المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية والمُحدِّدات المنهجية
(١) المبحث الأول: المدرسة القومية: مرجعيات التأسيس والمحددات المنهجية
شكَّلت القومية العربية حلقة من حلقات الفكر العربي المعاصر، إن لم نقُلْ إحدى حلقاته الكبرى في زمن كان يبحث فيه الإنسان العربي عن مخرجٍ لأزماته وحلولٍ لانتكاساته المتتالية، وبدأت هذه المدرسة تطرح نفسها بقوة كبديل للاتجاهات السائدة في الفكر العربي، فهزيمة ٦٧–٧٣ كانت المحطة التي زودت الآليات الفكرانية لهذا التيار، وإن الآليات المعرفية والمنهجية التي تم اعتمادها في تحليل قضايا الأمة بعيدة عن واقعها.
إذَن يرى الأستاذ أن البحوث الاجتماعية والدراسات المنهجية في الوطن العربي أكثر البحوث تعبيرًا عن تبعيَّتنا الثقافية للمكتبة الغربية بجناحيها الأوروبي والأمريكي، وأنه آن الأوان لطرْح صيغ بديلة وجديدة للخروج من هذه التبعيَّة ومن عنق الأزمة، وتأسيس علمِ اجتماع عربي نابع من رحم المجتمع، يعالج قضايا مرتبطة باستراتيجيات التنمية والتقدُّم والوحدة وتحرير فلسطين وتوزيع الثروة وعَلاقات الإنتاج، ومرتبط بمصير الطبقات الاجتماعية.
وقد نشِطَت مجموعة من دُور النشر لترسيخ البعد القومي في الثقافة والفكر والأجناس الأدبية بكل أنواعها، نذكر منها على سبيل المثال: «المجلس القومي للثقافة العربية» الذي أسِّس مباشرة بعد اتفاقية كامب ديفيد لمقاومة الغزو الثقافي والتطبيع مع الكيان الصهيوني وتحصين الذات العربية من الاختراق.
فاتجه إلى إعادة تأسيس الموقف وتصحيح الوعي ونقد المفاهيم والتصورات، وبناء مُحدِّدات للرؤية أكثر جرأة في النظر إلى المستقبل، من خلال الدعوة إلى الانخراط في التراث؛ لانتزاع ما يُسمَّى بأسلحة الخصوم.
إن اختيار الاشتغال على فكر الجابري، ومشروعه النقدي للعقل العربي؛ أملَتْه عدة اعتبارات:
أولها ما أثاره، وما يزال من ردود اختلفت، حسب توجُّهات أصحابها تحولت بدورها إلى مشاريعَ فكرية ومدارس نقدية، أخذت على عاتقها مهمة التجديد المنهجي في قراءتها للتراث ولمقدمات المشروع النهضوي العربي المعاصر، وما أحدثه من جدل واسع في الساحة العربية المعاصرة على مستوى الأدوات والمسلكيات المنهجية، ونتيجة دعوته إلى إنجازٍ نوع من القطيعة الإبستيمولوجية مع تراث الأمة.
أما ثاني الاعتبارات فهو ما صرَّح به من القدرة على تجاوز القراءات التي تعاملت مع التراث وطرح بدائل منهجية قادرة في رأيه على التفاعل وإنجاز النهضة، والقطيعة مع الفَهْم التراثي للتراث إلى الفهم الحداثي له بقدرٍ يُعيننا على تجاوز المِحَن والإشكالات المعاصرة، معتمدًا في ذلك على مدخَلين أساسيين:
المدخل الأول: فَهْم هذا التراث وأدوات اشتغاله. المدخل الثاني: الاستعانة بمفاهيم الفكر الغربي المعاصر على تعدُّد مدارسه وتنوعها، ومحاولة تبيئتها وَفْق معطيات هذا التراث، ووفق شواغل معرفية كما صرح، وأخرى أيديولوجية كما استبطن حينًا وصرَّح في كثير من الأحيان؛ لهذا فإن البحث في منهج الجابري يتطلب قراءة دقيقة لمساره الفكري، والنتائج التي توصَّل إليها أولًا بأول، ولكل ما كُتِب عنه نقدًا أو نقضًا، وهذا ما لا يتسع له الوقت. وحسبنا أن نركز في هذا الفصل على أهم ما كُتب عنه وأُنجز من دراسات نعتبرها استوفت بعضًا من الشروط العلمية في الحركة النقدية متجاوزين بعضًا من الدراسات التي سلكت مسلك التحامل والتجريح، وبالدرجة الأولى على أهم كتبه التي شكَّلت مشروعه الفكري انطلاقًا من باكورة أعماله:
«نحن والتراث» سنة ١٩٨٠م، «الخطاب العربي المعاصر» ١٩٨١م، «نقد العقل العربي» الذي أصدر أولى حلقاته سنة ١٩٨٤م من خلال كتابه «تكوين العقل العربي»، ثم الجزء الثاني «بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية» سنة ١٩٨٥م، «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» ١٩٨٩م، «العقل السياسي العربي: المحددات والتجليات»١٩٩٠م، «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات» ١٩٩١م، ثم «المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية» ١٩٩٦م. هذه هي الخريطة الفكرية التي سنعتمد عليها في بحث إشكالية المنهج في المشروع الفكري للجابري.
(٢) المبحث الثاني: المحددات المنهجية والمرجعية لمشروع الجابري
يعالج هذا المبحث قضايا منهجية دقيقة وقوية على مستوى الرؤية والمنهج التي تبناها الجابري في فحص آليات قراءة التراث، والإشكالات التي أفرزتها في الواقع العربي المعاصر، حين اعتبرها مسئولة إلى حد كبير عن الوعي المزيف اتجاه مرجعية المتن التراثي، في مقابل ذلك سعيه الدءوب إلى تحرير العقل العربي من تلك القراءات السلفية، والدعوة إلى الانتظام المنهجي في تاريخ التراث، من خلال إنجاز قراءة معاصرة، وبأدوات منهجية تتيح فرص التوظيف العلمي، والعقلاني للتراث، والقدرة على التشابك مع منجزات الحداثة ومفاهيمها.
(٢-١) من فوضى المنهج إلى الانتظام المنهجي
(أ) القراءة المعاصرة للتراث ونقد القراءات السابقة
ولعل هذا التوجه وهذا الاختيار هو الذي يحقق — في نظره — الانتظام المنهجي في قراءة تاريخ الفكر العربي وبنياته وأصوله، ويتجاوز الفوضى المنهجية التي ظلت مهيمنة على قطاع واسع من المثقفين العرب في مقاربة قضايا الفكر العربي المعاصر وإشكالاته.
القراءة السلفية الدينية للتراث
السلفية العربية الليبرالية الاستشراقية
القراءة اليسارية الماركسية العربية
هكذا فكَّر الفكر اليساري العربي باحثًا لنفسه عن مخرج من الحلقة المفرغة التي أوجد فيها نفسه؛ باحثًا عن منهج، فيتبنى المنهج الجدلي، لكن مع ذلك — تأكيد من الجابري — يجد نفسه في الحلقة نفسها التي حاول الخروج منها.
