الرسالة الحادية عشرة
وهو المخصص لتلاوة المولد النبوي رحمة على أرواح الشهداء.
«يا محمد»
الآن أخذت تتماوج في الجو حتى تصل إلى قبر الرسول المكرم ﷺ أجمل الأصوات العثمانية وأشجاها وأرَقُّها وأعذبها رنينًا.
بعد إلقاء خطبة الجمعة المعتاد إلقاؤها في جميع البلاد العثمانية من المنابر باللغة العربية الفصحى وأداء فريضة الجمعة بدئ بتلاوة مولد ذلك الذي أشرق على العالم الإسلامي هدى ورحمة.
واستمرت الأنغام المتمازجة المتناسقة المطربة تتراسل إلى الأسماع من أعلى الدكة الخشبية المحلاة بأبدع أشكال الحفر صادرة من أعماق القلوب تغشاها نفحة حارة من التأثر والإيمان.
وتوالت الألفاظ الحارة منبعثة بجلاء وتأثير في الحاضرين الركع الذين كانوا يصغون، وعليهم سيما الخشوع وهم صامتون، بلاغة ما يلقيه عليهم ذلك الخطيب الشهير الذي أخذ يتكلم آونة بالعربية وتارة بالتركية …
وهبت نفحة قدسية شملت الجميع، فاستوى الكبير بالصغير في الخشوع والتأثر، وشرع جميع الموجودين في مصلى هذا المكان المقدس الرحب يبتهلون بقلوب متلهبة إلى الله أن يتقبل ثواب تلاوة المولد رحمة على أرواح الشهداء الأبرار.
وليس هذا الترحم مقصورًا على هذا المكان، بل هو عام كل مسجد وكل مكان في آسيا الصغرى في هذا اليوم نفسه وفي هذه الساعة عينها، إذ يخرج الملايين من الناس إلى الخلاء أو يجتمعون في البيوت، وهم متحدو الشعور، مترحمين بالإجماع التام على أولئك الذين سقطوا في ساحة الجهاد والشرف.
فالأناضول بأسره يبتهل اليوم لأجل هؤلاء الشهداء.
وقد انتهز الإمام الأكبر هذه الفرصة فأقبل من الأستانة متخليًا عن وظائفه الدينية الجليلة في القصر السلطاني، ليعظ الجنود الذائدين عن الوطن ويحمِّسَهم بالألفاظ الباعثة على الثقة والرجاء، وليتلو سيرة المولد النبوي في جامع أنقرة المقدسة البديع بصوت رنان ولحن مطرب رحمة على أرواح الشهداء المكرمة.
ومن وراء الحاجز المخصص للسيدات المصليات القادمات في هذا اليوم المبارك على الأخص لاستماع السيرة النبوية، ولضم أصواتهن إلى أصوات الرجال في الابتهال إلى الله أن يرحم الشهداء الأبرار، كان يرتفع نشيجهنَّ المختنق بالعبرات ويمتزج بأريج المباخر المنبثَّة في سائر أركان المسجد، والمرتفع دخانها المنعقد فوق سائر الرءوس المطرقة إجلالًا وتأثُّرًا معطرة مروحة عنها بعض شجنها.
وكانت الخطابة التي ألقيت بعد الفراغ من تلاوة السيرة النبوية العاطرة فعالة في العواطف ومثيرة للنفوس وبالغة منتهى السمو بما تضمنته من الآراء السديدة والوجدان الشريف. وهيهات أن يستطيع امرؤ أن يصور الصوت الرنان المترامي إلى أبعد أغوار القلوب المنبعث من فم ذلك المرشد الأكبر، وترديد النصوص المقدسة الواردة في مقاله الضافي الملم بشئون العالم الإسلامي من الوجهتين الدينية والسياسية.
وقد استشهد بنبينا — عليه الصلاة والسلام — فانتفض من شرحه المحزن أتباع الرسول الذين أخذوا يستمعون هذه الألفاظ المُتَّقِدة كالجمر الآخذ تحريكها للعواطف في الازدياد المطَّرِد.
