الحالة الاجتماعية في العهد البطلمي الأول
لم تحدثنا الوثائق الديموطيقية ولا النقوش التي خلَّفها لنا البطالمة على جدران المعابد حديثًا مباشرًا عن حياة الشعب المصري، والواقع أن كل ما وصل إلينا عن وثائق خطية ومتون منقوشة في هذا الصدد قد جاء عن طريق الاستنباط والاستقراء لهذه النصوص التي وقعت في أيدينا حتى الآن، ولا يزال بعضها لم يُحلَّ، ومن ذلك أمكن أن نؤلِّف مما استُنبط من هذه النصوص صورة قد تقرب من الحقيقة عن بعض بيئات خاصة قد لا ينطبق ما جاء فيها على كل المجتمع المصري من حيث الحياة الاجتماعية أو الحياة الدينية بوجه خاص، وعلى أية حال فإن كل ما نقشه المصري على جدران معابده يتحدث عن عالم الآخرة، وما يحدث فيها، وما يلزم لها من استعداد يأخذ عليه معظم شعوره وتفكيره أثناء حياته الدنيوية. على أن عالم الآخرة عند المصري كان يعد في نظره صورة طبق الأصل من حياته الدنيوية، ولكن في شكل أكبر بهجة ورونقًا، ومن ثَم يمكن أن نعرف الكثير عن حياته في كل عهد حسب الاستعداد الذي كان يقوم به لآخرته.
والواقع أن العهد الديموطيقي الذي نحن بصدده قد ازدهر كثيرًا في عصر البطالمة، وقد وصلت إلينا في خلال حكم ملوكهم عدة وثائق بعضها دينية وبعضها الآخر خاص بالحياة الاجتماعية، وما كان يُجرَى فيها من معاملات؛ ومن ثَم يمكن أن نصل إلى عدد كبير من العادات والأخلاق التي كانت متبعة في هذا العهد بالذات، وأهم مصادر لدينا في هذا الباب هي المصادر الديموطيقية التي عُثِر عليها في الأماكن التي كان يسكن فيها المصريون، أو القريبة منها، وبخاصة في منطقة «طيبة» التي كانت تُعتَبر المركز الديني الممتاز منذ نشأتها حتى نهاية العصر الإغريقي الروماني. غير أن الصورة التي استنبطناها من هذه الوثائق لا تقدم صورة شاملة عن حياة الشعب المصري؛ لأنها قبل كل شيء صورة محلِّيَّة. يضاف إلى ذلك أن الأفراد الذين ذُكِروا في هذه الأوراق البردية البطلمية كان معظمهم من طائفة الكهنة الذين كانوا يعدون وقتئذٍ أعلى طبقة في المجتمع المصري؛ وذلك لأن طبقة الأشراف وأصحاب الإقطاع كان قد قُضي عليها نهائيًّا منذ بداية حكم الإسكندر لمصر، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، والأغلبية الكبيرة من هؤلاء الكهنة كانوا خدمة الإله «آمون» أعظم الآلهة المصريين في تلك الفترة من تاريخ مصر، وكانت قلة منهم في خدمة الإلهة «موت» زوج «آمون» وابنها «خنسو»، وذلك في معبد الكرنك الكبير الذي أخذ البطالمة منذ توليهم حكم البلاد المصرية يجددون ما تهدم منه، أو يزيدون في مبانيه، كما كانوا يتعبدون له في معبدي مدينة «هابو» والدير البحري.
ومما تجدر ملاحظته هنا أن طائفة الكهنة هذه كانت محاطة بطائفة أخرى من خدمة المعابد من أصحاب الحِرَف التي كان لا بد من وجودها داخل المعابد التي كانت تعتبر وحدات تكفي نفسها بنفسها من كل الوجوه لدرجة عظيمة، فكان من بين رجال هذه الطائفة: النجارون، والنقاشون، والصياغ، والنحاسون، والغزالون، وصانعو النسيج، وصناع الشمع، وصانعو الفخار، وضاربو الطوب، والبناءون، والفلاحون … وغيرهم من أصحاب الحرف الذين لا غنى عنهم لقيام مجتمع كامل.
ولقد عمل الكهنة كل ما في وسعهم على المحافظة على استقلالهم، وحفظ نفوذهم في عهد البطالمة بما كان لديهم من نفوذ عظيم على أفراد الشعب المصري الأصيل من الناحية الدينية، غير أن البطالمة — كما ذكرنا آنفًا — كانت لهم سياسة معينة محددة المعالم في الديار المصرية ترمي إلى قصد واحد بعينه، وهو جمع المال لبناء إمبراطورية شاسعة خارج البلاد المصرية كالتي أقامها تحتمس الثالث، وإن كان هذا الرأي قد عارضه بعض المؤرخين.
وعلى أية حال فإن البطالمة كانوا لا يريدون مضايقة الكهنة لحد كبير؛ لأنهم كانوا يعرفون أنهم أصحاب النفوذ من الوجهة الدينية في البلاد؛ هذا فضلًا عن أن ملوك البطالمة كانوا يعتنقون الديانة المصرية، وينسبون أنفسهم إلى الآلهة المصرية، وكان أهم ما يعني الكهنة وأتباعهم هو القيام بالأعمال الدينية التي تُعِد الفرد لعالم الآخرة، أو كما يقولون لعالم الخلود، ومن أجل ذلك كانت خدمة الموتى في هذه الأحوال قد أصبحت حرفتهم الرئيسية بعد أن كانوا في الأزمان الفرعونية يشتركون في سياسة البلاد الداخلية والخارجية، وقد كان الميت عند المصريين في هذه الفترة من تاريخهم يحتاج إلى مشرفين أكثر من أي شيء آخر في حياتهم، وذلك بسبب الشعائر الدينية التي كان يتطلبها المتوفَّى حتى يُوارَى في قبره، فمن ذلك: أنه كان يحتاج إلى متعهدين لغسله، ولعملية القطع التي كانت تُجرَى لاستخراج الأحشاء، وغمس المتوفَّى بعد ذلك في النطرون، وتعطيره، وبالاختصار كل ما كان يُتَّخَذ من إجراءات لتحنيط الجسم قبل أن يُسلَّم لطائفة أخرى من الموظفين المستقلين، وهم الذين كان ينحصر عملهم في المحافظة على قبر المتوفَّى خوفًا من سرقة ما كان معه من متاعٍ وضعه معه في قبره، وكذلك لإصلاح ما قد عساه أن يحدث من كوارث طبيعية، ولكن أهم من كل ذلك كان العمل على تقديم القربان لقرين المتوفَّى (كا) وبذلك يخلد ما دامت هذه القرابين تقدم له، ومن أجل ذلك كان يحبس المتوفَّى قبل موته الأوقافَ بعقد خاص، وكانت هذه عادة متبعة منذ أقدم العهود التاريخية المصرية.
