الواجب
الآن وقد انتهينا من نقل هذا الكتاب النفيس، بل هذا الذخر الثمين إلى اللسان العربي، نرى من الفائدة أن نغتنم هذه الفرصة السانحة لنطرق أبوابًا شتى لا غنى عن طرقها إزاء الخطوب الجمة المتساقطة على الشرق والأخطار المحدقة به من كل جانب.
إن الشرق المتفككة أجزاؤه، بعد أن تداعت أركان دوله الكبرى على إثر الحروب الصليبية وحروب الاستعمار الغربي، أصبح مطمعًا لكل دولة بل دويلة غربية.
ولو شئنا أن نستقرئ أسباب هذا الضعف الهائل الذي ألمَّ بالشرق بعد تفكك أجزائه لما عسر علينا الاهتداء إليها وتدوينها.
إلا أن هذه الأسباب كثيرة وأغلبها لا صلة له مباشرة بهذا الكتاب؛ ولذا رأينا أن لا نتعرض لها جمعاء، وإنما نلم بأهمها مما له مساس قوي بالموضوع الذي تضمنته دفتا الكتاب، والذي إنما وضع ونشر لأجله خاصة.
وأهم هذا القسم من عوامل انحطاط الشرق وضعف دوله إذا صح وجود دول له في هذه الآونة سوى دولة الشمس المشرقة أي اليابان، إنما هو جمود أبنائه عن القيام بالواجب.
يعرف الشرقي كثيرًا من علل سقوط الشرق في دركات الضعف والهوان والشقاء، ويدرك ما يجب عليه القيام به لتلافي هذه العلل، ولكنه لا يُقدم على إتيانه.
فلو وفق الله كلًّا منَّا — نحن الشرقيين جميعًا — إلى تأدية الواجب، لكان لنا من اعتدال جونا وغنى أرضنا وكثرة أعدادنا وصحة أجسادنا وذكاء عقولنا ما ينهض الشرق من عثاره ويعيده إلى سابق مجده وفخاره.
على أننا إذا عممنا وَصْم الشرقيين بالتقصير في القيام بالواجب، فإن لكل قاعدة شواذها، وهذه الشواذ لا حكم لها في القاعدة نفسها، ولهذا لم نشأ أن نجعل لهذه الشواذ موضوعًا خاصًّا، وماذا تفيد أعمال أفراد قلائل جدًّا في حالة بلغ من شدة حرجها أنها تكاد لا تثمر فيها مجهودات العاملين على تلافيها وإن عظمت وتعددت.
هذه الدولة العثمانية نُكبت ببتر أعضائها وفناء أبنائها واحتلال الأجانب عاصمتها، فانضمرت ثلة من الثمالة الباقية من بنيها في أقصى أركانها وفي أكفها القواضب تجاهد مجاهدة الجائد بالنفس الأخير، فهل قمنا لها بالواجب وأسعفناها ببعض المطالب؟
يعز علينا أن نقول إننا لم نفعل شيئًا! وهل يسعنا أن نذكر هنا بضعة آلاف الجنيهات التي جمعناها في أكثر من عامين وأرسلناها إلى جمعية الهلال الأحمر العثماني؟ وهل يروي رذاذ الندى روضة احتبس عنها الغيث وانقطع الغدير فأصابها اليبس والجفاف؟ وماذا تصنع قطرات قلائل في إعصار يكتسح القوافل في الصحاري القواحل؟
ولن ننسى ما جمعه الهنود والأفغانيون من المال وأرسلوه إلى المجاهدين المحصورين، وذلك المال وإن كثر عما جمعناه نحن للهلال الأحمر العثماني ليس سوى قطرة من قطرات مزنة وَطْفاء تتراءى في سماء الصيف الصافية!
وكيف نستطيع أن نشبه ما سخا به العالم الإسلامي حتى اليوم إعانة لأبطاله المحروبين مما جاد به في حربي طرابلس والبلقان؟
فنحن اليوم إزاء حالة لا يفيد فيها العويل، بل قد تنفعها النغبة والتعليل. وإذا كنا قد نعينا على أنفسنا تهاونها وتقصيرها، أو إذا كنا قد بسطنا حقيقة الحال على علاتها، فما ذلك من قبيل اليأس، بل من قبيل الحث على العمل النافع، على القيام بالواجب المفروض على كل فرد منا. وإلا فليس في وسعنا أن ننكر أو نتجاهل ما قام به البعض من أعمال الإعانة الجليلة.