أي محمد، انظر إلى أبنائك وتأمَّل أتباعك الصادقين تَرَهم جميعًا كيف يقاتلون بغير فتور، مستمدين شجاعتهم من قوة عقيدتهم وشدة إيمانهم! وهم ليس لهم من ظهير سوى هذا المعتقد الذي أوصيتهم به، والذي يذودون عن حياضه بشهامة وإباء كل المستخفِّين به والمعتدين عليه. ولم يترك أعداء هذا الدين ضربًا من ضروب الاعتداء من غير أن يقترفوه؛ فمن مظالم إلى آثام فاغرات، حتى إن البلاد التي كانت عامرة زاهرة فيما سلف أصبحت اليوم تئنُّ تحت الإرهاق والتعذيب الأجنبيين. ولم يبقَ سالمًا سوى هذا الملاذ المقدس المتوالي الجهاد لأجله ليل نهار دفاعًا عن استقلاله، إذ من الواجب الاحتفاظ بأشعة شمس الإسلام من العواصف والأنواء ومن القلاقل المزعجة والغصص المؤلمة المتوالية!
فيا ربنا أَعِنَّا وقوِّنا، ويا محمد بكرامتك عند الله نلتمس منه المدد والنصر! لقد هوجمنا من كل جانب، وتوالى علينا عدوان الأجانب! أنت الذي أوليت أمتك فيما غبر، بإلهام من الله، السؤددَ والمجد والثبات والقوة، فانظر الآن إلى الضيق العام الذي حل بنا من جراء البغي والجشع الموجَّهين إلينا من قبل أولئك الذين يغتنمون فرصة السلطة الجائرة القاسية التي يتمتعون بها في الوقت الحاضر.
إنا نستميحك العفو عن المخطئين وعن جميع المذنبين، ونضرع إليك بإخلاص يا رسول الله القدير، يا من أُرسلت هدى ورحمة للعالمين، أن تكون شفيعنا وملتمس الخير من الله لنا، إكرامًا للمؤمنين الأبرياء الأطهار الذين يعانون المصائب والأهوال، والذين يجاهدون في الله حق جهاده، ويستشهدون لأجل إعلاء هذا الدين الحق كل يوم.
إن المهمة التي لا نزال مضطلعين بأعبائها عظيمة وهائلة، فليحفظنا الله وليتولَّ رعايتنا. وعلينا نحن أن نرى بعيون الثقة في سرائرنا ضوءَ الأمل الذي يهدي إلى الحياة الشريفة! وليُنزل الخالق القدير آية نصره المبين على ظبى المواضي الإسلامية التي تدافع عن بقاعنا المكتسحة، وتجاهد بما أوتيت من حول وقوة معتمِدة على نفسها أفظع تآلب عرف من قبل، وهو الحرب الصليبية المتنكرة في أثواب المدنية الحديثة.
إن تاريخ الإنسانية لم يعهد على توالي العصور مثل هذه الأعمال المنكرة …
فللجنود حماة الدين والوطن المجد والفخار، ولتضطجع يوم النصر المبين نفوس أبنائنا الشهداء في سبيل هذه الأرض المقدسة في راحة وسلام …
إلى آخر ما قاله …
وانتهى هذا الدعاء المشوب بالذكريات المؤلمات باستدرار الرحمة الإلهية.
وهبطت من أعلى المناور الزجاجية المتعددة ألوانها أنوار خفيفة لطيفة.
وكان لا يزال عدد عظيم من الناس جاثين بجانب الأعمدة وهم لا يزالون يهمسون بالأدعية أو بتلاوة الآيات، وقد أخذت أيديهم تكفكف برفق المدامع المنحدرة من مآقيهم في طي الخفاء.
ونهض الزعيم الأكبر صامتًا، وتبعه كل الوزراء والضباط وكبار الموظفين والأعيان وبقية المحتشدين في المسجد من كبار وصغار وهم يراعون السكينة التامة المدهشة.
وكأنما قد هبطت من علٍ على حين فجأة نفحة سرية لبثت هنيهة ما يصحبها اطمئنان وسلام مهدئ.
ولم يشأ هذا الجمهور نفسه وهو يتماوج في فناء المسجد ولا يزال في تأثره أن يقضي على بهجة هذا التجلِّي الديني المحركة للعواطف، والتي جعلت كل امرئ في أشد ما يكون من التأثر.
