصدد؛ فمثلًا ليس لدينا اتفاقات زراعية، أو عقود إيجار أرض من العهد الفرعوني قبل الوثائق التي وصلت إلينا من القرن السادس قبل الميلاد؛ يُضاف إلى ذلك أنه لم يصل إلينا وصف ملكية زراعية أو عقد إيجار أرض من العصور المصرية القديمة كالتي نجدها في «بابل» من مجموعة عقود إيجارات هذه البلاد التي كُشِف عنها. على أن عدم وجود مثل هذه الاتفاقات أو العقود من العصور المصرية القديمة الأولى لا يعني أنها كانت لم تحدث فعلًا، أو لم تكن موجودة في هذه العهود، ومن المحتمل أنها كانت موجودة غير أنها لم تكن سائدة بوجه عام، أو قد حدثت كثيرًا بصورة مُحسَّة، والواقع مع كل ذلك أن الغالبية العظمى بين المزارعين المصريين كانت علاقتهم بأسيادهم أصحاب الضياع لا تحتاج إلى إبرام عقد اتفاق بين الطرفين، ولا غرابة في ذلك فإنه على حسب ما وصل إلينا من معلومات مدوَّنة لا توجد إلا وثيقة واحدة من بين الوثائق التي يرجع تاريخها إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد يُشتَمُّ منها رائحة أنها كانت بمثابة عقد إيجار، وهذه الوثيقة هي عبارة عن خطاب يرجع تاريخه للأسرة الواحدة والعشرين (١٠٨٥–٩٥٠ق.م) ويُفهَم من مغزاه أن كاتبه قد أخبر من قبل مؤاجر أرض من مؤاجريه أنه لا يمكنه زراعة بعض أطيانه، وعندما عاد كاتب الرسالة إلى بيته قالت له زوجه بألَّا يستولي على الأرض من المستأجر، بل يجب عليه أن يتركه يستمر في زراعتها. هذا ولا نعرف لماذا نصحت له زوجه — وهي ربة البيت كما يسميها في رسالته — بهذه النصحية، ولماذا قبل نصيحتها في الحال؟ وعلى أية حال نعلم أنه عندما وصلت الرسالة عاد المستأجر إلى زراعة الأرض، وأزال ما فيها من أعشاب ضارَّة، وزرع منها جزءًا خضرًا. هذا ولم يذكر لنا شيئًا عن الشروط التي كانت تُزرَع بها هذه الأرض، ومن المهم على أية حال أن نفهم أن المستأجر كان قد نصح بشدة أن يستعمل الرسالة إذا اعترض عليه في زرع هذه الأرض بمثابة شاهد عدل عند الحاجة.
(٩-١) إيجار الأطيان في العهد الساوي، وقرنها بالإيجارات في العهد البطلمي
ولن نكون بعيدين عن الصواب إذا اعتبرنا عقود الإيجارات التي أُبْرِمت في العهد الساوي وما بعده حتى العهد البطلمي بمثابة إيجارات بالمعنى الحقيقي المعترَف به قانونًا؛ وذلك لأن هذه الإيجارات كانت تُعَد توكيلات؛ لأن صاحب الأرض كان لا يزال هو القابض عليها، وهو الذي يمنح حق استثمارها لمدة معينة في مقابل مبلغ من المال أو المحصول أقل من قيمة الأرض، وهذه الإيجارات لم تكن إلا مجرد أنظمة يكون فيها المؤاجر في الواقع مؤاجرًا لزرع العين مقابل نصيب من المحصول.
وإذا بدأنا بالتحدث عن الطرفين المتعاقدين في عقد الإيجار فإننا لا نجد شيئًا كثيرًا يمكن التحدث عنه، غير أنه قد لوحظ على ما يظهر عدم وجود واحد من المستأجرين كان يُنتَظر منه أن يزرع الأرض بنفسه، وهذا ينطبق كذلك على معظم الإيجارات في العقود الديموطيقية التي حُرِّرت في العهد البطلمي المتأخر. هذا ولما كانت كل عقود إيجار الأرض السبعة التي عُثِر عليها حتى الآن في العهد الساوي ضمن أرض ضِياع الإله «آمون»، وأن بعضها كان كذلك أوقافًا للمتوفَّى، فإنه ليس من المدهش أن المؤجرين كانوا رجالًا يحملون ألقابًا كهانية دون أيِّ شك، ومن جهة أخرى قد يكون من المحتمل أن المستأجرين كانوا أحيانًا من الكهنة أنفسهم، غير أنهم في هذه الحالة كانوا لا بد من طبقة أقل من الكهنة المؤجرين؛ هذا ونجد كذلك أن المستأجر الذي كان يحمل لقب راعٍ كان من أتباع ضَيْعة الإله «منتو»، كما يُلحَظ أن آخر كان يحمل لقب حارس في ضَيْعة نفس الإله «آمون»، ومن المحتمل أن كلًّا منهما قد أجَّر أرضًا من ضَيْعة «آمون» الذي هو في خدمته.