مثل السيدة الفاضلة تأتي الخير خفية وتحث عليه جهرة، مثل الثمرة الشهية تخفي لذتها وفائدتها تحت غشائها الناضر وتغري النفوس بهما بما تنشره من الأريج الجذاب.
ذلك شأن السيدة الخيرة الأميرة النبيلة قدرية حسين، التي منَّ الله عليها بنعمتي القلب الطاهر والعقل الكبير، فدفعها وجدانها الشريف إلى أن تؤدي الواجب المقدس بما يطلق ألسنة الواقفين على حقيقة عملها الجليل بجميل الثناء عليها، ثم حملتها غيرتها وحميتها على أن تنشر هذا الكتاب القيم داعية به العالم الإسلامي إلى مناصرة وتعضيد أبطال الأناضول الذين تدفقت عليهم سيول المطامع من كل جانب.
الإسراف المحمود
الإسراف مذموم إلا في موطن واحد وهو النفع العام.
وكل يوم نسمع بأنباء أولئك الذين ينفقون آلاف الدنانير في الملاهي والمتارف جزافًا غير عابئين بما قد ينتاب منابع ثرواتهم من النضوب، ولكننا قلَّما سمعنا بامرئ منا وهب عشرات الآلاف من الدنانير مثلًا في سبيل النهضة الشرقية، أو لأجل إنقاذ الأمة الإسلامية من الخطر المحدق بها، فمثل سراتنا مثل وزارة أوقافنا تنفق آلاف الدنانير على ترفيه نفر من كبار موظفيها وتقتر في الماء والزيت والبترول والكهرباء المخصصة لدور العبادة معتمدة على قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ!
على أن الله قد قيَّض لهذه الأمة من أميراتها من تعرف كيف تبذر وتسرف في سبيل الفائدة العامة، فجاء عملها هذا مستوجبًا الحمد داعيًا إلى إطرائها عليه.
تلك هي الأميرة قدرية حسين التي دفعتها عواطفها الكريمة إلى إيفاد وطنينا الفاضل ﻫ. زاده، الذي نحترم إرادة الأميرة الشابة ورغبة ذلك الرسول العزيز في بقاء هذا الرمز علمًا عليه، رسولًا من قبلها إلى بطل الأناضول بل بطل الإسلام بل بطل الشرق، إن شاء الله مسلمًا عليه ومشجعًا له وموصلًا هديتها الثمينة إليه، بل إلى حماة الإسلام الذائدين عن حياضه.
ولقد نمت إليَّ من مصادر غير مصدر الأميرة الجليلة أنباء هذه الهدية التي لا يمكن تقديرها، والتي صادفت خير وقت موافق لها. وكنت أود لو استطعت أن أذكر تفاصيلها، ليعلم ذوو الأموال المكتنزة منا أن بين سيداتنا الفضليات من هي أكبر نفسًا وأطهر قلبًا وأذكى عقلًا وأعرف بالواجب من مئات منهم! إلا أنني أخشى لو أفضيت بمعلوماتي في هذا الصدد أن يكون عملي هذا على غير رضاها، وما كنت لأسخط سيدة، ولا سيما إذا كانت متجمِّلة بمثل هذا الشعور السامي.
جعلت عنوان كلمتي هذه «الإسراف المحمود»، وأريد أن أعود إلى هذا العنوان فأقول: أجل إنه لإسراف محمود وتبذير من جيبها الخاص لتقديم تلك الهدية القيمة إلى معشر لو أتاح الله لهم الخلاص من الغمرة التي يكابدون الآن أهوالها لرأينا من أعمالهم المجيدة ما يجعلنا نطير في الجو فرحًا واستبشارًا. نعم نرى من أعمالهم العظيمة أمورًا تطير بقلوبنا ابتهاجًا؛ لأن تلك الأعمال لا تعود فوائدها عليهم وحدهم بل على العالم الإسلامي قاطبة، ومن المؤكد على الشرق عامة.