ودفع هذا الاتجاه بكل مقولاته المنهجية وآلياته التفسيرية إلى تفصيل التاريخ الفكري والمعرفي للأمة، وفق هرمية تصورية منسجمة مع ذات المقولات والآليات، وحتى إذا عجزوا عن هذا التفسير وهذا التفصيل للتاريخ، ولم تسعفهم قوالبهم الفكرية تحدثوا عن «التواطؤ التاريخي» بين قوى رجعية ظلامية أيديولوجية، فانتهت هذه القراءة إلى «سلفية ماركسية».
فهذه الآليات المنهجية والمطالعات النقدية للتراث تعاني حسب الجابري من آفات على مستوى المنهج والرؤية؛ فمن حيث المنهج فإنها تفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، أما من حيث الرؤية فتعاني كلها من غياب النظرة التاريخية، وبالتالي لا تختلف هذه القراءات عن بعضها من الناحية الإبستيمولوجية؛ لأنها مُؤسَّسة على طريقة واحدة في التفكير، الطريقة التي سمَّاها الباحثون العرب القُدامى ﺑ «قياس الغائب على الشاهد»، مما يجعلها عاجزة عن الإبداع والإنتاج، وتطوير لكل أنماط المعرفة.
فهذه المسوغات كافية في نظر الجابري لمقترحات منهجية أكثر فاعلية، وقدرة على التحليل في إطار المشروع الكبير الذي اشتغل عليه «نقد العقل العربي» وتفكيك آلياته ونظمه المعرفية.
(ب) الانتظام المنهجي في فكر الجابري: الأسس والآليات
ظل إشكال المنهج في قراءة التراث العربي الإسلامي عند الجابري إحدى القضايا الكبرى التي شغلته، الأمر الذي دفعه إلى نقد الدراسات السابقة والتي وصفها بالسلفية، على اختلاف مرجعياتها؛ لأنها أخلَّت — في رأيه — بشروط القراءة العلمية المعاصرة التي تخلق إمكانات وكفايات في قراءة الإشكالات الواقعية المطروحة على العقل العربي المعاصر، وتعيد المتن التراثي إلى سياقات جديدة ليتفاعل معها، بدل أن يظل متنًا سكونيًّا عاجزًا عن الفعل، أي بعد الاتصال والانفصال عنه في اللحظة ذاتها.
ويقدم الجابري في هذه الخطوات المعالم الكبرى لمنهجياته المقترحة نستعرضها كما صاغها الرجل دون تغيير حرصًا على الأمانة العلمية وإبلاغًا للمادة كما هي على أساس أن نؤجل القول فيها فيما بعد.
ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث
وقد مكنته هذه الآلية المنهجية من حسن تدبير العَلاقة بين طموحات الواقع وإشكالاته، وبين الماضي وإكراهاته؛ ليرفع من جاهزية العقل العربي في مجابهة تحديات الحداثة وتدفقاته، والقدرة على إنجاز أحلامه؛ فيتحرر من تراكمات التاريخ السلبية، والمعيقة لحركته الإبداعية في واقع لا يسمح بتكرار أنظمة فكرية غير قادرة على الفعل والإنجاز.
تجديد باراديغم قراءة التراث: منهجية الفصل والوصل
-
المعالجة البنيوية: التي تحرص على العلائق الداخلية للنصوص، والاقتصار في التعامل معها «كمدونة، ككل تتحكم فيها ثوابت، ويغتني بالتغييرات التي تجري عليه حول محور واحد»،٤٦ من خلال محورية فكر صاحب النص حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك فيها ومن خلالها فكره. مرحلة تُعِين على فَهْم العَلاقات الأفقية داخل النص، دون الاستناد إلى العَلاقات الخارجية.
-
التحليل التاريخي: من خلال الحرص على ربط فكر صاحب النص الذي أعيد ترتيبه بمجاله التاريخي، بكل أبعاده الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، لاختبار مدى صحة المعالجة البنيوية،٤٧ فهذا التحليل يساعدنا على اكتشاف الإمكان التاريخي، والتعرف على ما كان في إمكان النص أن يقوله ولكن سكت عنه.
-
الطرح الأيديولوجي: ينطلق الجابري من أن هذا المدخل في التحليل يشكل إضافة نوعية في عملية الفهم، والبناء التكاملي في الوظيفة التي نتوخَّاها من التراث. يقول: «إن التحليل التاريخي سيظل ناقصًا، صوريًّا مجردًا ما لم يُسعِفه الطرح الأيديولوجي؛ أي الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية [السياسية والاجتماعية] التي أدَّاها الفكر المعني الذي ينتمي إليه (…) والكشف عن هذا المضمون هو الوسيلة الوحيدة لجعله فعلًا معاصرًا لنفسه، مرتبطًا بعالمه»،٤٨ وإعادة التاريخية له.
تشكل هذه الخطوات كلها نسقًا متداخلًا ومتكاملًا قائمة على لحظة الموضوعية، وتحقيق الانفصال عن الموضوع، أما اللحظة الثانية فهي لحظة الاتصال به والتواصل معه، لمعالجة مشكل الاستمرارية، وهي اللحظة المنهجية التي يؤسس عليها الجابري عَلاقة القارئ بالمتن التراثي؛ وتُمكِّنه من الاتصال المباشر به، فيعيش إشكالاته، ويكتشف ذاته مع الاحتفاظ بوعيه واستقلاله … إنها حسب الجابري رؤية مباشرة ريادية استكشافية: تستكشف الطريق وتستبق النتائج، وسط حوار جدلي بين الذات القارئة، والذات المقروءة، عبر معطيات الموضوعية التي استخلصت خلال اللحظة الأولى من المنهج.
هكذا يُفصح الجابري عن طموحاته النقدية وأُفقه المعرفي، من خلال منهجية الوصل والفصل لتحرير التراث والتاريخ من الرقابة المادية والمعنوية التي يفرضها المجتمع، وتمنع من استمرار العطاءات في الثقافة العربية.
(ﺟ) مُحدِّدات الرؤية والقراءة المعاصرة للتراث
وحدة الفكر … وحدة الإشكالية٥٢
ينطلق الجابري في هذه النقطة من اعتبار تاريخ الفكر تاريخ وحدة الإشكالية التي تؤسس لوحدة الفكر في لحظة أو لحظات تاريخية معينة لا تتقيد بإطار الزمان والمكان، بل تبقى مستمرة وتظل مفتوحة في كل لحظة تبرز فيها إشكالية النهضة للأمة كإشكالية التوفيق بين العقل والنقل، كما تعني عنده ضرورة الانصراف إلى ما كتبه مجموعة من المفكرين إلى فكر واحد منهم. وتشكل هذه اللحظة عند الجابري لحظة مهمة في توجيه اختياراته الفلسفية العقلانية أثناء تعامله مع التراث العربي في مجال جغرافي محدد [المغرب والأندلس] ولفكر بعينه — ابن طفيل وابن رشد وابن باجة — وبالعوامل التي أنتجت هذا الفكر في زمان محدد ومعروف «اقتصادية وسياسية واجتماعية»، ويرى أنها رؤية مفتوحة للذات القارئة ومتاحة للتأويل بعد تكييف أدوات التحليل معها.