وجريًا على ما كان متبعًا في عهود مصر القديمة اقتضى الأمر تأسيس حوانيت للتحنيط، ومساكن للعمال التابعين للجبَّانة، وكل ما تتطلبه شئون المتوفَّى، ولا نزاع في أنه في تلك الفترة التي كان فيها الشعب المصري مغلوبًا على أمره لم يكن صاحب ثراء، ومن أجل ذلك استعمل الجبانات القديمة لهذا الغرض، وبخاصة في الدير البحري، فقد اتخذه هؤلاء العمال مكانًا مختارًا لإقامة معاملهم، كما اتخذوا «دير المدينة» سكنًا لهم، وبعد ذلك احتلوا «مدينة هابو» لنفس الغرض.
وقد تحدثنا عن التحنيط بشيء من التفصيل في مصر القديمة الجزء الثاني والجزء التاسع، وقد أوردنا هناك كل الآراء الخاصة بهذا الموضوع، بما في ذلك آراء كتاب الإغريق، ونخص بالذكر منهم «هردوت» و«ديدور الصقلي»، وعلى ضوء هذه الآراء فهمنا أن الألفاظ التي استخدمها كتاب الإغريق لها ما يقابلها في الأوراق الديموطيقية التي عُثِر عليها في جبَّانة «طيبة» من عهد البطالمة. فمن ذلك:
-
أولًا: الكهنة بستوفورن Pastophoren وهؤلاء كانوا يعدون أعلى طبقة
في طائفة صغار الكهنة، على أنهم لم يكونوا موظفين رسمين، ولا يقومون بعملهم بصفة رسمية،
وكان لهم
بعض المشرفين من ذلك البستوفورس الأكبر،٣ وكذلك لهم حانوت للعمل خاص بهم حرا.
وهذا الاسم يعني في الأصل حامل المحراب الذي فيه تمثال الإله في المواكب، والواقع أن البستافوروس قد أخذ في عهد البطالمة يشغل مكانة أخرى تعادل ما نسميه في أيامنا الحانوتي على وجه التقريب، ويُفهَم من مضمون عدة عقود ديموطيقية أن هذا الحانوتي كان يحرر معه عدة عقود خاصة بدفن المتوفَّى، والقيام على رعايته بعد الموت، وكذلك نجد أنه كان له الحق في بيع حق رعايته في المحافظة على القبر، أو تأجير هذا الحق، وكذلك الموميات، والمرتبات، والمعاشات التي كان يتعاقد عليها مع المتوفَّى قبل موته أو مع أهله، وكان هذا الحانوتي يُكلَّف بالخدمات الدينية الخاصة بهذه القبور التي له حق الولاية عليها، وبوجه عام كان هو المكلَّف بمد هذه القبور، وحمايتها من عبث اللصوص والحيوان على السواء.
والمفهوم مما وصل إلينا من الكتَّاب القدامى أن هذا الحانوتي كان هو الشخص الذي كانت أسرة المتوفَّى تتفق معه على كل صغيرة وكبيرة خاصة بفقيدهم، والمحافظة عليه، وعلى قبره في الجبَّانة. فكان هو الذي تجري تحت إشرافه عملية التحنيط، وإقامة الشعائر الدينية كان يقوم بها المحنِّط والمرتل على السواء «خري حبت».
والواقع أن الكاهن المرتل الذي كانت وظيفته في عهد الدولة القديمة تلاوة الصلوات، وتقديم القربان للمتوفَّى قد أصبح في العهود المتأخرة هو المحنِّط، ويرجع السبب في ذلك إلى اطراد زيادة أهمية الشعائر الدينية إذا ما قرنت بالصلوات اليومية التي كانت تقام في المعابد، وذلك على حسب ما كانت تتمثل في نظر رجل الشارع.
ووظيفة «خري حبت» (= المرتل) كما جاءت في الديموطيقية قد مُثِّلت في اللغة الإغريقية بكلمتين مختلفتي المعنى؛ الأولى: «الشاق» أو القاطع، والثانية: معناها المحنِّط الفعلي، والكلمة الأولى: معناها الذي يشق فتحة في الجسم؛ لتُستَخرج منها الأجزاء التي لا بد من إزالتها من الجسم حتى لا يتعفن مثل الأحشاء وغيرها، أما الوظيفة الثانية: فكان يعد فيها المسئول عن إصلاح حالة الجسم وتكفينه. هذا ويقول الأثري «ريفيو»: إن هذا التعبير عن وظيفة الكاهن المرتل قد وجد فقط في «طيبة»، أما في «منف» فإن حامل هذا اللقب قد بقي يؤدي وظيفته الأصلية، وهي وظيفة كهانية لا علاقة لها بالتحنيط.
- ثانيًا: الكاهن «وحمو» فإنه كان قد حل محل الكاهن المرتل في العصر الفرعوني المتأخر في الوجه القبلي، وكانت وظيفته موحدة بوظيفة الكاهن المرتل في الوجه البحري، ولم يكن له علاقة ما بالتحنيط، وكان الجسم بعد التحنيط يسلم للدفن، وللمحافظة على بقائه سليمًا بعد تقديم القربان وإقامة الشعائر، وكان الكاهن «وحمو» في الواقع يلعب دورًا هامًّا في الحفل الذي كان يقام «لآمون ممنونيا» Memnonia وذلك عندما كان يصب ماء القربان عند رأس الحفل،٤ ومما تجدر ملاحظته هنا أن المرأة كانت أحيانًا تقوم بدور الحانوتي، ومع ذلك لم يصادفنا على أية حال لقب امرأة محنطة في الأوراق الديموطيقية التي كُشِف عنها في طيبة، وذلك على الرغم من وجود هذا اللقب في إحدى أوراق «الفيوم» التي تحدثنا عنها فيما سبق؛ حيث نجد أنها كانت تقوم بالدور الذي كان يقوم به الكاهن «وحمو» في الوجه القبلي، أما في سجل وثائق أسيوط فقد بقي الكاهن «وحمو» يقوم بدور الكاهن المرتل.٥
- (١) الكاهن «بر-ون» Pastophoros = المتعهد أو الحانوتي، وكان يقوم بعمل كل الترتيبات للتحنيط والدفن.
- (٢)
الكاتب، وكان يعمل الإشارة (؟).
- (٣)
المرتل (= خري حبت) وكانت وظيفته قطع الجسم؛ أي يقطع فتحة في الجنب لإخراج جوف المتوفَّى، وكانت له وظيفة أخرى وهي تحنيط الجسم، وفي هذه الحالة كان يسمى محنِّطًا.