ولقد يلاحظ القارئون أن بطل أناڨارتا وسقاريا مصطفى كمال باشا كلف ﻫ. زاده بواسطة روشان أشرف بك بمهمة أخرى، ولا شك في أنها مهمة عظيمة، ومن المحقق أن أميرتنا المحبوبة قد أجابت سُؤْلَه، وحملت نفسها في سبيل القيام بالواجب إسرافًا آخر يستوجب الإطراء والإعجاب، وإن كانت أحاديثه لم تصل إلى هذا القطر حتى الآن.
أفيروف!
اسم أشهر من نار على علم ذ،اع صِيته في حرب البلقان، ولا يزال ذائعًا حتى الآن؛ لأنه مطلق على أعظم مدرعة في أسطول اليونان.
فمن ذا الذي لقب هذه المدرعة الضخمة بهذا الاسم الشهير؟ وهل هو من أسماء الأبطال البحريين أو من أسماء كبار القواد البريين أو من أسماء رؤساء العصابات اليونانية الفدائيين؟ كلا إنه اسم رجل من التجار الأروام الذين نسلوا إلى ديارنا المصرية العزيزة وربحت تجارتهم فيها، فآثر وطنه بالشطر الأكبر من ثروته التي ضاع نفيس عمره في تحصينها؛ إذ ابتاع به هذه الدارعة التي خلَّدت اسمه في سجل التاريخ الوطني. فسقيًا له من وطنيٍّ غيور شهم كريم!
والآن لنتذاكر فيما بيننا، أسمعنا أن أحد أغنيائنا تبرَّع لمصر لا للدولة العثمانية بنصف مليون دينار كما فعل أفيروف؟
أذكر — والذكرى شجون — أن اثنين من سروات المصريين الذين كانوا في القسطنطينية أثناء الحرب البلقانية، وعدا رجال الحكومة العثمانية بأن يتبرَّعا بثمن قطعتين بحريتين حربيتين، ولعلهما مدمرة ونسافة وثمنهما معًا لا يبلغ مائة ألف دينار. ولكن ما أبعد الخلف بين القول والعمل!
والآن أستعرض في ذاكرتي اسمي هذين السَّرِيَّيْن بين أسماء المكتتبين لإعانة الأناضول، فلا أجد لهما أثرًا كأنهما لم يحملا شارات المجد من تلك الدولة المسكينة، أو كأن أحدهما لم يكن على وشك الاندماج في سلك الوزراء العثمانيين!
وإنما آثرت هذين الوجيهين بالذكر؛ لأنهما من أقدر سراة القطر على القيام بالواجب المفروض عليهما لدينهما وللمدافعين عن حياض هذا الدين، ولم يحرِّكا ساكنًا ويلفظا ببنت شفة في هذا الصدد.
وآه ثم آه لو انبرى عشرون سريًّا من سراة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للتبرع بثمن قطع صغيرة للأسطول العثماني منذ بدئ في إعادة تنظيم الجيش البري والبحرية العثمانيين في عام ١٩١٠، إذن لما طمعت إيطاليا في اقتطاع طرابلس الغرب من جُسْمان الدولة العثمانية، ولكانت مصر متمتعة الآن باستقلالها وحريتها الحقيقيين، بل ربما كان الشرق كله رافلًا في أثواب النعيم!
ولكن قصر المسلمون في القيام بالواجب من قبل، ولا يزالون مقصرين حتى اليوم، في حين أن مصر تبرعت أثناء الحرب الكبرى إن كرهًا أو اختيارًا بمئات الألوف من الدنانير لتذكار كتشنر وللصليب الأحمر ولسواهما من الشئون الأخرى التي لا تهم مصر بتاتًا.
