المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر: الأصول المرجعية والمنهجية
ننطلق في هذا العمل من رؤية مؤسسة وبانية من خلال أصولنا المعرفية والمنهجية، ومن رؤية واقعية تستكشف حاجيَّات الأمة، وتتجاوز الاختلالات التي رافقت هذا الاتجاه في فكرنا العربي المعاصر: مرجعياته التأسيسية، ومُحدِّداته المنهجية، واختبار مدى فعالية المفهوم في واقع الأمة وإمكانيات استمراره أو تجاوزه أو البحث عن طريق ثالث يتيح فرص الحوار والنقد والبناء، ومن منطلق يستوعب التحديات الراهنة التي تواجهها خصوصًا بعد مرحلة ما سُمِّي بالربيع الديمقراطي، والإقرار بالتعددية الفكرية والثقافية ضمن الوحدة الجامعة، ما دام الوضع الحالي لا يقبل غير هذه القسمة، فتجديد المفاهيم وتعبئتها بمضامين جديدة أصبح عند كثير من النُّخَب العربية من الخيارات الممكنة في إعادة تدبير إشكالات المرحلة وتدويرها.
أعادت تحولات المنطقة العربية شبكة من المفاهيم إلى درجة الصفر، على مستوى الحوار الفكري والسياسي، مما فتح وسيفتح مساحات أوسع بين النخب للبحث في العَلاقة الطبيعية بين المفاهيم المتداولة في حقل الفكر العربي المعاصر، ومدى مصداقيتها الإجرائية، وعن عَلاقتها بمفاهيم الأمة.
من هذه المفاهيم الإشكالية: إشكالية الدين والدولة، الدين والسياسة، الدولة الدينية أم الدولة المدنية العَلمانية، الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، إشكالية المعرفة والقيم الدينية، الثابت والمتحول في هذه المعرفة، المرجعية الدينية والزمانية، المطلق والنسبي.
ثنائيات إشكالية بدأت تأخذ حظها في النقاش المعرفي من جديد، وهو ما يستدعي فتح ملفات علمية بعيدة عن التحيزات الأيديولوجية، والنظر إلى أفق أوسع يرتبط بشكل أدق بمصير المنطقة العربية الإسلامية، والعوامل المنتجة للنهضة الحقيقية بدل السير في دروب مظلمة.
أنا لست ضد التعدُّد المذهبي الأيديولوجي والفكري المنهجي، لكن ما يهمنا هو الحكم على خلاصات كل شكل من أشكال هذا التعدد ما قَدَّم وما أخَّرَ لهذا المجتمع، فالأفق والمآل هو المعيار الحاسم لكل اتجاه فكري فلسفي أريد أن يساهم في معالجة إشكالات المجتمع العربي، في الوقت ذاته إقصاء أي تيار يمكن أن يساهم في البناء من مرجعية مغايرة يساهم في تَكرار تجارب الماضي القريب، ويكرس مظاهر العنف الفكري ويعمق جراحات الأمة. إنما السبيل الأقرب إلى الصواب البحث عن مناطق توحد هذه الطاقات لتساهم في نحت مشروع عربي إسلامي حضاري يتجاوز فجوات الجيل الأول والثاني.
ويهمنا في هذا الفصل أن نعالج موقف أركون وجهوده في بناء نموذجه المعرفي والمنهجي الذي يعتبره المدخل الطبيعي في تحقيق التنوير العقلاني الإسلامي بعيدًا عن المنهجية الإسلامية، المنبثقة من أصولها التأسيسية (الوحي) التي اعتبرها مسئولة إلى حد كبير عن تشظي العقل الإسلامي وتخلُّفه عن فتوحات الحداثة العقلية، من خلال ثلاثة مباحث أساسية نراها تجيب عن جزء مهم من الإشكالات المنهجية في الفكر العلماني العربي المعاصر.
(١) المبحث الأول: أصول ومرجعية البناء المنهجي في الفكر العلماني٣ العربي المعاصر
في الوقت الذي سعى فيه الجابري من خلال مشروعه إلى تبرير اختياراته المعرفية والمنهجية في تشريح مكونات العقلية العربية الإسلامية، من خلال المكونات القومية للذات العربية مع تلفيقية مبررة بينها وبين إنجازات الغير، والبحث في التراث عن مُسوِّغات لهذه التوجهات، إن كنا قد اعترفنا بفضلها في إثارة إشكالات حقيقية مرتبطة بعَلاقة العقل العربي بتراثه حين حاولت أن تنقُله من مجرد موضوع إلى إشكالية معرفية ومنهجية، في وقت حسمت اتجاهات أخرى الموضوع واتجهت نحو الاستلاب الثقافي والمنهجي رغم مرارة هذا القرار وتبعيته، نجد المدرسة العَلمانية في الفكر العربي المعاصر — خصوصًا مع محمد أركون — قد نحت المنحى ذاته، حين سعت إلى تثبيت منهجية العلوم الإنسانية في نسختها الغربية لتُعمِّق هي الأخرى من جراحات وآلام العقل العربي، وتوسع الهُوَّة بينه وبين مرجعياته، بدل تقريبها منطلقة من أرضية الحداثة وعقيدتها المنهجية.
فخاضت معركة المفاهيم مع ثقافة الأمة وأصولها المرجعية، معتبرة المعركة على مستوى العلوم الإنسانية المدخل الأساس لعلمنة المجتمع العربي الإسلامي، ومن خلال الوصل بين لحظات انطلاق الحداثة الغربية وثوراتها المنهجية الفكرية، حين قوَّضَت أُسس التفكير الكنسي الديني وفكَّكَت مؤسساته، وأعلنت ميلاد نمط جديد على مستوى آليات التحليل والنقد، وبين اللحظة التاريخية للعقل العربي الإسلامي لتحريره من كل القيود العقدية والتاريخية التي حالت — حسب تحليلها — دون تحقيق الإنجاز المطلوب.