- (٤) الكاهن «وحمو» Chaochyte وكانت وظيفته صب الماء (سقَّاء) وترتيل الصلوات، وقد وصف لنا ديدور الأشخاص الذين كانوا يقومون بعملية التحنيط والدفن كما يأتي:
«والآن فإن الرجال الذين كانوا يعالجون الأجسام كانوا أصحاب حرف مهرة قد تلقوا معلوماتهم الفنية بمثابة تقليد أسري، وهؤلاء كانوا يضعون أمام أقارب المتوفَّى قائمة أثمان لكل مادة متصلة بالدفن، ثم يسألونهم بأية كيفية يرغبون معالجة الجسم، وعندما يتوصل إلى اتفاق على كل تفصيل، ويكونون قد أخذوا الجثة فإنهم يسلمونها لرجال خُصِّصوا لهذه العملية متمرنين على القيام بها، وأول هؤلاء هو الكاتب الذي كان — عندما تكون الجثة قد وضعت على الأرض — يحدد على الجانب الأيسر مدى القطع الذي سيُشرَط بالمِشْرط، وعندما كان الفرد الذي يسمَّى القاطع يقطع اللحم كما يقضي به القانون بحجر أثيوبي، فإنه بعد ذلك يرخي لساقيه العنان، في حين أن أولئك الحاضرين آنذاك يتطلعون وراءه رامينه بالأحجار، ومكدسين اللعنات عليه، وكأنهم يريدون أن يصبوا اللعنة على رأسه … والرجال الذين يسمون محنطين فإنهم على أية حال يعتبرون مستحقين كل احترام وتعظيم، ويختلطون مع الكهنة، وحتى كانوا يجيئون ويروحون في المعبد دون أي مانع، وذلك بوصفهم غير مدنسين … وبعد معالجة الجثة كانوا يعيدونها لأقارب المتوفَّى …»
ولا نزاع في أن هذه المرتبات كان مصدرها الأوقاف التي كان يحبسها المتوفَّى على قبره قبل مماته؛ لأجل الصرف منها عليه، والمحافظة على بقائه، كما كانت الحال في مصر منذ أقدم العهود.
وهناك مصدر آخر بمثابة إيراد لصاحب القبر الحالي، وذلك من بيع أو إيجار اللوازم التي في القبر، وأخيرًا كان يحصل المتعهد على محصول غير ذلك يأتي إليه عن طريق القربان التي كانت تقدم لكل مومية، وهذه القربات تخصص كالخبز، واللحم، والجعة، والنبيذ، والزيت، والزهور.
ومن ثَم نجد أن الدخل الذي كان مصدره المقابر كان يعد بمثابة ملكية شخصية للمتعهد يمكن أن تورث، أو تُعطَى أعضاء الأسرة، أو أشخاصًا آخرين، أو تؤجر، أو تباع إلى زملاء آخرين من طائفة المتعهدين أي الحانوتية.
هذا وكان في مقدور الحانوتي كذلك أن يقترض نقودًا على مرتبه، وفي مثل هذه الحالة كان عليه أن يذكر أسماء الأشخاص المتوفين الذين كان يأخذ من هباتهم دخله، وهذه الهبات كانت تحتوي على ملكية من الحقل، أو من المعبد أو من البلدة.
ومن المعلومات المضللة التي أوردها «هردوت» في كتابه عن مصر، والتي لا بد من تصحيحها هنا قوله: إنه في وقت ما عندما كان النقد شحيحًا، والمعاملات التجارية عسيرة صدر قانون يقضي بأن يكون في استطاعة المقترض أن يرهن جثة والده لاقتراض المبلغ الذي هو في حاجة إليه؛ وحقيقة الأمر أن المتعهد كان في مقدوره أن يرهن القبر، وموميات أجداده. ولكن لا بد أن نفهم أن الرهن لم يكن منصبًا على الموميات؛ بل على الدخل الذي كان ينتج من الأوقاف المحبوسة على القبر لا على الموميات نفسها. غير أن هناك اعتراض على هذا التفسير؛ إذ جاء في النص رهن «جثة والده» وربما كان التفسير الصحيح لذلك: هو أن ابن المتوفَّى في العهد المصري القديم كان هو الذي يقوم بوظيفة الكاهن الذي كان يرعى كل شئون والده المتوفَّى، وبعبارة أخرى كان له الحق الذي كان يخوَّل للمتعهد، وليس لزامًا أن يكون المتعهد للقبر وكل ما يحتويه أجنبيًّا.
وعلى أية حال فإن الموميات كانت لا قيمة لها للفرد الذي يُقرِض النقود، ولا بد أن ما أورده «هردوت» في هذا الصدد يشير إلى شيء يكسب منه الراهن قوت يومه، وفي هذه الحالة كان الوقف الذي حُبِس على المومية للمحافظة عليها، وهذا الوقف — كما قلنا — كان يحتوي على عقار ثابت، وغير ذلك.
(١) عبادة الأولياء والشهداء في العهد البطلمي
من الظواهر التي تلفت النظر بصورة قوية كثرة الأضرحة والمقامات التي نجدها منتشرة في مصر عن غيرها من البلدان الإسلامية؛ إذ الواقع أنه لا تكاد توجد قرية من قرى ريف مصر وصعيدها إلا وفيها ضريح أو مقام لرجل أو سيدة تعد في نظر السكان من أولياء الله الصالحين، ويتساءل المرء لماذا اختُصت مصر بهذا العدد العظيم من هؤلاء الأولياء أو الشهداء دون غيرها، وقد يقف الباحث الأجنبي حائرًا مذهولًا أمام هذا السؤال؛ لأنه قد لا يعرف الكثير عن العادات المصرية التي ورثها عن أجداده المصريين منذ أقدم العهود، وبقيت يتناقلها الابن عن الأب، وبخاصة فيما يتعلق بالعبادات والشعائر الدينية، والواقع أنه عند درس الوثائق الديموطيقية صادفنا عدة أولياء وشهداء كانوا يعدون في نظر القوم بمثابة آلهة لهم مكانتهم عند الشعب، وسنحاول أن نفسر أصل هؤلاء الأولياء والشهداء فيما يلي: كانت مصر منذ أقدم عهودها مقسمة مقاطعات صغيرة بلغ عددها يومًا ما على حسب ما روته الأخبار اثنتين وأربعين مقاطعة، وكانت كل مقاطعة مقسمة وحدات صغيرة لكل منها إدارتها الخاصة، وإلهها المحلِّي الخاص الذي كان يعد المسيطر عليها من الناحية الروحية، وبعد فترة من الزمن اتحدت هذه الوحدات معًا وكونت المقاطعة؛ ولكن كانت كل وحدة أو قرية محافظة على إلهها المحلِّي، هذا في حين أن المقاطعة كان لها إلهها الذي يسيطر على كل المقاطعة، وتدين له كل أجزائها، وبعد ذلك اتحدت مقاطعات الشمال وكونت وحدة قائمة بذاتها وهي الوجه البحري، وأصبح لها إلهها الخاص بها الذي كان ينشر سلطانه على كل مقاطعات الشمال، وقد حدث نفس التطور في الوجه القبلي، وأخيرًا اتحد القطران معًا، وتألف منهما جميعًا المملكة المصرية المتحدة، وكان في العادة يصبح أقوى آلهة المقاطعات أو المدن الكبيرة الإله المسيطر على جميع آلهة القطرين؛ هذا مع العلم أن كل قرية ومدينة ومقاطعة كانت تحتفظ بإلهها المحلِّي، ولا تجد عنه حولًا مهما كانت الأحوال، ومن ثَم نجد أن كل بلدة أو قرية كانت تحتفظ بآلهتها بالتوارث على مرِّ السنين.