إن الإسلام في أشد الحاجة إلى رجال يجودون بأنفس ما لديهم من الأموال كما فعل أفيروف المحسن العظيم لوطنه، وكما فعل ساكنا الجنة رضوان الله عليهما محمود شوكت باشا الصدر الأعظم الأسبق، الذي عندما أراد التحرك بالجيش من سلافيك لتأييد الدستور في الأستانة، ولم يجد في خزانة الحكومة مالًا للإنفاق على الجيش الزاحف تبرع بكل ما يمتلكه من حطام الدنيا الفانية، وهو ثلاثة عشر ألف دينار، ومحمد سعيد حليم باشا الصدر الأعظم السابق الذي قضى نحبه شهيدًا في روما، فإنه لم يتأخر عن رهن أهم أملاكه العقارية في الأستانة على بضع مئات الألوف من الجنيهات لسداد الأقساط الباقية من ثمن القطع الحربية الكبرى التي كانت تصنع في إنجلترا، وَعَدَتْ عليها عوادي الجشع والغدر والظلم عند نشوب الحرب العالمية الكبرى …
لو أتاح الله للإسلام أمثال هذين الشهمين الكريمين البارين بالأمة الإسلامية لما اندك صرح الإسلام المجيد، ولما تهاوت دعائمه المحكمة، ولما صارت بقاعه نهبًا مقسمًا، ولما أصبح بنوه أسارَى الاستعباد يرسفون في قيود الذل والهوان!
حيا الله ذكراك يا أفيروف، وسقى قبرك الغيث الهتَّان، فإنك اقتفيت أثر الصحابي الكريم الذي جهز غزوة كاملة من ماله الخاص (رضي الله عنه)!
ولكن أي أفيروف! لا تحسبنَّ أننا تجردنا من الشهامة والنخوة والمروءة والحميَّة، ولتعلمنَّ أن دماء الإسلام لا تزال تجري في عروق سيداتنا النبيلات إذا لم تجر في أوشجة رجالنا الأغنياء، الذين أنعم الله عليهم بمئات الألوف من الأفدنة وبعشرات الملايين من الدنانير المكتنزة في المصارف المالية الأجنبية، خلا ما يعلم الله مقداره من الذهب المدفون في جوف الثرى!
فالإسلام — والحمد لله يا أفيروف — بخير ما دامت إحدى بناته تجعل فرض العين الذي قضته عن نفسها فرض كفاية تؤديه عن سائر المسلمين …
هذه كلمة أسوقها عرضًا، ولعلها تضرم نار الغيرة والحمية في قلوب أبناء الأمة الإسلامية التي رأت من عبر الزمان ما يزيل لوثة الوسن عن أجفانها وينبِّهها إلى حقيقة ما يجري أمامها.
ما الذي يهمنا من أمرهم؟
حينما شرعت في تعريب «الوطنية العثمانية» ابتدرني فتيان نابغان من خيرة الطلبة بهذا الاستفسار: «ما الذي يهمنا من أمر الأتراك؟ ولماذا تهتم بشئونهم، ولا تكتب شيئًا في المسألة المصرية، وقد كنت من جملة المهتمين بحلها، ولو أصبت في سبيلها بالهم الكبير؟»
فاشتد حبوري لسماع هذا السؤال الذي كنت أنتظر أن يلقيه عليَّ أحد أبناء وطني الأعزاء، بيد أني لم أجد الفرصة سانحة إذ ذاك للإفاضة في تفسير هذا الاستفسار، بل اقتصرت على تلاوة التمهيد الذي افتتحت به كتاب الوطنية العثمانية، وفي مقدمته هذه الكلمة «حياة الشرق في اتحاد عناصره.» ثم قلت لهما: ألا تريان أن المسألة المصرية قد تقدمت خطوة في سبيل الحل بفضل اندماج العنصرين المصريين الكبيرين؛ القبطي والمسلم، بعضهما في بعض، واتحادهما في العمل لأجل تحرير الوطن واستقلاله؟ وألا تعلمان أن التضامن العجيب قد فتَّ في عضد الخصم وحيَّره وأجبره على احترامنا واحترام أمنيتنا السامية العامة؟ وهل لم تلاحظا أن اختفاء المسألتين القديمتين؛ القبطية والإسلامية، من ميدان العمل وخلو هذا المجال للمسألة الكبرى، وهي الوطنية المصرية، قد وحد جهودنا وقوَّى عزائمنا وشلَّ أيدي الدسائس التي كانت تفرق في الخفاء بيننا، فأصبحنا بفضل الله إخوانًا متصافين متضافرين على تحرير وطننا المقدس المحبوب؟ فإذا كانت كل هذه المزايا الجليلة قد تمت في مصر التي لا يزيد سكانها على أربعة عشر مليونًا من الأنفس بفضل الاتحاد، وليس لديها جيش وطني يذود عن حوضها ولا معامل أسلحة وذخائر ولا قوَّاد كبار مدربون لهم عزائم تزحزح شُمَّ الجبال من أماكنها، فكيف بعالم هائل مؤلف من أكثر من ثلاثمائة مليون نفس متوفرة في مجموعه سائر المطالب التي تعوز بعض أجزائه، إذا اتحدت عناصره وتكونت منها كتلة كبرى تخيف أعداءه، وهي الجامعة الإسلامية؟
حينئذ أنعم الشابان الذكيان الغيوران في التفكير، ثم تهللت أسارير وجهيهما المشرقين وقالا: إنك لعلى حق في كل ما قلته، وليس لنا ما نعترض به عليك بعد الآن.