وكان مصطفى كمال باشا مشتملًا بملبس أسود حدادًا على أبطال الأمة.
وكانت دلائل شجنه بادية على وجهه. وخاطب ﻫ. زاده بصوت لا يزال متهدجًا تخالجه مسحة من الأسى وهو آخذ بيده ليدنيه إلى جانبه فقال: «إن الله عظيم رحيم وسينقذنا من حرجنا هذا، وإني لواثق برحمته وكرمه.»
وأخذا يسيران جنبًا إلى جنب خطوة فأخرى بتباطؤ شديد، وهما يجتازان شارع المسجد الغاص بجموع الناس المزدحمة والشارع الكبير الموصل إلى المجلس الوطني.
واحتشد الجمهور على جانبي الطريق، وأخذ يحيي الزعيم الأكبر باحترام، وهو مار في وسط هذا الحشد الحافل كأنه رمز مجسم لتأدية الواجب.
وتبعه الوزراء والضباط وصحبه وحرسه الخاص عن بعد.
وقبيل الوصول إلى دار الندوة شقَّ الصفوف رجل بدين مكتهل واندفع منتحيًا وجهة الزعيم الأكبر وهو يصيح: «إني ملتجئ إليك أيها الرئيس الأكبر المحبوب، وملتمس منك الإنصاف والرحمة المقدسين.»
وأتم الرجل حركاته وقوله من غير أن يعترضه أحد ويحول دون وصوله إلى مصطفى كمال باشا، بل ظل رجال الشرطة وآلاف الناس المتجمهرة وقوفًا في أماكنهم.
وذلك لأنه لا يخطر ببال أحد في أي وقت إمكان الاعتداء على حياة هذا الرجل الجليل المخلص الذي وهب حياته لوطنه وأمته، وهل يجرؤ إنسان على أن يمسَّ بأذى من يُعتبر أمل الغد؟ ألم ينقذ الأمة بأسرها ويظل محافظًا عليها من كل عدوان؟
ووقف هذا الرجل المشتمل بثياب أناضولية أمام الزعيم الأكبر الذي أجابه بقوله: «ما خطبك يا بنيَّ؟»
حينئذ شرع هذا الفلاح المحروب يسرِد مظلمته مبيِّنًا ما حل به من الحَيْف.
فلما أتم شكاته قال له الزعيم الأكبر: «إن بابي مفتوح لكل امرئ، فأقبل إليَّ غداة الغد لأنظر في شكواك وأجعل العدل يتخذ مجراه.»
ثم تناول رأس هذا الكهل وقبَّله، وبعد أن انتهى من أمر هذا الشيخ التفت إلى ﻫ. زاده وقال له: «أليس هذا الشيخ تعسًا مجدودًا؟»
فأجاب ﻫ. زاده قائلًا: «أجل، وإن الفضل الأكبر في انتشار الإسلام بسرعة وإشراق شمس مجده ليرجع إلى ما امتاز به من العدل المتناهي.»
وتأمل ﻫ. زاده قليلًا ثم قال: «وإنني لأصبحت أعتقد الآن جد الاعتقاد أنك بأمثال هذه الأعمال ستصل بالفعل إلى الفوز الحقيقي.»
وإذ كانا يتكلمان وهما سائران فما انتهى ﻫ. زاده من مقاله حتى صار أمام دار الندوة.
وهنا وقفا ونظر مصطفى كمال باشا إلى ضيفه قائلًا له: «أتمنى لك السفر السعيد، لقد أعد كل ما يلزم لنقلك إلى آخر مرحلة في دائرة نفوذنا.»
•••
وصافح الزعيم الأكبر ﻫ. زاده هازًّا يده هزة الحب الصادق والإخلاص الأكيد.
فودع ﻫ. زاده الزعيم الأكبر وهو غير متمالك نفسه من تأثير الفراق في نفسه، واتجه إلى الحضور فسلم عليهم وحيا الجمهور بهدوء.
ثم شمل أنقرة المقدسة العاصمة الخالدة بنظرة رفق وهيام وولاء اكتنفت جميع أرجائها.
وفارقه مصطفى كمال باشا وهو يقول له بصوت جهوري رنان: «ليحفظنا الله من كل مكروه وليشملنا جميعًا بعنايته ووقايته.»