الرسالة العاشرة
فتبوآ مقعديهما من السيارة، وانطلقت سيارة مصطفى كمال باشا تطوي بساط الأرض بسرعة عجيبة في الطريق المصاقبة للوادي، ثم أخذت تسير صعدًا مرتقية إحدى الأكمات التي تواجه المدينة، حتى إذا ما أشرفت من علٍ على أنقرة ضاقت الطريق بعد اتساعها حتى صارت كلها إحدى مماشي متنزه. وظللتها أشجار ضخمة فرعاء ناهضة على جانبيها.
وهنا ابتدأت منطقة الرياحين والأزهار الضواحك، إذ تراءت دور خلويات صغيرات محوطات بحدائق غلب فسيحات الأرجاء يقطنها الوزراء، والنواب، وأعيان المدينة.
وقضى أسعد نديم بك مسافة الطريق في الحديث، فأخذ يشرح الطريقة التي اتبعها في النزوع من الأستانة على أثر ظهور الحركة الوطنية في مبتدأ أمرها ضاربًا صفحًا عن كل ما يمكن أن يستبقيه هنالك جادًّا في سبيل الالتحاق بالزعيم الأكبر. وهذا الفتى متناه في إخلاصه وفي نشاطه وفي كفاءته، فهو من الضاربين بسهم في الفنون وله خبرة في أمور جمة؛ فمن إلمام بالتلغراف الأثيري، إلى علم بالكهرباء فبراعة في التصوير الفوتوغرافي، فإتقان في أشياء أخرى. وهو ابن أخي الفريق رمزي طاهر باشا زميل ﻫ. زاده قديمًا في الوظائف العسكرية، وربما كان ميل ﻫ. زاده إلى عم هذا الضابط الفتى — أن رمزي طاهر باشا من كبار الضباط الأكفاء المدونة أسماؤهم في التواريخ العسكرية في مصر والسودان — هو السبب في إظهاره عاطفة الحب الصادق إليه، وفي تمنيه له أن يبلغ من المجد ما بلغه عمه، ذلك الرجل الشريف ذو السيرة الحميدة.
وكان العمال يشتغلون في توسيع هذا المسلك الضيق الذي تمهل الأوتومبيل في آخر استقامته أمام المخفر الصغير الموجود به جنود لازيون من ذوي القامات البديعة.
وبعد بضعة أمتار من هذا المخفر ينعطف المسلك الضيق يمنة وهنا تبدو للعيان دار الزعيم الأكبر الخلوية، وإذا به واقف في الانتظار في الحديقة الصغيرة المرتفعة المسورة بسياج بسيط.
وكان مرتديًا لباسًا شديد الزرقة، فتقدم وعلى شفتيه ابتسامة ملغزة من ابتساماته التي حيرت أفكار أناس كثيرين، ثم قال: «لقد وافيت أخيرًا إلى مسكني الحديث، ألست تراه بهيًّا نضيرًا؟»
ثم بادر بمصافحة يصحبها الود الأكيد تدل على ابتهاج صادق لا أثر للتصنع فيه.
فأجاب ﻫ. زاده: «إنه في الحقيقة بديع وله ميزة الراحة والسكون.»
ثم اجتازا بهو الدار المزدانة أركانه بأرائك وثيرة من الطراز العثماني البديع، ودخلا غرفة على اليمين أعدت لأن تكون مكتب عمل مصطفى كمال باشا.
وكل ما في هذه الغرفة ذو صبغة خاصة حتى ليكاد يقال إنها متضمنة ركنًا من الأرض العثمانية. إذ كل ما فيها خلاصة الإتقان ومن الأشياء النادر وجودها، وكذلك النسيم النافذ إلى هذه الغرفة فيه عناصر الحياة والقوة.
ويوجد في هذه الغرفة مكتب من الخشب المصقول القاتم حافل بالأوراق، كما توجد فيها أرائك ومتكآت مكسوة بالجلد الأحمر مصنوعة أبدع صنع وكذلك الستائر القطيفية ذات لون قانئ تتدلى في أعلاها سجف قد ارتسم فيها الهلال والنجمة، وتخف من النوافذ إلى داخل الغرفة نفحات الربيع المعطار.