المجال التاريخي أو تاريخية الفكر
-
«الحقل المعرفي» الذي تؤطره المادة المعرفية الموحدة المنسجمة «الفكر الفلسفي» التي يتحرك فيها الفكر بجهاز مفاهيمي وتصورات، ومنطلقات، ومنهج ورؤية موحدة.
-
أما المجال الثاني فهو «المضمون الأيديولوجي» لإعادة نوع من الترابط بين الفكر والواقع من خلال الوظيفة الأيديولوجية التي يحملها ذلك الفكر.
والمنهج في كتابات الجابري — كما يؤكد — مسترسل، لكن لا ليكرر نفسه، بل ليُكيِّف خطواته وأدواته مع المعطيات التي يتعامل معها، ويتمم عملية اكتشاف نفسه، وهذا واضح من المداخل والمُقاربات التي افتتح بها كل جزء من أجزاء مشروعه في نقد العقل العربي.
ويحق لنا أن نتساءل بعد الذي عشناه مع هذا المشروع من متعة وسياحة فكرية وقوة في المراجعات: هل فعلًا انتهينا من إشكالية المنهج من خلال الخطوات المقترحة وسوِّيت المسألة أم أن الأمر أعقد مما يتصور الجابري؟ ما حدود التوفيق لهذه المنهجية المقترحة؟ ألم يكن خطاب الجابري حول التراث خطاب نقائض أيديولوجيًّا عكس ما قرَّره من أن الهم الإبستيمي هو رِهانه الأول في كل هذا الجهد؟ نؤجل القول في هذه الأسئلة إلى المبحث الرابع من هذا الفصل حيث مجاله الطبيعي.
(٢-٢) تأسيس المفاهيم المعرفية المنهجية في مشروع الجابري: المرجعيات والأصول
اعتمد محمد عابد الجابري في تأسيس ونحت جهازه المفاهيمي ومنهجياته التحليلية على منظورات متعددة ومتخصصة، ومساقط معرفية، منها ما ينتمي إلى المتن التراثي العربي الفلسفي بالدرجة الأولى، ومنها ما ينتسب إلى الفكر العالمي المعاصر المتعدد التخصصات «الفكر السياسي، والبنيوية، والتفكيكية، والأنثروبولوجيا، والإبستيمولوجيا، وعلم النفس، وعلم اللغة، والماركسية المتجددة» ليس كما طُبقت هذه المفاهيم في حقلها التداولي الأول، وإنما وفق معطيات جديدة، يعيشها الفكر العربي المعاصر، وهو ما يمنحها — حسب الجابري — إمكانات التحرك في حقلها الجديد بحُرية، بعد تنقيتها من خلفياتها الأيديولوجية، وتطويعها والسياقات الجديدة لفكرنا المعاصر.
هكذا تكلَّم الرجل. فهل فعلًا استطاع الجابري أن يحقق هذا الانسجام بين أدواته التفسيرية وموضوعه «نقد العقل العربي» بمضلعاته الأربعة: «تكوين العقل»، «بنية العقل»، «العقل السياسي»، «العقل الأخلاقي»؟ ولإشكالات الفكر العربي المعاصر؟ وأن يحررها من أبعادها الأيديولوجية وإحالاتها الفلسفية؟ وأن يحقق بهذا العمل الضخم ما كان العرب يحلمون به؛ مشروع النهضة والتقدم والحداثة السياسية؟ فهذا الانتظام، والتجاوز المنهجي، والتبيئة المفاهيمية التي اشتغل عليها الجابري وأخذت منه وقتًا من شأنها — كما يقول — أن تجعل من دراسة التراث وقضايا الفكر العربي المعاصر؛ دراسة نقدية عقلانية متجاوزًا «الثقافة الشعبية، والخرافات، والأساطير» إلى الانخراط في نقد العقل بأدوات مأخوذة من الفكر العالمي الإنساني، ومحاولة غرسها في الحقل التداولي الفلسفي العربي.
فظلت هذه المنهجية هي الموجِّه الأساس لعمليته النقدية التي انطلقت من الخطوات الثلاث في كتابه «نحن والتراث»: التحليل التاريخي، المعالجة البنيوية، ثم الطرح الأيديولوجي.
ومع كل التأكيدات الصارمة التي أعلنها الجابري في التسلح بالنقد الإبستيمولوجي باعتباره سلطة مرجعية في منهجية التحليل، فإنه لا يفوته أن يلمِّح إلى إحساسه بالإحراج من نتائج هذا التحليل، إزاء المذاهب والطوائف التي انتقد بنية التفكير عندها في التراث المعرفي وما زالت مستمرة؛ ولذلك عمد إلى ما أسماه بالتخفيف من النقد، حيث حرص على تجنب الحساسية الطائفية فخفَّف من النقد إلى أدنى درجة ممكنة بالنسبة للمذاهب الفكرية التي ما زالت موجودة في الساحة، وربما تنافسه على مستوى التحليل أو تخالفه.
وهذا التخفيف ذكاء منهجي من الجابري ليتجنَّب الدخول في الصراع المباشر، والمعارك الهامشية التي تنسيه الموضوع الأساس والحيوي «نقد العقل العربي والتأسيس لمشروع الحداثة»، ويضع بينه وبين «خصومه» مسافة من الاحترام والتقدير، المستند إلى فقه الاختلاف، لكن الاختيار يبقى هو هو: الصرامة النقدية، والوفاء لمنظومته التحليلية.
إن الترجمة لا تكفي، بل لا بُدَّ من عملٍ استثنائي للباحث هو الوعي بما قبل المنهج بالحمولات الفلسفية للمفاهيم؛ لتفادي الإسقاط العشوائي، وهذا واحد من العوائق الكبرى التي تواجه الفكر العربي المعاصر في كل لحظة من لحظاته التاريخية، بل تواجه البحث العلمي بشكل عام.
فهذا الخلل في قراءة المفاهيم أدَّى إلى خلق ثنائيات في تاريخ الفكر العربي منذ بداية الترجمة، الماضي والحاضر، التراث والحداثة.
- (أ)
اعتبار العَلاقة بين العقل والطبيعة عَلاقة مباشرة.
- (ب)
الإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عن أسرارها.
يوظف هذه المفاهيم دون عرضها معجميًّا وتتبُّع سياقاتها في الحقل الدلالي الذي نشأت فيه، وصعوبات تطبيقها في المجال التداولي الثاني موضوع الدراسة [العقل السياسي العربي] لاعتبارات حدَّدها في إشراك القارئ في الرؤية التي يقترحها لموضوعه، وترك الرؤى والمرجعيات التي اختارها تحدد هذه المفاهيم كما وردت في سِجلَّاتها.