وعلى الرغم من تقلب الأحوال السياسية في البلاد، وتغير الحكام فيها فإن القوم ظلوا على عبادة آلهتهم، والاحتفاظ بإقامة شعائرها على مر الدهور حتى نهاية العهد الروماني، وحتى لما جاء الإسلام وتغيرت ديانة القوم ظلت عادة التمسك بالتضرع للآلهة باقية في نفوس المصريين فاتخذوا بدلًا من الآلهة أولياء الله الصالحين الذين يعتقدون في ظهور الكرامات على أيديهم، وإن من يقرن ما يحدث الآن في أضرحة هؤلاء الأولياء والشهداء بما كان يحدث في مصر القديمة ليجد أن الفرق قليل، وبخاصة عندما نعلم أن الأولياء والشهداء في نظر عامة الشعب المصري هم في الواقع في مرتبة الآلهة، ومن ثم فإن رجال الدين يعدون ذلك في نظرهم بدعة يحاربونها بكل ما لديهم من قوة، والغريب أننا لا نجد مثل هذا المظهر في بلد عربي غير مصر على تلك الصورة القوية.
وسنرى في درس متون العهد الديموطيقي البطلمي أن هؤلاء الأولياء والشهداء كانوا يُعامَلون معاملة السادة والآلهة، وكانت تُحبَس عليهم الأوقاف، وتقرب لهم القربات، وتقام لهم الصلوات كما هي الحال في مصرنا الحالية، وكما كان هناك أولياء ذكورًا وإناثًا في العهدين الفرعوني والبطلمي كذلك نجد أولياء ذكورًا وإناثًا في عهدنا الحاضر منذ ظهور الإسلام في مصر يقدَّسون بل ويعبدهم العامة؛ جهلًا منهم.
دلت الوثائق الديموطيقية التي درسناها — وهي التي ترجع إلى عهد البطالمة، وما قبله — على وجود أضرحة أولياء من كلا الجنسين، وقد جاء ذكرهم في عقود خاصة بوصايا أو بيع أو إيجار أو اتفاقات عن مدافن أو المحافظة على موميات، وكذلك جاء ذكرهم في عقود خاصة باستحقاقات أو مرتبات خاصة بأولئك الذين يقومون على خدمتهم.
والألفاظ الدالة على الأماكن التي يثوي فيها هؤلاء الأولياء ذكورًا كانوا أو إناثًا في الجبَّانة غامضة بعض الشيء من حيث المعنى، ولكن تدل شواهد الأحوال على أن الولي المتوفَّى كان يُدفَن في قبر (حت) وكان لهذا القبر بطبيعة الحال مقصورة أو ضريح (ست).
وأحيانًا كان يُبنَى للولي مقام كبير (ما) لإقامته فيه. هذا ونجد في المتون الديموطيقية كلمتين يعبران عن «الولي» أو الشيخ وهاتان الكلمتان هما «حرى» ومعناها «السيد» و«حسي» ومعناها المقرب، والكلمتان في معناهما تنطبقان على كلمة «ولي» كما نفهما الآن، فيقال مثلًا السيد البدوي وسيدي أبو الحجاج، وهذا ما نجده في الديموطيقية.
ولدينا متن آخر مؤرخ بالسنة الرابعة والثلاثين من عهد «بطليموس الثاني» ذكر أن امرأة أوصت لابنها الذي كان يعمل حانوتيًّا لأمنمؤبي (آمون الأقصر) في غربي طيبة بنصيبها في بيتٍ على الشاطئ الشرقي لطيبة بالإضافة إلى نصيبها في بعض مقابر على الشاطئ الغربي مع نصيبها كذلك في أوليائي (الضمير للمرأة المتكلمة) الذين دفنوا فيها (أي المقابر) وكذلك نصيب «شهدائي» مع ريع أملاكهم التي حددت بالنسبة لكل شيء يُحصَّل منها الآن، وما سينتج لنا في المستقبل من أرض المعبد والبلد. ومن ثَم نفهم أن هؤلاء الأولياء والشهداء أو الآلهة على رأي المصريين كانت لهم ممتلكات محبوسة عليهم، أو مقررة لهم، سواء أكان ذلك من الأرض، أم من المعبد، أم المدينة.
هذا ونجد في عهد «بطليموس الثالث» أن حانوتيًّا قد نزل لابنه عن المقابر والموميات الآتية: (يقصد بذلك دخل الأوقاف التي حُبِست عليها) الولي «حر برع» الشهيد وعشيرته والقبر الذي دفن فيه أهله، وقبر «بدى حربرع» الحفار وعشيرته والولية «تيتا» وعشيرتها، وقبر «أسخومنوس» السيد، والشهيد ملكي المسمَّى «أبريز-خوى»، وقبر «جمروس» السيد وعشيرته، و«سحبمين» بن «باتو» وكل فرد تابع للولي «حر برع».
ويقول الأستاذ مصطفى الأمير: إنه — على ضوء براهين عدة في متناولنا الآن — يظهر أن لفظة «حرى» هي اللقب العادي، وذلك لوجودها بنسبة واحد إلى خمسة في الأمثلة التي عرفت حتى الآن، ولا بد إذن أنها كانت تحمل معنًى خاصًّا بها بصرف النظر عن مصاحبتها مع كلمة «حسي»، وعلى ذلك فإن نظرية «جرفث» لا تتفق مع هذا الرأي تمامًا، والرأي الأصوب هو أن كلمة «حرى» تعادل كلمة سيد وكلمة «حس» تقابل كلمة شهيد.