حياهما الله وبارك فيهما! إن الشباب النابغ النافع يصل نور الحجة الناصعة إلى قلبه الطاهر بغير استئذان؛ فيفعل فيه مفعول السحر الحلال.
ولكن ذلك الجواب لم يكن كافيًا، ولا أزال غير قادر على بسط الإجابة الكافية إذ ليس كل ما يعلم يقال، وليس من الصواب أن يهاتر المرء بشقاشق قد تضر أكثر مما تفيد. إلا أن ما لا يدرك كله لا يترك قله.
إني لا أعرف شيئًا اسمه المسألة التركية؛ لأن العنصر التركي البحت الذي تحرك من بلخ في القرن السابع الهجري تحت إمرة سليمان شاه وأرطوغرول، يكاد يكون قد اختفى بتاتًا، أو إذا كانت لا تزال له بقية فهي من غير شك تمثِّل أصغر عنصر في كيان الأمة العثمانية، ولو تركت وشأنها لما أحس بها أحد ولما قامت لها قائمة، فكتابتي إذن تدور حول محور المسألة العثمانية، وحل هذه المسألة ينتج تحرير الأمة العثمانية وإنهاضها وتقويتها، وإذا ما تمت هذه الأمور الثلاثة فإن أكثر من ثلاثمائة مليون نفس تهدأ وترتاح وتنعم بالًا وتطمئن على مستقبل بلادها، وإن كانت ستُمْنَى بشيء من القلق والإزعاج والألم في أوطانها قبل بلوغها أمانيها السامية.
- أولها: كانت توجد هيأة منظمة معترف بها تسمى الدولة العثمانية، ولا يزال لها حتى الآن أثر قوي محسوس في الوجود. وهذه الدولة هي التي صدت تيار الاستعمار الغربي عن الشرق عدة قرون، وهي التي احتفظت بتاج الخلافة الإسلامية والعَلَم النبوي.
- ثانيها: أن حل المسألة العثمانية طبق رغائب المسلمين هي أوفق وأرجح حل للمسألة الشرقية التي أتعبت أوروبا، وأتعبت العالم أجمع، وكانت من أهم أسباب الحرب الكبرى، وربما تكون من أهم البواعث على نشوب حروب عالمية أخرى ما دامت باقية بغير حل معقول منطبق على مصالح الشرقيين أنفسهم قبل كل شيء. والحل المعقول المقبول هو الذي أعلنه الهنود.
- ثالثها: أن بلاد الدولة العثمانية الحرة المستقلة هي المعقل المنيع للإسلام، والملاذ الذي يلوذ به كل المطارَدين المشرَّدين من سياسيي المسلمين خاصة والشرقيين عامة. فالطلبة الذين حرمتهم سياسة الاضطهاد ومصادرة الأفكار الحرة من إتمام دراستهم في مصر لجئوا إلى الأستانة، ففتحت لهم أبواب جامعتها ومدارسها العليا، وأتموا تلقي العلوم فيها، ثم اندمج كثيرون منهم في وظائف حكومتها. والوطنيون المتطرفون الذين يراد إرهاقهم بالعقوبات المتتالية حتى تخرس ألسنتهم هرعوا إلى الأستانة، فقوبلوا بصدور رحبة ووجوه باشَّة، بل توالت عليهم المساعدات المالية من مصادر عثمانية متعددة، وأصدروا الجرائد والمجلات، وخطبوا وأنشئوا الأندية السياسية.