(١-١) الفكر العلماني العربي المعاصر ومراحل إعادة بناء المفهوم
(أ) الاتجاه الإسقاطي الخارجي
ونعني به الاتجاه الذي سار إلى تبنِّي تاريخ الغرب والانخراط في مساره وتفاصيله وإسقاطه على تجربة الأمة، وانتهى إلى تبنِّي تلك الخلاصات التي انتهى إليها الفكر الغربي في صراعه مع الكنيسة والاجتهاد في تنزيلها على واقع اجتماعي وفكري، يختلف أشد الاختلاف عن موطن النشأة، وسلك في ذلك كل الوسائل الممكنة والمتاحة، فحاول افتعال الصراع داخل السياق العام لثقافة الأمة والبحث عن تناقضاتها بين الجوانب «العقلانية» و«اللاعقلانية».
وهو الشرط الذي وضعه هذا الاتجاه للخروج مما أسماه بالمرحلة الأرثوذكسية الجامدة، فحاولوا معارضة الإسلام ومنهجه بنفس المركبات الذهنية التي واجه بها رواد الإصلاح في الغرب الفكر الكنسي.
وظهرت دعوة هذا الاتجاه قوية في تبنِّي مقولات المناهج الغربية وامتدت لتشمل كل ميادين البحث: الإنسانية، والاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية … فجعلوا التجربتين المسيحية والإسلامية تشتركان على مستوى المقدمات المعرفية، وتصوراتها لكثير من الحقائق المعرفية والكونية والإنسانية، واعتمادهما على المنحى نفسه في التحليل؛ لهذا نجد عند هذا الاتجاه إصرارًا غير مسبوق في الدعوة إلى قراءة مقدمات انتقال أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، كما حاول افتعال الصراع بين التحليل العقلي العلمي والتفسير الديني في ثقافة الأمة، وبين مدارسها الفكرية.
وقد مثَّل هذه المرحلة من التفكير أغلب اتجاهات الفكر العربي المعاصر من القوميين واليساريين والعلمانيين، قبل أن تحدث بعض الارتدادات الإيجابية النسبية من هذه الاتجاهات، فالقومية العربية كانت في بداية تشكُّلها تيَّارًا علمانيًّا قبل أن تعدل من مفردات خطابها وتنقحها من بعض المشوشات وترتبط بالماضي العربي، وتاريخه ورموزه مع إيمانها بضرورة الاستفادة من الآخر، وفق هذه المُحدِّدات (اللغة، التاريخ، المصير المشترك) مع ارتباط محتشم بالدين أثناء مراجعات هذا التيار لأطروحاته تعتبره ضمير الأمة الجمعي، لكن دون أن يكون عنصرًا فاعلًا في النهضة والتحديث.
أما تيار الاستقلال عن التصوُّرات الدينية (الإسلام) وتكريس قطيعة نهائية مع التفسيرات العقائدية ومفارقات العقل السلفي. فتيار اليسار الماركسي العربي الراديكالي الذي يرى في الانخراط الكلي في الآخر، وفي مشروعه ومدارسه من خلال تبنِّي المدرسة الماركسية بأدواتها ومفاهيمها مدخلًا أساسيًّا في معالجة مشكلات العجز، والتأخُّر التاريخي كمنهج مطبق لا كمنهج لتطبيق — بتعبير الجابري.
أما الوجه الآخر لهذا التيار الإسقاطي الذي جعلناه أنموذجًا للاشتغال، فالأمر يتعلق بالمفكر الجزائري محمد أركون من خلال مشروعه الفكري (نقد العقل الإسلامي) والدعوة إلى علمنة المجتمعات العربية الإسلامية.
اللحظة الأولى: دولة الإسلام ودولة العلم والمدنية
ويمثلها الحوار الذي دار بين محمد عبده وفرح أنطون على صفحات «الجامعة» و«المنار» حول تاريخ الإسلام والمسيحية، حيث دافع عن ضرورة الفصل بين متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا بالإضافة إلى تلويحه بشعارات التسامح والمواطنة. ويرى أن الخلاصة الأساسية لهذا الجدال تتجلى في المعالجة المباشرة والصريحة لمسألة العلمنة في الخطاب العربي المعاصر، وإعادة بناء المفهوم والتفكير فيه من جديد وفق معطيات جديدة.
اللحظة الثانية: نحو تأريخ وضعي للسلطة السياسية في الإسلام
ويمثل هذه المرحلة علي عبد الرازق (١٨٨٨–١٩٦٦م) بنصه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» ١٩٢٥م الذي يعرض فيه موقفًا نقديًّا من مسألة إحياء الخلافة الإسلامية. وهذه اللحظة امتداد لجدل اللحظة الأولى: أصلها وتطورها. كما أقام تمييزًا فاصلًا بين النبوة والممارسة السياسية، ويدافع عن ضرورة الاحتكام في مجال السياسة إلى ما يسميه بأحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة.
ويدافع كمال عبد اللطيف عن هذه اللحظات التاريخية وعن الاختيارات التي دافع عنها فرح أنطون بحماسة كبيرة وعقلية أنوارية ورجحان كثير من جوانب البرهنة التاريخية لعلي عبد الرزاق، كما مثلت هذه المرحلة اتجاهين اثنين: الاتجاه الليبرالي مع فرح أنطون، الذي يرجع له الفضل — في رأيه — إلى إدخال مفهوم الخلاص الأنواري الوضعي لتجاوز الخلاص المسيحي الأخروي بل الخلاص الديني على وجه العموم، بهذه التسوية يتكلم كمال عبد اللطيف، ثم التجربة الكمالية التي قدمت — في نظره — كثيرًا من المعطيات الواقعية لفَهْم نص الإسلام وأصول الحكم.
اللحظة الثالثة: إعادة بناء المفهوم
(١-٢) أركون ورِهانات العلمنة في الفكر العربي المعاصر
فهو يصر على اختياراته الفكرية لإنجاز هذه المهام من خلال الاستعانة بمنجزات العلوم الإنسانية، والفتوحات التي دشَّنها المثقفون الفَرنسيون، أمثال: فوكو ورولان بارت وغريماس وبيير بورديو وجورج بالاندييه واعتناق الإبستيمولوجية الجديدة، التي لا تميز بين إنسان وآخر بسبب العرق أو الدين أو بين المجتمعات البشرية أمام مناهج العلوم الإنسانية ونظرتها المنفتحة إلى أبعد الحدود.
فهذه الدعوة غير مقبولة حتى عند أشد المتشددين في الغرب وأكثرهم تطرُّفًا؛ لأن لكل مجتمع تحيزاته كما لكل فرد تحيزاته أيضًا، فلو قيل هذا الكلام في المجتمع اليهودي لكانت الضريبة غالية والمصير مجهولًا، فهذا التصور يُسلم الأمة للرياح العاتية، وللغموض والتطبيع الثقافي والمسخ الحضاري، وإنكارٌ لخصوصياتها الحضارية.
