مغامرة قدم الشيطان
عند تَسجيلي، من وقتٍ لآخَر، بعضًا من التجارِب المُميَّزة والذِّكريات المُثيرة التي خُضتُها مع صَديقي شيرلوك هولمز الذي تَربطني به صداقة طويلة وحَميمة، أُواجِه دَومًا صُعوباتٍ بسببِ بُغضه لنَشر قضاياه. فبسبب رُوحه الساخِرة القاتِمة على الدَّوام يَعتقِد أن كافة صُور الاستِحسان الجَماهيري أمرٌ بَغيض، ولا يُسعِده عند الانتهاء من قضيةٍ بنَجاح أكثرُ من تسليم الحلِّ الصحيح إلى أحد المسئولين التقليديِّين، والاستماع بابتسامة ساخِرة إلى التغنِّي العام بتِهنئة في غير مَوضِعها. وفي الواقِع، كان هذا المَوقِف من جانب صديقي، وليس بالتأكيد الافتِقار إلى الموادِّ المُثيرة للاهتِمام، السببَ في إقلالي في السنوات الأخيرة مما أَعرِضه من سجِلَّاتي على عامَّة الناس؛ فقد كان اشتراكي في بعضٍ من مغامراته امتيازًا يتطلَّب دومًا قدرًا من التحفُّظ والتكتم من جانبي.
لم لا تُخبرهم عن رُعبِ كورنوال؛ أغرب قضية تَسلمتُها.
ليس لديَّ أدنى فكرة عن الذِّكريات القديمة التي أعادت عليه هذه المسألة وجعلتْه يَتذكَّرها، أو ما الشيء الغريب الذي جعله يَرغبُ في أن أَسرِدها؛ لكني أسرعتُ قبل أن تَرِدني برقيَّة أخرى تلغي الأمر، وبحثتُ عن الملاحظات التي تُخبرني بتفاصيل القضية وتُساعِدني في سَردِها على القُراء.
حدَث هذا في ربيع عام ١٨٩٧، حين ظهرت على بِنيَة هولمز الحديدية بعض أعراض الإعياء بفعل العمل الشاقِّ المستمر ذي المعايير الصارِمة، وربَّما تفاقم بفعل أفعاله الطائشة بين الحِين والآخَر. وفي شهر مارس من هذا العام أصدر الدكتور مور آجار، من شارع هارلي، الذي ربما سأَسرد واقعةَ تَعرُّفه الدرامية على هولمز في يومٍ ما، تعليمات حازمة بأن يَترك هذا المُحقِّق الخاص الشهير كافة قضاياه ويَستسلِم للراحة التامَّة إن أراد تجنُّب التعرُّض لانهيار كامل. لم يكن هولمز يَكترِث البتَّة بوضع حالته الصحية؛ إذ كان هذا الموضوع غائبًا عن تَفكيره بالكامِل، لكنه أُجبر في النهاية، تحت تَهديد فقدان الأهلية للعمل إلى الأبد، على إعطاء نفسه فرصةً لتغيير المَناظر والهواء؛ ومن ثم ذهَبْنا معًا في أوائل فصل الربيع من هذا العام إلى كُوخ صَغير بالقُرب من خليج بولدو، في أقصى أَطراف شبه جزيرة كورنوال.
كانت بُقعة مميَّزة، وتَتناسب تمامًا مع الدُّعابات المَريرة لمريضي. ومن نافذة منزلِنا الصغيرِ المَطليِّ باللون الأبيض، الذي كان يقع على لسانٍ بحري مَكسوٍّ بالأعشاب، كنا نُطلُّ على نصف الدائرة المشئومة لخَليج ماونتس، التي تُمثل فخَّ الهلاك للسُّفن الشراعية؛ بسبب حافَّة المُنحدَرات السَّوداء والشِّعاب المرتفعة التي لقيَ فيها عددٌ لا حصرَ له من البحَّارة حتْفهم. ومع هبوب الرياح الشمالية يَمتد هذا المَجرى المائي مُتمتِّعًا بالحماية والهدوء، ويَجذِب إليه المراكب التي تَقذِفها الرِّياح لتجنَح وتستقر فيه من أجل الراحة والحِماية.
ثم تهبُّ رياح عاصفة؛ العاصِفة العاتية القادمة من الجنوب الغربي، فتتعرَّض المَرساة للسَّحب، وتَجنح نحو الشاطئ، وتَخوضُ معركتَها الأخيرة ضد الأَمواج العاتية. إنَّ البَحَّار الحكيم يَبقى بعيدًا عن هذا المكان الشرِّير.
على اليابسة، كانت البيئة المُحيطة بنا قاتمةً تمامًا كما في البحر؛ فقد كان ريفًا من المُستنقَعات المُنحدِرة، مُنعزِلًا وقاتم اللون، مع ظهور برج كنيسةٍ هنا وهناك كعلامة دالَّة على وجود قرية قديمة في المكان. وفي كل اتجاه من هذه المُستنقَعات تُوجَد آثار لعِرْق مُندثِر اختفى كله بالكامل، ولم يَترُك إلا إثباتًا واحدًا على وجودِه في شكل آثار حجَرية غريبة الشَّكل، وأكوامٍ تُرابية غير مُنتظمة الشكل تحتوي على الرماد المَحروق لأَمواتهم، والآثار الأرضية الغريبة التي تُشير إلى صراع في عصور ما قبل التاريخ. راقَ سحر المكان وغموضه، بمناخه المشئوم الذي يُشير إلى أُمم مَنسية، لمُخيلة صديقي، فقضى مُعظَم وقته في السَّير لمَسافات طويلة والتأمُّل بمُفردِه في المُستنقعات. وجذَبَت اللغة الكورنية أيضًا اهتمامه، وتوصَّل، على ما أذكر، إلى فكرةِ أنها تُشبه اللغة الكلدانية، واستُمدَّت بدرجة كبيرة من التجار الفينيقيِّين الذين كانوا يُتاجرون في القصدير. كان قد تسلَّمَ شُحنة من الكتب عن الفلسفة، وكان على وَشكِ الشروع في وَضعِ هذه الفرضية حين وجَدنا أنفسَنا فجأة — مما أحزنَني وأسعدَه سعادةً غامرة — حتى في أرض الأَحلام هذه غارِقين في مُشكلةٍ على أعتاب بابِنا، كانت أكثر حدةً وتشويقًا، وقطعًا أكثر غموضًا من أيٍّ من القَضايا التي دفعَتْنا إلى تَركِ لندن. فتعرَّضَت حياتُنا البسيطة والهادئة ونظام حياتنا الصحِّي إلى مُقاطَعة عنيفة، وأسرَعْنا بالدخول ضمن سلسلة من الأحداث سبَّبت أكبر قدرٍ من الإثارة ليس في كورنوال وحدها بل في جميع أنحاء غرب إنجلترا بأكملها. ربما يكون لدى كثير من قُرائي بعض الذكريات عما أُطلِق عليه في هذا الوقت «رعب كورنوال»، على الرغم من عدم وصول القصَّة على حقيقتها كاملةً إلى الصَّحافة في لندن. والآن وبعد ثلاث عشرة سنة سأَذكُر التفاصيل الحقيقية لهذه القضية غير المَعقولة للرأي العام.
لقد ذكرتُ أن أبراجًا مُتفرِّقة للكنائس كانت تُشير إلى وجود قُرًى موزَّعة في هذا الجزء من كورنوال. كانت أقربها قرية تريدانيك ولاس، حيث يَتجمَّع نحو مائتَي كوخ لسُكانها حول كنيسة قديمة ومُغطَّاة بالطحالب. كان كاهن الأبرشية، السيد راوندهاي، أقرب إلى عالِم الآثار، وعلى هذا الأساس تعرَّف هولمز عليه. كان رجلًا في مُنتصَف العمر، بدينًا ولطيفًا، وواسعَ المَعرفة بالأساطير المَحلية. تناولنا الشاي، تلبيةً لدعوته، في مقرِّ إقامتِه في الكنيسة، وتعرَّفْنا هناك إلى السيد مورتيمر تريجنس، وهو رجل حرٌّ يَزيد موارد الكاهن الشحيحة عن طريق استِئجار جزء من منزله الضخم الواسع. وكان الكاهن، نظرًا لكونه عَزَبًا، سعيدًا بهذا الاتفاق، على الرغم من عدم وجود قواسم مُشترَكة كثيرة بينه وبين النَّزيل عنده، الذي كان نَحيلًا وأسمر الوجه ويَرتدي نظارات، ولدَيه حدبة تُعطي الانطباع بمُعاناته فعليًّا من تشوُّهٍ جسَدي. وأذكر أنَّنا في أثناء زيارتنا القصيرة وجَدنا الكاهن ثَرثارًا، ولكن المُستأجِر كان قليل الكلام على نحوٍ غريب، ووجهُه حزينًا ومنطويًا، ويَجلس دون النظر إلينا، ويبدو عليه الانشغال في التفكير في شئونه.
كان هذان الرجلان هما مَن دخَلا فجأةً إلى غرفة جُلوسنا في يوم الثلاثاء السادس عشر من مارس بعد تناولِنا الإفطار بوقتٍ قصير، بينما كنا نُدخِّن معًا، تمهيدًا لرحلتنا بين المُستَنقعات.
قال الكاهن بصوت مُنزعِج: «سيد هولمز، وقعَت حادثة من أكثر الحوادث غرابة ومأساوية في أثناء الليل. شيء لم يَسمع أحد به من قبلُ قط. ولا يَسعنا إلا التفكير بأن وجودك هنا في هذا الوقت من قبيل العناية الإلهية الخاصة؛ إذ إنَّك الوحيد في إنجلترا كلها الذي نحتاج إليه الآن.»
نظرتُ إلى هذا الكاهن المتطفِّل نظرةً غير ودودة على الإطلاق، لكن هولمز أخرج الغليون من فمه واعتدل في مقعده مثل كلبٍ مُسنٍّ سمع نداء الصياد تعبيرًا عن خروج الفريسة من مَكمَنها. أشار بيده إلى الأريكة، فجلَس زائرنا المُضطرب مع رفيقه المنزعج جنبًا إلى جنب. كان السيد مورتيمر تريجنس متمالكًا نفسه أكثر من الكاهن، لكن أظهرت يداه النحيلتان المرتجفتان وعيناه الداكنتان اللامعتان أنَّ المشاعر ذاتها كانت تتملَّكه.