- رابعها: أن البلاد العثمانية أوفق بقاع لمن ضاقت به سبل الارتزاق في البلاد الشرقية الأخرى، أو لمن أراد استثمار ماله في أضمن المشروعات الاقتصادية المتعددة. وبما أن مساحة الأناضول تبلغ ٤٩٠٠٠٠ كيلومتر مربع لا يشغلها أكثر من تسعة ملايين من الأنفس، فهذه الأراضي الواسعة في أشد الحاجة إلى الأيدي العاملة وإلى الأموال المستثمرة. لهذا فكر المصريون المقيمون في الأستانة قبل الحرب في إنشاء شركات استغلالية شرقية بحتة تستثمر وتعمر هذه الأرجاء الفسيحة، ووافق رجال الدولة العثمانية على تحقيق سائر المشروعات المصرية، بل لقد أقطعوا بعض المصريين قطعًا من الأراضي الزراعية الخصبة في ولاية أطنه وفي ضواحي الأستانة، كما أنهم كانوا مستعدين لإقطاع كل من يقدم إليهم من البلاد الإسلامية المختلفة ما يكفيه من الأراضي الزراعية، ولإمداده بالبذور والحيوانات والأدوات الزراعية، وإعفاء هذه الأراضي من الضرائب والرسوم بضع سنوات، وتقسيط أثمان الحيوانات والبذور والآلات الزراعية على أعوام طوال. وهذه فوائد لا يجدها المسلم خاصة والشرقي على العموم في أية بلاد أخرى.
- خامسها: أن التعليم بوجه عام وتعليم الفنون الحربية والبحرية بوجه خاص لم يكونا ميسورين بلا نفقة مطلقة، أو بنفقة زهيدة جدًّا، كتيسُّرِهما في بلاد الدولة العثمانية، التي لم تكتف بفتح أبواب مدارسها لقصادها من سائر الأمصار الإسلامية، بل حملت أطفال الطرابلسيين من بلادهم إلى البلاد العثمانية بعد الاعتداء الإيطالي المشئوم على طرابلس، وتولت تثقيفهم وتعليمهم.
فلهذه الأسباب ولأمور أخرى سواها لم أشأ أن أتبسَّط في سردها الآن أرى — ويشاركني في هذا الرأي كل شرقي حكيم مستنير يحب استقلال وطنه وسعادته — وجوب التضافر على إنقاذ الدولة العثمانية وإنهاضها وتقويتها.
وفيما أنا مشغول بكتابة هذه السطور وقفت على كتاب موجه من إخواننا السوريين إلى مصطفى كمال باشا يعاتبونه فيه على ما بدر من بعض رجال الحكومة الوطنية العثمانية في صدد المسألة السورية، ولعمري إنهم لمحقُّون في الاستنجاد بالنخوة الإسلامية المتأصلة في نفوس حماة الإسلام وأبطال الشرق، ولكنهم أحق بالمثل القائل: «الصيف ضيعت اللبن.» فإن إخواننا السوريين — سامحهم الله — كانوا من أقوى العناصر العاملة في أثناء الحرب الكبرى على طعن الجبهة العثمانية من خلف تسهيلًا لأعداء الشرق والإسلام على اكتساح البلاد السورية؛ أملًا في التخلص من الرابطة العثمانية والفوز بالاستقلال الموهوم، فكان نصيبهم أن انقطعت الصلة التي كانت تربطهم بإخوانهم، وضاع عليهم حلم الاستقلال اللذيذ عندما تفتحت عيونهم على وضح الحقيقة الناصعة.
ولكنا الآن أحوج ما نكون إلى اطِّراح التعاتب وإلى تناسي الماضي؛ لأن لكل منا حسناته وهناته، فإذا كان إخواننا السوريون قد طعنوا الجبهة العثمانية الغربية من الخلف، فقد اشتركنا — نحن والهنود — في طعنها في الصدر، وطعن الهنود الجبهة الجنوبية في قلبها، «فكلنا في الهوى سوى»، وإن اختلف موقف الهنود والمصريين عن موقف السوريين.