هذا وقد عرفنا من ثماني عشرة وثيقة من جبَّانة «طيبة» جاء فيها ذكر مائة وليٍّ وعشرين شهيدًا، كما عرفنا أن نسبة عدد الأولياء الذكور للنساء هي أربعة لواحدة، ونسبة عدد الشهداء للشهيدات بنسبة تسعة لواحدة، وهذه الوثائق جميعها عُثِر عليها في جبَّانة ذراع أبو النجا، ومن الغريب أنه في الوثائق الأخرى «الطيبية» التي عُثِر عليها في «دير المدينة» وهي الموجودة في متحف تورين لم يُذكَر فيها أولياء أو شهداء، والظاهر أن موقع أضرحة هؤلاء الأولياء والشهداء هو جبَّانة ذراع أبو النجا؛ وذلك لأجل أن يكونوا على مقربة من قبر الملك «أمنحوتب الأول» أو معبده الجنازي، لأنه كان يُعتبَر الإله الخاص لهذه الجبَّانة كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
وفي اعتقادي أن هاتين العبادتين المختلفين أي عبادة الولي وعبادة الشهيد تمثلان المذهبين الهامين في الديانة المصرية القديمة؛ فعبادة الأولياء تمثل مذهب عبادة الشمس؛ أي المذهب الروحاني، وأن كلمة «حرى» مشتقة من كلمة حر أو حور الذي يُعتَبر مظهرًا من مظاهر الإله «رع» أو بعبارة أخرى المذهب الشمسي. أما عبادة الشهيد أي «حسي» فتمثل عبادة الإله «أوزير» أو العبادة الشعبية، وبخاصة عندما نعلم أن «أوزير» هو الإله المغرق، وكان يسمى مغرق المغرقين، أو بعبارة أخرى: شهيد الشهداء.
(٢) عبادة الحيوان في العهد البطلمي
والواقع أنه كان يوجد لكل نوع من الحيوان المقدس مكان خاص لإطعامه، كما كانت تُبنَى له مدافن خاصة، وكانت هذه الحيوانات تُحفَظ بعناية، وتوضع في توابيت من الخشب أو من الفخار.
وقد تحدثنا في الجزء السابق من مصر القديمة عن بيت البقرة الذي كان يقع في الجزء الشمالي من «طيبة»، وكذلك جاء ذكر مدافن القطط بمثابة الحدِّ الغربي للبيت الذي يقع في الجنوب الشرقي لبلدة «جمي»، وكانت مدافن الصقور و«أبيس» تقع في الجزء الشمالي من جبَّانة ذراع أبو النجا، كما جاء ذكر ذلك في بردية «فيلادلفيا» رقم ٢٤، وقد ترجمناها فيما سبق.
هذه نظرة عاجلة عامة عن الأحوال الدينية من الوجهة المصرية في ذلك العهد كما أمكن استنباطها من الأوراق البردية الديموطيقية، وما كتبه المؤرخون الإغريق. أما الحياة في المعابد فقد تحدثنا عنها في فصل خاص عندما تناولنا بحث معبد «إدفو» وما عليه من نقوش ومناظر دينية تكاد تكون منقطعة النظير توصلنا بها إلى رسم صورة عن الحياة الدينية في المعبد من حيث العبادات اليومية والأعياد والأحفال التي كانت تقوم في داخله وخارجه سنويًّا، وهي تختلف كل الاختلاف عن عبادات غير رجال الدين، كما أشرنا إلى ذلك في نفس الفصل.
(٣) حياة الأسرة في العهد البطلمي الأول
(٣-١) عقود الزواج
من الجائز أن عقود الزواج بالمعنى الحقيقي لم تظهر بصورة بارزة إلا في العهد البطلمي وما قبله بقليل، والواقع أن المتون المصرية القديمة من نقوش وأوراق بردية لم تسعفنا بعقود زواج حتى الآن في العهود المصرية الأولى، وذلك على الرغم من أن هناك إشارات وعبارات في النصوص الأدبية — وبخاصة في النصائح — تحبذ الزواج، كما يحدثنا بذلك أحد أبناء «خوفو» حيث يقول: إذا كنت رجلًا طيبًا أسِّس لك بيتًا وتزوَّج من امرأة صاحبة قلب، وستلد لك غلامًا، وبعد ذلك بألفي سنة يقول حكيم آخر: تزوج وأنت في العشرين حتى تنجب غلامًا وأنت لا تزال شابًّا.
والواقع أننا نرى أن في مصر منذ أقدم عصور تاريخها إلى عصر الدولة الحديثة كان الأب ينصح ابنه بأن يصنع لنفسه بيتًا؛ أي يتخذ لنفسه زوجًا وهو في سن الفتوة حتى تنجب له أولادًا. والظاهر أن المثل الأعلى للزواج عند المصريين الأقدمين والأحداث على السواء هو أن ينجب الرجل ذكورًا وهو لا يزال في مقتبل العمر، فيقول آني: إن الرجل السعيد هو الذي له أولاد كثيرون، والذي يُحتَرم بسبب أولاده.
وتدل الظواهر على أن العلاقات بين الرجل وزوجته منذ أقدم العهود كانت علاقات حب وعطف جاء عن طريق المعاشرة والميل المتبادل، ومن ثَم — على ما يظهر — لم تكن هناك في بادئ الأمر عقود زواج مسجلة فكان إذا حدثت الألفة حصلت المعاشرة والاتفاق الودي بين الطرفين، وهذا ما نجده في الإسلام، فإن المرأة إذا قالت لفرد زوجتك نفسي أمام شاهدين فإن ذلك يعد عقد زواج يمكن به المعاشرة دون حاجة إلى عقد زواج.
والواقع أنه لم يصل إلينا حتى الآن عقد زواج رسمي كالعقود التي نجدها في العهد المتأخر من تاريخ مصر، وبخاصة عهد البطالمة؛ وكل ما لدينا في هذا الصدد هو عقد تسوية لزواج يرجع تاريخه إلى الدولة الحديثة، ومن الغريب أنه لم يُذكَر فيه أية بيانات عن الرسميات التي كانت ضرورية لإتمام عقد الزواج شرعيًّا قبل ذلك العهد، كما نجد ذلك فيما بعد.
ولكن إذا فحصنا ما جاء من بيانات عدة في الوثائق الديموطيقية فإن هذا التفسير الذي أدلى به «شرني» لا يكاد يكون مقبولًا، والظاهر أن الوثيقة التي نحن بصددها تحتوي على قرار اتُّخذ في نقطتين منفصلتين عن بعضهما بعضًا؛ النقطة الأولى: هي قيام الزوج بنقل ما كانت تملكه الزوجة الأولى التي كانت قد توفيت إلى أولادها بصرف النظر عن ملكيته هو، والنقطة الثانية: هي تسوية موضوع الجزء الذي بقي له من عقاره بالنسبة لزوجه الثانية.
هذا ولم يذكر لنا دليل على أن العقار كان قد قُسِّم بنسبة اثنين لواحد، وكان كله في الأصل ملك الزوج، ومن جهة أخرى فإننا لو حكمنا بما لدينا من وثائق من العهد المتأخر لوجدنا أن صداق الزوجة كان ملكها الخاص، وأنه يبقى كذلك حتى يوم مماتها، ثم يُنقَل بعد ذلك إلى أولادها، وفي هذه الحالة الخاصة التي نحن بصددها كان العقار هو بيت والد الزوجة الأولى، وقد كان هذا منصوصًا عليه قانونًا؛ إذ قد اقتبس في هذه الوثيقة في الصورة الآتية: لقد قال الفرعون دع صداق كل امرأة يُعطَى إياها (وقد جاء ذلك في القرآن الكريم: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).