سأل الكاهن: «هل أتحدث أنا أم تتحدث أنت؟»
قال هولمز: «حسنًا، بما أنه من الواضح أنك أنت مَن اكتشف الواقعة أيًّا كانت، وأن الكاهن لم يَرَها مُباشرةً، فربما من الأفضل أن تتحدَّث أنت.»
نظرتُ إلى الكاهِن الذي ارتدى ملابسه على عجل، والمستأجرِ الذي يرتدي ملابسَ رسميةً الجالسِ بجواره، واستمتعتُ بالمفاجأة التي بدت على وجوه كل منهما بفعل استنتاج هولمز.
قال الكاهن: «ربما من الأفضل أن أقول بضع كلمات أولًا، ثم يُمكنك أن تُقرِّر إما الاستماع إلى التفاصيل من السيد تريجنس، أو الإسراع بالذهاب على الفور إلى موقع هذه الحادثة الغامضة. دعني إذن أشرح لك أن صديقنا هنا قضى مساء ليلة أمس بصُحبة شقيقَيه، أوين وجورج، وشقيقته بريندا، في منزلهما تريدانيك وارثا، الواقع بالقرب من الصليب الحجري القديم في المُستنقَع. وقد تركهم بعد الساعة العاشرة بقليل، وهم يَلعبون ألعاب الورق حول طاولة تناول الطعام، وهم بصحة جيدة ومعنويات مُرتفِعة. إنه شخص يعتاد الاستيقاظ مبكرًا، وفي صباح اليوم بينما كان يسير في هذا الاتجاه قبل الإفطار تفاجأ بوجود عربة الدكتور ريتشاردز، الذي أوضح له أنه ورَدَه استدعاء عاجل للغاية من منزل تريدانيك وارثا. وبطبيعة الحال ذهب السيد مورتيمر تريجنس معه، وحين وصَل إلى تريدانيك وارثا وجد وضعًا غريبًا للغاية؛ فقد كان شقيقاه وشقيقته يَجلِسون حول الطاولة تمامًا كما ترَكهم، وكانت أوراقُ اللَّعِب ما زالت مُبعثَرة أمامهم والشموع احترقت حتى تلاشَت. كانت شقيقته تجلس جثَّةً هامدةً في مقعدها، بينما جلس شقيقاه على كلا جانبَيها يَضحكان ويَصيحان ويُغنيان، وقد فقَدا صوابهما بالكامل. ارتسم على وجوه الثلاثة؛ السيدة المُتوفَّاة والرجلين اللذَين فقَدا عقلهما، تعبيرٌ ينمُّ عن رعب هائل؛ مظهر من الرعب يَجفل المرء من النظر إليه. لم تكن تُوجد إشارة على وجود أي أحد آخَر في المنزل، باستثناء السيدة بورتر، الطباخة ومُدبرة المنزل المسنَّة، التي قالت إنها استغرقت في النوم ولم تسمعَ صوتًا في أثناء الليل. لم يتعرَّض أي شيء للسرقة أو البعثرة، ولا يوجد أي تفسير على الإطلاق لما يُمكنه أن يكون قد أرعب سيدة حتى الموت ودفع رجلَين قويَّين إلى الجنون. هذا هو الموقف يا سيد هولمز باختصار، وإن أمكنك المساعدة في توضيح ما حدَث فستكون قد قمت بعمل عظيم.»
تمنَّيتُ لو أستطيع بطريقة ما استِمالة رفيقي للعودة إلى الهدوء الذي كان الهدف من رحلتنا، لكن بمجرد النظر إلى وجهه المنفعل وحاجبيه المقطبين أدركتُ مدى عبثِ توقُّعاتي؛ فقد جلس لفترة قصيرة في سكون، شاردًا في المأساة الغريبة التي أفسدت علينا ما نَنعم به من سلام.
قال أخيرًا: «سأفحص هذه المسألة، فهي في ظاهرها قد تبدو ذات طبيعة استثنائية للغاية. هل ذهبتَ إلى هناك بنفسِك يا سيد راوندهاي؟»
«لا يا سيد هولمز، فقد عاد السيد تريجنس إلى منزلي وهو يحمل هذه القصة، وهرعتُ معه على الفور من أجل استشارتك.»
«كم يَبعُد هذا عن المنزل الذي حدثت فيه هذه المأساة الاستثنائية؟»
«نحو ميلٍ على اليابِسة.»
«إذن، سنَسير معًا إلى هناك، لكن قبل أن نبدأ يجب أن أَطرح عليك بعض الأسئلة يا سيد مورتيمر تريجنس.»
ظلَّ الرجل الآخر صامتًا طوال هذا الوقت، لكني لاحظتُ أنَّ توتُّره الذي يُحكم السيطرة عليه فاقَ حتى المشاعر المَلحوظة للكاهن. لقد جلس ووجهه شاحبًا ويبدو عليه الإعياء، ويُثبِّت نظره في قلقٍ على هولمز، وهو يُشبِّك يدَيه في تشنُّج معًا. كانت شفتاه الشاحبتان تَرتعِشان حين جلس يسمع التجربة المروعة التي تعرضت لها أسرته، وبدا كما لو أن بعضًا من رعب المشهد يظهر في عينَيه الداكنتَين.
قال بلهفة: «اسأل ما تشاء يا سيد هولمز، فهو أمر سيِّئ لا أريد الحديث عنه، لكني سأُجيب عن أسئلتك بالحقيقة.»
«أخبرني عن ليلة أمس.»
«حسنًا، يا سيد هولمز، لقد تناولتُ العشاء هناك، كما قال الكاهن، واقترح أخي الأكبر جورج أن نلعب لعبة بالورق بعد ذلك. فجلسنا نلعب في نحو الساعة التاسعة. ثم هَممتُ بالمغادرة في نحو العاشرة والربع، وتركتُهم جالسِين جميعًا حول الطاولة، في سعادة بالغة.»
«مَن أوصلَك إلى الخارج؟»
«كانت السيدة بورتر قد أخلدت إلى النوم، فخرجتُ بمفردي، وأغلقتُ باب الغرفة خلفي. كانت نافذة الغرفة التي يَجلسون فيها مُغلَقة، لكن الشيش لم يكن مغلقًا. لم يطرأ أيُّ تغيير على وضع الباب أو النافذة هذا الصباح، ولا يوجد أي سبب يدعو إلى التَّفكير في دخول أي غريب إلى المنزل. ومع ذلك فقد كانوا جالِسين هناك، أصابَهم الجنون بالكامل من الخوف، وبريندا جثَّة هامدة من الرُّعب، ورأسها يتدلى على ذراع المَقعد. لن يُمحى منظر هذه الغرفة من ذهني أبدًا ما حييت.»
قال هولمز: «إنَّ الوقائع كما تَسردها تبدو بالتأكيد غريبة للغاية، أعتقد أنك لم تكوِّن نظريةً بنفسك عما يمكن أن يكون قد تسبَّب في هذا، أليس كذلك؟»
صاح مورتيمر تريجنس: «إنه عملٌ شيطانيٌّ، يا سيد هولمز، عملٌ شيطاني! إنه لا ينتمي إلى هذا العالم؛ شيء ما دخل إلى هذه الغرفة وأذهب عقولهم. ما الحيلة البَشرية التي يُمكنها فعل هذا؟»
قال هولمز: «أخشى أنه لو كان الأمر غير بشري، فإنه سيكون بالتأكيد بعيدًا عن تخصُّصي. ومع ذلك علينا أن نَستنفِد كافة التفسيرات الطبيعية قبل اللجوء إلى مثل هذه النظرية. وبالنسبة إليك يا سيد تريجنس، فأرى أنك انفصلتَ بطريقة ما عن عائلتك، بما أنهم جميعًا يَعيشون معًا وأنت تعيش في مكان مُنفصِل عنهم، أليس كذلك؟»
«هذا صحيح يا سيد هولمز، إلا أنَّ هذا أمرٌ قديم مُنتهٍ؛ فقد كانت أسرتنا تعمل في تعدين القصدير في بلدة ريدروث، لكنَّنا بِعنا مشروعنا لإحدى الشركات، وتقاعَدنا عن العمل ومعنا ما يكفينا من المال. لا أُنكر وجود بعض الضغائن بسبب تقسيم المال، وظلَّت هذه الضغائن بيننا لفترة من الوقت، لكننا نسينا كلَّ شيء وتغاضَينا عنه، وأصبحنا أصدقاء مُقرَّبين.»
«عند استرجاعك لأحداث الليلة التي قضيتموها معًا، هل ثمة أي شيء يَرِد على ذاكرتك بإمكانه إلقاء أي ضوء مُمكن على هذه المأساة؟ فكِّر بتأنٍّ يا سيد تريجنس في أي دليل يُمكنه أن يُساعدني.»
«لا أتذكَّر أي شيء على الإطلاق يا سيدي.»
«هل كان رفاقك في حالتهم المزاجية المُعتادة؟»
«كانوا في أحسن حال.»
«هل كانوا أشخاصًا عصبيِّين؟ هل بدا عليهم أي خوفٍ من خطرٍ وشيك؟»
«لم يبدُ عليهم أي شيء من هذا النوع.»
«إذن ليس لديكَ ما تُضيفه ويُمكنه مساعدتي، أليس كذلك؟»
فكَّرَ مورتيمر تريجنس للحظةٍ بجدِّية، ثم قال أخيرًا: «ثمَّة أمر واحد يَخطر على بالي. فحين كنا جالسين حول الطاولة كان ظهري باتجاه النافذة، وكان أخي جورج، الذي كان شريكي في اللعبة، يَجلس في مواجهتها. رأيته في إحدى المرات وهو يَنظُر بتمعُّن خلفي، لذلك استدرتُ ونظرتُ أيضًا. كان الشيش مفتوحًا والنافذة مُغلَقة، لكني كنتُ أستطيع رؤية الشُّجَيرات الموجودة في الحديقة، وبدا لي للحظة أني رأيتُ شيئًا يَتحرَّك بينها. لم أَستطِع تمييز إن كان إنسانًا أم حيوانًا، لكني ظننتُ فقط أن ثمة شيئًا هناك. وحين سألتُ أخي عما ينظر إليه، أخبَرَني أن لديه الشعور نفسه. هذا كل ما يُمكنني قوله.»