ويعزز هذا التوجه بما انتهى إليه ريجيس دوبري الذي استعار منه هذا المفهوم في دراسته للعقل السياسي من التمييز بين المفهومين «اللاشعور الجمعي» و«اللاشعور السياسي»، حيث جعل من هذا الأخير مفهومًا مستقلًّا.
وقد شجَّعه هذا النقد على تبني آراء نقدية أخرى لماركسيين مجتهدين معاصرين اهتموا بموضوعه. الأمر يتعلق بالباحث الأنثروبولوجي «موريس كودوليي» — وفي هذا التوجه لا يختلف الجابري عن زميله العروي على مستوى المنظورات التحليلية، وإعلانه حالة التنافي المنهجي والمرجعي — ومع موريس يتنسَّم الجابري عبَق المفاهيم ورائحتها من خلال توظيف المعلومات والمعطيات التي تراكمت من الأبحاث الأنثروبولوجية والأركيولوجية «المنهج الحفري» واللسانية والتاريخية.
وينوه الجابري بعمل كودوليي كباحث أنثروبولوجي طوَّر مجموعة من المفاهيم، خصوصًا مفهومي «القرابة» والدور الذي يقوم به في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، والمجتمعات القبلية خاصة، ثم فكرة «وحدة البِنْيتَين» — البنية الفوقية والتحتية — داخل ذات المجتمعات. مع العلم أن الأبحاث التي أجريت على عينات من المجتمعات المسماة بُدائية لم تستوفِ الشروط العلمية، وأثبتت محدوديتها في الدراسات الأنثروبولوجية، وتعرضت لانتقادات من داخل المدارس نفسها، وَضعيَّةً كانت أو ماركسية، بل إن هذه المجتمعات التي كانت موضوع الدراسة لم تُدرس فيها كل العوامل المشكِّلة لبنياتها.
الملاحظ أن هذا التوجه يحتاج إلى تحرير القول، صحيح أن الدراسات الأنثروبولوجية قدمت عُدَّة منهجية للفكر الإنساني، وأغنت الدراسات المنهجية، لكنها لا تصلح دائمًا أن تكون أنموذجًا لكل الدراسات، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمجتمع — كما يؤكد الجابري — كالمجتمع العربي، فما تزال مفاهيم هذا العلم موضوع خلاف إلى اليوم بين أهل الاختصاص، وغير ذات اتفاق وغير مستقرة، فمن المستبعد أن تكون أداة مصالحة مع الواقع العربي، ولا تقوى على القراءة الواعية لماضيه وحاضره.
وهنا نوع من التناقض في تصريح الجابري بتفكيك المقولات المنهجية الغربية الواردة علينا، وبين ادعاء الانتماء إلى التراث ومقولاته وخصوصيات المجتمع الأم، وحقه في أدوات ومنهجيات تراعي هذه الخصوصيات، وبين التنويه بأدوات خارجية ليست إلا وجهًا للتحليل الأيديولوجي الاستعماري.
أما المفهوم الآخر الذي استعان به وأثَّث به مشروعه؛ فهو مفهوم «الحفر المعرفي» الذي استمده من ميشيل فوكو أثناء مقارنته وتحليله لمفهوم «الراعي والرعية» في الفكر الشرقي القديم، والمضمون الذي كان له في الفكر اليوناني.
- (١)
القبيلة: وهي ما تقصده الدراسات الأنثروبولوجية بالقرابة، أثناء دراسته للمجتمعات البُدائية، والسابقة على الرأسمالية، أو ما سبق أن عبَّر عنه ابن خلدون ﺑ «العصبية» أثناء دراسته لطبائع العمران.
- (٢)
الغنيمة: باعتبار العامل الاقتصادي نوعًا خاصًّا من الدخل، خراجًا أو رَيْعًا، وطريقة في صرف الدخل وعقلية ملازمة لهما، واعتباره أحد دوافع الفعل السياسي وأحد مُحدِّداتها الأساسية.
- (٣) أما العقيدة فتكمن أهميتها في قدرتها على تشكيل المخيال الاجتماعي السياسي للعقل العربي. وقد قدَّم الجابري شرحًا مفصلًا لهذه المنهجية وفق المحددات والتصورات والمرجعيات التي اعتمدها، ووفق خطية تاريخية بين المرجعية الغربية والأبحاث الأنثروبولوجية والمرجعية التراثية العربية. فقد نظر إلى هذه المحددات من جهتين: جهة الإيجاب حين تتحرك في اتجاه البناء وتعزيز الراوبط، وجهة السلب حين تتحول إلى عوامل تقويض البنيان العربي.٩٤
فهذه العوامل تتداخل عنده فيما بينها لتشكل محددات جوهرية للعقل السياسي العربي، ففي العصر الجاهلي شكلت القبيلة والغنيمة أساسًا له، في حين شكَّلت العقيدة في عصر النبوة محددًا لتحرك العقل السياسي العربي، دون أن تسلم هذه المحددات من المساءلة والنقد وتتعرض لانتقادات.
وقد حاول الجابري أن يرغم التراث العربي على أن ينطق بلسان عقائدي الحاضر من خلال عُدَّة معرفية ومنهجية تربط بين الفهم الإبستيمولوجي المعاصر وأفقه — الحداثة — وتحرير العقل العربي من الفهم التراثي للتراث، وإن كنا نحتفظ له بفضل معرفي على هذا المستوى من الفهم، وتحرير العقل العربي من الفهم الخاطئ للتراث، أو على الأقل زعزعة بعض أفكاره المشوشة لمسيرته، فيخرجه من الجبر التاريخي إلى حركة تنويرية معاصرة. فاعل ذلك الجهاز المفاهيمي الذي اعتمده في تشريح ذلك العقل، في أفق التأسيس للكتلة التاريخية، وهو بذلك يدشن مرحلة القطيعة مع الميتولوجيا السياسية التي سادت في تاريخ الأمة إلى فقه السياسة بالمفهوم المعاصر.
(٣) المبحث الثالث: القطيعة المعرفية في فكر الجابري: المفهوم والمجالات والمآلات
وظَّف محمد عابد الجابري في مشروعه النقدي للعقل العربي جهازًا مفاهيميًّا حاول من خلاله تنشيط آليات التحليل، وتحديد منطلقات البحث ومآلاته، فكان هذا الجهاز المفاهيمي هو الضابط لحركته النقدية، والموجِّه نحو الأفق المعرفي عنده، فمن المفاهيم المركزية التي شغلت مساحة كبيرة في مشروعه: مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية، أو النقد الإبستيمولوجي.
فتأسيس الحاضر واستشراف المستقبل لا يحصل عنده إلا بتحقيق هذه القطيعة المعرفية مع مساحة كبيرة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ومع أنواع الفهوم التي تشكلت حول هذا الفكر في الماضي، وأريدَ لها أن تستمر وتبني وتشيد.
- الأول: تخلي العالِم في المختبر عن المعرفة التقليدية الشائعة، والأخذ بالمعرفة العلمية الموضوعية القائمة على التجربة والبرهان.