وقبل أن نفحص عقود الزواج، وما تحتوي عليه من مواد يجب أن نعرف هل كان الرجل يتزوج بواحدة أو أكثر في مصر القديمة؟
والواقع أن التزاوج بين الإغريق والمصريين قد وقع فعلًا في خلال القرن الثالث قبل الميلاد، ومن المؤكد أن مثل هذا الزواج كان يُعتبَر شرعيًّا، ويؤكد ذلك أن نَسْل الزوجين كان يحمل جنسية الوالد لا الوالدة؛ أي إن الأطفال في هذه الحالة كانوا يحملون الجنسية الإغريقية حتى لو كانت الأم من سلالة مصرية، ولن يغير من ذلك في شيء لو كان الأطفال يحملون أسماء مصرية.
وقد لوحظ أن صيغة الزواج المصرية المحلية قد نقلها عنهم الإغريق شيئًا فشيئًا، وكانت كل المسائل المالية المختصة بالزواج يُتفَق عليها في عقد خاص. يضاف إلى ذلك أن الإغريق كان في استطاعتهم أن يتزوجوا بصيغة من صنع المسجل الإغريقي، وكانت أهم ظاهرة فيها على ما يظهر النزول عن العروس، وهذه الصيغة الإغريقية قد اعتنقها المصريون على مر الأيام، كما اعتنق الإغريق صيغة الزواج المصرية، ومن ثَم نرى أن الزواج الذي عُقِد بوساطة إغريق كان يعتبر صحيحًا على حسب القانون المصري، ولكن لا يعتبر صحيحًا من حيث القانون الإغريقي؛ ومن أجل ذلك كان لا بد من الحصول على موافقة إغريقية قبل إبرام عقد الزواج حتى يصبح الزواج سليمًا.
وكانت القاعدة أن المطلقين كانا يحفظان لنفسهما الحق في أن يتزوجا ثانية.
وكانت العادة أن الزوج يتعهد برهن كل ملكيته في الحال والاستقبال مقابل ذلك، وهذا يعني أنه لن يكون في استطاعته أن يتصرف في ملكيته المرهونة دون موافقة زوجه.
هذه نظرة عامَّة عن قرن موضوع الزواج عند المصريين بالزواج عند الإغريق في العهد البطلمي، والآن نعود لفحص عقود الزواج والطلاق الديموطيقية في العهد البطلمي وما قبله؛ لنصل إلى صورة صحيحة عن الزواج في تلك الفترة من تاريخ البلاد، وهي الفترة التي تحن بصددها.
- (١)
التاريخ.
- (٢)
الأطراف المتعاقدة، وتصاغ في مثل العبارة التالية: إن فلان ابن فلان يدخل بيت فلان ابن فلان ليعلن خطبة زواجه من المرأة فلانة، وأمها هي فلانة؛ أي أم زوجته بمثابة زوجه هذا اليوم (راجع مصر القديمة الجزء ١٢).
- (٣)
ويتعهد الزوج فلان ابن فلان بأن يدفع صداقها (ويكون العادة دبنين من الفضة وخمسين مكيالًا من القمح).
- (٤)
كان على الزوج أن يحلف يمينًا على أنه لو ترك زوجه سواء أكان ذلك بسبب الكره، أم بسبب غرامه بامرأة أخرى أن يدفع لها صداقها ونصيبًا من كل ممتلكاته، وهذا النصيب كان في العادة هو ثلث ما يملك. أما إذا ارتكبت الزوجة الخطيئة الكبرى التي تعيب المرأة فإنه لا يدفع شيئًا لها.
- (٥)
يأتي بعد ذلك اسم الكاتب والشهود.
وكان التقليد المتبع في تلك الفترة من تاريخ البلاد أن يذهب الرجل الذي يريد الزواج إلى بيت العروس، ويحصل على موافقة حماه المنتظر، وذلك قبل أن توجد العلاقة الزوجية، ولعمري فإن هذا هو نفس التقليد المتبع في عهدنا الحاضر.
وكان الزوج يتعهد بعقد قسم بأن يدفع غرامة لزوجه إذا هجرها وتزوج من امرأة أخرى، وكان يُعفَى من دفع هذه الغرامة إذا ترك زوجه بسبب العقم أو الزنا.
عقود الزواج في العهد الفارسي
وكانت هناك إجراءات لا بد من القيام بتنفيذها قبل الزواج الفعلي. فقد رأينا أن الزوج كان يذهب إلى بيت نسيبه المرتقب، ويطلب إليه الموافقة على الزواج، ولدينا بعض تفاصيل في هذا الصدد جاءت في قصة ظلامة «بيتسي» التي أسهبنا فيها القول في الجزء الثاني عشر.
هذا ونجد في قصة «بتيسي» أن ابنته التي تزوجت حديثًا كانت من طريق سلوكها مع زوجها تظهر بأنها لا تزال طفلة، ولا تعرف معنى الزواج الجنسي الحقيقي، وذلك أن والدها عندما كان ذاهبًا إلى «طيبة» للقيام بتأدية أعمال خاصة به مع زملائه هناك جاء إلى بيتها ليودعها في بيت زوجها الذي تأهلت به حديثًا، ولكنها عندما علمت أن والدها سيتركها ويرحل بعيدًا عنها أخذت تنتحب ورَجَتْه أن يأخذها معه، وعندما سألها عن السبب في رغبتها في الذهاب إلى «طيبة» مع أنه من الأفضل أن تبقى لتقضي شهر العسل مع زوجها، أجابته بأنها ستكون أسعد حالًا عندما تذهب معه لتكون مع أخوتها من أن تبقى لتمضي شهر العسل مع زوجها، وعلى أية حال فإن الزواج المبكر في مصر كان دائمًا مشكورًا مستحبًّا.
ومن دَرْسِ عقود الزواج التي عُثِر عليها في «طيبة» في العهد الذي سبق عصر البطالمة يمكن أن نستنبط النقاط التالية:
- أولًا: كان لا بد لإتمام الزواج من موافقة والد العروس.
- ثانيًا: كانت المرأة في العهد الفارسي حرَّةً في أن تعقد قرانها مباشرة مع من جاء لخطبتها.
- ثالثًا: كان الزوج يدفع الصداق للزوجة في الوجه القبلي، ولكن في الوجه البحري كانت الزوجة هي التي تدفع المهر للزوج، وهذا الإجراء الأخير جاء عن التأثير الفارسي.
- رابعًا: كان الصداق يعد ملكًا للزوجة.