«ألم تتحرَّ الأمر؟»
«لا؛ فقد اعتبرنا المسألة غير مُهمة.»
«لقد تركتَهم إذن دون وجود أي نذيرِ شر، أليس كذلك؟»
«لم يكن ثمَّة شيء على الإطلاق.»
«ليس واضحًا لي كيف علمتَ بالخبر في وقتٍ مُبكِّر للغاية هكذا، من هذا الصباح.»
«من عادتي الاستيقاظ مبكرًا، وبوجهٍ عام أذهب للسَّير قبل الإفطار. وهذا الصباح لم أكد أبدأ حتى التقيتُ الطبيب في عربته، وأخبرني أن السيدة بورتر أرسلت صبيًّا إليه برسالة عاجلة. ركبتُ العربة على الفور بجواره وذهَبنا معًا. وحين وصلنا دخلنا إلى هذه الغرفة المُفزِعة. كان من الواضح أن النار والشموع قد انطفأت منذ ساعات، وظلُّوا جالسين في الظلام حتى بزوغ الفجر. قال الطبيب إن بريندا لا بد أنها لقيَتْ حتْفها منذ ستِّ ساعات على الأقل، ولم يكن ثمة أي أثر للعنف؛ فقد كانت مُستلقية على ذراع المقعد وعلى وجهها هذه النَّظرة. أما جورج وأوين فقد كانا يُغنِّيان قِطعًا من أغنيات ويُثرثِران مثل القِرَدة العليا. آه، لقد كان مَشهدًا مُروِّعًا! لم أَستطِع تحمُّله، وكان الطبيب شاحب اللون مثل ورقة بيضاء. في الواقع لقد تهاوى في أحد المقاعد شِبه فاقد الوعي، وكِدنا نَحتاج إلى إسعافه هو أيضًا.»
قال هولمز وهو يَنهض من مقعده ويَخلع قبَّعته: «عجيب، عجيب للغاية! أعتقد أن من الأفضل أن نذهب إلى تريدانيك وارثا دون أي تأخير. فأنا أعترف أني لم أرَ قضيةً بدت للوهلة الأولى ذات طابع فريد مثل هذه من قبلُ.»
لم تُسهم إجراءاتُنا في صباح اليوم الأول كثيرًا في تطور التحريات، لكن ما ميَّزها من البداية كانت حادثة بعثت في ذهني أسوأ انطباع بوجود شيء مشئوم. فحين اقتربنا من مكان وقوع المأساة وجدنا أنفسنا في ممرٍّ ريفيٍّ ضيق ومتعرِّج. وبينما كنا نَسير فيه سمعنا صوت عربة قادمة نحونا ووقَفنا على جانب الطريق حتى ندعها تمر. وبينما كانت العربة تمر بجوارنا لمحتُ عبر النافذة المُغلَقة وجهًا عابسًا به قسَمات واضحة بَشِعة ينظر إلينا. لمَعت عيناه المُحدِّقتان وأسنانه المُطبقة على بعضها وهو يمرُّ بجوارنا في منظر مروع.
صاح مورتيمر تريجنس، الذي شحَب لونه: «شقيقاي! إنهم يأخذونهما إلى هيلستون.»
نظرنا بفزع نحو العرَبة السوداء، التي تتحرَّك بتثاقل في طريقها. ثم وجَّهنا خطواتنا نحو المنزل المشئوم الذي لقيا فيه مَصيرهما الغريب.
كان منزلًا ضخمًا ومشرقًا، به حديقة كبيرة ممتلئة بالفعل، في مناخ كورنوال هذا، بأزهار الربيع. عبْر هذه الحديقة رأينا نافذة غرفة الجلوس في الواجهة، التي في رأي مورتيمر تريجنس دخل عبرها هذا الشيء الشرِّير الذي أذهب عقولهم في لحظة واحدة بما بثَّه فيهم من رُعبٍ تام. سار هولمز ببطء وتأنٍ بين رُقَع الأزهار، وعلى طول الممر، قبل أن نَدخُل إلى الرُّواق. كان مُستغرِقًا في أفكاره، على ما أَذكُر، لدرجة أنه تعثَّر في رَشاش الماء، وسكَب ما فيه، فغمَر الماءُ كلًّا من أقدامنا والممر. وداخل المنزل التقينا بمُدبِّرة المنزل العجوز ابنة كورنوال، السيدة بورتر، التي كانت تهتمُّ باحتياجات هذه الأسرة بمُساعَدة فتاة شابة. أجابت عن كافة أسئلة هولمز بسهولة، فلم تسمَع شيئًا في الليل، وكانت معنويات جميع أصحاب المنزل مرتفعةً مؤخَّرًا، ولم تعهدهم أكثر بهجة وسعادة. وقد فقدت وعيها من الرعب حين دخلت الغرفة في الصباح ورأت هؤلاء الأشخاص المُرعبين حول الطاولة. وحين استعادَت وعيها فتحت النافذة حتى تدع هواء الصباح يدخل إلى الغرفة، وركضت في المَمرِّ حيث أرسلت فتًى مُزارعًا إلى الطبيب. كانت السيدة في سريرها في الطابق العلوي إن كنا نُريد رُؤيتها، بينما تطلَّب حمل الشقيقَين إلى داخل عربة المصحة العقلية أربعة رجال أقوياء. ولم تكن هي نفسها ستَبقى في هذا المنزل ليوم آخَر، وكانت تَعتزِم الرحيل في مساء هذا اليوم حتى تنضمَّ إلى أسرتها في سانت إيفز.
صعدنا الدَّرج ورأينا الجثة. كانت الآنسة بريندا تريجنس فتاةً رائعة الجمال، رغم أنها الآن شارَفَت على مُنتصَف العمر. كان وجهُها مميَّز الملامح وسيمًا، حتى وهي مُتوفَّاة، لكن ظلَّ عليه بعضٌ من تشنُّجات الرعب التي كانت آخِرَ مشاعر بشَرية تعيشُها. نزلنا من غرفتِها إلى غرفة الجلوس حيث وقَعَت هذه المأساة حقًّا. وجدنا الرماد المُحترق للنار التي ظلت طوال الليل في المدفأة. وعلى الطاولة وجدنا أربع شمعات ذائبة ومُحترقة، مع أوراق لعب مُبعثَرة على سطح الطاولة. تحرَّكت المقاعد إلى الخلف لتستند على الحائط، لكن فيما عدا ذلك كان كل شيء كما كان في الليلة الماضية. تحرَّك هولمز بخطوات رشيقة وسريعة في جميع أرجاء الغرفة، وجلس في مُختلِف المَقاعد، ورفعها إلى أعلى وأعاد وضعها في أماكنها. فحص كذلك المقدار الذي يُمكن رؤيته من الحديقة، وفحص الأرضية، والسقف، والمدفأة، لكني لم أرَ قط مثل هذا اللمعان المُفاجئ في عينَيه والضغط على شفتَيه، واللذَين أدركت منهما أنه رأى بصيصًا من الضوء في هذا الظلام المُدقِع.
سأل: «لماذا أوقدوا النار؟ هل من عادتهم دومًا إشعال النار في هذه الغُرفة الصغيرة في مساء أيام الربيع؟»
فسَّر مورتيمر تريجنس هذا بأنَّ هذه الليلة كانت باردةً ورطبة، ولهذا السبب، عقب وصوله أشعلوا النار. وتساءل: «ما الذي ستَفعله الآن يا سيد هولمز؟»
ابتسم صديقي ووضَع يده على ذراعي، وقال: «أَعتقِد يا واطسون أني سأُواصِل جرعات التسمُّم بالتبغ، التي كنتَ محقًّا دومًا في استنكارها. بعد إذنكما أيها السادة سنعود الآن إلى كوخنا؛ إذ إنني لا أَعتقِد أن ثمة عاملًا جديدًا سيتَّضح لنا من وجودنا هنا. سأُفكر مليًّا في الوقائع يا سيد تريجنس، وإن تبادر أي شيء إلى ذهني سأَتواصل معك ومع الكاهن بالتأكيد. والآن طاب صباحكما.»
مرَّ وقتٌ طويل بعد عودتنا إلى الكوخ في بولدو قبل أن يَخرج هولمز عن صمته التام والمُستغرِق. جلس مُنكمِشًا في مقعده الوثير، بالكاد يَظهر وجهُه المُنهَك حادَّ الملامح وسط الدوَّامة الزرقاء لدخان التبغ الذي يُدخِّنه، كان حاجباه الأسودان مُنخفضَين إلى أسفل وجبهتُه مُقطِّبة، وعيناه تخلوان من التعبير وتنظران إلى بعيد. أخيرًا أنزل غليونه ووقَف على قدميه.
ثم قال وهو يَضحك: «هذا لن يُجدي نفعًا يا واطسون! دعنا نسير على طول الجروف معًا ونبحَث عن أطراف أسهُم من حجر الصَّوَّان. فاحتمال أن نَجدها أكثر من احتمال العُثور على أدلةٍ لحلٍّ هذه القضية. إنَّ تشغيل العقل دون موادَّ كافيةٍ تمامًا مثل تشغيل محرِّك سريعًا دون هدف، فيَعمل على تَفتيتِ نفسه ذاتيًّا. هواء البحر وأشعَّة الشمس والصبر يا واطسون؛ كل شيء آخر سيأتي.»
