داخل العرين!
حلَّقَت الطائرة المصرية فوق مطار «بانجوك» أو «مدينة الملائكة» كما يُطلق عليها أهلها، والتي يعني اسمها «الزيتون البري»، على حين يُطلق عليها البعضُ الآخر مدينةَ المائة وجه؛ نظرًا لما تشتهر به من معابد بوذية لا حصر لها، أشهرها هو المعبد الرسمي الملكي «زمردة بوذا»، الذي يحتوي على تمثال ﻟ «بوذا» من الزمرد الخالص، حيث يُقسِم التايلانديون بهذا التمثال، ويكون ثمن القسَم الكاذب به … هو الموت.
ألقى «أحمد» نظرةً من مقعده بجوار نافذة الطائرة إلى أسفل، فشاهد أبنيةَ المطار … وإلى يسارها امتدَّت قبابُ المعابد المذهَّبة التي ترتفع عاليًا، وفي الناحية الأخرى برزَت البنايات الشاهقة الارتفاع ﻟ «بانجوك» الحديثة.
غادر «أحمد» الطائرة إلى صالة الوصول، وأنهى إجراءاتِه. كان هناك العديد من الكهنة البوذيِّين برءوسهم الحليقة وردائهم الأصفر القريب من لون الزعفران الذي يُلقونه حول أجسادهم دلالةً على الزهد والبساطة … تأكَّد «أحمد» من وجود زهرة صناعية بنفسجية في عروة سُتْرته، واتجه خارجًا من المطار، وأشار إلى أول تاكسي صادفَه، ولكن من الخلف جاء صوتٌ بإنجليزية سليمة يقول: إنَّ السيارة في انتظارك يا سيدي.
كان هناك رجلٌ حليقُ الرأس في بذلة أنيقة، يبدو مفتولَ العضلات حادَّ القسمات، وأشار إلى سيارة فاخرة تقف قريبًا فاتجه إليها «أحمد» صامتًا. ووضع حقيبته الوحيدة في المقعد الخلفي وجلس بجوارها.
وجلس الرجل الحليق في المقعد الأمامي، وأشار إلى السائق بطرف إصبعه، فتحرك السائق بالسيارة في صمت، ومال الرجل الحليق الرأس نحو «أحمد» قائلًا: إنني أُدعَى «بانج». إنني مساعد السيد «تاك سين».
أحمد: وأنا أُدعَى «عواد الزهيري»، مساعد «جواد الغريب».
قال الرجل: كان المفروض أن يأتيَ مستر «جواد الغريب».
أجاب «أحمد» في رباطة جأش: إنَّه في السجن كما تعلم؛ فقد تسبَّب خطأٌ بسيط ارتكبه في كشف حقيقته، ولحسن الحظ أنَّ بقية أفراد الشبكة لم تكتشف ذلك؛ ولهذا أتيتُ بدلًا من السيد «جواد».
بانج: إنَّ الخطأ الأول في عملنا هو الخطأ الأخير.
أحمد: ماذا تقصد؟
ضاقَت عينَا «بانج»، وقال: لقد أرسلنا إلى السيد «جواد» مَن يُخرِس لسانه إلى الأبد في السجن حتى لا يُثرثرَ بشيء عن أسرارنا.
لم ينطق «أحمد» بشيء وبقيَ على صمته طوال الطريق، وقد وضح له مدى قسوة «تاك سين» ورجاله؛ حيث لا مكانَ للرحمة في قلوبهم.
وتوقَّفَت السيارة أمام سور عريضٍ عالٍ كان يُخفي ما خلفه في أطراف مدينة «بانجوك» وقد ظهرَت التلال والمعابد إلى الخلف.
انفتح باب السور، فمرقت منه السيارة، وتكشَّفَت لعينَي «أحمد» حديقةٌ واسعة مترامية الأطراف لا تقلُّ مساحتُها عن مائة فدان، وقد ظهر عددٌ من القصور الضخمة الفاخرة إلى الأمام، طُليَت قبابها بماء الذهب، الذي انعكسَت فوقه أشعةُ الشمس الغاربة في مشهد ساحر … وتوقَّفَت السيارة أمام أحد القصور، فغادرها «أحمد» والصيني واتجهَا داخلَين، ومرَّا من خلال جهاز لكشف الأسلحة. فتلفَّت «أحمد» إلى «بانج» متسائلًا، فأجابه الأخير مقطِّبًا: إنَّ السيد «تاك» لا يرحِّب بمن يحمل أسلحة معه …
أحمد: متى سيتم اجتماعنا مع السيد «تاك»؟
حدَّق فيه الرجل بعينَيه الضيقتَين المليئتَين بالدهاء والغموض، وأجابه: عندما يرغب السيد في ذلك.
اقترب منهما رئيس الخدم في القصر، فقال «بانج»: خذ السيد إلى حجرته، واحرص على راحته.
أحنَى رئيسُ الخدم رأسه في احترام، وقاد «أحمد» إلى قاعة عريضة فخمة كأنَّها قاعة قصر من قصور ألف ليلة وليلة، وقد تناثرَت فيها التُّحَف الذهبية والثريات الثمينة والسجاد الفاخر، وانتهيَا إلى حجرة فاخرة كانت أشبهَ بشقة واسعة بها كلُّ الكماليات، وأحنَى رئيسُ الخدم رأسَه ﻟ «أحمد» قائلًا: إذا احتجتني في شيء يا سيدي، فاجذب الحبل الصغير المعلَّق إلى جانب الباب بالحجرة وستجدني أمامك، إنَّ العشاء سيكون في التاسعة مساءً، والسيد «تاك» يرجو لك إقامة مريحة.