- خامسًا: كانت عصمة المرأة في يدها.
-
سادسًا: وفي حالة الطلاق كان على الزوج أن يرد الصداق، ويدفع ضعفه غرامة، هذا بالإضافة إلى ثلث
كل ما يملك من عقار وغيره.
يضاف إلى ذلك أنه كان على الزوجة أن ترد الصداق، وكذلك تدفع ما يقابل نصفه، وتفقد حقها في ثلث عقار الرجل إذا هي خانته.
- سابعًا: كان الرجل دائمًا يتزوج من نطاق أسرته، وكان زواج بنت الأخت والأخ مباحًا.
- ثامنًا: كان الزواج يحدث عادة في فصل الفيضان، وذلك عندما تكون أعمال الزرع معطلة.
- تاسعًا: لم نجد في عقود الزواج شروطًا خاصة بالنفقة التي يعطيها الزوج امرأته، وكذلك لم نجد قائمة بجهاز المرأة وما يجب على الزوج بخصوصه.
عقود الزواج في العهد البطلمي
لقد دلَّ فحص عقود الزواج منذ بداية العهد البطلمي على أنها بدأت تأخذ شكلًا وصيغة ثابتين سارت على نهجهما طول مدة حكم هذه الأسرة، ولم يحدث في جوهرهما إلا تغييرات ضئيلة من حيث التفاصيل، وأول ما يلفت النظر في عقود زواج هذه الفترة أن موادها كانت في معظمها تَنصَبُّ على المحافظة على حقوق المرأة أكثر منها عن حقوق الزوج.
ويُلحَظ أن الرجل في هذا العهد كان هو الطرف الأول بصورة عامة؛ لأنه هو الذي كان يدفع الصداق؛ ولذلك فإنه هو الذي كان يقول للزوجة لقد دفعت لك صداقك الذي كان قدره كذا قطعًا (= دبنات) من الفضة، وكان يسبق دفع الصداق العبارة التالية: لقد اتخذتك زوجة، أو لقد جعلت منك زوجة، وبعبارة أخرى كان يقابل دفع الصداق للمرأة أن تصبح في طاعة الرجل وملك يمينه. ثم يُذكَر بعد ذلك في العقد ما على الرجل من واجبات نحو زوجه من حيث النفقة التي كان لا بدَّ أن يدفعها حتى تعيش عيشة راضية؛ وكذلك تُذكَر الغرامة التي كان عليه أن يدفعها إذا هو سرَّحها، وهو ما يقابل عندنا في الشرع الإسلامي: مؤخر الصداق.
غير أن الأمر لم يقتصر في العقود البطلمية على دفع غرامة، بل كانت هناك حقوق أخرى يُنصُّ عليها في صلب العقد، وذلك أن يكون لها حق الثلث في كل ما يملك الزوج من عقار، وكذلك كانت تُراعَى حقوق أولادها في الميراث. يضاف إلى ذلك أن كل ما كانت تحضره معها الزوجة من جهاز كان يسجل في قائمة يُبيَّن فيها مفردات هذا الجهاز، وقيمة كل قطعة منه نقدًا، ويتعهد الزوج بردِّه لها إذا سرَّحها أو إذا أرادت هي أن تفارقه بالمعروف دون أن ترتكب ذنبًا أو خطيئة.
هذه هي الخطوط العريضة لمحتويات عقود الزواج في العهد البطلمي، غير أن موضوع الأساس الذي كان يقوم عليه قانون الزواج كان موضوعًا مَثار نقاش طويل اختلفت فيه آراء علماء الديموطيقية الذين درسوا هذه العقود.
- (١)
في الورقة الأولى يعترف الرجل بأنه تسلم نقودًا من المرأة (زوجه).
- (٢)
في الورقة الثانية يعترف بأن ابنته ترثه مع أولاده السابقين واللاحقين.
- (٣)
وفي الورقة الثالثة تخصص المرأة نصف متاعها هي لابنها الأكبر (من زوجها الأول).
- (٤)
وفي الورقة الرابعة تعطي المرأة النصف الآخر من ثروتها ابنتها (من زوجها الثاني).
ومن ثم نفهم أن الوثيقة الأولى التي هي موضوع البحث ليست عقد الزواج الثاني، ولكن هي عبارة عن الاعتراف بتسلم المهر الذي دفعته المرأة من قبل عندما تم الزواج، وهذا بلا شك هو السبب في عدم ذكر عبارة: «لقد جعلت منك زوجة.» في البيان الافتتاحي الذي ورد في الوثيقة.
ومما سبق يتضح جليًّا أن عبارة: «لقد جعلت منك زوجة.» أو «لقد اتخذتك زوجة.» وهي التي يُفتتَح بها عقد كل زواج في العهد البطلمي هي التي تعد الإعلان الرسمي للزواج الذي يقرره الزوج والزوجة في بيت والد الزوجة. هذا ولما كنا نعلم أن هذا الإعلان يتم قبل إنهاء الزواج، فإنه في استطاعتنا أن نستنبط بصورة مؤكدة أن وثائق الزواج كانت في الواقع تعد السجل الرسمي الدال على الاعتراف بحدوث الزواج؛ ولا نزاع في أن مثل هذه العقود كانت ضرورية؛ لتجعل الزواج أمرًا شرعيًّا أمام القانون. هذا وليس لدينا من البراهين ما يعضد ما فرضه «إدجرتون» عندما يقول: «إن الرجل قد يكون له أطفال وُلِدوا له من المرأة قبل أن يعقد عليها رسميًّا.» حقًّا قد يكون مصيبًا في حالة واحدة وهي إذا كان قد تمَّ الاتفاق بين الرجل والمرأة بزواج عرفي دون عقد زواج رسمي، وهذا ما يحدث كثيرًا في عهدنا الحاضر، ثم إنه بعد أن رُزِق منها أولادًا وَجَد أنه لا بد من الاعتراف بهم، ومن ثَم حرَّر عقد زواج رسمي معترفًا بهم، وبخاصة إذا كان قد تزوج قبل ذلك ورزق أولادًا.
ومن المحتمل أن مثل هذا القانون كان معمولًا به عند وقوع قصة «ستني»، وأن ما طلبته «تابوبو» كان خوفًا من تطبيق هذا القانون إن هي لم تتخذ هذا الاحتياط. على أن «تابوبو» لم تقف عند هذا الحدِّ، بل بالغت في مطالبها؛ إذ طلبت إلى «ستني» أن يقتل أولاده خوفًا من أن يدَّعوا بأنهم قد وقَّعوا على هذه الحُجَّة قهرًا، وبذلك يمكنهم أن يطلبوا حقوقهم منها، ومن أولادها في المستقبل.