استمرَّ قائلًا ونحن نسير بجوار الجروف معًا: «والآن يا واطسون دعني أشرح موقفَنا بهدوء. ولنَستَوضِح الأشياء القليلة التي نَعرفها بالفعل، حتى إذا ظهَرت لنا حقائق جديدة نكون مُستعدِّين لوَضعِها في أماكنها. أفترض، في المقام الأول، أن كلينا ليس مُستعدًّا للاعتراف بوجود تدخُّل شيطاني في شئون البشر. فدعنا نُخرِج هذه الفكرة من أذهانِنا تمامًا. جيد جدًّا، والآن يظلُّ لدينا ثلاثة أفراد تعرَّضوا إلى إصابة بالغة بأحد الأفعال البشَرية المعروفة أو غير المعروفة. هذا ما نحن متأكِّدون منه. والآن، متى حدث هذا؟ من الواضح، وعلى افتراض أن رواية السيد مورتيمر تريجنس صحيحة، حدَث هذا عقب مغادرته للغرفة مباشرةً. هذه نقطة في غاية الأهمية. والافتراض أن هذا حدث في غضون بضع دقائق عقب مُغادرَتِه. ما زالت أوراق اللَّعِب في مكانها على الطاولة. وكان هذا الوقت قد تخطَّى بالفعل موعدَهم المُعتاد للإخلاد إلى النوم، ومع ذلك لم يُغيِّروا موقعَهم أو يَدفعوا مقاعدهم إلى الخلف. أُكرِّر إذن أن الواقعة حدثَت بعد مُغادرته مُباشرةً، ولم تتعدَّ الحادية عشرة من ليلة أمس.
الخطوة التالية الواضحة أمامنا أن نتحرَّى، قدر المُستطاع، عن تحرُّكات مورتيمر تريجنس عقب مغادرتِه للغُرفة. ولا نجد صعوبة في هذا؛ إذ إنها تبدو فوق مستوى الشبهات. وبما أنك تَعرف طرقي جيدًا، فمن المؤكَّد أنك أدركتَ حيلتي الخَرقاء المُتمثِّلة في سكب رَشاش الماء، والتي حصلت عن طريقها على أثرٍ واضح لقدمِه لم يكن يتسنَّى لي الحصول عليه بخلاف ذلك؛ فقد بدت الآثار واضحةً على نحوٍ رائع على المَمر الرملي الرطب. وكما تذكر كانت ليلة أمس رطبة أيضًا، ولم يكن من الصعب — مع الحصول على أثرٍ واضح لقدمه — تتبُّع مساره وتعقُّب تحرُّكاته بين آثار الأقدام الأخرى. ويبدو أنه سار مُبتعِدًا بسرعة في اتجاه منزل الكاهن.
إذن، إن كان مورتيمر تريجنس قد اختَفى من مشهد الحادث، ومع ذلك جاء شخص من الخارج وأصاب لاعبي الورَق، فكيف يُمكِننا التعرُّف على هذا الشخص، وكيف أحدث تعبير الفزع هذا؟ يُمكن استِبعاد السيدة بورتر، فمِن الواضح أنها غير مُؤذِية. هل يوجد أي دليل على أن شخصًا ما زحف إلى نافِذة الحديقة وأحدث بطريقة ما تأثيرًا مُرعبًا للغاية دفع مَن شاهَدُوه إلى أن يَفقِدوا عقولهم؟ الاقتراح الوحيد في هذا الاتجاه يأتي من مورتيمر تريجنس نفسه، الذي يقول إنَّ أخاه تحدَّث عن وجود حركةٍ ما في الحديقة. وهذا بالتأكيد أمرٌ مُثير للاهتمام؛ إذ كانت هذه الليلة مُمطرة وغائمة ومُظلِمة، وأيُّ شخص يَعتزِم ترويع هؤلاء الأفراد سيتعيَّن عليه لصقُ وجهه بالزجاج قبل أن يَراه أحد. كذلك يوجد حاجز من الأزهار عرضُه ثلاثة أقدام خارجَ هذه النافذة، لكن لا يوجد أثرٌ لأي قدم. وعليه من الصعب تخيُّل كيف يُمكن لدخيلٍ من الخارج أن يُحدث مثل هذا التأثير في هذه المجموعة، كما أنَّنا لم نَعثُر على أي دافع مُحتمَل لمثل هذه المُحاوَلة الغريبة والمَدروسة. أترى ما نُواجِهه من صعوبات يا واطسون؟»
أجبتُ باقتناع: «إنها واضحة للغاية.»
قال هولمز: «ومع ذلك، ربما بمَزيد من المعلومات نتمكَّن من إثبات أنها ليست قضية تعجيزية. وأعتقد أنك ربما تجد يا واطسون ضمن أرشيفك الواسع بعض القضايا التي كانت بمثل هذا الغموض تقريبًا. وفي هذه الأثناء سنُنحِّي هذه القضية جانبًا حتى تُصبِح لدينا بيانات دقيقة، ونُكرِّس ما بقيَ من الصباح إلى مهمَّة رجل العصر الحَجري.»
ربما لم أُعلِّق قطُّ على قُدرة صديقي على الانفصال الذهني، لكنِّي لم أتعجَّب منها أكثر مما حدَث في الصباح الربيعي هذا في كورنوال حين ظلَّ يتحدَّث لساعتَين عن البلطات الحجَرية ورءوس الأسهُم والشظايا باستهتار تامٍّ كما لو لم يكن ثمَّة لغز مشئوم يَنتظِر توصُّله إلى حلٍّ له. حين عُدنا إلى كُوخنا بعد الظهيرة وجدنا زائرًا في انتظارنا، وسرعان ما أعاد تفكيرنا إلى القضية المطروحة علينا. لم يَحتَج أيٌّ منا إلى أن يُخبره أحد بماهية هذا الزائر؛ فقد كان جسمُه الضخم، ووجهه المُجعَّد الغائر التقاسيم بعينَيه الشرستَين وأنفه الذي يُشبه أنف الصقر، وشعره الرمادي اللون الذي كاد يصل إلى سقف الكوخ، ولحيته الذهبية اللون عند الأطراف والبيضاء اللون بالقرب من شفتَيه، فيما عدا مَوضِع بقعة نيكوتين ناتجة عن تدخينه الدائم للسِّيجار؛ كل هذه السمات كانت ذائعة الصِّيت في لندن تمامًا كحالها في أفريقيا على أنها لا تَنتَمي إلا إلى شخصية الدكتور ليون ستيرندال المُروِّعة، صائد الأسود والمُستكشِف العظيم.
لقد سمعنا بوجودِه في هذه المُقاطَعة ولَمَحناه مرةً أو مرتَين ببِنيَته الطويلة في الممرات التي تتخلَّل المُستنقَعات. ومع ذلك فلم يُبادِر ولا مرة بالتعرف إلينا، ولم نحلم قطُّ بالتعرُّف إليه أيضًا؛ إذ كان من المعروف أن حبَّه للعزلة هو الذي دفعه إلى قضاء أكبر وقتٍ من الفترات التي تَفصِل بين رحلاته في منزل صغير مدفون داخل غابة بيتشام أريانس. فهناك كان يَعيش في عزلة تامة بين كتبِه وخرائطه، يُلبي احتياجاته البسيطة بنفسِه ولا يَكترِث بشئون جيرانه. وعليه كانت مفاجأةً لي أن أسمعه يسأل هولمز بصوت قَلِق عما إذا كان قد أحرز أيَّ تقدُّم في تفسير هذه الحادثة الغامضة. قال: «لقد أخطأَت شُرطة المقاطعة في تفسيرها بالكامل، لكن ربما بخبرتك الواسعة توصَّلتَ إلى تفسير معقول أكثر. والمبرر الوحيد الذي يجعلك تضع ثقتك فيَّ أني في أثناء فترات إقامتي الكثيرة هنا تعرفتُ جيدًا على أُسرة تريجنس هذه — وفي الواقع ثمَّة صلة قرابة بيني وبينهم من جانب والدتي الكورنية الأصل — وبطبيعة الحال صدمني ما تعرَّضوا له من مصيرٍ غريب. ويُمكنني إخبارك أني كنتُ قد وصلتُ إلى مدينة بليموث في طريقي إلى أفريقيا، لكن الأخبار وصلَتْني هذا الصباح، فعدتُ مباشرةً كي أُساعد في التحقيق.»
رفع هولمز حاجبيه، وقال: «هل فوَّتَّ سفينتك نتيجةً لهذا؟»
«سآخُذ السفينة التالية.»
«يا إلهي! هذه هي الصَّداقة الحقيقية.»
«قلت لك إنهم كانوا أقاربي.»
«آه حقًّا، أقاربك من جهة والدتك. هل كانت أمتِعتُك على متن السفينة؟»
«بعضٌ منها، لكن الجزء الرئيسي في الفندق.»
«هكذا إذن، لكن من المُؤكَّد أن هذه الحادثة لم يَرِد ذِكرُها في صحف بليموث الصباحية.»
«لا يا سيدي؛ فقد وصلَتْني برقية.»
«هل لي أن أسأل ممَّن؟»
خيَّمت سحابةٌ من الحزن على الوجه المُكتئب لهذا المُستكشِف، وقال: «أنت كثير الأسئلة للغاية يا سيد هولمز.»
«هذا عملي.»
استعاد دكتور ستيرندال رباطة جأشه ببعض الجهد.
قال: «لا مانع عندي أن أُخبرَك بذلك، لقد كان السيد راوندهاي، الكاهن، هو مَن أرسل البرقية التي استدعَتْني للحُضور.»
قال هولمز: «أَشكرك، يُمكنني القول ردًّا على سؤالك الأصلي إنني أصفِّي ذهني بالكامل بشأن موضوع هذه القضية، لكن عندي أمل في الوصول إلى نتيجة ما. وسيكون من السابق لأوانِه أن أقول أكثر من هذا.»
«ربما لن تُمانع في أن تُخبِرني بما إن كانت شكوكُك تذهب في اتجاهٍ معيَّن، أليس كذلك؟»
«لا يُمكِنني الإجابة عن هذا.»
«إذن فقد أضعتُ وقتي، ولا حاجة بي إلى إطالة زيارتي.» خرج هذا الطبيب الشهير بخُطًى واسعة من الكوخ في مزاج سيئ للغاية، وبعد خمس دقائق تبعه هولمز. لم أرَه بعد هذا حتى المساء، وحين عاد بخُطًى مُتثاقلة ووجهٍ مُنهَك، تأكَّدتُ من أنه لم يُحرِز تقدمًا كبيرًا في تحرياته. نظر إلى برقية كانت بانتظاره وألقى بها في المَوقِد.