أما الإيجارات التي قبل عهد البطالمة فلم نجد فيها أبدًا وصفًا يحدِّثنا بعدد محدَّد من أرورات الأرض، كما هي الحال عادة في الإيجارات البطلمية، والواقع أنه لما كانت هذه العقود تميل إلى الاقتصاد في ألفاظها، فلم يكن إذن من المهم ذكر مساحة الأرض المؤجرة بالضبط، وذلك لأن قيمة الإيجار كانت تُحدَّد على حسب قسمة المحصول، كما أن الأرض المؤجرة كانت تُعرَف بالاسم الشائع للقطعة أو البقعة التي توجد فيها؛ وكان موقعها العام في ضِياعٍ لمعبد، وفي حالات أخرى كانت تُحدَّد هذه الأرض المؤجَّرة بنوع المحصول الذي يُزرَع فيها؛ فكان يقال مثلًا: أرض «الكتان»، وكان هذا التعريف يعد كافيًا، وبوجه عام لم يكن من الضروري تحديد قطعة الأرض المستأجرة، كما كانت الحال في الإيجارات البطلمية، وعلى أغلب الظن كانت قطع الأرض المؤجرة صغيرة تبلغ ما بين أرورا وخمسة أرورات، كما كانت العادة في الإيجارات المتأخرة. (الأرورا يساوي ٦٨٪ من الفدان الإنجليزي).
والإيجارات المعروفة من العهد الساوي كلها لمدة سنة واحدة، وهذه كانت هي في الواقع القاعدة العامة لكل الإيجارات الديموطيقية الخاصة بالأرض في العهد المتأخر. هذا، وقد وجدنا في عقدين من العهد الساوي أنه قد نُصَّ في العقد ألَّا يترك المؤجر الأرض التي أجَّرها في السنة التي تلي السنة التي حُرِّر فيها عقد الإيجار؛ ولكن لاحظنا أنه في أحد هذين العقدين كان على المستأجر أن يُخْلِي الأرض ويُقِر بتركها في شهر معيَّن، وفي الوثيقة السادسة من هذه المجموعة نجد أنها تحتوي على ضمان أقربة المستأجر، وذلك بأن يتعهد للمؤجر بتوريد الإيجار المطلوب منه عينًا، وإلا عوقب بدفع غرامة، وليس لدينا عقد ضمان مُبرَم من قِبَل المستأجر بألا يترك الأرض مدة الإيجار، وهذه الضمانات لم نجدها مسجلة في العقود البطلمية.
هذا وقد وجد في حالتين بين هذه الإيجارات الساوية — وكان المحصول فيها كتانًا — أن المؤجر قد أخذ الربع من المحصول مقابل زرع أرضه بالكتان، وفي حالة واحدة وجدنا أن المحصول قد قُسِّم مناصفة بين الطرفين المتعاقدين، وكان على كلٍّ منهما أن يدفع نصف الضرائب التي كانت تُفرَض على المحصول للدولة، ولكن في حالات أخرى وُجِد أن المؤجر كان عليه أن يدفع كل الضرائب التي على الأرض من الثلث أو الربع الذي كان يتقاضاه من المستأجر بوصفه نصيبه مقابل زرع الأرض.