- الثاني: القطيعة بين الأنظمة المعرفية في تاريخ العلم، والنظام المعرفي هو مجموعة من المفاهيم والمقولات وطرائق التفكير التي تُمكِّننا من حل المشكلات أو التوصل إلى معرفة جديدة ترقي حياتنا. فعندما يصل النظام المعرفي الذي نستخدمه إلى طريق مسدود ولا يستطيع معالجة الإشكاليات التي تواجهنا، لا بد لنا من تغيير الزاوية التي ننظر منها إلى الأشياء؛ أي التخلي بوعيٍ تامٍّ عن ذلك النظام المعرفي القديم، وتبنِّي نظام معرفي جديد يستطيع التعامل مع الإشكاليات التي عجز النظام المعرفي القديم عن التعامل معها، فالتطور العلمي لا يتوقف على التراكم الكمي فحسب، بل على آليات التفكير الجديد أيضًا، وفيما اشتغل باشلار على المفهوم الأول لمصطلح القطيعة المعرفية تبنى المفهومَ الثاني وطوَّره ثلاثة من المفكرين هم: الفيلسوف الناقد الفَرنسي ميشيل فوكو (١٩٢٦م– ١٩٨٤م) الذي اتبع طرائق بحث جديدة في كتابه «تاريخ الجنون»، ولويس التوسير (١٩١٦–١٩٩٠م) الذي أعاد قراءة ماركس قراءة بنيوية؛ فبيَّن أن ماركس في كهولته قد قطع صلته الأيديولوجية والمثالية بالفلسفة الألمانية، وتبنى مقاربة علمية، ونظرية قرأ فيها الأشياء قراءة نسقية توضح بنيتها الداخلية ونظامها الهيكلي. ومؤرخ العلم الأمريكي توماس كوهن (١٩٢٢–١٩٩٦م) صاحب كتاب «بنية الثورات العلمية» الذي برهن فيه على أن «التطور العلمي ليس بالضرورة تراكميًّا وتدريجيًّا، وإنما قد يتأتى من ثورات بنيوية يتم فيها تغيير نسق البحث وآلياته، وأصبح للقطيعة المعرفية مفهوم مختلف شيئًا ما لدى كل واحد من هؤلاء المفكرين الثلاثة.»٩٦
فالتقطيع الذي مارسه الجابري أفسد منهجه التحليلي الإبستيمولوجي في بُعده الإجرائي على الأقل، كما حدده في خطواته المنهجية وبنائه الفكري، وصبغه بصبغة التحليل الأيديولوجي الانتقائي البراغماتي لخريطة معرفية دون أخرى أشبه — في نظري — بالتقطيع الجغرافي للخريطة العربية، فالتركيز على الفلسفة المغربية الأندلسية واستبعاد نظيرتها المشرقية فيه كثير من التجنِّي.
فهذا الربط بين تقدُّم أوروبا وأخذِها للرشدية، وحضورها في التاريخ إلى اليوم وتخلفنا، هي دعوة إلى استعادة هذه الرشدية كما فهمها الغرب وشغلها رجال الفكر الغربيون في صراعهم مع اللاهوت الكنسي، ومواجهة سلطانه بمفاهيمها ومقولاته في الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية.
- (١)
ما جعل الرشدية تدخل التاريخ هو قطيعتها مع السينيوية في صورتها التي اختارها لها ابن سينا (…) ولنقطع بدورنا قطيعة تامة ونهائية مع الروح السينيوية «المشرقية» ولنخضها معركة حاسمة ضدها.
- (٢) القطع مع الطريقة والمنهجية التي عالج بها الفكر النظري — الكلام والفلسفة — العَلاقة بين الدين والفلسفة، لقد رفض طريقة المتكلمين في التوفيق بين العقل والنقل ورفض طريق الفلاسفة الهادف إلى دمج الدين في الفلسفة، والفلسفة في الدين، ويبرر هذه القطيعة التي أنجزها ابن رشد — حسب تفسيره — بأن المتكلمين ضيَّقوا على العقل وشوَّهوا الواقع من خلال تحكيم عقلهم التجريبي التجزيئي في الدين، وأن الفلاسفة حكَّموا «العلم» في الدين وقيَّدوا العلم بالفَهم الذي يكونونه لأنفسهم عن الدين. وابن رشد قطع مع هذا النوع من التفسيرات والتأويلات والعَلاقة بين الدين والفلسفة وبدأ عصرًا جديدًا للتدوين وَفْق معطيات جديدة تؤسس لهذه العقلانية التي يدافع عنها الجابري ويبشر بها في مشروعه، لكن ابن رشد — في رأيه — لم يقطع فحسب بل قدَّم البديل، الذي يُمكِّننا من توظيفه في بناء «العَلاقة بين تراثنا والفكر العالمي المعاصر بشكل يحقق لنا ما نَنشُده من أصالة ومعاصرة (…) فلنقتبس منه هذا المنهج في تعاملنا مع تراثنا من الداخل ومع الفكر العالمي المعاصر (…) فنبني لأنفسنا فهمًا علميًّا موضوعيًّا للجانبَين معًا يساعدنا على الربط بينهما في اتجاه تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا.»١١٠
- أحدهما: أن الرشدية «اللاتينية» في القرن الثالث عشر اشتهرت بخروجها عن الفلسفة اللاهوتية للكنيسة، وقد استندت في هذا الخروج إلى فهم علماني لفلسفة ابن رشد؛ حيث جعلت فيها فلسفة قائمة على ضربَين من المبادئ، كلاهما يصادم الفلسفة اللاهوتية المقررة: مبادئ مادية تخالف ما تَقرَّر في المجتمع المسيحي من معتقدات دينية (…) إنكار العناية الإلهية، الحرية وخلود النفس، والمبادئ المنهجية القائلة بتكافؤ الحقيقة الدينية والعلمية الذي يترتب عليه العمل بإحدى الحقيقتين دون الأخرى، فصار الرشديون «اللاتين» إلى الاستغناء بالفلسفة «الأرسطية» عن اللاهوت المسيحي.
- أما الدليل الثاني: فإن روح الرشدية «اللاتينية» التي تنبني على مبدأ الفصل بين الدين والفلسفة استمرت إلى غاية القرن السابع عشر، ممهدة على التدريج لظاهرة التحلل من الدين التي انتشرت بين أصحاب عصر التنوير، والتي تواصل تأثيرها وانتقل إلى المحدثين، فحينئذٍ لا عجب أن يُنصَّب ابن رشد إمامًا للعقلانيين والعلمانيين والحداثيين، وبهذا يتبين أن إرادة الانتساب إلى ابن رشد إنما هي إرادة الانتساب إلى العلمانية كما تجلَّت في أطوارها الثلاثة: «اللاتيني» و«الأنواري» و«الحداثي».»١١٣
صحيح أن للجابري — رحمه الله — مواقفَ من العلمانية ومن المركزية والحداثة الغربية ما يفوق بها غيره من المفكرين العرب، واحترامه للأسس العقدية الإسلامية، ولم يعلن مصادمته للثوابت، كما فعل غيره، وهو الذي أعلن غير ما مرة أن العلمانية غير ذات موضوع في تاريخنا الفكري والثقافي، لكن ابتكر لها بديلًا هو الديمقراطية والعقلانية للتخفيف من الحساسيات التي يُثيرها المفهوم ومآلاته في الوعي الشعبي العربي، وهو ما عبَّر عنه سابقًا بنوع من الذكاء المنهجي الذي سلكه الجابري في محاورة إشكالات الوعي العربي.