قال: «إنها من فندق بليموث يا واطسون، لقد علمتُ اسمه من الكاهن، وأرسلتُ إليه رسالة حتى أتأكد من صحة قصة الدكتور ليون ستيرندال. ويبدو أنه بالفعل قضى الليلة الماضية هناك، وأنه ترك بالفعل بعض أمتعته تذهب إلى أفريقيا، بينما عاد حتى يشهد هذا التحقيق. ما الذي تَستنتِجه من هذا يا واطسون؟»
«أنه مُهتم للغاية.»
«مهتم للغاية، أجل، ثمة خيط هنا لم نَفهمه بعدُ وربما يقودنا إلى حلِّ هذه المعضلة. تفاءل يا واطسون، فأنا مُتأكِّد من أننا لم نحصل على كل ما نحتاج إليه من معلومات بعدُ. وحين نحصل عليها ستزول كافة الصعوبات التي تُواجهنا الآن.»
لم أعتقد أن كلمات هولمز ستتحقَّق بمثل هذه السرعة، أو كيف فتح لنا هذا التطور الجديد الغريب والمشئوم خطًّا جديدًا بالكامل من التحقيق. في الصباح كنت أَحلِق ذقني بالقُرب من نافذة غرفتي حين سمعتُ صوت حوافر خيل، وحين رفعتُ رأسي رأيت عربةً تجرُّها الخيول قادمة بسرعة على الطريق. توقفَتِ العربة أمام باب منزلنا، وقفَزَ منها صديقنا الكاهن، وأسرع عبر المَمر في حديقتِنا. كان هولمز مُرتديًا ملابسه بالفعل ونزَلنا مُسرِعين للقائه.
كان زائرنا مُنفعِلًا للغاية لدرجة أنه كان يستطيع الكلام بالكاد، لكنه استطاع في النهاية أن يسرد علينا وهو يلهث وكلامه يخرج مُتقطِّعًا، ما يحمل من قصةٍ مأساوية.
صاح قائلًا: «إن الشيطان يترصَّدنا يا سيد هولمز! إنَّ الشيطان يَترصَّد أبرشيتي المسكينة! إنَّ إبليس نفسه حرٌّ طليقٌ فيها! إنه يَتلاعَب بنا كيفما يشاء!» وبدأ يتقافز بانفعال، وهو أمرٌ ربما بدا مُضحِكًا لولا وجهه الشاحب وعيناه المحدقتان. وأخيرًا صاح بالأخبار المُروِّعة.
«مات السيد مورتيمر تريجنس في أثناء الليل، بالأعراض ذاتها التي أصابت باقي أفراد أسرته.»
هَب هولمز واقفًا على قدمَيه، مُفعمًا بالحيوية في لحظة.
قال: «هل يُمكن لكلينا الركوب معك في عربَتِك؟»
«أجل يُمكنكما.»
«حسنًا يا واطسون سنُؤجِّل تناول الإفطار. سيد راوندهاي، نحن مُستعدَّان. أسرِع، أسرِع قبل أن يَفسد ترتيب الأدلة.»
يعيش هذا المُستأجِر في غرفتَين داخل منزل الكاهن، تقعان في ركنٍ وحدهما، الواحدة فوق الأخرى. توجد في الأسفل غرفة جلوس ضخمة، وفي الأعلى غرفة نوم. كانت الغُرفَتان تُطلَّان على ملعب كروكيه يَصِل ارتفاع عُشبه حتى النوافذ. وصَلْنا قبل الطبيب أو الشرطة، بحيث كان كل شيء على حاله تمامًا دون أن يَعبَث به أحد. دعوني أصِف لكم المشهد بدقةٍ كما رأيناه في هذا الصَّباح الضَّبابي من شهر مارس؛ فقد ترَك انطباعًا لا يُمكِنُني محوه من ذاكرتي.
كان جو الغرفة خانقًا على نحوٍ مروِّع وكئيب. ففتحت الخادمة، التي كانت أول مَن يدخل إلى الغرفة، النافذة، وإلا كان الأمر سيُصبح لا يُطاق أكثر من هذا. ربما كان السبب في هذا جزئيًّا حقيقة أن المصباح ظلَّ متوهجًا ويُصدِر دخانًا في منتصف الطاولة. بجوار الطاولة جلس الرجل المُتوفَّى، مُتكئًا إلى الخلف في مقعده، ولحيته الرفيعة ناتئة إلى الأعلى، ونظارته مُرتفعة على جبهته، ووجهه النحيل الداكن متَّجه نحو النافذة، وتبدو عليه علامات الفزع ذاتها التي بدت على وجه أخته المُتوفَّاة. كانت أطرافه مُتشنِّجة وأصابعه مُلتوية كما لو أنه تُوفي بنَوبة شديدة من الخوف. كان مرتديًا ملابسه بالكامل، على الرغم من ظهور علاماتٍ على أنه ارتدى ملابسه على عجل. عَلِمنا بالفعل أنه نام في سريره وأنه تعرَّض إلى هذه النهاية المأساوية في وقتٍ مُبكِّر من الصباح.
أدركتُ الطاقة المُلتهبة الكامنة تحت مظهر هولمز الخارجي غير المُكترِث حين رأيتُ التغيُّر المفاجئ الذي طرأ عليه منذ لحظة دخوله هذه الغرفة المشئومة. ففي لحظة أصبح مُتوتِّرًا ونشيطًا، ووجهه جامدًا، ولمعت عيناه، وارتعشَت أطرافه في حركة مُنفعِلة. خرج إلى الحديقة، ودخل عبر النافذة، وطاف في أرجاء الغرفة، وصعدَ إلى غُرفة النوم، تمامًا مثل كلب صيد مندفع يُحاول الكشف عن مخبأ الفريسة. تجوَّل سريعًا في غرفة النوم وانتهى به الحال إلى فتح النافذة، التي بدا أنه حصل منها على سبب جديد للابتهاج؛ إذ انحنى خارجها وهو يَصيح صيحة تنمُّ عن الإثارة والسعادة. ثم أسرع بالنزول إلى الأسفل، وخرج عبر النافِذة المفتوحة، وألقى بنفسه على وجهِه على العُشب، وانتفض واقفًا، ثم دخل إلى الغرفة مرةً أخرى، بكامل طاقة الصياد الذي يتعقَّب فريسته. فحص المصباح، الذي كان شكلُه عاديًّا، بدقة مُتناهية، وأخذ يُجري قياسات معينة على إنائه. استخدم عدستَه المُكبِّرة في فحص الغطاء المصنوع من فلذِّ التلك الذي يُغطي قمة المدفأة، وكشَط عنه بعضًا من الرماد كان مُلتصقًا بسطحه العُلوي، ووضع بعضًا منه في ظرف ووضَعه في محفظته. وأخيرًا، بمجرد ظهور الطبيب وضابط الشرطة، أشار هولمز إلى الكاهن وخرَجْنا نحن الثلاثة إلى الحديقة.
علَّق قائلًا: «يُسعدني أن أقول إن التحقيق لم يذهب سُدًى بالكامل. لا يُمكنني البقاء ومناقشة المسألة مع الشرطة، لكني سأكون مُمتنًّا لك كثيرًا يا سيد راوندهاي إن نقلتَ إلى المُحقِّق تحياتي ووجَّهت انتباهه إلى نافذة غرفة النوم، والمصباح في غرفة الجلوس؛ فكلٌّ منهما يوحي بشيء ما، ويُمكنهما معًا حسم الأمر. وإن رغبَ رجال الشرطة في الحصول على معلومات إضافية سيُسعدني استقبال أيٍّ منهم في كوخي. والآن يا واطسون، أعتقد أن من الأفضل أن نكون في مكانٍ آخر.»
ربما استاءت الشرطة من تدخُّل هاوٍ، أو ربما تخيَّلوا أنفسهم يسيرون في خطِّ تحقيق واعد، لكن الأكيد أننا لم نسمَع منهم أي شيء طوال اليومَين التاليَين. في أثناء هذا الوقت قضى هولمز بعض الوقت في التدخين والأحلام داخل الكوخ، لكن مُعظَم وقته كان يَقضيه في الذهاب في نزهات ريفية على الأقدام وحدَه، ويعود بعد ساعات طويلة دون الإشارة إلى مكان ذهابه. عرَّفتني إحدى التجارب على مسار التحقيق الذي يَتتبَّعه؛ فقد اشترى مصباحًا مماثلًا لذلك الذي كان مُشتعلًا في الغرفة التي تعرَّض فيها مورتيمر تريجنس لمأساته الصباحية. ملأ هذا المصباح بالزيت نفسه الذي كان مُستخدَمًا في منزل الكاهن، وحسب بدقةٍ الفترة التي سيَستغرِقها حتى ينفد. وأجرى تجربة أخرى ذات طابع بغيض أكثر، وهي تجربة من غير المُحتمَل أن أستطيع نسيانها.
علَّق قائلًا في مساء أحد الأيام: «تذكَّرْ يا واطسون أن ثمَّة نقطة تشابُه واحدة مشتركة في التقارير المختلفة التي وردَتْنا؛ وتتعلَّق هذه النقطة بتأثير مناخ الغرفة في كل حالة على أول مَن دخَلوها. أتذكر أن السيد مورتيمر تريجنس، عند وصفه لواقعة زيارته الأخيرة لمنزل أخيه، قال إنَّ الطبيب حين دخل الغرفة تهالَك على أحد المقاعد؟ هل نسيت؟ حسنًا يُمكنني التأكيد على أن هذا ما قاله. والآن، أتذكر أيضًا أن السيدة بورتر، مُدبِّرة المنزل، أخبرتنا أنها هي نفسها فقدت الوعي حين دخلت الغرفة وبعدها فتحت النافذة؟ وفي الواقعة الثانية — واقعة مورتيمر تريجنس نفسه — لا يُمكن أن تكون قد نسيت الاختناق الرهيب في جوِّ الغرفة حين وصلنا إليها، على الرغم من أنَّ الخادمة فتحت النافذة. وحين سألتُ عنها علمتُ أن هذه الخادمة أُصيبَت بإعياء جعلها تذهب إلى الفراش. عليك الاعتراف يا واطسون أن هذه الحقائق مُوحية للغاية. ففي كلتا الحالتَين ثمة دليل على وجود مناخ سامٍّ. وفي كلتا الحالتَين أيضًا حدث احتراق داخل الغرفة؛ في الحالة الأولى كانت النار، والمِصباح في الثانية. كانت ثمة حاجة لإشعال النار، لكنَّ المصباح ظلَّ مشتعلًا — كما سيتضح من مقارنة الزيت المُستهلَك — بعد طلوع النهار بوقتٍ طويل. لماذا؟ بالتأكيد بسبب وجود علاقة ما بين هذه الأشياء الثلاثة: الاحتراق، والجو الخانق، وأخيرًا جنون هؤلاء الناس المساكين أو وفاتهم. الأمر واضح، أليس كذلك؟»
«يَبدو كذلك.»