ولما كانت الأرض المؤجرة في العصر الساوي دائمًا في أرض يملكها المعبد فإن ضرائب محصول الأخير هي التي تُذكَر، وتدل الظواهر على أن المؤجر في العادة كان هو المسئول عما يُطلب من المعبد، ومن ثَم كان هو الذي يدفعه. فنجد مثلًا في الوثيقة رقم ٢ من وثائق إيجارات العهد الساوي أن المؤجر كان كاهن الإله «آمون»، وكان على ما يظهر هو المتصرف الرسمي على حساب الضَّيْعة الإلهية، وذلك لأن ثلث الإيجار المتحصَّل قد ذهب مباشرة للقربات الإلهية، غير أننا نرى في إيجارات أخرى أن جزءًا من الثلث أو الربع المستحَق قد ذهب لضمانات الضَّيْعة، وعلى ذلك فإنه إذا كان المعبد يدفع جزية للفرعون فإن كلًّا من المؤجر والمستأجر لا شأن له بذلك، وهذا عكس ما كان يحدث في إيجارات الأطيان في العهد البطلمي حيث رأينا، فيما سبق، أن جزية الملك كان يُحسَب حسابها، فكان يدفعها المؤجر والمستأجر؛ غير أنه لم تُذكَر جزية للملك حتى عندما كانت الأرض داخلة ضمن ضَيْعة معبدٍ ما، وكانت إيجارات الضَّيْعة وضرائبها تُدفَع دائمًا أبدًا عينًا، وكذلك نعلم أن الإيجارات التي قبل عهد البطالمة كانت تحتوي على شروط تنصُّ على أن إيجار المحصول يكون من الدرجة الأولى في الجودة من حيث الغلة، كما لم تنصَّ على أن المستأجر كان عليه أن يورِّد هذا الإيجار في زمن محدد، ومكان معين، خالٍ من المصاريف، وإلا فإنه كان يُغرَّم غرامة قدرها ٥٠٪ من المطلوب منه، وأخيرًا لم يكن هناك شرط يُلزِم المستأجر توريد المحصول دون مستند يدل على تسديده الإيجار، وهذه الشروط جميعًا كانت تعد شروطًا عادية بالنسبة لعقود إيجار الأطيان في العهد البطلمي.
ويفهم من عقود إيجارات الأطيان التي أوردناها في العهد البطلمي أن المؤجر لم يقدم ضمانًا في أي وقت يدل على أنه مُلزَم بدفع الضرائب، والواقع أن هذه الشروط كانت جميعها عادية في العهد البطلمي، ويُلحَظ أن المؤجر في العهد الساوي كان عليه أن يقدم ضمانًا عندما كان يُشرَط عليه أن يدفع ضرائب الضَّيْعة، وبذلك كانت جميع استحقاقات كتَّاب الضَّيْعة على عاتق المستأجر. أضف إلى ذلك أنه كان يُشتَرط على كتَّاب الضَّيْعة أن يمسحوا أرضه باسمه؛ ومن المحتمل أن هذا الإجراء كان يُتخَذ لأجل تحديد مقدار ضرائب الضَّيْعة، وبذلك كان واجبه فضلًا عن ذلك أن يكون مسئولًا عنها، ومن الجائز كذلك أنه كان يُؤمِّن ملكيته للأرض في سجلات الضَّيْعة، ومن المؤكد أن النظام العادي لإيجارات الأطيان المحررة بالديموطيقية في كل العهود هو أن يكون المستأجر مُلزَمًا بتوريد كل شيء تحتاج إليه زراعة الأرض التي في حيازته كالثيران اللازمة للحرث، والبذور، والعمال، والآلات اللازمة لبذر البذور والحصاد، ونعرف أن هذه الآلات في الإيجارات البطلمية كانت تعين عادة، وكان المستأجر في عقود الأطيان البطلمية له حق الثلثين في المحصول في مقابل ما يورِّده من ثيران وبذور ورجال، في حين كان المؤجر يتسلم ثلث المحصول مقابل أرضه، وثلاثة أرباع ما بقي يكون مقابل زوج الثيران والبذور التي يورِّدها للمستأجر، ويتسلم المستأجر ما تبقى مقابل عمله في الأرض.
وفضلًا عن ذلك نرى في كلٍّ من العهدين الساوي والبطلمي أن نتيجة العمل في فلاحة الأرض تظهر في المحصول الذي يُنتَظر أن يصل إلى مستوًى مناسب، وإن لم يكن غير محدد، وإذا لم تصل النتيجة إلى نسبة مُرضِية فإنه كان من حق المؤجر أن يقدم شكوى ضد المستأجر، ويفرض ترضية لنفسه على حسب محصولٍ أحسن عما تنتج من أرضه التي زرعها هذا المستأجر.
- عقود اعتراف بدفع إيجار: وفي مثل هذه الوثائق يبتدئ العقد هكذا: لقد دفعتَ لي مبلغ كذا من النقود عن الإيجار الذي تعاقدتُ معك عليه، وهناك صيغة أخرى وهي: لقد تراضيتُ معك على الإيجار الخاص بكذا.
- مستند أو إيصال رسمي: ومثل هذه الإيصالات الرسمية تبتدئ هكذا: إن فلانًا قد دفع كذا قدات، وهي عُشْر المستحق على الأرض … في حضرة مأمور وكيل المحصول، وهناك صيغة أخرى يُعبَّر عنها هكذا: يوجد عدد كذا من القدات دفعها فلان بمثابة أجر للكتَّاب التابعين لعملاء «طيبة» لأجل كذا.