والواقع أن الغرض من قتل أولاد «ستني» كان يرمي إلى غرض قانوني، ولم يكن المقصود منه أولًا إيقاع الضرر «بستني» كما ذكر «إدجرتون» بل كانت تريد «تابوبو» بذلك ضمان مركزها الاجتماعي بوصفها زوج «ستني»، وفي الوقت نفسه كانت تريد تأمين عقارها لأولادها من بعدها خوفًا من أولاد «ستني» الذين كانوا من زوجة أخرى.
وخلاصة القول: قد أصبح من الواضح أنه لما كانت قصة «ستني» على الرغم من أنها أسطورة فإنها مع ذلك تعكس أمامنا صورة عن العادات والإجراءات القانونية المصرية التي كانت متَّبعة في هذا العهد؛ وعلى ذلك فإنه ليس من المنطق أن نعتبرها بمثابة كابوس شنيع كما يراها «إدجرتون».
يضاف إلى ذلك أنه لا يمكننا أن نصف هذه القصة بأنها تخطَّت حدود الأدب بالمعنى الذي رآه «إدجرتون»، وبخاصة عندما نفهم أن كل أفعال «تابوبو» كانت ترمي إلى الحصول على الاحترام والمنزلة التي تليق بزواج شرعي حتى ولو أنها تُلام على استخدام شهوة «ستني» البهيمية للوصول إلى غرضها، وللحصول على عقار لأولادها.
نعود إلى سؤال سأله الأستاذ «زيدل» في هذا الصدد، وهو محقٌّ فيه كل الحق، وهو: ما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في زواج صحيح في مصر القديمة؟ وهذا السؤال يصبح من الأهمية بمكان عندما نعلم على حسب رأي كلٍّ من «ينكر» و«إدجرتون» أن ترتيبات الزواج على ما يظهر لم تكن تشمل هذا الفرض.
فيقول «إدجرتون»: إن الجواب الذي توحي به قصة «أهوري» و«نا-نفر-كا-بتاح» عن ذلك بسيط وطبيعي، والواقع أنه يتفق تمام الاتفاق مع عادات الزواج عند الأقوام الأخرى لدرجة أني لا أتردد في احتمال صحته. فنجد أن والد العروس يجعلها تُزف في حفل شعبي إلى بيت العريس ليلًا ومعها هدايا ثمينة. أما العريس فيولم وليمة عظيمة يَحضُرها المدعوون ومعهم هداياهم، وبعد الانتهاء من الوليمة يذهب العروسان إلى فراشهما سويًّا؛ وفي الوقت المناسب بعد ذلك تضع الزوجة ذكرًا، ولكن يُلحَظ أن كون الزوجة والزوج في هذه الحالة كانا أخًا وأختًا فإن ذلك لا يعتبر إلا تفصيلًا قد أضفى كثيرًا من الجمال على القصة عند مجتمع مصري، ومع ذلك فإن ذلك لا يؤثر على سير الإجراءات.
والواقع أن الزوجين كانا الولدين الوحيدين للملك، وأن زواجهما في هذه الحالة كان هو الأمل الوحيد لفلاح البيت المالك وبقائه، فقد أصبح ذلك الضمان الوحيد في أنه يجب ألا يحذف أي تفصيل من عقد الزواج، أو من المحتمل من الإدلاء به. على أن ارتباط الأخ والأخت بحب وثيق بينهما وحبهما لابنهما، لم يكن في حاجة إلى وثيقة شرعية لنقل أملاكهما لابنهما، غير أن القصَّاص الذي قصَّ قصة «ستني» يخبرنا بدقة اسم الذكر المولود حديثًا، وقد سجل اسمه في حينه في كتاب «بيت الحياة»، لم يغب عنه أن يخبر مجلسه أن والدي الطفل كانا قد تزوَّجا زواجًا شرعيًّا، والظاهر إذن أن الزواج الشرعي كان يتم إما بمجرد اعتبار الخطيبين أنفسهما أنهما زوج وزوجة أو بالاعتراف الفعلي أو الضمني أمام الجمهور بأنهما قد تزوَّجا، وأن مجرد جلوسهما معًا في وليمة الزواج يعد اعترافًا ضمنيًّا بأنهما قد تزوجا، وليس لدينا أي سبب لنفرض أنه كان يوجد هناك أية حاجة لإقامة أي حفل آخر لإتمام الزواج، ومن المحتمل جدًّا أن موافقة والِدَي العروسين وكذلك والِدَي العروسة كانت مستحبة.
ولا شك في أن «أهوري» لم يكن في مقدورها أو لم تكن ترغب في إتمام الزواج من أخيها إلا بعد حصولها على موافقة والدهما الملك، وبعد ذلك نجد أن «إدجرتون» يقول لنا: «إن رأيه هذا الذي دوَّناه هنا ليس إلا مجرد نظرية؛ لأن البراهين على صحتها لا تزال تعوزه.»
(٣-٢) الطلاق
والصيغة التي تُفتتَح بها أقدم وثيقة طلاق مؤرخة بعام ٥٤٢ق.م؛ حيث يقول الزوج لمطلقته: «لقد سرحتك بوصفك زوجة من اليوم.» وفي العهد الفارسي نجد الصيغة واحدة تقريبًا كالسابقة، والواقع أن كل وثائق الطلاق تكاد تكون موحدة في تعبيراتها، ومختصرة جدًّا، ويأتي بعد الصيغة السابقة العبارة التالية: «اتخذي لنفسك زوجًا آخر.»
وعلى أية حال لم نجد في العقود الديموطيقية ما يدل على أن الرجل كان عليه أن ينفق على زوجه إذا طلقها وهي حامل، وإن كنا قد وجدنا ذلك في العقود الإغريقية كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق في هذا الفصل، وعلى أية حال فإن الغرامة التي كان يدفعها الزوج عند الطلاق محددة كما ذكرنا فيما سبق، غير أنها كانت باهظة مما جعل أمر الطلاق عند الرجال من الأمور غير المرغوب فيها، وقد كان من السهل على الزوج أن يهجر زوجه، أو يتزوج من أخرى عن أن يطلقها؛ وذلك لأن الزواج كان صداقه في العادة دبنًا واحدًا من الفضة في حين أن غرامة الطلاق كانت خمسة أو عشرة أمثال هذه القيمة، بل كانت أحيانًا أكثر من ذلك، ولعل فداحة الغرامة يرجع أحيانًا إلى أن المرأة تكون حاملًا، وعليها أن تربي ابنها بعد الوضع.
ومما تجدر ملاحظته أن الشهود الذين كان لا بد منهم في وثائق الطلاق أربعة، ومن الغريب أننا لم نجد في أية وثيقة من وثائق الطلاق العشر التي عُثِر عليها حتى الآن أية إشارة تشير إلى سبب الطلاق؛ وعلى أية حال فإن السبب أو الأسباب هي التي ذُكِرَت في عقود الزواج وهي الزنا أو العقم أو عاهة تشوه الوجه.