«على الأقلِّ يُمكننا تقبُّله بوصفه افتراضًا جائزًا. سنَفترض إذن أن شيئًا ما احترق في كلتا الواقعتَين نتج عنه مناخ تسبَّب في آثار سامة غريبة. جيد جدًّا. في الحالة الأولى — وهي واقعة عائلة تريجنس — وضع هذا الشيء في النار. والآن، كانت النافذة مُغلَقة، لكن النار بطبيعة الحال تَحمِل الأدخنة إلى حدٍّ ما أعلى المدخنة؛ وعليه يتوقع المرء أن تكون آثار السمِّ أقل منها في الحالة الثانية، إذ لم يكن يوجد منفذ لخروج الأبخرة. ويبدو أن النتيجة تُشير إلى هذا أيضًا؛ فلم تتسبب المادة إلا في قتل السيدة فقط، على افتراض أنها الكائن الأكثر حساسية، بينما ظهَرت على الرجُلَين الآخرَين علامات جنون مؤقَّت أو دائم، من الواضح أنها أول تأثيرات هذا العقار. أما في الواقعة الثانية فكانت النتيجة مُكتمِلة. وعليه، يبدو أن الوقائع تُؤيد نظرية وجود سمٍّ يظهر مفعوله بالاحتراق.
في ظل وجود هذه الأفكار في رأسي بحثتُ بطبيعة الحال في غُرفة مورتيمر تريجنس من أجل العثور على بعضٍ من بقايا هذه المادة. وكان من البديهي البحث في الرفِّ المَصنوع من التلك أو الإناء الذي يوضع فيه المصباح. وكما توقعتُ، وجدتُ عددًا من رقاقات الرماد، وعلى الأطراف حافة من المسحُوق البُني اللون، لم يَحترق بعدُ. أخذتُ نصف كميَّته، كما رأيتَني، ووضعتُه داخل ظرف.»
«لماذا نصف الكمية يا هولمز؟»
«ليس من طبعي يا واطسون أن أُعيق تحقيقات الشرطة الرسمية. فأنا أترك لهم كافة الأدلة التي أعثر عليها. فلا يَزال السمُّ موجودًا على الغطاء التلكي إن تبادر إليهم العثور عليه. والآن يا واطسون، نحن سنُشغِّل مصباحنا، إلا أننا سنأخذ حذرنا ونفتح النافذة حتى نتجنَّب الوفاة المُبكِّرة لاثنين من أجدر أفراد المجتمع، وأنت ستَجلِس بالقرب من هذه النافذة المفتوحة في كرسي وثير، إلا إن قررتَ كرَجُل عاقل عدم الاشتراك في هذا الأمر. آه، أنت ستُشارك في الأمر إلى النهاية، أليس كذلك؟ علمتُ أني أَعرف صديقي واطسون جيدًا. سأضع هذا المقعد أمام مقعدك، حتى نبتعد عن السم المسافة ذاتها، ونَجلِس وجهًا لوجه. أما الباب فسنتركه مفتوحًا جزئيًّا. والآن سيجلس كلٌّ منا في مكان يُمكِّنه من مراقبة الآخر وإنهاء التجربة في حال بدَت الأعراض مُقلِقة. هل هذا واضح؟ حسنًا، إذن، سأُخرِج المسحوق — أو ما بقيَ منه — من الظرف، وسأضعه فوق المصباح المُشتعِل. والآن، يا واطسون دعنا نجلس ونَنتظِر التطورات.»
لم يستغرق الأمر طويلًا، فلم ألبث أن جلستُ في مقعدي حتى شممتُ رائحة مسك ثقيلة ونفَّاذة ومُسبِّبة للغثيان. مع أول نفحة منها خرج عقلي ومُخيلتي عن التحكم تمامًا. فظهرت أمام عيني سحابة سوداء كثيفة، وأخبرني عقلي أن بداخل هذه السحابة يَكمُن كلُّ ما هو مُروِّع ورهيب وبغيض على نحوٍ لا يمكن تصوره في العالم، لكنه لم يظهر لي بعدُ، وسيَخرُج وينقضُّ على حواسي التي يتملكها الرعب. بدأت أشكال مُبهَمة تدور وتسبح بين جنبات السحابة السوداء، كلٌّ منها يمثِّل تهديدًا وتحذيرًا بشيءٍ ما قادم، بظهور قاطنٍ ما لا يمكن تصوُّره على أعتابها، يُمكن لظلِّه فقط أن يُزهق روحي. شعرتُ بأن شعري يقف، وعينيَّ تخرجان من مكانهما، وفمي يُفتَح، ولساني يتجلَّد. كان الاضطراب في عقلي بالغًا للغاية كأن شيئًا ما سيَنفجِر بالتأكيد. حاولتُ أن أصرخ وشعرتُ بصوتٍ أجشَّ، كان صوتي أنا، لكنَّه كان بعيدًا ومنفصلًا عني. في الوقت نفسه، في محاولة مني للهروب، اخترقتُ سحابة اليأس هذه ونظرتُ في وجه هولمز، ورأيتُه أبيض اللون ومُتصلِّبًا ويكسوه الرعب، وعليه النظرة ذاتها التي رأيتُها في ملامح المُتوفَّين. كان هذا المنظر ما منحني لحظةً من التعقُّل والقوة. فانتفضتُ من مقعدي، ووضعتُ ذراعي حول هولمز، وخرجنا معًا من الباب، وبعد لحظةٍ ألقينا أنفسنا على رقعة العشب واستلقينا بعضنا بجوار بعض، لا ندرك إلا ضوء الشمس المُشرِق الذي يخترق سحابة الهلع الشيطانية التي تُطوِّقنا. وبدأت تَنحسِر ببطء عن أرواحنا كما ينقشع الضباب من على مشهد طبيعي، حتى عاد السلام والعقل لنا مرةً أخرى، وجلَسْنا على العشب نمسح جباهنا المبتلَّة، وينظر أحدنا إلى الآخر في ذُعر يُعبِّر عن آخر آثار باقية لدينا من التجربة المُروِّعة التي مرَرْنا بها.
قال هولمز أخيرًا بصوت مُتذبذب: «أقسم يا واطسون أني مَدين لك بشكر واعتذار. فلم يكن ثمة مُبرِّر لتطبيق هذه التجربة على نفسي، فضلًا عن تطبيقها على صديق. أنا آسِفٌ للغاية.»
رددتُ وأنا مُتأثِّر إلى حدٍّ ما؛ إذ لم أكن قد رأيتُ هولمز يُعبِّر عن مشاعره هكذا من قبلُ قط: «أنت تعلم أني أَشعُر بسعادة وشرف عظيمَين عند مساعدتك.»
عاد إلى أسلوبه نصف المرح ونصف الساخر الذي اعتاد معاملة مَن حوله به، وقال: «مِن غير الضروري إصابتنا بالجنون يا عزيزي واطسون؛ فأيُّ ملاحظٍ أمين سيَقول بالتأكيد إننا كنا كذلك بالفعل قبل أن نبدأ في مثل هذه التجربة الجامِحة. أَعترِف أنني لم أتخيَّل قط أن التأثير سيكون بمثل هذه السرعة والحدة.» أسرع بالدخول إلى الكوخ وعاد إلى الظهور مرةً أخرى وهو مُمسك بالمصباح المشتعل على طول ذراعه، ثم ألقى به بين كومة من توت العُلَّيق، وقال: «يجب أن نترك الغرفة فترةً حتى يَزول تأثير العقار، وأعتقد الآن يا واطسون أنه لم يَعُد لدينا أي مجال للشك في طريقة حدوث هاتين المأساتين.»
«على الإطلاق.»
«لكن يظلُّ السبب مُبهمًا. تعالَ إلى هذه التعريشة ودعنا نُناقش الأمر معًا. تبدو آثار هذه المادة البغيضة لا تزال موجودة في حلقي. أعتقد أن علينا الاعتراف بأن كافة الأدلة تُشير إلى كون هذا الرجل، مورتيمر تريجنس، المجرم في المأساة الأُولى، على الرغم من كونه الضحية في المأساة الثانية. وعلينا أن نتذكَّر، في المقام الأول، وجود بعض القصص عن خلافٍ أُسري، أتبعه التصالُح. نحن لا نعرف مدى حدَّة هذا الشجار، أو إلى أي مدًى كانت المصالحة جوفاء. وحين أُفكِّر في مورتيمر تريجنس بوجهه الماكر وعينَيه الصغيرتَين الداهيتَين المستديرتَين تحت نظاراته، فإني لا أراه ممَّن يُمكِنني الحكم عليهم بأنَّهم من الأشخاص المُتسامِحين. وفي المقام الثاني، تذكَّر بالتأكيد أن فكرة تحرُّك شخص ما في الحديقة، التي حولَّت انتباهنا للحظةٍ عن السبب الحقيقي للمأساة، كانت نابعةً منه؛ فقد كان لدَيه دافعٌ ليُضلِّلنا. وأخيرًا، إن لم يكن هو مَن ألقى بالمادة في النار قبل مُغادرة الغرفة، مَن يُمكنه فعل هذا؟ فقد حدثت الواقعة بعد مغادرته مُباشرةً. وإن كان أي شخص آخر قد دخل إلى الغرفة، فبالتأكيد كانت الأسرة ستَنهض من حول الطاولة. بالإضافة إلى أنه، في كورنوال المسالِمة، لا يصل الزائرون بعد الساعة العاشرة مساءً. وعليه يُمكننا استنتاج أن كافة الأدلة تشير إلى كون مورتيمر تريجنس هو المتَّهم.»