-
عقود خاصة باسترداد عقار؛ مخالصة أو فاء دين، أو نزول عن ملكية: وفي هذه الحالات تكون هذه الوثائق قد حُرِّرت كنتيجة لحكم قضائي كما نجد ذلك في وثيقتين؛
الأولى: محفوظة بمتحف «برلين» Berlin 3113 ونقرأ فيها أن
ثلاثة أشخاص بوصفهم الطرف الأول يعترفون للطرف الثاني بما يأتي: لقد تنازعنا معك أمام
القاضي
الذي حكم بالعدل في «طيبة» فيما يخص موضوع … وقد حكم علينا.
والوثيقة الثانية: محفوظة بالمتحف البريطاني٣٣ ونقرأ فيها أن الطرف الأول، ويتألف من شخصين يخاطبان الطرف الثاني بما يلي: ليس لدينا عليك أي حق فيما يتعلق بموضوع كذا … وهو الذي بسببه قام النزاع بيننا، وإنك صاحب الحق علينا، وقد أديت لنا حقوقنا القانونية، واليمين المطلوب عنها.وقد تكون المخالصة خاصة باسترداد رهن، وفي هذه الحالة تبتدئ الوثيقة بالصيغة التالية:٣٤
ليس لي حق عليك (حرفيًّا: لقد أبعدت عنك) فيما يتعلق بما يخوِّله لي هذا المستند بالنقد الذي حررته لك.
وقد أوردنا أمثلة لذلك فيما سبق.٣٥ - عقد تثمين أو حبس العين: هذا النوع من العقود لم يظهر إلا في وثيقتين عُثِر عليهما في «طيبة» وهما محفوظتان الآن في متحف اللوفر،٣٦ وهما من عهد الملك «بطليموس الثاني»؛ الأولى: في السنة الثامنة من حكمه، والثانية: في السنة العاشرة، وقد ترجمناهما فيما سبق.
- عقود الزواج: يبتدئ عقد الزواج عادة بالجملة التالية: لقد اتخذتك زوجة.
- عقود الطلاق: تُفتتَح هذه العقود بالألفاظ التالية: لقد سرحتك بوصفك زوجة، وقد انفصلت عنك فيما يخص حق الزوجية، وسنتحدث في فصل خاص عن الزواج والطلاق عند المصريين فيما بعد.
-
اتفاقات منوعة: لدينا عدة عقود لا تدخل تحت أنواع الوثائق السابقة نذكر منها ما يأتي:
- أولًا: لدينا تعهُّدًا أو عقد أُبْرِم بين والد طفل ومرضعة، وقد أخذت هذه المرضعة على نفسها
إرضاع الطفل، وتنشئته مقابل أجر معلوم، ويرجع عهده إلى حكم الملك «بطليموس الثالث» وقد
ترجمناه، وعلقنا عليه فيما سبق.
وكذلك لدينا عقود بالتعهد بتحنيط أجسام، وفي هذه الحالة يقول المحنِّط للطرف الثاني (الزبون): لقد أمددتني بالنطرون، والأربطة، وكل شيء لازم لمومية فلان ابن فلان، وإني سأجهِّزه بالبلسم، وإني سأقدمها (أي المومية) إلى حانوتيك في اليوم الثاني والسبعين بعد الوفاة.
- ثانيًا: عقد بتعيين حانوتي: ويبتدئ العقد هكذا: إنك حانوتي في هذا القبر … إلخ.
- ثالثًا: عقد بإقرار بحلف يمين: ويبتدئ مثل هذا العقد هكذا: صورة اليمين الذي يجب أن يؤديه
فلان ابن فلان في المعبد لفلان ابن فلان: (أحلف) بحياة الإله الذي يثوى هنا و(بحياه كل)
إله يثوي معه.٣٧وقد يُكتَب هذا العقد بصورة أخرى هكذا: صورة اليمين الذي سيؤديه فلان في ساحة «جمي» بحياة «آمون نخمونيوس» Amun Nakhomneus الذي يثوي هنا، وكذلك كل إله يثوي معه هنا.٣٨
- أولًا: لدينا تعهُّدًا أو عقد أُبْرِم بين والد طفل ومرضعة، وقد أخذت هذه المرضعة على نفسها
إرضاع الطفل، وتنشئته مقابل أجر معلوم، ويرجع عهده إلى حكم الملك «بطليموس الثالث» وقد
ترجمناه، وعلقنا عليه فيما سبق.