وغاب رئيس الخدم عن «أحمد» الذي وقف يتطلَّع حوله متفحصًا للمكان، ولم يكن هناك شكٌّ في وجود كاميرات تليفزيونية خفية تُراقب كلَّ تصرفاته.
اتجه «أحمد» إلى الحمام، وحصل على دش بارد جدَّد به نشاطه، وبنظرة متفحصة اكتشف مكان الكاميرات السرية؛ فأعطاها ظهرَه ونثرَ المسحوق فوق يده، ثم استلقى فوق الفراش متظاهرًا بالقراءة.
وفي التاسعة تمامًا، جاء رئيس الخدم لاصطحاب «أحمد» إلى مائدة العشاء، وكانت قاعة الطعام فاخرة بها مائدة عريضة ارتصَّ فوقها عشراتٌ من الأطعمة المختلفة، وقد جلس إليها حوالي عشرين شخصًا.
كانوا خليطًا من بلاد عديدة غير أنَّ ملامحهم كانت شرقية، فاستنتج «أحمد» أنَّهم من منطقة الشرق الأوسط، وأنَّهم ربما كانوا المسئولين عن منطقة الشرق الأوسط، وأنَّهم ربما كانوا المسئولين عن تجارة المخدرات في تلك المنطقة من العالم لحساب «تاك سين».
وتساءل «أحمد» صامتًا: تُرى متى سيظهر «تاك سين»، «التنين الأحمر» ليرحب بضيوفه وعملائه.
وظهر «بانج»، بوجهه البارد القاسي، وقال للجالسين على المنضدة: تستطيعون أن تبدءوا العشاء الآن، فلتنعموا بعشاء طيب!
تساءل أحد الجالسين إلى المائدة: ألن يأتيَ السيد «تاك» لتناوُلِ عشائه معنا؟
حدَّق فيه «بانج» لحظة، ثم قال: إنَّ السيد مشغول بأشياء أخرى، وربما يراكم غدًا للترحيب بكم، أو بعد غد … أو في أي وقت آخر.
غادر «بانج» المكان في صمت … وشرع الجالسون في تناول الطعام، وفكَّر «أحمد» في شيء من القلق: ترى هل سيتأخر «تاك سين» في الظهور، وما هو الشيء الذي جعله ينشغل عن استقبال ضيوفه وعملائه؟
وبعد العشاء أقبل رئيس الخدم ليصطحبَهم إلى قاعة أخرى، بها مقاعد وفيرة، وما إن استقروا فوق مقاعدهم، حتى أقبلَت فرقةٌ راقصة من الفتيات في ملابسهن الوطنية، وقد ارتدَت كلُّ راقصة «الخلاخيل» في يدَيها وقدمَيها، وراحَت الراقصات ترقصنَ في سرعة ومهارة دون أن يهتزَّ التاج الذهبي فوق رأسِ كلٍّ منهن.
راقب «أحمد» الراقصاتِ بصمتٍ. كان يعرف أنَّ ذلك النوع من الرقص التقليدي بمثابة طقوس صلاة لدى التايلانديِّين، وبعد الرقص جاء الخدم بالمشروبات. ولكن «أحمد» اعتذر عن قبولها واتجه إلى حجرته.
وقبل أن يتمدَّد في فراشه ويُطفئ النور، قُرع الباب، ففتحه، وظهر رئيس الخدم ممسكًا بعلبة مبيد حشري، وناولها ﻟ «أحمد» قائلًا: هذه من أجل طرد الأرواح الشريرة!
استدار رئيس الخدم ليغادر المكان، وابتسم «أحمد» وهو ممسكًا بعلبة المبيد الحشري، حيث يعتقد التايلانديون أنَّ الأرواح الشريرة تسكن كلَّ مكان في بلادهم، حيث لا يمكن طردها إلا بالمبيد الحشري.
ووضع العلبة بجواره وأطفأ النور فغمر الظلامُ الحجرة، ووقف «أحمد» في مكانه لحظةً، واقترب من نافذة الحجرة وفتحها، وألقى نظرة خارجها. وفي الخارج لمح «أحمد» عددًا كبيرًا من الحراس الأشداء بعضهم مسلَّح بالسيوف والنبال والبعض الآخر بالبنادق السريعة الطلقات، وهم يجوبون المكان للحراسة في تيقُّظ وانتباه، وعلى مسافةٍ كان هناك حراسٌ من نوع آخر أشد ضراوة، مجموعة من النمور البرية التي رُبطت بسلاسل قوية امتدَّت إلى أيدي حراسها من الرهبان البوذيِّين الذين درَّبوا تلك النمور على القيام بمهمة الحراسة على خير وجه. حيث كان يستحيل على أي إنسان التسلل إلى هذا المكان دون أن تكتشفَه النمور الوحشية وتُمزِّقه.
أغلق «أحمد» النافذة ووقف لحظة في الظلام مفكرًا، وأحسَّ لأول مرة أنَّه مسجون في مكان يستحيل الهرب منه، وأنَّ اكتشاف حقيقته سيكون معناه الموت، والموت فقط، حيث سيستحيل عليه مغادرة المكان مهما كانت براعته ومهارته، واتجه إلى فراشه وسرعان ما غَرِق في النوم.