أقول ما لنا وللعودة إلى ادِّكار الماضي ونحن أحوج ما نكون إلى التفكير في الحاضر؟! يقول إخواننا السوريون في كتابهم: «ولم يتركوا فرصة حتى انتهزوها لإظهار عطفهم على القضية الوطنية التركية العاملة ضمن قيود ذلك الميثاق.» ولست أدري معنى العطف الذي أظهره إخواننا السوريون على المسألة الوطنية العثمانية ومبلغه من التأثير في حالة حماة الإسلام وأبطال الشرق المحصورين من كل جانب المحرومين من سائر المطالب! فإن كان عطفهم مقصورًا على الشعور القلبي والوجدان النفسي، أو محصورًا ما بين طائفة من الأفواه أو رزمة من الصحف، فما كان أحرى إخواننا أن يبقوه في طيِّ الكتمان، وأن لا يوردوه على شباة القلم أو عذبة اللسان، وأما إذا كانوا قد أعربوا عن هذا العطف بآيات باهرات من الإعانة والتعضيد والتشجيع، ولو من قبيل ما فعله إخوتنا الهنود، وما فعلناه — نحن المصريين — على ضآلته، فليسحروا ألبابنا ببيان تلك الآيات الباهرات لنقول: «لله الحمد فإن الخير لا يزال باقيًا في الإسلام!»
وإنني بهذه المناسبة لا يسعني إلا أن أجبه إخواننا السوريين بمُرِّ العتاب على تقاعسهم عن العمل الناجع لمساعدة الوطنيين العثمانيين، وكما أني أمتعض للتصريحين اللذين فَاهَ بهما بكر سامي بك وفريد بك — إذا صحت رواية النقل عنهما — فإني أشمئزُّ من الجمود الذي يبديه السوريون إزاء الاكتتاب العام للأناضول والمساعدات الفردية الجسيمة التي يؤديها ذوو النخوة والنجدة والحمية الإسلامية من هنود وأفغانيين وقوقاسيين ومصريين. بل لقد اكتتب التونسيون والجزائريون ببعض الأموال لتلك البقعة البائسة المحروبة، ولم يحرك السوريون ساكنًا، فهل لا يتذكر إخواننا السوريون قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ؟! وأي بر وتقوى أفضل من إعانة إخوتنا الذين طردوا إلى ركن قصيٍّ من وطنهم، وحرموا من سائر وسائل الدفاع عن النفس؟! ولماذا؟ لأنهم حماة الإسلام ومحررو الشعوب الشرقية!
عواقب الانقسام
حينما وقف الرسول ﷺ بين إخوته المسلمين يقول لهم: لا جنسية في الإسلام. والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، أو ما هو أقرب من الألفاظ إلى هذه المعاني، اتحد المسلمون، وأدركوا في أقل من ثمانين حولًا ما لم يدركه الرومان في أكثر من ثمانية قرون. فلما أريد لهذه الأمة أن تأفل شمس عزها، ويندكَّ صرح مجدها، وتندرس معالم مدنيتها، وتزول حسنات إنسانيتها، تعدد ملوكها وسلاطينها وأمراؤها، بل لقد أصبح خلفاء الرسول ثلاثة، أي صار للجمهورية الإسلامية ثلاثة رؤساء.
أقول الجمهورية الإسلامية؛ لأن الرسول ﷺ انتقل إلى الرفيق الأعلى ولم يستخلف أحدًا، فترك الأمر شورى بين المسلمين لهم أن يختاروا من يجعلونه رئيس جمهورهم.
فلما أخل المسلمون بعهد الرسول وتحولت الخلافة إلى ملك عضود يتوارثه الأبناء عن الآباء، استبد الخدم والأتباع بالأمر، وصار الملوك والسلاطين رجالًا ضعافًا لا يستطيعون أن ينظروا في شئون دُوَلِهم، وكان من جراء ذلك أن استقلَّ الولاة وأغلبهم من الخدم والأتباع بالولايات التي يديرون شئونها. ثم حملتهم أطماعهم على أن يحارب بعضهم بعضًا أملًا في استيلاء كلٍّ منهم على ما في قبضة الآخر من الأمر والنهي؛ فسادت الفوضى، وساءت الأحوال، وتحكم في أعناق المسلمين الظَّلَمَة والجُهَّال.