هذه نظرة عامة عن أهم أنواع العقود التي يصادفها الباحث في العهد البطلمي بوجه خاص؛ هذا فضلًا عما ذكرناه آنفًا عن العصر الذي سبق حكم البطالمة، ولا بدَّ أن نلفت النظر هنا إلى أن هذه الصيغ التي تُفتتَح بها هذه العقود والوثائق قد تكون مُضلِّلة في بعض حالات قليلة، وذلك بأن تدل على حسب منطوق العقد على شيء آخر لا يتفق مع العنوان الذي وُضِع للوثيقة، وفي هذه الحالة يكون الحل الوحيد للوصول إلى حقيقة مَرمَى العقد؛ ما نجده من علاقة بين الطرفين المتعاقدين بالشروط التي نجدها في نهاية الوثيقة، ولدينا ثلاثة طرز من العقود حدث فيها ذلك، وكلها تبتدئ بصيغة البيع الذي يُفهَم منه لأول وهلة أنه بيع حقيقي؛ إذ نقرأ فيها على لسان الطرف الأول: لقد دفعت لي، أي لقد جعلت قلبي يوافق على الثمن نقدًا لكذا …
- والطراز الأول من هذه العقود: هو عبارة عن عقود خاصة بالاستعداد لأجل التحنيط والدفن من جانب الطرف الأول، وفي هذه الحالة تدل كل شواهد الأحوال على أن أي عقد من هذا النوع يُعتَبر وصية يُوصِي بها المتوفَّى قبل مماته؛ وذلك بإبرام عقد مع الحانوتي الخاص بالجبَّانة، وهذا يذكرنا بما كان يجري مع الكاهن خادم الكا في الدولة القديمة، وهو الذي كان يقوم بخدمة المتوفَّى بعد مماته بتقديم كل ما يلزم لبقاء روحه، والظاهر أن الحانوتي كان يقوم بمثل هذه الوظيفة في العهد البطلمي كما سنرى بعدُ.
- والطراز الثاني من هذه العقود: نقرأ فيه أن الطرف الأول من المتعاقدين يتفق على بيع جميع ما يملك في الحال والاستقبال، وهذا النوع من العقود لا يخرج عن كونه وصية، ولكنها وضعت في صورة بيع، وربما كان سببها أن الموصي كان يخاف منازعة المُوصَى له من ورثته بوجه عام، وهذا ما يحدث في أيامنا هذه؛ إذ نجد أن الفرد يبيع كل ما يملك أو بعضه لأحد أولاده، ثم يسجل ذلك بعد أخذ حكم عليه بأنه باع له فعلًا هذه الملكية، والواقع أنه بيع صوري.
- أما الطراز الثالث من هذه العقود: فهو في الواقع وصية، ولكن في صورة أخرى؛ إذ نجد في صلب العقد أنه على الرغم من أن العقد قد أُبْرِم مع الطرف الثاني وحده إلا أنه كان مكلفًا بمادة خاصة في العقد بأن يعترف بنصيب منه معين لطرف ثالث، كما جاء في العقد رقم ١٧ من برديات فيلادلفيا، وقد أوردنا ترجمته فيما سبق.
وليس هناك من شك في أن مثل هذه العقود لا تخرج عن كونها وصايا في صورة بيوع اسمية وحسب، ولكن أصبحت نافذة المفعول بمقتضى البيع القانوني الذي تمَّ بمقتضى عقدٍ أُبْرم بذلك.
وأخيرًا لدينا بعض عقود ضمان من نوع مختلف جدًّا عن الضمانات التي ذُكِرَت فيما سبق، وأعني بذلك ضمان مُجْرِم حُدِّدت إقامته، وكان على الضامن أن يحضره في أي وقت طلب إليه إحضاره مدة نفيه أو تحديد إقامته، وقد تحدثنا عن ذلك عند ترجمة أوراق «ليل» التي عُثِر عليها في الفيوم في بلدة «جعران».
مادة العقد، وأنواعها
دل الفحص على أن مادة العقود التي كانت تُبرَم بين الطرفين المتعاقدين تحتوي في معظم الأحيان على عقار ثابت كالبيوت والأرض، أو منقولات كالأخشاب والأثاث، والوظائف كبَيْع وظيفة كاهن، أو دخل من بيوت أو أرض زراعية.
وغالبًا ما تُذكَر في عقود إيجار البيوت بوجه خاص الأبواب الخشب، وذلك لأنها كانت تعد شيئًا ثمينًا في بلد كمصر كان يقِلُّ فيها الخشب، ويمكن نزعها من مكانها عند إخلاء العين إذا لم ينصَّ عنها في العقد، وهذا نفس ما يحدث أحيانًا في أيامنا هذه.
الصيغة القانونية
- (١)
ليس لي أي حق كان عليك باسمه (أي العقار وغيره) من اليوم فصاعدًا إلى الأبد.