لاستكمال مشروع العلمنة اتجهت جهود أركون إلى نقد المفاهيم وفتح المعركة مع القاموس اللغوي للعقل الإسلامي الذي شكَّله نص الوحي؛ لأن الإبقاء على لغة تاريخية مغلقة لا يقودنا إلى الانخراط الفعلي في الحداثة بقدر ما يخلق حالة من التشويش والإرباك على مستوى الفهم والاستيعاب.
ولتسهيل هذه المهمة نخضع نص الوحي للنقد التاريخي، ونقله من إطاره اللاهوتي — كما يقول — إلى المجال اللساني التداولي يخضع لما يخضع له أي نص أدبي بشري دون اعتبار لأصله السماوي.
(١-٣) الأساس الأنطولوجي (الوجودي) للعلمنة «التأصيل الداخلي»
عندما لا تسعف الإسقاطات الخارجية، وتضعف حجج الإقناع في التمكين للمشاريع والتصورات والقناعات، يتم اللجوء إلى المنطق الداخلي وتغليف تلك القناعات بمُسوِّغات ومبررات داخلية، وإن الأمر ليس فيه استيراد من الخارج ولا إسقاط تعسُّفي.
وإعادة كتابة التاريخ ينبغي أن تبدأ عنده بإعادة كتابة قصة تشكل النص القرآني من خلال دراسة نقدية؛ أي نقد القصة الرسمية للتشكيل التي رسخها التراث (الوحي) المنقول نقدًا جذريًّا كما حدث في قراءة الروايات المتعلقة بالإنجيل والتوراة.
لتعزيز التوجه إلى العلمنة، يتابع أركون الحفر في ذاكرة الأمة التاريخية وتجاربها الحديثة، مستشهدًا بتجربتين تاريخيتين: لبنان وتركيا، ويشيد بالتجربة التركية وبجرأتها في افتتاح وتدشين مسار جديد داخل العالم الإسلامي، وطرح مسألة العلمنة بشكل قوي، وفي الوقت نفسه ينتقدها لأنها لم تصل إلى عمق المجتمع؛ أي العلمنة الفكرية المعرفية والوجدانية. وبالفعل كانت المقدمات الحضارية والعقائدية للمجتمع التركي رغم مظاهر الانحلال عائقًا معرفيًّا وتاريخيًّا في امتداد مشروع العلمنة، وما تعيشه تركيا اليوم يعبر عن هذا العمق الحضاري لشعبها.
إن التجارب التي قدَّمها أركون لا تنهض دليلًا ولا مسوغًا على دعواه، كما أن مسوغ الطائفية والأقليات المسيحية معيار غير علمي وغير ديمقراطي — بالمفهوم الثقافي والسياسي — وغير مقنع حتى للمسيحيين أنفسهم وللطوائف الدينية الأخرى. وأعتقد أن التعايش لا يكمن في الإلغاء، وإنما في الاحتفاظ بالخصوصيات والبحث عن المشتركات، وهي نقطة خلاف بينه وبين الجابري الذي رفض تعميم المشكلات الخاصة بكل قطر عربي.
- الأولى: تتعلق بالدولة الإسلامية، وأنها كانت في الأساس عَلْمانية معتمدًا على رسالة ابن المقفع «رسالة الصحابة» التي يجد فيها مسوغًا تاريخيًّا في تثبيت توجهاته.
- أما الثانية: فمتعلقة بالشريعة، ويحاول أن يجيب عن سؤال طرحه: كيف حصل أن اقتنع ملايين البشر أن الشريعة ذات أصل إلهي؟ للإجابة عن السؤال احتمى أركون كعادته بالمنهج التفكيكي — التحليلي «العلمي» — المحرر في كتابة التاريخ، فيرى أن الشريعة حسب الرواية الرسمية قد «تشكلت تدريجيًّا بفعل ممارسة القضاة الذين كان عليهم مواجهة حل مسائل المسلمين المتفرقة والعديدة (…) تنتسب هذه النصوص الفقهية القضائية إلى أربعة رؤساء: مذهب مالك بن أنس، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهذه هي المدارس الأرثوذكسية التي تقاسمت العالم الإسلامي.»٥٥
(١-٤) أدوات وآليات الاشتغال المنهجي في مشروع محمد أركون
نرصد في هذه النقطة أهم الآليات والأدوات المنهجية التي اشتغل عليها أركون في مشروعه، والمرجعيات التي اعتمدها في بناء منظومته المفاهيمية؛ لأن معرفة الخريطة المرجعية، وأدوات الاشتغال من شأنها أن تعين الباحث على معرفة كثير من خبايا الموضوع، والتحكم في مفاتيح النقد والتحليل والتجاوز، وتحقيق الاستقلال الفكري والمنهجي الذي نتوخاه، دون الارتهان لأدوات عبَّرت عن نفسها في مراحل تاريخية، وعن قضايا وإشكالات مجتمع ناهض وفق نسقية حضارية معينة هو المجتمع الغربي.
إذا كان الجابري قد حدَّد مداخل ومُحدِّدات لرؤيته المنهجية، وشواغله الفكرية، وقضايا الفكر العربي المعاصر، وخريطة عمله «العقل العربي»، وآليات اشتغاله مستعينًا بالمرجعيات التي تحدثنا عنها في الفصل الأول، فإن الأستاذ محمد أركون — رحمة الله عليهم جميعًا — قد اختار هو الآخر مجال اشتغاله «العقل الإسلامي» — على اختلاف في المسافات بين المشروعَين — وأدواته المنهجية تقترب من أدوات الجابري أحيانًا، وتبتعد عنها في الأفق المعرفي الباحث عنه. أدوات يرى ضرورة استيعابها وهضمها لولوج عالم الحضارة المعاصرة، وتجاوز حالات التيه والتخلف العلمي والمعرفي للعرب والمسلمين.