يلاحظ على الجابري في تعامله مع فكر ابن خلدون وابن رشد نوعًا من التعامل الازدواجي على مستوى المفاهيم والأُطر المرجعية المؤطرة لكل توجه. ففي الوقت الذي يعزز مرجعية ابن رشد يتعامل مع علم ابن خلدون بنوع من التشويش والمأساوية كما يسميها.
-
النظام المعرفي البياني الذي تحمله اللغة العربية، وعلى أسس ومفاهيم منهجية قائمة على النحو واللغة والفقه والكلام والبلاغة، كرَّس رؤيةً للعالم قائمةً على الانفصال واللاسببية، ومنهاجًا في إنتاج المعرفة قِوامه قياس الغائب على الشاهد أو الفرع على الأصل؛ فهذه القاعدة الإبستيمية في نظره هي أصل الخلل في بنية العقل العربي.
-
النظام المعرفي العرفاني (الغنوصي) الذي كرَّس رؤيةً خاصةً للعالم قِوامها المشاركة والاتصال الروحاني المباشر بالموضوع.١٢٠
-
النظام المعرفي البرهاني الذي ارتبط دخوله إلى الثقافة العربية بعهد الترجمة في عصر المأمون، وأسَّس لنفسه من خلال العلوم والفلسفة اليونانية الأرسطية، وكرَّس رؤية للعالم مبنية على الترابط السببي وعلى إنتاج معرفي قائم على ربط النتائج بمقدماتها.١٢١
هكذا يفصل الجابري بين مناهج وأنظمة معرفية ليؤسس لنظام أحادي التصور والرؤية، ويراهن عليه في تحقيق حُلم النهضة، ويجرد العقل العربي من كل القيم المعيارية، وافتعل صراعًا بينها، في الوقت الذي ينبغي أن ننظر إلى هذه الأنظمة على أنها بنيان متراصٌّ ومتكامل يعبر عن ثراء هذا الفكر، وحيوية عقله المنتج.
إن هذا المثلث المعرفي الذي أقامه الجابري يعكس التصور، والتحليل الأيديولوجي رغم التأكيدات التي قدمها والجدارات التي أقامها بين التحليل المعرفي والأيديولوجي، فإن هذا الأخير ظلَّ ملازمًا له في كل خطواته التحليلية، ولم يستطع أن ينفكَّ عنه؛ لأن الشواغل اليومية التي كان يحياها والانتماء الحزبي له أرغماه على استصحاب هذه الرؤية ومُحدِّداتها المنهجية والمعرفية، فوجود هذه الأنظمة المعرفية في الثقافة العربية القديمة وامتدادها في الحاضر شكَّل في رأي الجابري أزمة الفكر العربي المعاصر، أزمة الإبداع فيه؛ لأنه محكوم بسلطة السلف وآلياته الذهنية.
إن المنطق التحليلي الذي استند عليه الجابري، والمهووس بالبعد الأيديولوجي، يحمل في طياته كثيرًا من الثغرات، حين عمد إلى شلِّ قدرات التراث العربي، وتمزيق أوصاله وتفكيك آلياته، وبانتقائية مفرطة وتعسفية لا تنسجم، ومنطق التكامل الذي أعلنه ولا تستجيب للضرورة المنهجية المعرفية التي بشَّر بها منذ البداية، فالنهضة التي ناضل من أجلها الجابري من خلال سلاح النقد للعقل العربي لا يمكن أن يحققها البرهان العقلي الذي دافع عنه، وحاول التشابك معه وتبيئته في الثقافة العربية، اعتبارًا لكونيته، والذي تنعدم فيه الصفات الوراثية لأمة تنهض من خلال نظام فكري معياري.
فهذا التقسيم حسب طه «البرهان والحجاج والتحاج» يفيد ترتيبًا استدلاليًّا صحيحًا، وهو التقسيم نفسه الذي باشره الجابري في أبحاثه، لكنه — حسب تقدير طه — أساء صَوْغه باتخاذه لتقسيم مغالط.
هو اختلاف مرجعي منهجي أساسًا بين عالمَين، لكلٍّ منهما شأن مُقدَّر في سياق البحث عما يعين على الخروج من ورطة التخلف، وليس في سياق التناحر، والتنابز بالألقاب، قد نتفق معهما في جانب، ونختلف معهما في جوانب، وتلك حيوية الفكر والمنهج، واختلاف زوايا النظر لا ينقص من قيمتهم، ولا يرجح كفة أحدهما على الآخر، خصوصًا وأن عقل الأمة في حاجة إلى كل الجهود المبذولة، على فرض الاختلاف والتناقض في بعض الأحيان، المهم تلك الحركة الفكرية التي تُحرِّك الرواكد، وتستشرف المستقبل، وتستوعب الحاضر والماضي.
تتحقق النهضة بكل مكونات الأمة الجغرافية والتاريخية والفكرية، أمَّا الاختزال فأعتقد أنه واحد من العوائق المعرفية والنفسية في تراجع الفكر العربي المعاصر، كما تعكس أزمة العقل الناقد بآليات وأدوات، ورؤى خارج الذات، وغير مستوعبة للتحولات الفكرية الداخلية والخارجية، إنها أزمة الأسس والمرجعيات.
(٤) المبحث الرابع: ملاحظات نقدية حول الأسس المنهجية والمرجعية في مشروع الجابري
وسبيلنا في هذا المبحث أن نتتبع بعض هذه الملاحظات حول الآليات المنهجية التي شغَّلها الجابري في مشروعه، ملتزمين قدر الإمكان بما يخدم الموضوع وينمي الأفكار ويقرب المسافات، ويبحث عن نقاط القوة في المشروع؛ لتحصيل التراكم في مجال البناء المعرفي والمنهجي، وعن نقاط الضعف لتجاوزها والتنبيه عليها، وإن كانت المباحث السابقة قد تعرضت لجزء من نقائص المشروع وأشارت إليها، وبعض نقاطه المضيئة؛ فإن هذا المبحث يواصل هذا النقد على مستويين: مستوى المفاهيم والنقد الإبستيمولوجي الذي اختاره الجابري في مشروعه.
(٤-١) على مستوى المفاهيم
فالمفاهيم التي ابتكرها الغرب لم تخضع لمسطرة، ولنمطية واحدة في التفسير والاستقرار المفهومي، بل أصبح لكل مرحلة تاريخية في الفكر الغربي مفاهيمها ومصطلحاتها، فمفاهيم العصر الوسيط ليست هي مفاهيم العصر الحديث، ومفاهيم الحداثة ليست بالضرورة هي مفاهيم ما بعد الحداثة.