- (٢)
ولن يكون في استطاعة رجل أيًّا كان وحتى شخصي أن يكون له سلطان عليه إلا أنت من اليوم فصاعدًا.
- (٣)
وإن من سيأتي إليك بسببه فإني سأجعله يتنحَّى عنك (وفي رواية أخرى: إن من سيأتي إليك بسببه باسمي أو باسم أي شخص أيًّا كان ليغتصبه منك بقوله: «إنه ليس ملكك فإني سأجعله يتنحَّى عنك»).
- (٤)
وإذا لم أجعله يتنحَّى عنك (طوعًا) فإني سأجعله يتنحَّى عنك قهرًا.
وفي رواية أخرى: وإذا لم أجعله ينصرف عنك فإني سأدفع لك كذا نقودًا فضة (بمثابة غرامة) وسيكون من حقك عليَّ أن أجعله ينصرف عنك دون حدوث أي أذًى.
- (٥)
وأني سأطهِّره لك (أي العقار أو غيره) من كل حق، ومن كل حجة، ومن كل شيء مهما كان في أي وقت.
- (٦)
وكل حجة ملكك في كل مكان تكون موجودًا فيه (وفي رواية أخرى: حُجَجها القديمة والجديدة، أو برديتها القديمة وبرديتها الجديدة)، وكل وثيقة تكون قد حُرِّرت بخصوصه، وكل مستند كان قد حُرِّر بخصوصه فإنه ملكك، هذا بالإضافة إلى الحق الذي تخوِّله هذه الحُجَج.
- (٧)
وإن الحق الذي يخوَّل لي باسمه (أي العقار) فهو ملكك.
- (٨)
وإن اليمين أو المصادقة الذي سيُفرَض عليك في محكمة العدل باسم الحق المخوَّل باسم المستند المذكور أعلاه، وهو الذي حرَّرته لك ليحتِّم عليَّ القيام بأدائه فإني سأؤديه.
التصديق على العقد
وقد جاء فيه: أنه إذا حرَّر رجل وثيقة بهبة لمرأة، وبمنح ملكية لشخص آخر دون موافقة هذه المرأة أو ابنها البكر على الوثيقة المعينة، فإن المرأة أو ابنها البكر سيكون لها أو له حق الطعن على الرجل الذي أُعْطيَت إياه هذه الملكية، ومن أجل ذلك نجد في قصة «ستني» التي أُلِّفت على أغلب الظن في عهد «بطليموس الثالث» في السنة ١٥ من حكمه؛ أن «تابوبو» قد أصرت على أن يوقِّع أولاد «ستني» على العقد الذي حرَّره لها عن صداقها؛ وذلك لأجل أن يصبح العقد نافذ المفعول، وألا يكون لأولاده الحق في الرجوع عليها، ومطالبتها بحقهم الشرعي.
هذا، ونجد في ظلامة «بتيسي» إشارة لها قيمتها تدل على أهمية التصديق الذي نحن بصدده حتى يصبح العقد صحيحًا.
المسجل
نجد بعد انتهاء الصيغة القانونية للعقد توقيع الكاتب في ذيل الوثيقة، وهذا التوقيع كان ضروريًّا لتأكيد صحة العقد، وكان في العادة يُكتَب هكذا: كتبه الكاتب فلان ابن فلان وأمه (هي) فلانة، وكانت تُذكَر وظيفة الكاتب أو لقبه إذا كان يشغل وظيفة أو يحمل لقبًا، وقد دلت الألقاب التي كان يحملها الكتبة على أنهم ليسوا من طائفة الكتَّاب الملكيين، أو كتاب المركز أو القرية، بل كانوا في الواقع يؤلفون طائفة قائمة بذاتها تُدعَى طائفة الكتبة، والظاهر أنهم كانوا يتألفون من فريقين؛ فريق يحمل ألقابًا كهانية، والفريق الآخر يحمل كل منهم لقب كاتب وحاسب، وكانت الفرقة الأخيرة تعمل أحيانًا وكلاء للفرقة الأولى، وكان القول إن هاتين الفرقتين كانتا تمثلان فرقة المسجلين الكهنة وفرقة المسجلين العموميين، وكانت كل منهما على علم بالقانون والشئون القضائية، وكانت وظيفتهم تحرير العقود التي بمقتضاها تصبح حقوق أفراد الشعب فيما بينهم ذات صبغة قانونية وطيدة، وكذلك كان من عملهم أن يحافظوا على صُوَر من هذه الوثائق؛ ليمكن استخراج نسخ منها عند الحاجة، وتدل الأحوال على أن الكتبة الذين من طائفة الكهنة كانوا يسكنون المعابد، وكان من أراد استخدامهم في كتابة وثيقة أو عقد ما، يسعى إليهم هناك.