لا يعتمد أركون على منهج واحد بعينه، بل يختار المنهجية المتعددة الاختصاصات يجمع فيها بين خليط من العقائد والأيديولوجيات الفكرية؛ لأنها تستجيب لطموحاته، حيث يتداخل التحليل الاجتماعي والتاريخي والمنهجية الألسنية والأنثروبولوجية والتفكيكية والمنهجية الحفرية … لكنه تداخل أضرَّ لا شكَّ بمشروعه وجرَّ عليه كثيرًا من الانتقادات المنهجية والعلمية.
لنتحدث قليلًا، وبشيء من التفصيل عن هذه المنهجية المتعددة الاختصاصات.
(أ) المنهجية التاريخية
(ب) المنهجية التفكيكية
ومن خلال هذه المنهجية — يقول هاشم صالح — استطاع أركون أن يُحدِث زحزحات عديدة لا زحزحة واحدة، داخل ساحة الفكر الإسلامي العربي، خلخلة وزحزحة الأسس والمنطلقات والتصوُّرات الراسخة في الذهنية الإسلامية من أن الإسلام لا يفصل بين الروحي والزمني. وأثبت بجهده الخاص، ومن خلال هذه المنهجية، ضعف هذه الاعتقادات، وزحزحة للذهنية الاستشراقية التي اعتمدت المقولات نفسها في دراسة التراث العربي الإسلامي، مُتأثِّرًا بأعمال هايدغر ودريدا رائدَي المدرسة التفكيكية، لكن دون أن يقدم براهين على ضعف هذه الاعتقادات.
(ﺟ) المنهجية الأركيولوجية
(د) المنهجية الألسنية السيميائية
فالهدف من هذا الاختيار المنهجي هو تحرير القارئ من هيبة النص الديني، ومن سلطته المتعالية فوق الزمان والمكان؛ لكي يتساوى مع أي نص آخر بشري يخضع لكل التعديلات وتجريده من قدسيته، وإدخاله في ظروفه التاريخية، ليصل إلى ما كان يخطط له، أنسنة الدين، وإرجاعه إلى الإنسان وإحلال الأساطير محله.
(ﻫ) الزحزحة المنهجية
فزحزحة هذه اليقينيات يؤسس في نظره لمساحة أوسع للحوار بين الأديان والأصوات الحرة الأخرى، ويبقي دائرة التواصل الكوني واسعة منفتحة. وهذه مهمة الأنثروبولوجيا السياسية لكن أركون — وكعادته دائمًا — ينتظر من يُشغِّل هذه الآليات، وإعادة تنشيطها من أجل دراسة الفكر الإسلامي وتجديده، ولا يعادل هذه الزحزحة إلا الشك الشامل والهدم الكلي للثوابت والأصول حتى نتواصل.
وأعتقد أن الأمر لا يسير وفق هذه المنهجية المعكوسة، وليس بالسهولة التي يعتقدها، فالحوار والتواصل لا يتم إلا على أساس ثوابت واضحة وأصول واعتقادات راسخة، قد لا نختلف مع أركون على مستوى مفهوم الآلية المنهجية وأهميتها، لكن موطن الاختلاف في وظيفتها التي أراد أن تؤديها، والمهام المنوطة بها لإنجازها، وهي معضلة المفاهيم المستعارة وعسر انسيابها في مجال تداولي مخصوص ومغاير.
(و) المنهجية السلبية
ويعتبرها نقطة الانطلاق الإجبارية لكل تحليل، ويبقى باب هذه المنهجية مفتوحًا في وجه الجميع، ليس بالضرورة أن يكون الباحث فيها مسلمًا، والمهم أنه يكون منتميًا إلى قدر ومصير تاريخي محدد، بغض النظر عن المعتقدات والانتماءات، أي إنجاز دراسة مجردة عن التحيُّزات الأيديولوجية والحرص على التحقيق «العلمي الموضوعي».
- (١)
كفعالية علمية داخلية للفكر الإسلامي، تستبدل التراث الافتخاري والهجومي الطويل الذي ميز موقف الإسلام من الأديان الأخرى بالموقف المقارن. يتطلب الأمر هنا جهدًا كبيرًا من أجل تحرير هذا الفكر، طبقًا للفكرة الباشلارية التي تقول بأنه لا يمكن أن يتقدم الفكر العلمي إلا بتهديم المعارف الخاطئة الراسخة.
- (٢)
كفعالية علمية متضامنة مع الفكر المعاصر كله، إن الإسلاميات التطبيقية تدرس الإسلام ضمن منظور المساهمة العامة لإنجاز الأنثروبولوجيا الدينية.
لقد راهن محمد أركون في التمكين لهذه الآليات في مجال الثقافة العربية الإسلامية للخروج من الانغماس في الحداثة الاستهلاكية، إلى الانغماس في الحداثة الفكرية والعقلية، لكنه رِهان لم يلج إليه من بابه الطبيعي، وهو تأكيد أسبقية الذات العربية الإسلامية بمفاهيمها الحضارية ومقولاتها وثقافتها المنهجية على الغيرية التي جعلها المقياس والأولوية في إنشاء هذه الحداثة.
لكن لم يكن ذلك كافيًا في رأي نقاده من الشاكلة الثقافية نفسها، الذين يرون في المشروع خروجًا عن بعض القواعد المنهجية.
هذه بعض الانتقادات القاسية التي طالت متن أركون ومنهجيته المتعددة المداخل، مما يعبر عن خلطة هجينة من المناهج ضاعت فيها ومعها لمسات الإبداع التي كنا في أمسِّ الحاجة إليها لتجاوز أعطاب التخلُّف ومركبات التأخر.
(٢) المبحث الثاني: اختبار المفهوم في التداول الثقافي المعرفي والاجتماعي العربي المعاصر
اختبار تداولية المفاهيم وتَرحالها من مجال إلى آخر أصبح علمًا قائمًا بذاته في كل العلوم والحقول المعرفية. وفي سبيل تحقيق هذا الغرض أُنشئت المختبرات العلمية في كل التخصصات لوضع عينات من المفاهيم المرتبطة بتخصصاتها تحت مجهر الاختبار والنقد والتمحيص والتشريح — ليس بالمعنى العضوي للمفهوم، إنما بالمعنى التحليلي النقدي التفكيكي — والوقوف عند مسيرتها ومشاقها ومتاعبها وأوزارها وذنوبها المعرفية والمنهجية، ليس في عالمنا العربي الإسلامي، بل في عالم الأمم والحضارات قديمًا وحديثًا ومعاصرًا. بل تكاد هذه القضية تطبع أغلب الأعمال الفكرية لكبار المفكرين بعناوين واضحة تُبرز مركزية المفاهيم في كبريات المشاريع الفكرية، والتحكم في مساراتها المنهجية ومآلاتها في الإنسان والطبيعة.