يعكس هذا التحول وعدم الاستقرار المفهومي حاجات هذا المجتمع، وقدرته على التوليد وفق هذه الحاجات، ووفق نسقية معرفية كمية تراكمية، بل لم تكن هذه المفاهيم على درجة واحدة في قَبولها والاشتغال بها ابتداءً من القرن الثامن عشر على أقل تقدير، وهو ما يطرح صعوبة تداول هذه المفاهيم التي استقوى واستنجد بها الفكر العربي المعاصر في تحليله لأنظمة الثقافة العربية، وينشُد بها النهضة.
فكثير من هذه المفاهيم والمنهجيات التي كانت ثمرة طبيعية لتطور الآخر استقرت في بنية هذا الفكر، فلم نعد نتصور المناهج ومفاهيمها إلا لائحة محددة من المفاهيم والأدوات الجاهزة، وربطت مصير الأمة وشعوبها بقدرتها على تمثل هذه اللائحة، والانخراط في تفاصيلها، مما جعل الفكر العربي المعاصر يفقد الزمان والرؤية والمنهج في هذا الشأن — النهضة — بتقمص لسان الآخر وعقله وروحه.
وما تزال هذه واحدة من المعضلات والمعيقات الكبرى في الفكر النقدي العربي المعاصر، بكل ألوانه: النقد الأدبي، والرواية، والمسرح، والشعر، والقصة، والفن التشكيلي … حيث يتم توظيفها بشكل يُشوِّش على القارئ، ويفصل بينه وبين الموضوع، وبين الفكر والواقع، وبين الإمكان والممكن.
فنقل مفهوم فقدَ صلاحيته في موطنه الأصلي — الأفكار والمفاهيم الميتة بتعبير مالك بن نبي — ومحاولة إعادة الحياة إليه في فكرنا المعاصر يعتبر إهانة «للعقلانية» العربية الناقلة والقارئة على حدٍّ سواء، وإهانة للجهد المبذول وتبديده، أما إذا كان المفهوم ما يزال يحافظ على فعَّاليته وقدرته على التوجيه فمسطرة المرور والانتقال والاستعمال تحتاج إلى خبراء لتجنب الفوضى في ميدان الفكر، والعلم الذي ينبغي أن يكون أول من ينتظم؛ لأنه الحلقة الأقوى في تاريخ الحضارات، وفي التشكيل والتشكل.
فالكم الهائل من المفاهيم المرجعية التي نجدها في مشروعه (البنيوية، الإبستيمولوجية، العقلانية، الجدلية، التفكيكية …) يطرح صعوبة توحيد هذه المفاهيم في موضوع واحد، مما سيكون له أثر سلبي على مستوى النتائج، فتناقض هذه المرجعيات وتعدُّد خلفياتها الفلسفية يخلق فوضى على مستوى التحليل، والقدرة على التحكم في مسار البحث.
- أولًا: أنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة؛ من مفاهيم مصطنعة، وقواعد مقررة، ومناهج متبعة، ونظريات مسطرة، فضلًا عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائيتها.
- ثانيًا: أنها لم تمهد لإنزال هذه الآليات العقلانية (…) بنقدٍ كافٍ وشامل لها حتى تتبين مدى كفايتها الوصفية وقدرتها التحليلية وقوتها الاستنتاجية.
- ثالثًا: أنها لم تُجرِ النقد على العقلانية المعاصرة من حيث هي اختيار منهجي مخصوص، لا سيما وأن المراجعة قد أخذت تتطرق إلى هذا الاختيار، وأن حدوده أخذت تفقد دقتها ووضوحها في موطنه الأصلي عند من وضعوا أصوله ورتَّبوا مسائله.١٤٤
وتبدو هذه الاعتراضات التي قدَّمها طه عبد الرحمن واحدةً من الثغرات المنهجية الكبرى «للعقلانية» العربية، فالغرب لم يعرف عقلانية واحدة بل عقلانيات فلسفية تصل في كثير من الأحيان إلى حد التنافي، عبرت عن طموحاتها في كل مرحلة وبأدوات مفاهيمية منهجية مختلفة، فكان منطق التجاوز هو المتحكم في هذه المراحل التاريخية-الفكرية، ونشاط الاتجاهات النقدية في الفكر الغربي المعاصر خير مُعبِّر عن هذا التحول والدينامية، وقد كانت اللحظة الأقوى في تاريخ الفكر الغربي العقلاني مع ديكارت في كتابه «مقال في المنهج» مرورًا بكانط ونقد العقل الخالص (النظري) إلى هيغل والفهم الغائي للعقل إلى مدرسة فرنكفورت مع هابرماس في نقده للعقل الأداتي الأنواري، وتأسيسه لمفهوم العقل التواصلي ودريدا ونقد تمركزات العقل.
فتتكاثر دلالاته ومفهومات في أرضيات ثقافية حسب المنطلقات والمحددات الفلسفية والتوظيفات الراهنة له، وقد يحط رحاله في أرضٍ أخرى دون مكملات ومصححات وظروف نفسية واجتماعية وثقافية؛ مما يجعله يفقد صلابته وقدرته على التحرك والفعل.
- (١)
استبعاد أجزاء من التراث بحجة ضآلة درجتها من العقلانية أو انعدامها منها.
- (٢) حمل أجزاء منه على وجوه من التأويل تفصلها عن بقية الأجزاء الأخرى،١٤٩ وكان هذا العمل واضحًا في التقسيم الثلاثي الذي اعتمده الجابري — البياني والعرفاني والبرهاني — وإقصاء البيان والعرفان لانعدام شرائط العقلانية فيها رغم استنادهما إلى سلطة النص «الوحي» واعتماد البرهان الذي استوفى في نظره هذه الشرائط، مما جعله يسقط في نسقية مغلقة منذ البداية ومحاولة تعميمها في المرحلة الموالية، بل يرغم العقل العربي على التبني الإلزامي للعقل البرهاني الأرسطي.
وهو مما قلل من القوة الإبستيمية في مشروع الجابري؛ لأن الأصل في معانقتها الانتقال من التجزيء إلى التكامل، وهو ما لم يحدث في أجزاء كبيرة من مشروعه الفكري، وإن أكَّد على ذلك في مقدمات كتبه المنهجية البنائية.
- المستوى الأول: مستوى العَلاقة الذاهبة من الذات إلى الموضوع، وتعني فصل الموضوع عن الذات.
- المستوى الثاني: مستوى العَلاقة الذاهبة من الموضوع إلى الذات، وتعنى فصل الذات عن الموضوع.
ويعزز هذه الخطوة بثلاث عمليات كبرى من خلال «المعالجة البنيوية» و«التحليل التاريخي» و«الطرح الأيديولوجي». فهذا المستوى من التصور في رأيه هو القادر على حل معضلة اللاعلمية وتحقيق العلمية والعقلانية في الدراسة، والتفسير للتراث وَفْقَ نموذج العلوم الألسنية والإنسانية.