وتسود سكينة مدهشة في جهة تشان قايا لا تشوبها سوى تغاريد الأطيار المتوطنة في أشجار الحديقة الباسقة.
إن الأحلام والتصورات البديعة لتتابع على المخيلات السابحة في لجة هذا السكون العميق اللذيذ، ولا تلبث النفس أن تستسلم إلى سحر هذا المصطاف المتغلب على أقوى العواطف والأفكار.
وجلس الزعيم الأكبر في متكأ وثير إزاء الأريكة ثم قال: «نبئني إذن، أفأنت عازم حقًّا على الارتحال بمثل هذه السرعة المدهشة؟»
فأجاب ﻫ. زاده: «إن عملي يقتضي الإسراع في الأوبة، إلا أنني عندما يجب عليَّ المجيء مرة أخرى إلى هنا سأبحر على ظهر أولى البواخر التي تقصد شاطئ الأناضول على إثر استلامي تلغراف الاستدعاء.»
وقد دار البحث في سائر المسائل المختصة بالأحوال الحاضرة، فألَمَّ الكلام بالشرق وبالغرب، وإن سعة معلومات الزعيم الأكبر لتدهش في كل مرة محادثه، إذ يجده مطلعًا على تفاصيل عجيبة لم يكن من المظنون وصولها إلى علمه، فهو خبير بكل شيء وبكل إنسان له يد في الشئون العامة. وهو لا يستخف بأي شيء كيفما بلغ من صغر الشأن، كما أنه يعرف لكل امرئ قيمته الحقة. هو محيط بأسماء الذين يعملون عملًا صحيحًا وأولئك الذين يعملون لمجرد الظهور.
وفي الحقيقة إن ذكاء هذا الرجل لإحدى الأعاجيب، فإنه جمع في شخصه بين خصائص متعددة لا تجتمع لدى إنسان واحد، فبينما هو عسكري كبير إذا به إداري قدير وإذا به سياسي محنك بارع بصير.
ومن ذلك أنه يهتم جدَّ الاهتمام بالخدم الجليلة التي يؤديها العالم الإسلامي لهذه البلاد التي تدافع عنه وبالتعضيد المتوالي من قبله (…) ويثني عليه لأجل غيرته وكرمه أجمل الثناء.
وإذ ما خاض غمار الشئون الآسيوية والأفريقية ظهر تخصصه فيها وعلمه الواسع بها حتى ليكاد يحسب المفردَ العَلَمَ في هذا الباب.
لسنا مهيِّجين ولا محرِّضين، ولا نحن بمستعبدين ولا بفاتحين، بل ما كادت أوروبا توجه إلينا بأولى رسالاتها حتى كان جوابنا إرسالنا وفدًا من خيرة رجالاتنا إليها ولكن … قبل أن يزمع هذا الوفد على الإياب إلينا كان ما رأيت بعض آثاره بعينيك وما وصل إلى سمعك من بقية أبنائه! أما الصلح فنحن أشوق الناس إليه وهو أحب الأمور إلينا، ولكننا إنما نريد إبرام صلح عادل شريف … إلا أنهم معتزمون على استئصال شأفتنا، وإني لأعلم علم اليقين الباعث لهم على هذا الاعتزام.
•••
ثم أخذ يفصل هذه الأسباب، فكانت أقواله في هذا الصدد آيات بينات مدعمة بأنصع الأدلة وأثبتها في العقل، وإن الحقائق التي يسردها هذا الزعيم العظيم لأبعد من أن يحيط بها علم المارقين الجاحدين …
ثم قال هلم بنا نستاف عَبَقَ الربيع المنتشر بنوع خاص في أرجاء هذه البقعة النضيرة ثم نعود إلى وصل أحاديثنا تارة أخرى.»
حتى إذا ما خرجنا إلى الخميلة الصغيرة المرتفعة المغطاة بأنواع النباتات والآخذ سكونها العذب بمجامع الألباب، علق الزعيم الأكبر ويصف روضه الأنف الذي يحبه وظلال الأشجار الوارفة التي يتفيؤها أحيانًا منصتًا إلى تغريد البلابل.