أما فريق الكتبة من غير الكهنة فكانوا يتخذون مكان عملهم بالمدرسة، وكان صاحب الحاجة يختلف إليهم هناك، أو يطلب من يريد منهم إلى بيته، والواقع أن مثل هؤلاء الكتَّاب كمثل الكتَّاب العموميين الذين نشاهدهم في أيامنا يجلسون أمام دور المحاكم، ويقومون بكتابة العرائض والوثائق لكل من يريد، وبخاصة كتابة الظلامات والشكاوى والخطابات والعقود.
هذا وكانت إمضاء الكاتب تُكتَب دون ذكر الأب أو الأم في أغلب الأحيان، وهذه ظاهرة واضحة جدًّا في وثائق العهد البطلمي. أما صيغة الإمضاء فكانت هكذا: «كتبه فلان في هذا اليوم.» والمقصود «بهذا اليوم» أي اليوم الذي جاء ذكره في أول الوثيقة، ومما تجدر ملاحظته هنا أن توقيع الكاتب كان يأتي بعده مباشرة أسماء الشهود الذين حضروا كتابة العقد أو الوثيقة. هذا، ولم تكن وظيفة الكاتب محصورة في مكان معين أو بقعة واحدة، كما ظن بعض من فحص هذا الموضوع، بل كانت دائرة عمله مشاعة في أي مكان يُدعَى إليه.
ولكن مما يُؤسَف له جد الأسف أنه في العهد البطلمي المتأخر صُوِّبت ضربة قاصمة لهؤلاء الكتبة، وذلك بتأسيس إدارة سجلات رسمية استُعملت فيها اللغة الإغريقية وحسب، وكان هؤلاء جميعهم في خدمة رعايا الملك. يضاف إلى ذلك: أن المتعاقدين كانوا معافين من إحضار شهود، وذلك لأن إمضاء المسجل الرسمي من قبل الحكومة كانت في حدِّ ذاتها ضمانًا لصحة العقد، ولا شك أن هذا الإجراء كان له حدَّين قاطعين بالنسبة للشعب المصري، فقد أصبح المسجلون الوطنيون لا عمل لهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان لزامًا على المصري أن يتعود على اللغة الإغريقية وقانون الشعب الفاتح، غير أن المصري مع ذلك كان عنيدًا متمسكًا بتقاليده بكل ما لديه من قوة، فقاوم هذا الإجراء.
تسجيل العقود
هذا وتدل إيصالات المتحف البريطاني على أن الضريبة كان يدفعها المشتري، وقد تحدثنا عن ذلك فيما سبق، وعلى أية حال فإن حكومة البطالمة عندما جعلت تسجيل العقود إجباريًّا في إدارة السجلات الحكومية؛ فإنها قد ضمنت لنفسها بذلك الضريبة التي كانت تُجبَى على هذا التسجيل لفائدة الكتبة العموميين والكتبة الكهنة.
الشهود
أما الوثيقة الأخرى فتعد من أهم الوثائق التي كُشِف عنها في عهد الأسرة الخامسة، بل وفي كل التاريخ المصري القديم من هذه الناحية، وهي وصية نقشها لنا السمير الوحيد عظيم «نخب» المسمى «وب-أم نفرت»، وقد تحدَّثنا عن محتويات هذه الوثيقة في الجزء الثاني من مصر القديمة، وفي نهاية المتن يقول هذا العظيم: عُمِلت الوصية في حضرته، وهو يمشي على قدميه (أي وهو على قيد الحياة)، ونُقِش على يمين هذا المتن صور خمسة عشر رجلًا متربعين على الأرض، ومولِّين وجوههم شطر نصِّ الوصية، ونُقِش اسم كل منهم وصناعته فوق صورته، وكذلك نُقِش بخط كبير فوق هؤلاء الشهود العبارة التالية: «كُتِبت في حضرة شهود كثيرين، ودوِّنت بيدي.» والأمر الذي يلفت النظر في هذه الوثيقة هو عدد الشهود، وهم خمسة عشر شاهدًا، مضافًا إليهم صاحب الوصية نفسه، فيكون عدد الذين شهدوا هم ستة عشر شاهدًا، وهذا هو العدد التقليدي الذي نجده عادة في العقود الهامة في عهد البطالمة، ولن نحيد عن الصواب إذا قلنا إن هذا العدد من الشهود كان موروثًا منذ أقدم العهود المصرية القديمة، وعلى أية حال نلحظ أنه في عهد الدولة الحديثة كان عدد الشهود يختلف كثيرًا، وربما كان ذلك سببه البيئة التي كانت تُبرَم فيها الوثائق، ويُلحَظ أن عدد الشهود في العهد البطلمي كان يتغير؛ فأحيانًا نجد أن العدد يبلغ ثمانية عشر شاهدًا، وأحيانًا ١٥ أو ١٤ أو ١٠ أو ٨ أو ٦ شهود، ولكن العدد السائد في الوثائق الهامة كان دائمًا ستة عشر شاهدًا.