ويعتبر مفهوم العلمانية واحدًا من المفاهيم المركزية التي شغلت مساحة واسعة في الفكر الغربي منذ وقت مبكر، وبلغ ذروته خلال القرنِ الثامنَ عشرَ الميلادي، وما يزال إلى اليوم والشيء ذاته في الفكر العربي المعاصر، وفي وعي النخب العربية، بل دارت حوله كثير من المعارك الثقافية، والمعرفية، والاجتماعية والسياسية، وتشابكت النخب العربية فيما بينها حول تداولية المفهوم، وقدرته على تثبيت وجوده المعرفي والثقافي، من خلال جدل التراث والحداثة، ومفاهيم التجاوز والقطيعة، والاستمرارية، حين دفع بمنظومته الفكرية والنفسية في اتجاه التدمير الممنهج لمقومات العقل العربي الإسلامي، وتخريب دفاعاته ضد التبديل والتغيير.
فتحولات المفهوم في الفكر العربي المعاصر مؤشر على صعوبة التداول، وعدم الرضا الذي قوبل به في الذاكرة العربية الإسلامية، بل في أوساط ثقافية لها اعتبارها المُقدَّر حين رأت في تداولية المفهوم قلبًا للحقائق وتشويهًا للمشكلات الحقيقية للعرب، لكن قبل الحديث عن تداولية المفهوم وإجرائيته في الفكر العربي المعاصر، نقف عند المفهوم في موطنه الأصلي، ليس من باب التأريخ، لكن من باب تحولاته وموقف التيارات الفكرية منه، قبل أن نناقش موقعه في فكرنا المعاصر، وموقف تياراته منه.
(٢-١) اختبار تداولية المفهوم في الفكر الغربي
وقد نال مفهوم العلمانية، ومشتقاته في الغرب حظه من المراجعة، والنقد الإبستيمولوجي، بعد أن ظهرت نتائجه السلبية على مستويات متعددة من حياة المجتمعات الغربية، لهذا فإن الكشف عن هذه المراجعات لا شك أنه يرينا حجم ما تحدثه المفاهيم في كينونة الإنسان أفرادًا وجماعات.
- (أ)
بإمكان الفلسفة العقلانية العلمانية أن تزودنا بوصف دقيق للمُسلَّمات الضرورية لتأسيس نسق أخلاقي، ولكنها لا يمكن أن تزودنا بهذا النسق نفسه. فالعقل قادر على تفكيك الأنساق الأخلاقية، ولكنه ليس قادرًا على توليدها، إذ إن الإنسان يقبل الأنساق الأخلاقية من منطلق إيماني غير عقلي، والعقل المحض لا يمكن أن يتوصل إلى أن جماع المحارم خطأ (…) فظهرت أجيال قلقة لا تجد لنفسها مخرجًا من الوضع غير الطبيعي الذي صنعته العقيدة الجديدة، لهذا يتحدث كريستول عن البربرية العلمانية.
- (ب)
لا يمكن أن يُكتب البقاء لمجتمع إنساني إن كان أعضاؤه يعتقدون أنهم يعيشون في عالم لا معنى له. والواقع أننا منذ القرن التاسع عشر — يقول كريستول — نجد أن تاريخ الفكر الغربي رد فعل الإحساس بأن العلمانية أدَّت إلى ظهور عالمٍ لا معنى له، وهي تحاول أن تحُلَّ هذه المشكلة، بأن تؤكد للإنسان أنه يسيطر على نفسه وعلى الطبيعة من خلال الاستقلال والإبداع، وهو أمر يراه مجرد خداع للنفس.
فالتيارات التي ظهرت في الغرب لم تعد تؤمن بالعقيدة الإنسانية [الهيومانية] من التفكيكية إلى ما بعد الحداثة التي أعلنت موت الإنسان. وهو اعتقاد بدأ يأخذ موقعه في المجتمع الغربي، فالانتماء الديني بدأ يتزايد في هذا المجتمع، وتتسع مساحته، بعد أن شعر بالحرمان وفقدان المعنى، وظهور علامات مفارقة لهذا المعنى.
تحولات أدَّت حسب المسيري إلى إسقاط سؤال نشأة الكون ومصدر العالم ليبرز سؤال: ماذا يفعل الإنسان في العالم؟ وما حدود قدراته؟ فتهاوى النسق المطلق لصالح السياق الاجتماعي الذي تم تكريس نسبيته ونسبية معاييره.
فتاريخ الغرب — كما يذكر المسيري — هو تاريخ العلمنة للطبيعة والإنسان من خلال الحملات الإمبريالية التي شنَّها على شعوب العالم، بل ما تزال تجليات هذه العلمنة طاغية في عَلاقة هذا الغرب مع هذه الشعوب، على مستويات متعددة (الاقتصادية – السياسية – الفنية والإعلامية والرياضية …)
ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضًا إلى دراسة حديثة تأريخية حول موضوع العلمانية والدين في ثلاث مناطق أساسية في العالم وهي: مصر، والهند، والولايات المتحدة الأمريكية، للمفكر الأمريكي سكوت هيبارد.
(٢-٢) اختبار تداولية المفهوم في الفكر العربي الإسلامي المعاصر: دراسة في بعض المواقف
لم يكن الفكر العربي المعاصر في معزل عن المراجعات التي عرفتها المدارس الغربية، ليس تقليدًا لقانون المراجعة في الغرب، بل لأن ظروفًا عربية واقعية أرغمت الجميع على الاستجابة لقانون المراجعة الشاملة للمفاهيم التي غزتنا في عُقْر دارنا، قانون تَحكَّم فيه أيضًا نفاذ منسوب هذه المفاهيم على مستوى إجرائيتها وفاعليتها الواقعية.
ونرصد في هذه النقطة مجموعة من المواقف الفكرية العربية ذات العمق العربي الأصيل والمنهجي الرصين، التي تصدَّت لمفهوم العلمانية في الفكر العربي المعاصر، متجاوزين المواقف السجالية والتبجيلية للمفهوم لأنها لا تخدم الموضوع ولا تفي بالمقصود، كاشفين لثغراته المنهجية والمعرفية والثقافية.