ونختم هذه الملاحظات بما أثير حول النقد الإبستيمولوجي عند الجابري، لكن هذه المرة من داخل شاكلة ثقافية وفكرية تنتمي إلى تيارات مختلفة من المغاربة بالتحديد، زملاء للجابري، الأمر يتعلق بمحمد وقيدي وكمال عبد اللطيف ونور الدين أفاية وسعيد بن سعيد، خلال الندوة التي نظمتها مجلة الوحدة ونشرتها في العدد المزدوج ٢٦-٢٧ سنة ١٩٨٦م تحت عنوان «العقلانية والمشروع العربي: نقد العقل العربي في مشروع الجابري».
(٤-٢) على مستوى الاختيار الإبستيمولوجي
ويتساءل وقيدي بعد هذه الملاحظة عن درجة الانسجام بين مفاهيم الإبستيمولوجية، والمفاهيم الأخرى المختلفة الأصول، والقيمة المعرفية التي استند إليها الجابري في مشروعه، وإلى أي حد يمكن القول إن أصول هذه المناهج اختفت، وأخذت مكانها ضمن بنية منهج جديد داخل هذا المشروع.
وشعور وقيدي بنوع من الضبابية المفهومية المستعارة، وقضايا الفكر العربي المعاصر، وهمومه؛ جعله يتساءل عن السبب الذي من أجله لم تنشأ عندنا فلسفة عربية مستقلة، ليس بمعنى الاستقلال المطلق عن التراث الغربي، لكن بالمعنى الذي تكون فيه تعبيرًا عن الذات، والمنحى نفسه نجده عند طه عبد الرحمن في كتابه «فقه الفلسفة»، هذه الفلسفة التي ظلت رهينة القوالب والمقاسات المنهجية الغربية، فالترجمة لا تنتج فلسفة ولا فكرًا ولا منهجًا، فهي غير كافية في الإنتاج المعرفي، فهي في أحسن الأحوال تكرار لمفاهيم غربية بلغة عربية.
ويؤاخذ كمال عبد اللطيف الجابري على هذه التوفيقية وما يشوبها من التباس، والحسم — يقصد بالدرجة الأولى موقف العروي من التراث، الذي خالفه الجابري — في الاختيار لنموذج نقدي، دون نماذج أخرى باسم الاستقلال والخصوصية؛ فإنه لم يولد في نظره سوى العقم، وتدعيم التأخر، هكذا تكلم كمال عبد اللطيف، في سياق الدفاع عن أطروحة العروي النقدية التي حسمت مع التراث، من خلال طي صفحته.
هي محاولات نقدية جريئة تؤمن بضرورة إعادة التأسيس، والتدقيق في مخرجات المشروع النقدي للعقل العربي، هي نقد النقد في سياق تطوير وتثوير المشروع الجابري، حيث كشفت عما اعتبرته جنوحًا في فكره. وآلياته التفسيرية عبرت عنه المفاهيم الإبستيمولوجية التي تبنَّاها مثل مفهوم القطيعة الذي شوَّش على مشروعه، وإن سلك في استدراكاته على المفهوم مسلك التوسط بعيدًا عن القطيعة الكبرى كما نجدها عند التيارات اليسارية الماركسية «العروي وحسين مروة»، وتنشيط هذه الآليات وَفْق مطامحه الأيديولوجية.
لكن لا عيب عندي أن تستبطن هذه المناهج وهذه الآليات أبعادًا أيديولوجية — ليس بمفهوم الإقفال والإلغاء — بمقادير معينة، وأن تستبطن هذه الأخيرة أبعادًا معرفية منهجية، فثمة عَلاقة تفاعلية، وإنما الخلاف فيما ذهب إليه عبد الإله بلقزيز واشتغلت عليه تيارات الفكر العربي المعاصر هو أن يصبح البعد الأيديولوجي هو القابض على المصير المعرفي، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، وهي نقطة شكَّلت ثغرة وعيبًا منهجيًّا ومعرفيًّا في تاريخ الفكر العربي المعاصر، يلزم ترتيب العَلاقات بينهما.
إن المشروع الفكري الذي قدَّمه الجابري بقي حُلمًا معلقًا، فلا هو حقق عقلانية ابن رشد ولا أسس دولته ولا استنبت حداثة الغرب؛ لأن المشروع لم يستند في كثير من تفاصيله إلى أسس مرجعية ذات صلة بالأمة، مرجعية الإسلام كقوة مؤطرة وموجهة لحركة الفكر والنهضة والحضارة وإلى عمقها التاريخي. لكن رغم ما قيل عن المشروع وما قدمنا من ملاحظات حول المسار النقدي في مشروع الجابري، يبقى فكره — في رأيي — واحدًا من المشاريع الفكرية القليلة في الفكر العربي المعاصر التي استطاعت أن تجد لنفسها مساحة محترمة مع جميع الاتجاهات الفكرية: يمينية – يسارية – إسلامية، بدرجات متفاوتة.
صحيح أن الجابري قدم مقترحات في هذا الاتجاه، لكنها تبقى دون طموحات النهضة والواقع العربي، وهو الاعتراف الذي عثرنا عليه في كتاباته الأخيرة «لماذا فشلنا في تحقيق حلم النهضة؟» أما الجواب عن الفشل، فالسؤال يحمل جزءًا منه، أما الجزء الآخر فيكمن في الأدوات التي اشتغلت عليها تيارات الفكر العربي المعاصر، حين راهنت على خلطة هجينة من المناهج النقدية الغربية، وانتقائية من التراث، في تقويم إشكالات الواقع العربي واستشراف آفاقه، دون امتلاك رؤية ناظمة لأعطاب ذلك الواقع.
لا تخرج الانتقادات الكثيرة — على اختلاف في درجتها ومرجعياتها وأدواتها — التي وجهت لمشروع الجابري في رأيي عن الرغبة في تجويد أطروحات الفكر العربي المعاصر، والرفع من منسوبها في مواجهة التحديات، وتنويع أدواتها التفسيرية. انتقادات لا تنقص من قيمة المشروع وصاحبه، بل تزيد من قوته وتأكيد على استمرار الروح النقدية العقلانية التي دشنها في تحليله لنظم الثقافة العربية، واستئنافها وفق معطيات الواقع المعاصر، لهذا فنحن لا نؤسس رؤانا واختياراتنا، على أساس انتكاسة الآخرين وفشلهم، أو لعيوب في فلسفاتهم؛ بقدر ما نؤسس على أساس نوع من تراكم خبرات عقول الأمة، وتجاربها الفاشلة والناجحة، كما نؤسس على معيارية ذاتية قائمة على منطق داخلي، أثبت جدارة عطائه على امتداد التاريخ الحضاري للأمة، والانفتاح الواعي على كل الممارسات الإنسانية الراقية وعطاءاتها المتواصلة، تراعي خصوصيتها وخصوصيات الآخرين، وتعترف بنسبيتها ضمن النسق الحضاري الإنساني العام.