أتراه في خلواته هذه مستروِحًا نسمات الربيع ممتعًا بصره بنضرة الزهر البديع، يخطط في ساعة فراغه من العمل أساس مشروعه الجسيم الذي اختمرت فكرته في عقله لرفع أركان المستقبل العظيم؟
من ذا الذي يستطيع أن يدب إلى قرارة نفسه ليستَكْنِهَ حقيقة ما هو مخبوء فيها ثم يناجي بها العالم الإسلامي الحائر القلق؟ ما من أثر يلوح على قسمته للناظر إليه فيسترشده عن هواجسه وآماله، أجل لا يرى الناظر إلى ملامح وجهه سوى انعكاس العواطف التي تخالجه من الارتياح والابتهاج أثناء الهنيهات التي يقضيها في روضه المعطار.
وتحول فجأة إلى شاعر وجداني طروب فقال: «آه لو كنت تعلم ما للشمس ساعة إشراقها من المنظر البهيج البديع الذي تتمتع به الأبصار الشاخصة إليها في البكور من هذا المكان.»
وانطلق ينعت محاسن الطبيعة وتناسق مرائيها البديعة.
وما كان أعظم ما تتراءى له الحياة جميلة في هذه الهنيهة، مع أنه طالما احتك بالموت وكاد يقع في شركه المنصوب.
ولقد كان من المقدس لديه أن يطيل أمد هذه الهنيهة التي لا حد للطافتها وعذوبتها لولا ما يعترض هذه الأمنية من وجوب العودة إلى سياق الحديث الذي انفتح رتاجه على مصراعيه.
•••
ومع كل الأهوال التي قد تؤدي إلى ثبوط الهمة لم يتغلب على قلبي اليأس ولم أفقد الأمل لحظة ما! فانظر الآن تيار العساكر القوي المندفع على التوالي تَرَ أنه منبعث من كل مكان، حتى إذا ما أقبلت أفواج الجنود إلى هذه المدينة مركز الاحتشاد يلبثون فيها المدة الكافية لتقلدهم السلاح وإكمال تأهيبهم — بقدر ما نستطيع — وبعد تدريبهم على الشئون العسكرية ينطلقون إلى ساحة الوغى، ولسنا في حاجة إلى الضباط فإنهم بفضل الله عديدون، والتجارب التي استفادوها من الحرب الكبرى تفيدهم الآن أجلَّ فائدة. وسترى بعد غد رأفت باشا الذي سيشخص إلى هنا، كما أنك ستلتقي في طريقك بعصمت باشا الذي ستتعرف به على الجبهة.
•••
ثم نهض من مكانه ليتفقد بيته شأن كل مالك يهتم بإدارة شئونه الداخلية بنفسه، وأرى ﻫ. زاده مَضْيفته الصغيرة (سلاملك) وهي مصنوعة على النسق العربي، والذي شيدها له ورتبها مهندس أوروبي قديم انتحل الصبغة العثمانية منذ زمن طويل.
ولقد يبتهج المرء برؤية هذا الرجل وهو جاد في عمله معتمد على آلات صنعها هو نفسه وأخذ يزخرف بها هذا المنزل الصغير.
ومنذ أن رأى هذا المهندس الزعيم الأكبر وضيفه يتأمَّلان صنعة يديه وجَّه الخطاب إلى ﻫ. زاده قائلًا: «إننا نخلق هنا الحاجيات خلقًا تقضي به الضرورة.»
وأضحكت هذه الكلمة الزعيم الأكبر، الذي لا بد أن يكون قد ذهب به الفكر إلى حياته وإلى مشروعه الملخَّصتين في هذه الكلمة نفسها: خلق، وهذا المنزل الصغير مخلوقًا من أوله إلى آخره.
وبعد تلك الجلسة التي طال حديثها حتى أمضه بدت عليه علائم الارتياح وكأنما سُرِّيَ عنه بما رآه فأخذ يتأمَّل الزخارف العربية المزدان بها منزله الصغير.