فهو لا يمل في مطالبة الفكر العربي المعاصر بضرورة مراجعة مفاهيمه وتدقيقها وتطويعها حتى تستجيب لحاجاتنا الموضوعية وإشكالاتنا الحقيقية والواقعية، بدل الاستمرار في الأسئلة، والأجوبة المزيفة، والمُضاعِفة لزيف الوعي العربي المعاصر. فاختلاط المفاهيم في نظره أحد العوائق الإبستيمية في تطور العقل العربي المعاصر، وفشل مشروع النهضة.
إن طرح المفهوم في الساحة الثقافية العربية بهذا الشكل السلبي يزيد من تعميق المشكل بدل حله، ويوسع دائرة الخلاف بين تيارات الأمة الفكرية، وبالتالي انعدام إمكانية أي حوار بنَّاء ومستقل بينها لتجاوز الوضع المقلوب للمفاهيم، في النسق الفكري والمنهجي للعقل العربي المعاصر.
في السياق ذاته تأتي محاولات طه عبد الرحمن، بعمق فلسفي جديد أخذت طابَعًا أخلاقيًّا منطقيًّا، من خلال مفهوم منهجي، هو مفهوم السياق التداولي للمفاهيم، وشرائط الحوارية النافعة بينها وبين هذا السياق التداولي.
مراجعة كشفت هي الأخرى عن ظاهرة التقليد المنهجي، والمعرفي التي ابتُلي بها الفكر العربي المعاصر في عَلاقته مع المفاهيم الغازية. هو تقليد الفصل بين الدين والقيم الأخلاقية الإسلامية وشئون الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية.
وجاءت جهود طه لإبطال مُسلَّمات دعاة العلمنة في الفكر العربي المعاصر، وبيان قصورها المنهجي، وصعوبة تداولها الثقافي والمعرفي، مهما اجتهد أصحابها في البرهنة، وإيراد الشواهد.
ونقدُ طه للعلمانية يستوي مع التصور الذي اعتمده المسيري «العلمانية الجزئية» ويسميها بالعلمانية الأدنى، و«العلمانية الشاملة» يسميها بالعلمانية المتصاعدة التي تبلغ حدَّ إنكار العالم غير المرئي «الغيبي»، فيكون المفهوم عند طه قد ضيَّق الوجود الإنساني، ومنَعه من الامتداد في العوالم الأخرى، وهو ما أطلق عليه اسم مسلمة «قصور الوجود الإنساني» في الفكر العلماني، ليس هذا فقط بل أمعن هذا التيار «العلماني» وأوغل في إنجاز فصل ثانٍ (بعد الفصل الأول، بين السياسة والدين) هذه المرة بين الدين والأخلاق واصفًا هذا الفصل ببؤس فكري شنيع ابتُلي به المقلِّدة من المفكرين العرب.
خلاصة هذه القراءة — المتعددة المنظورات — انتهت إلى أن مفهوم العلمانية مفهوم ملتبس متعدد الدلالات سواء تعلق الأمر بموطنه الأصلي — الغرب — أو في العالم العربي، بل داخل هذه القراءة قناعة راسخة بإفلاس النموذج العلماني على جميع الصعد. فإن كان هذا النموذج قد ساهم في تحرير العقل الغربي من خرافات الكنيسة، وأطلق خياله في الإبداع، فإنه في المقابل قتل فيه المعنى والقصدية من الحياة وألغى الأسئلة الكلية من حياته، بل ثمة تشديد على ضرورة عودة الدين والقيم إلى التفاعل بين الإنسان وساحة تحركه الفنية والاقتصادية والسياسية والمعرفية.
كما تكشَّف لنا أيضًا عنصر أساسي داخل الفكر العربي المعاصر، هو تناقض مرجعيات هذا الفكر، وهي إحدى العوائق التي عملت على تعميق الهُوَّة بين هذه النخب ومجتمعاتها مما يحفزنا على ضرورة إعادة التفكير العربي المعاصر إلى قواعد الحوار المثمر والنافع حول الإشكالات الحقيقية للأمة، وتسعيرها التسعيرة الحقيقية والواقعية، وفي مستوى التحديات الراهنة، بدل البقاء في أزمنة الغير وإشكالاته المزيفة، والتحلي بالجرأة الكافية في معانقة هموم الذات، ومراجعة السنوات العجاف التي أنشأها هذا التيار في فكرنا المعاصر.
هي إذن معركة ثقافية بامتياز ليس في اتجاه النخب، وإنما في اتجاه المجتمع ومؤسساته الحاضن الأقوى لقيم العلمنة رغم بعض مظاهر التدين التي تظهر في سلوكاته، وبعض مواقف الرفض التي يعلنها الشارع العربي ومؤسساته.
(٣) المبحث الثالث: ملاحظات نقدية حول الاشتغال المنهجي في الفكر العلماني العربي المعاصر
إن الإلغاءات القسرية التي مارسها تيار العلمنة في الفكر العربي المعاصر لا شك أنها أضرت بكثير من قناعات عقل هذا الفكر، وتركت آثارها السلبية على جزء كبير من منظومة التفكير للإنسان العربي المسلم، وشوَّهت معالمه الثقافية ودفعته في اتجاه التفكيك والتشتيت؛ تفكيك للعروة الوثقى بين الأبعاد المادية والقيمية في سلوكه، وتدمير مركبات الوعي حين حولت الدين إلى دوائر هامشية مستقلة وفي زاوية ضيقة لا عَلاقة له بصناعة أشكال الوعي المتعددة.
فصل أنتج أيضًا قلقًا معرفيًّا شديد الحساسية، انتهى إلى بدء رحلة جديدة في مسار طويل من تاريخ الفكر العربي المعاصر، هي رحلة الهُويَّة الحضارية المتكاملة الأبعاد، جعلته يعيد تقليب الملفات الكبرى التي أرغمته على تلك الرحلة الفاشلة والمتعبة، رحلة الوعي العكسي من الغيرية إلى الذات، إلى الوعي السوي من الذات وأفقها إلى الغيرية وعلاقتها بالذات. ليس هذا فحسب في عالمنا العربي الإسلامي؛ بل في عالم الغرب الذي لم يعُدْ يُطيق عوالم متعددة في عالم واحد؛ لهذا فإن مراجعة هذه المدرسة على مستوى مرجعياتها وآلياتها يرينا حجم الدمار الذي تعرَّض له عقل الفكر العربي الإسلامي، وكذا حجم المعاناة التي عاناها جراء هذا التبني غير الشرعي لفكر الغير واحتضانه.