هذا، ونجد أحيانًا أن اسم كاتب الوثيقة كان ضمن الشهود الذين في العقد الذي كتبه هو، وكانت أسماء الشهود تُكتَب إما قبل اسم كاتب الوثيقة أو بعده، وكانت الإمضاءات تُكتَب على ظهر العقد. يُضاف إلى ذلك أننا لم نجد بين الشهود إناثًا.
أما طريقة الإمضاء فكانت بالكيفية التالية: كُتِب في حضرة شهود عدة، وبعد ذلك يوقع الشهود بإمضاءاتهم، وكان كل واحد منهم يكتب اسمه واسم والده وأمه، وفي بعض الأحيان تسبق الاسم العبارة التالية: أمام أو في حضرة فلان.
ومما تجدر ملاحظته هنا أنه في خلال العهد البطلمي الأول حتى نهاية حكم «بطليموس الثالث» أن الشهود كانوا يكتبون في أسفل توقيع المسجل للوثيقة ملخصًا للعقد الذي وُقِّع عليه، أو كان أحيانًا ينسخ كل شاهد العقد كله بخط يده كما كتبه المسجل، ثم يوقع عليه.
هذا ونفهم من ألقاب الكتَّاب الذين كتبوا نسخ الشهود أنهم كانوا موظفين بالمعبد فنجد من بينهم من كان يحمل لقب الكاهن والد الإله والكاهن خادم الإله «آمون رع» وكاهن «أوزير»؛ ولا يفوتنا أن نذكر هنا أنه كان من بين هؤلاء الشهود: المُفتَنُّون، وصناع الشمع … وغيرهم من أصحاب الحرف الصغيرة، وكذلك الصناع الذين كانوا في خدمة «آمون».
عدد الشهود،٥٥ وسبب اختلافه
لم يُعلَم على وجه التأكيد حتى الآن الأسباب التي أدت إلى اختلاف عدد الشهود في الوثائق البطلمية، غير أنه يمكن تقسيم هذه الوثائق التي كتبها الكتَّاب والتي كتبها الشهود قسمين، والواقع أنه قد ظهر في العهد البطلمي الأول طرازان من عدد الشهود؛ الطراز الأول: وهو الذي ظهر فيه ستة عشر شاهدًا، والطراز الثاني: هو الذي احتوت فيه الوثيقة على أربعة شهود. هذا ولدينا فضلًا عن ذلك وثائق شهد فيها اثنا عشر شاهدًا، ولكنا لا نعلم السبب في ذلك فهل هذا مجرد حلية؟ والواقع أنه عندما نجد ١٦ شاهدًا فإن ذلك يكون مدوَّنًا دائمًا على وجه الورقة، ومن جهة أخرى نجد أربعة الشهود يظهر أسماؤهم إما على ظهر الورقة أو على وجهها.
وتدل الأحوال على أن مستندات النقود لا يكون شهودها دائمًا ستة عشر شاهدًا. هذا، ونلحظ أنه في عقود الطلاق والسلفة يُكتَفى بأربعة شهود، وفي عقود الإيجار نجد اثني عشر شاهدًا، في حين أنه في سائر أنواع الوثائق الأخرى كان من الضروري أن يكون عدد الشهود ستة عشر شاهدًا، ومن جهة أخرى نلحظ في وثائق العصر الفارسي الخاصة بالماشية أن عدد الشهود فيها كان أقل من عدد الشهود الخاص بقطع أرض أو ضَيْعة أو دخل كاهن، هذا وكان عدد الشهود في عهد البطالمة الأول يتوقف على قيمة الأشياء، فمثلًا الوثائق الخاصة بقطع أرض، أو ملكية مركبة كان يجب أن يكون عدد الشهود فيها ١٦ شاهدًا في حين نجد في وثيقة خاصة ببيع ماشية كان يُكتَفى بأربعة شهود، وكذلك كانت الحال في موضوع الطلاق، والظاهر أن هذه القواعد ترجع إلى العهد الساوي.