«إذن كانت وفاتُه انتحارًا؟»
«حسنًا، يا واطسون في ظاهر الأمر لا يبدو هذا احتمالًا مُستحيلًا. فيمكن لرجلٍ يحمل على عاتقِه شعورًا بالذنب لما فعله بأسرته أن يَدفعه الندم إلى تعريض نفسه للمصير ذاته. ومع ذلك، ثمَّة بعض الأسباب المقنعة التي تُناهض هذا الافتراض. ولحُسنِ الحظ، ثمَّة رجل واحد فقط في إنجلترا لديه كافة المعلومات عن هذا، وقد أَجريتُ الترتيبات اللازمة وسنَسمع منه كافة الحقائق هذا المساء. آه! لقد أتى قبل موعدِه بقليل. فلتتفضَّل بالدخول يا دكتور ليون ستيرندال. لقد كُنا نُجري تجربة كيميائية داخل الكوخ، مما جعل الغرفة لا تصلح قليلًا لاستقبال زائر مُميَّز مثلك.»
سمعتُ صوت مزلاج بوابة الحديقة وظهَرت أمامنا في المَمر البنية المَهيبة لهذا المستكشف الأفريقي الكبير، واستدار ببعض الاندهاش نحو التعريشة البسيطة التي كُنا نَجلس فيها.
«لقد أرسلتَ في طلبي يا سيد هولمز. وصلَتْني رسالتك منذ ساعة تقريبًا، وأتيت بناءً على هذا، على الرغم من أني لا أعرف حقًّا لماذا عليَّ الاستجابة لاستدعاءاتك.»
قال هولمز: «ربما يُمكننا استيضاح الموضوع قبل أن نَفترِق، أما الآن فأنا مُمتَنٌّ لك لقَبولك المهذب لدعوتي، وأرجو أن تَعذرنا على هذا الاستقبال غير الرسمي في الهواء الطَّلق، لكني كدتُ أنا وصديقي واطسون أن نُضيف مأساةً إضافية إلى ما تُطلِق عليه الصحف «رعب كورنوال»، ونُفضِّل الوجود في هواء نقي في الوقت الحالي. وبما أن الأشياء التي سنتحدَّث عنها سيكون لها تأثير وثيق عليك شخصيًّا، فربما من الأفضل أيضًا أن نتحدَّث في مكان لا يسمعنا فيه أحد.»
أخرج المستكشف السيجار من فمِه وحدَّق بصرامةٍ في رفيقي، وقال: «أنا أعجز يا سيدي عن التفكير فيما يُمكننا الحديث عنه ويُمكنه أن يُؤثِّر عليَّ شخصيًّا تأثيرًا وثيقًا.»
قال هولمز: «قُتل مورتيمر تريجنس.»
تمنيتُ للحظة لو كنتُ مُسلَّحًا؛ فقد احمرَّ وجه ستيرندال غضبًا، وتأجَّجت عيناه، ونتأت عروق الانفعال الملفوفة في جبهته، واندفع في حدَّةٍ نحو رفيقي وهو يُطبق على يده. ثم توقَّف وبجهد بالغٍ عاد إلى هدوئه البارد والصارم، الذي ربما كان مُوحيًا بالخطر أكثر من اندفاعه المنفعل.
قال: «لقد عشتُ طويلًا بين الهمجيِّين وبعيدًا عن القانون، حتى صنعتُ قانونًا لنفسي. فمن الأفضل يا سيد هولمز ألا تَنسى هذا؛ إذ لا رغبة لديَّ لإلحاق الأذى بك.»
«ولا أنا أيضًا أريد إلحاق الأذى بك، يا دكتور ستيرندال. وبالطبع الدليل الأوضح على هذا أنه في ظلِّ ما أَعرفه، استدعيتُك أنت ولم أستدعِ الشرطة.»
جلس ستيرندال وهو يَلهث، ويَشعُر بالرُّعب ربما للمرة الأولى في حياته العامرة بالمغامرات. أوحى أسلوب هولمز بتأكيد هادئ على السلطة لا يُمكن مُقاومته. تمتم زائرنا للحظة ببعض الكلمات، وظلَّ يفتح يديه ويُغلقهما في انفعال.
وأخيرًا سأل: «ماذا تعني؟ إن كانت هذه خدعة منك يا سيد هولمز، فقد اخترتَ الرجل الخطأ لتُجري عليه تجاربك. دعنا ندخل في صلب الموضوع، ماذا تعني؟»
قال هولمز: «سأُخبرك، والسبب الذي جعلني أُخبرك بهذا هو أني أرجو أن ينتج عن الصَّراحة صراحة مُماثلة. والخطوة التالية التي سأتَّخذها ستعتمد بالكامل على طبيعة حجة دفاعك عن نفسك.»
«دفاعي عن نفسي؟»
«أجل يا سيدي.»
«دفاعي عن نَفسي ضد ماذا؟»
«ضد تُهمة قتْل مورتيمر تريجنس.»
مسح ستريندال جبهتَه بمنديله وقال: «يا إلهي! أنت لا تتوقَّف. هل يعتمد نجاحك كلُّه على قوة الخداع الرهيبة هذه؟»
قال هولمز بحزم: «الخداع هو ما تقوم به أنت يا دكتور ليون ستيرندال، وليس من جانبي، والدليل على هذا ما سأُخبِرُك به من بعض الحقائق التي اعتمدتُ عليها في استنتاجاتي. أما عن عودتك من بليموث، وترك بعضٍ من مُمتلكاتك تذهب إلى أفريقيا، فلا يسعني القول إلا أن هذا كان أول ما أنبأني بأنك أحد العوامل التي يَجب وضعها في الاعتبار عند حلِّ هذه الدراما …»
«لقد عدتُ …»
«لقد سمعتُ أسبابك ورأيتَ أنها غير مُقنعة وغير كافية. سنتخطَّى هذا. لقد جئتَ إلى هنا حتى تَسألني عمَّن أشك فيه، وأنا رفضتُ الإجابة عليك. بعد ذلك ذهبتَ إلى منزل الكاهن وانتظرتَ بعض الوقت في الخارج وأخيرًا عدتَ إلى الكوخ الذي تعيش فيه.»
«كيف عرفتَ هذا؟»
«لقد تبعتُك.»
«لم أرَ أحدًا.»
«هذا ما تتوقَّع رؤيته حين أتبعك. بعدها قضيتَ ليلةً عامرة بالقلق في كُوخك، ووضعت بعض الخطط، التي شرعت في تنفيذها في وقتٍ مُبكِّر من صباح اليوم التالي؛ فقد تركتَ منزلك بمجرد طلوع الصباح وملأت جيبك ببعض الحصى الأحمر اللون الذي كانت توجد كومة منه بجوار بوابتك.»
جفل ستيرندال ونظر إلى هولمز في دهشة.
«بعدها سرتَ مُسرعًا لتقطع الميل الذي كان يَفصلك عن منزل الكاهن. وتجدر بي الإشارة إلى أنك كنتَ ترتدي حذاءَ التنس المضلَّع ذاته الذي ترتديه في هذه اللحظة. وفي منزل الكاهن، مررتَ عبر البستان والسياج الجانبي وخرجتَ منهما تحت نافذة المُستأجِر تريجنس. كان الصباح قد أشرق في هذا الوقت، لكن سكان المنزل لم يكونوا قد استيقظوا بعدُ. فرميتَ بعضًا من الحصى من جيبك إلى الأعلى، نحو النافذة التي تقف تحتها.»
انتفض ستيرندال واقفًا على قدميه، وقال: «أعتقد أنك أنت الشيطان نفسه!»
ابتسم هولمز لهذا الإطراء وواصَل قائلًا: «ربما تطلَّب الأمر إلقاء حفنتين أو ثلاث من الحصى قبل أن يأتي المُستأجِر إلى النافذة، فطلبت منه النزول إلى أسفل. ارتدى ملابسه على عجل ونزل إلى غرفة الجلوس، فدخلت أنت عبر النافذة. جرى حوار بينكما — حوار قصير — تجوَّلت خلاله في أرجاء الغرفة. بعدها خرجتَ وأغلقتَ النافذة ووقفتَ على العشب تُشاهد ماذا يحدث. وأخيرًا عقب وفاة تريجنس، عدتَ من حيث أتيت. والآن يا دكتور ستيرندال كيف تُبرِّر فعلتك، وما دوافعك لمثل هذا العمل؟ إن راوغتَ أو تلاعبت معي، فإني أؤكد لك أن الأمر سيَخرُج من يدي إلى الأبد.»
كان وجه زائرنا قد تحوَّل إلى اللون الرمادي الشاحب وهو يستمع إلى كلمات مُتَّهِمه. جلس لبعض الوقت يُفكر وهو يضع يديه على وجهه، ثم، في حركة انفعالية مفاجئة أخرج من جيبٍ في صدره صورةً وألقاها على الطاولة البسيطة الموجودة أمامنا.
قال: «هذا سبب ارتكابي لهذا.»
أظهرت الصورة وجه وصدر سيدة رائعة الجمال، وانحنى هولمز لينظر إليها.
ثم قال: «بريندا تريجنس.»
كرَّر زائرنا الاسم وقال: «أجل، بريندا تريجنس، لقد أحببتُها لسنوات طويلة، وأحبَّتْني هي أيضًا لسنوات طويلة. وهذا هو سرُّ عُزلتي في كورنوال التي تعجَّب منها الناس؛ فهذا المكان جعلني أقترب من الشيء الوحيد العزيز على قلبي على وجه هذه الأرض. لم أَستَطِع أن أتزوجها؛ إذ إن لديَّ زوجة تركَتْني منذ سنوات، ولا أستطيع تطليقها بسبب قوانين إنجلترا المُؤسفة. انتظرتني بريندا لسنوات، وأنا أيضًا انتظرتها. وهذه كانت نتيجة انتظارنا.» تنهَّد تنهيدةً شديدة اهتزت لها بِنيَتُه الضخمة، وأطبق على حلقِه تحت لحيته الرمادية الداكنة، ثم تمالك نفسه بصعوبة واستمر قائلًا:
«كان الكاهن على علمٍ بهذا، فقد كنا نَثِق فيه. وسيُخبرك أنها كانت ملاكًا يسير على الأرض، ولهذا بعَث إليَّ برقيةً فعدتُ من رحلتي. فما أهمية أمتعتي أو أفريقيا حين علمتُ أن حبيبتي تعرَّضَت لمثل هذا المصير؟ وهكذا تكون قد حصلتَ على المُبرِّر المفقود لأفعالي يا سيد هولمز.»