إن إصرار الاتجاه العَلماني على إبعاد التصورات الدينية-الإسلامية من حقل الدراسات المعرفية والمنهجية، على اعتبارها من العوائق المانعة للإبداع في الفكر العربي المعاصر وعلى طول التاريخ، استرجاعًا لصدى الصراع الذي شهدته الساحة الفكرية الغربية، لتبرير جزء من عجزه الفكري الإبداعي في الساحة العربية المعاصر، إلا أن هذا الإصرار تنقضه الأدلة الواقعية لتاريخ هذا الغرب (النموذج)، كما تنقضه الشواهد والنماذج الفكرية ذات التوجه الديني في التأسيس لإبستيمولوجيا عربية معاصرة بمواصفات منهجية تجمع بين تجربتها الحضارية وأصولها المعرفية والمنهجية، وبين التجربة الإنسانية الغنية دون استلاب من الماضي العربي الإسلامي أو الحاضر الغربي.
فهذا الجو الذي عاشه الغرب لم يمنع من ظهور مبدعين من حجم ديكارت ونيوتن، ليفضح أوهام الفكر الفلسفي العربي المعاصر التي استند إليها في معركته المنهجية مع التيار البنائي العربي المعاصر، ولعل الثنائيات التي روَّج لها وبثَّها في عقل الأمة تُمثِّل قمة هذه الأوهام «الدين» و«الدولة»، «العلم» و«الغيب».
إن الاتجاهات النقدية التي ظهرت في الغرب واستطاعت أن تؤسس لإبستيمولوجيا معاصرة هي اتجاهات دينية، فالثورة التي شهِدَتها العلوم الإنسانية والتي دشَّنها كثير من الفلاسفة الرافضين للوحدة المنهجية بين العلوم الطبيعية والإنسانية، إنما منطلقها الاعتقاد الديني الذي يرى صعوبة المماثلة بين الظاهرة المادية الصرفة، والظاهرة الإنسانية المعقدة في تركيبها النفسي والاجتماعي. وتمس قضايا هذا المبحث قضية المفاهيم والمرجعية في مشروع أركون.
(٣-١) على مستوى المفاهيم
إن الخروج من الأوهام المنهجية لعقل الفكر العربي المعاصر لا يتأتَّى بالانخراط غير الواعي في فكر الغير، ونقل معاركه إلى ساحتنا المعاصرة والانشغال بها، إنما الخروج يتأتَّى من خلال وعي الذات وما تملك من قدرات وطاقات فاعلة، وتجاوز القراءات الأيديولوجية الاستهلاكية الباحثة عن الدليل لاعتقاداتها، وهي القراءات التأويلية المدرسية التي أفسدت المعنى، وأصَّلت للفوضى واللامعنى في التأويل، قديمًا وحديثًا، فتأويلية أركون تأويلية اللامعنى وتشتيت الذات والموضوع معًا.
(٣-٢) على مستوى المرجعية
- (١)
الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالإله.
- (٢)
التوسل بالعقل وترك الوحي.
- (٣)
التعلق بالدنيا وترك التعلق بالآخرة.
ولعل هذه الخطة تنطبق على الآليات المنهجية التي اشتغل عليها أركون من خلال المنهجيات التي ذكرناها من المنهجية الألسنية والتاريخية والأنثروبولوجية الدينية والزحزحة والمنهجية التفكيكية.
يبقى مشروع أركون واحدًا من المشاريع الفكرية العَلمانية في الفكر العربي المعاصر، التي لم تستطع أن تُحدِث خلخلةً في بنية الذات العربية بالشكل الإيجابي، وقوبل في كثير من الأحيان بالرفض المطلق ليس في العالم العربي فحسب؛ بل في الغرب أيضًا، حين حاول أن يتجرأ على الفكر الفَرنسي، ويمارس النقد «العلمي» فاتُّهم بالأصولي المتزمت، إذ لم تشفع له سنوات الانتماء لهذا الفكر من التهمة بالأصولية، وهي الفرضية التي تؤكد أن الولاء للغرب خدعة انطلت على نُخبنا الفكرية، فهُم كاسحاتُ ألغامٍ ليس إلا، وهي الاعترافات التي عبَّر عنها أركون نفسه عندما امتلك الجرأة في نقد الفكر الفَرنسي، اتهم بالأصولي المسلم المتزمت.
وأعتقد أن هذا النوع من المشاريع لم يعُدْ قادرًا على التفاعل مع الذات مهما حاولت الانتساب إليها، خصوصًا بعد التحولات النسبية لبعض رموز هذا التيار نحو الهُويَّة الحضارية للأمة ومُحدِّداتها المنهجية والفكرية ومفاهيمها، وكذا التحولات التي تشهدها المنطقة، وعودة الدين إلى الحياة.
إن إبداع الأمة وعطاءها المأمول والمنشود لن يكون إلا من خلال إطارها العقدي والحضاري، وكل خروج عن هذا الإطار ضياع للجهد وضلال منهجي، ﻓ «نموذج المجتمع العربي الإسلامي يختلف اختلافًا بيِّنًا وجوهريًّا عن نماذج المجتمعات التي عرَفَتها أوروبا، فهذا يجعل منذ البداية عملية تطبيق مناهج الغرب على تحليل المجتمعات العربية الإسلامية نهجًا غير علمي وانحرافًا عن سواء السبيل.
هكذا أعدَّ هذا الاتجاه كفَنه بيده، ومنطق التاريخ يخبرنا أن الأمم لا تنطلق في نهوضها من أفكار الآخرين واعتقاداتهم، فإنْ حدثَ فبمقدار، ويأتي في المرتبة التالية. وإنما من رأسمالها الذاتي (نموذج ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، اليابان، المنطقة الآسيوية)، كما أن منطق الطب الشرعي يخبرنا أن استعارة الأرحام مخالف للفطرة وللموجهات المنهجية للأمة، فلا إنجاب خارج الرحم الأصلي، وإلا فقدَ الجنين معادلاته الاجتماعية والنفسية والعاطفية وانتماءه للوطن، فلكل أمة حواملها الفكرية والمنهجية والثقافية.