•••
وإذ كان لا بد له من الوجود في المجلس الوطني الساعة الثالثة، فقد أشار بإعداد سيارته قبل الموعد المحدد بقليل، وارتدى بمعطفه السنجابي المشهور الذي يوائمه أتمَّ مواءمة ثم تبوأ السيارة مع ﻫ. زاده.
وأدى له التحية العسكرية على طول الطريق إلى الوادي جنودٌ لازيون فرسانًا ومشاةً. فهنأه ﻫ. زاده على نظامهم البالغ غاية الكمال.
فأجابه الزعيم الأكبر على تهنئته بقوله: «أليس هؤلاء الشبان ذوي منظر باهر؟ فتأمل فيما لو كانوا حاصلين على ما يتمتع به جنود الأعداء من الحاجيات والكماليات. وهل كان يعجزهم إتيان أي أمر كيفما كان عصيًّا مستحيلًا! فما أكثر ما يراد إنجازه في هذه البلاد التعسة التي لا تبتغي سوى السلم والاطمئنان! فليكلل الله مجهوداتنا بالنجاح ليَرَ العالم أجمع ماذا عسانا أن نصنع لإسعاد الوطن المقدس وسلامته ورغده.»
•••
وحينما بلغت السيارة دار الندوة انحدر منها ثم قال: «ستحملك مركبتي إلى مأواك، وآمل أن أراك بعد غد؛ لأن المجلس الوطني الكبير سيعقد جلسة تاريخية عظيمة في ذلك اليوم.»
•••
وفي الواقع إن الجلسة التي عقدها المجلس الوطني الكبير في ذلك اليوم كانت ذات شأن عظيم، وهي إحدى الجلسات التي سيدوِّنها التاريخ في صفحاته الخالدة بالتأكيد.
•••
وبعد انتهاء الجلسة التاريخية الهامة التي استغرقت وقتًا طويلًا، أدخل روشان أشرف بك ﻫ. زاده إلى غرفة متصلة بغرفة الزعيم الأكبر. وكانت موجودة في هذه الغرفة الهدايا القيمة التي قدمها هذا الزعيم الكريم تذكار حب صادق إلى ضيفه، وهي مرتبة أدق ترتيب، وتشتمل على الأشياء الآتي بيانها:
فرد بطلق واحد مرصع بالنضار، وهو ذخر لا يمكن تقويمه لأنه آت من الجيش، ومائدة مستديرة صغيرة من خشب الورد عليها نقوش من أبدع الكتابات، وعلبة سجائر نقش عليها اسمه بخط جميل على شكل بيضي، وعلبة كبريت ومنفضة سجائر تجمِّلها بالمثل نقوش نفيسة، وهذه الأشياء من محاسن الصناعات الوطنية، ودواة كبيرة من المرمر الأخضر، وقد صنعت من هذا الحجر العزيز لدى الفئة البكطاشية التي لبثت أجيالًا طوالًا مهتمة بسائر جيوش السلطنة، ومدخن سيجارة (فم سجاير) من الحجر الصلب، وعلبة كبيرة برعت فيها اليد الصانعة حتى كادت تجعلها في دقة الدانتلا، وصور فوتوغرافية ليس لها نظير، ومجموعة كبيرة من صور الحرب (ألبوم) وكتب شتى إلى غير ذلك … وكل هذه التحف تكوِّن كنزًا لا يمكن تقويمه.
وبعد أن أمتع ﻫ. زاده بصره بهذه النفائس المختارة وأثَّر إهداؤها في نفسه تأثيرًا عظيمًا ذهب ليشكر الزعيم الأكبر في مكتبه على هذا التفضُّل. فقال له مصطفى كمال باشا: «ما هذه إلا أشياء بسيطة تعد بها مكانًا صغيرًا من مأواك، وبما أن هذا المكان الصغير الذي سيؤثث به في أوروبا فسيأخذ شكلًا من أشكال أنقرة وتتماوج فيه نفحة عاطرة منها، وإذ ذاك تتذكرني وتتكلم عني.»