قال صديقي: «أكمل.»
أخرج الدكتور ستيرندال من جيبه رزمةً ورقيةً ووضَعها على الطاولة. كان مكتوبًا عليها من الخارج «راديكس بيديس ديابولي» وتحتها علامة السمِّ الحمراء اللون. دفعها نحوي وقال: «أعتقد أنك طبيب يا سيدي، هل سمعتَ من قبل عن هذا المُستحضَر؟»
«جذر قدم الشيطان! لا لم أسمَع عنه قط.»
قال: «هذا لا يَنتقِص من معرفتك العملية؛ إذ أعتقد أنه باستثناء عيِّنةٍ واحدة في مختبر في بودا، لا وجود لعيناتٍ أخرى في أوروبا. فهو لم يصل بعدُ لا إلى دستور الأدوية ولا إلى كتابات عِلم السموم. إنه جذر على شكل قدم نصف إنسان ونصف عنزة، ومن هنا جاءت تسميتُه الخيالية التي منَحها له مبعوث تبشيري مُتخصِّص في النباتات. إنه سم يستخدمه رجال المُداواة في المحاكمة بالتعذيب في ضواحٍ معيَّنة في غرب أفريقيا، ويظلُّ سرًّا بينهم. وهذه عيِّنة خاصة حصلتُ عليها تحت ظروف استثنائية للغاية من منطقة أوبانجي.» وبينما هو يتحدث فتح الورقة وأخرج منها حفنة من مسحوقٍ بُنيٍّ مُحمرٍّ يُشبه النشوق.
سأل هولمز بصرامة: «حسنًا يا سيدي؟»
«أنا على وشكِ أن أُخبرك يا سيد هولمز بكل ما حدَث حقيقةً، فأنت تعرف الكثير بالفعل ومن الواضح أن من مصلحتي أن تعرف كل شيء. لقد شرحتُ لك مُسبقًا العلاقة التي تربطني بعائلة تريجنس، ومن أجل الأخت أصبحتُ صديقًا لأشقَّائها. حدَث شجار عائلي حول المال تسبَّب في إبعاد هذا الرجل مورتيمر، لكن كان من المُفترض أن يُعقَد صُلح، وبعدها التقيتُ به كما التقيت بالآخرين. كان رجلًا خبيثًا وماكرًا ومخادعًا، وحدث كثير من الأشياء الأخرى التي جعلتني أشك فيه، لكن لم يكن ثمَّة أي سبب للشِّجار معه.
في أحد الأيام، منذ أسبوعَين فقط، جاء إلى كوخي وأريته بعضًا من مُقتنَياتي الأفريقية الغريبة. أريتُه هذا المسحوق، من بين كثيرٍ من الأشياء الأخرى، وأخبرته عن خصائصه الغريبة وكيف يُحفِّز مراكز المخ التي تتحكم في الشعور بالخوف، وكيف يكون الجنون أو الوفاة المصير الذي يَلحق بالمحليِّين التعساء الذين يتعرضون للتعذيب على يد كاهن القبيلة. أخبرتُه أيضًا كيف يعجز العلم الأوروبي عن اكتشاف هذه المادة. لا يُمكنني معرفة كيف أخَذها، إذ لم أَترُك هذه الغُرفة قط، لكن لا شك أنني بينما كنتُ أفتح الخزانات وأنحني على الصَّناديق استطاع الحصول على بعضٍ من جذر قدم الشيطان. أذكر جيدًا كيف انهال عليَّ بالأسئلة عن المقدار والوقت اللازمَين لظهور تأثيرها، لكني لم أتصور قطُّ أن لديه أسبابًا شخصية لطرحها.
لم أُفكِّر في الأمر حتى وصلتني برقية الكاهن في بليموث؛ فقد ظنَّ هذا المجرم أني سأكون قد سافرتُ قبل أن تَصلني الأخبار، وأني سأغيب لسنوات طويلة في أفريقيا؛ لكني عدتُ على الفور. بالطبع لم يَسعْني عند سماع التفاصيل إلا التأكد من أن هذا تأثيرٌ سُمِّي. ثم جئت لمقابلتك أملًا في أن يكون قد تبادر إليك أيُّ تفسير آخر، لكني لم أجد هذا. اقتنعتُ أن مورتيمر تريجنس هو القاتل، وأنه فعل هذا من أجل المال؛ ظنًّا منه أنه إن فقَد باقي أفراد أسرته عقولَهم فسيُصبِح الوصيَّ الوحيد على مُمتلكاتهم المشتركة، ولهذا استخدم معهم مسحوق قدم الشيطان، مما تسبَّب في جنون شقيقيه ومقتل شقيقته بريندا، الإنسانة الوحيدة التي أحببتُها وأحبَّتْني على الإطلاق. هذه كانت جريمته، فكيف تظنُّ أن يكون عقابه؟
هل كان يتحتَّم عليَّ اللجوء للقانون؟ ما دليلي؟ كنت أعلم أن الوقائع صحيحة، لكن هل سأتمكَّن من جعل هيئة محلَّفين من القرويِّين يُصدقون مثل هذه القصة الخيالية؟ ربما أستطيع وربما لا. لكني لم أتحمل الفشل، فقد كانت نفسي مُتعطِّشة للانتقام. وقد أخبرتك من قبلُ يا سيد هولمز أني قضيتُ معظم حياتي بعيدًا عن القانون، حتى انتهى بي الحال بأن صنعتُ قانونًا لنفسي. والآن تحقَّقتِ العدالة؛ فقد اعتزمتُ أن يتعرض للمصير ذاته الذي ألحَقَه بالآخَرين. إما هذا وإما أن أُنفِّذ فيه العدالة بيدي، ففي الوقت الحالي لم يَعُد لحياتي أيُّ قيمة أكثر من أي شخص آخر في إنجلترا كلها.
والآن لقد أخبرتُكَ بكل شيء، وأنت أضفتَ التفاصيل الباقية. فكما قلتَ بالضبط بعد قضاء ليلة مُضطربة انطلقتُ في وقتٍ مُبكِّر من الصباح من كوخي. توقعتُ الصعوبة التي سأُواجِهها في إيقاظه، لذلك جمعتُ بعض الحصى من الكومة التي ذكرتَها، وألقيتُها على نافذته. أسرع بالنزول إلى الأسفل وأدخلني عبر نافذة غُرفة الجلوس. واجهته بجريمته، وأخبرته أنني جئتُ إليه بصفتي قاضيًا ومُنفِّذًا لحكم الإعدام أيضًا. سقط هذا البائس في مقعده، مصعوقًا من رؤية مسدَّسي. فأشعلتُ المصباح، ووضعتُ المسحوق فوقه، ووقفتُ خارج النافذة مُستعدًّا لتنفيذ تهديدي بإطلاق النار عليه إن حاول مغادرة الغرفة. توفِّي في غضون خمس دقائق، ويا إلهي! كم كان الأمر بشعًا! لكن قلبي كان مُتحجِّرًا؛ فهو لم يتعرَّض إلى أي شيء أكثر مما تعرَّضت له حبيبتي البريئة من قبله. هذه هي قصتي يا سيد هولمز. ربما إن أحببتَ امرأة، كنت ستتصرَّف مثلي. على أيِّ حال، أنا تحت تصرُّفك، يُمكنك اتخاذ الإجراءات التي تُريدها. فكما أخبرتك أنا أكثر شخص لا يهاب الموت على وجه الأرض.»
جلس هولمز صامتًا لبعض الوقت وأخيرًا قال: «ماذا كنتَ تَنوي فعله؟»
«كنت أعتزم أن أَدفن نفسي في وسط أفريقيا، فلم أنتهِ إلا من نصف عملي هناك.»
قال هولمز: «اذهب وانتهِ من النِّصف الآخر؛ فأنا على الأقل لستُ مُستعدًّا لحِرمانك منه.»
نهض الدكتور ستيرندال ببِنيَتِه الضخمة، وانحنى بوقار، وسار مُبتعِدًا عن التعريشة. أشعل هولمز غليونه وأعطاني محفظتَه، وقال: «ربما بعض الأدخنة غير السامة ستكون تغييرًا محمودًا. أعتقد أنك تتَّفق معي يا واطسون بأن هذه القضية لا تحتاج إلى تدخُّلنا؛ فقد أجرَينا تحريات مستقلة، وستكون تصرفاتنا هكذا أيضًا. فأنت لا تُدين هذا الرجل، أليس كذلك؟»
أجبته: «بالطَّبع لا.»
«أنا لم أقع قطُّ في الحب يا واطسون، لكني إن فعلتُ وإن تعرَّضتِ المرأة التي أحببتها لمثل هذه النهاية، فربما كنت سأتصرَّف مثلما تصرَّف صائد الأسود المُتمرِّد على القانون هذا. مَن يدري؟ حسنًا يا واطسون، لن أُقلِّل من شأن ذكائك بشرح ما هو بديهي؛ فقد كان بالطبع الحصى الموجود على حافة النافذة نقطة البداية التي انطلقتُ منها في بحثي؛ فقد كان هذا الحصى مختلفًا عن أي شيء موجود في حديقة منزل الكاهن، ولم أجد نظيرًا له إلا حين حولت انتباهي إلى الدكتور ستيرندال وكوخه. بعدها كان إشعال المصباح في وضح النهار وبقايا المسحوق الموجودة على وعائه الحلقات التالية في سلسلة بديهية إلى حدٍّ ما. والآن يا عزيزي واطسون، أعتقد أن الوقت قد حان لنتوقَّف عن التفكير في هذه القضية ونعود بضمير مرتاح إلى دراسة الأصول الكلدانية التي يُمكن بالتأكيد تتبُّعها في الفرع الكورني من اللغة السلتية الكبرى.»