إن ما كتبه محمد أركون عن الفكر والمعرفة والمنهج في الثقافة العربية المعاصرة لم يحرر العقل العربي في الاتجاه الذي خطط له، بل انعكس ذلك سلبًا على هذا العقل حين أسَّس لردة فعل سلبية تجاه ما بذله من الجهد، في الوقت الذي كان ينبغي أن ينتج أكثر لو وعى بنية هذا العقل الثابتة والمتغيرة، ومقاصده وخصوصية مناهجه، إلا أن الاختيار الأيديولوجي-المعرفي لأركون حرمه من الامتداد في ثقافة الأمة، كما حرم اتجاهات أخرى ذات المنحى التفكيكي السلبي.
(أ) في الحاجة إلى تحرير المنهجية المعرفية المعاصرة من الرؤية الغربية العلمانية
لقد بات من الأولويات المعرفية في فكرنا المعاصر أن تحرير مجموع الأمة إنما ينطلق من قدرتها على تحرير ذاتها من الرؤية الغربية للمعرفة، انسجامًا مع ما أثبتناه في الصفحات السابقة أثناء الحديث عن إنجاز مرحلة جديدة في عَلاقتنا مع ما استحدثه الآخر من مناهج في قراءة واقعه ونصوص ثقافته.
التحرير الذي يحرر الأمة والإنسانية من شيطنة الحداثة، ومن غلوها المادي، ومن غطرسة العولمة ومكائدها.
(ب) الحوار الإسلامي العلماني: من أجل رؤية مستقبلية
عطفًا على ما تحدثنا عنه في مبحث اختبار تداولية المفهوم — العلمانية — في الفكر العربي المعاصر، والأثر السلبي للصراع الذي حدث بين تيارات هذا الفكر، وعموم الأمة واستمرار نزيف الجهود وتبديد الطاقات وتضييع الفرص، فإن الحوار بين تيارات الفكر العربي المعاصر — على اختلاف مرجعياتها — حتمية تاريخية وواقعية؛ نظرًا للتحديات التي تواجه مجتمعاتها المعاصرة، فالهروب إلى الأمام أو الوراء بات سلاح الضعفاء؛ لأنه خيار يزيد من ضعف قدراتنا في تحقيق النهضة، إذ لم تعد الأمة تتحمل هذه الصراعات بين تياراتها الفكرية، في حين هي في أمسِّ الحاجة إلى البحث عما يقويها ويسندها في مواجهة هذه التحديات.
لا سبيل إلى هذا الأمر الجلل إلا فضيلة الحوار بين تياراتها، حيث تتاح فرص اكتشاف مناطق القوة ومواقف الاتفاق، ومناطق الضعف ومواقف الاختلاف عند كل تيار، حيث عادت كثير من القضايا بين تيارات الأمة إلى الواجهة وإلى درجة الصفر، من قبيل: الدولة الدينية أم الدولة المدنية؟ مشكلة القيم؟ مشكلة الحريات الفردية أم مشكلة العنف؟ مشكلة الأسلمة أم العلمنة على مستوى المعرفة؟ خصوصًا بعد صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم أو المشاركة فيه مع التيارات ذاتها.
- (١)
اتجاه الدعوة إلى الانخراط الكلي والشامل في النموذج الغربي والقطيعة مع التراث.
- (٢)
اتجاه يدعو إلى التحديث حسب «قواعد» وخطوات التجربة الغربية، لكن من داخل قارة التراث والتاريخ الإسلامي.
- (٣)
اتجاه يدعو إلى التجديد والنهضة من داخل التراث وبأدوات التراث، أو بما يناسبها مما يمكن استعارته.
من شأن التحول في الرؤى بين دعاة العلمانية والإسلامية تقريب وجهات النظر في عدد من القضايا التي تُعَدُّ من المختلف فيها — وهي غير ذلك — ومن خلال الاحتكام إلى مرجعية جامعة أن يُكسِب الأمة مناعة ضد التفسُّخ والانحلال المعرفي والقيمي والانسلاخ عن هُويَّتها مهما اشتدت عليها الأزمات. لكن يبقى رأي النخب العربية حول عدد من القضايا حالة لا تمثل الأمة إلا من خلال قدرة هذه النخب على التمسك بمرجعيتها النهائية؛ لأن المشكلة الحقيقية في رأيي نابعة من عدم التوافق حول الإطار المرجعي الذي يوحد الجهود، ويبدد الخلافات، معيار القياس لإشكالاتها.
إن الرِّهان الذي عوَّلت عليه تيارات الفكر العربي المعاصر في شقها «الحداثي» في تحديث الذهنية العربية الإسلامية لم ينتج إلا مزيدًا من التأخر والتخلف، رغم بعض مظاهر الحداثة وشكلياتها، فالأصل هو أن تتجه الجهود إلى منابع المشكلات ومنابع الحل لا أن تحوم حولها، فقد انعكس المنظور الغربي للمناهج على أهم الدراسات العربية النقدية، فلم تستطع أن تنفكَّ عن هذا المنظور إلا في أجزاء قليلة.
كما أن الكشف عن مرجعيات التكوين والانطلاق في الإصلاح عند تيارات الفكر العربي المعاصر لا يعني إنكار هذه المرجعيات أو التقليل من شأنها، أو بيان ضعف قدراتها التدبيرية وعوارها التصوري المنهجي، أو اختلال نسقيتها بالنسبة لموطنها الأصلي؛ لأنها كسب إنساني مقدر ينبغي التعامل معه في إطار دائرة المشترك والمنجز الإنساني، لكن دون الانسلاخ عن ذواتنا ونكران معطياتنا الحضارية والتصورية، إنما وجه الاعتراض على هذه المرجعيات اعتبارها مرجعيات نهائية حاسمة، وإلزام عقل الأمة بالتبني القسري لها دون امتلاك حق السؤال والاعتراض، ودون مبرر واقعي تاريخي أو نفسي يراعي الخريطة التكوينية والإدراكية للإنسان العربي وتحيُّزاته ونماذجه المعرفية، وهو القرار المعرفي والمنهجي الذي يؤطِّر خطوات الفصل الثالث من هذه الدراسة.