وبينما الانقسام يمزق كيان الأمة الإسلامية إذا ببطرس الناسك يهيب بأوروبا المختفية في ظلمات الجهل والخمول والهمجية: انهضي أيتها القارة الغارقة في لجة الوسن، وأنقذي البيت المقدس من براثن أولئك الوحوش الكواسر، واكتسحي تلك الأراضي الخصبة الغنية التي لم يعرف أبناؤها كيف يستغلونها ويتمتعون بخيراتها الوفيرة! انهضي في هذا الوقت المناسب الذي أخذ أولئك البرابرة المتفرقون يمزق فيه بعضهم أشلاء بعض! انهضي واحملي صليبك، وجوبي به أنحاء الشرق الملوثة بدماء بنيه!
طاف ذلك الراهب التقيُّ الغيور المبارك ممالك القارة الأوروبية مستصرخًا ملوكها وأمراءها، فصادفت دعوته آذانًا مصغية وقلوبًا واعية وسواعدَ قوية، فكانت أولى الحروب الصليبية في أواخر القرن الحاديَ عشر.
توالت الحروب الصليبية الكبرى ثلاثة قرون تقريبًا، استولى في غضونها الصليبيون على بيت المقدس وعلى مدن وبقاعٍ كثيرة من آسيا وأفريقيا، والمسلمون لا ينفكون يتقاتلون فيما بينهم، حتى إذا ما انتهت الغارات الصليبية الثماني، وارتد الغربيون من الشرق متخلِّين عن الأماكن المقدسة كانوا هم الفائزين في الواقع؛ لأنهم أخذوا علوم الشرق وفنونه وآدابه، فنشروها بلغاتهم وجعلوها أساس نهضتهم الحديثة.
وينبغي لنا أن نلاحظ في هذا المقام أن الذي كان يكافح جموع الصليبيين في كل إغارة ملك واحد من ملوك المسلمين، وما سمعنا أن سائر ملوك الإسلام وأمرائه اجتمعوا واتفقوا على دفع تلك الإغارات.
وإذا أيقن الغربيون أن الشرق لا يزال قويَّ المِراس، وأن ملوك المسلمين لا يزالون ذوي مَنَعَة وصَوْلة عظيمتين، تركوهم وشأنهم يأكل الحقد قلوبهم وتمزق يد التفريق وحدتهم، بينما يشتغلون هم بتهذيب وترقية وتوسيع ما نقلوه من أساليب الحضارة الإسلامية التي يطلقون عليها المدنية العربية.
وإذ صار أغلب ملوك الإسلام وأمرائه من خدم أمراء المؤمنين الذين لا يعرفون من العلوم والآداب شيئًا، فقد بدأت النهضة الإسلامية العلمية، التي وضع أساسها القرآن بما احتوى من الآيات العديدة الحاثة على التعلم والمشرفة قدر العلم كقوله تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وكقوله جل وعلا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إلى غيرهما من الآيات والأحاديث الجمَّة، تتداعى أركانها التي هي قواعد الدين الإسلامي؛ لأن هذا الدين قائم على أصول علمية مكينة كالوحدة التي تعتبر أساس العلوم الرياضية بأسرها، وكبلاغة القرآن التي أعجزت بلغاء العرب أجمعين، وكانت ينبوع العلوم والآداب والفنون الإسلامية التي نقلها الصليبيون إلى أوروبا، فأصبح الشرق بؤرة الشر والجهل والظلم والفساد، ولا سيما التفرق والتناحر.
وبعد أن تحسنت أحوال الغربيين، وانتشرت في ربوعهم المدنية الإسلامية التي استفادوها من الشرق ومن الدولة الإسلامية الأندلسية، ورأوا ما آل إليه الشرق من الانحطاط والتمزق، شرعوا يكتسحون بلاده، ولكن بطرق أخرى غير الطرق الحربية الأولى، أهمها: بث الدسائس والفتن بين العناصر التي يتكون منها العالم الإسلامي؛ ليدوم الانقسام فيها، ريثما يعملون هم بوسائل مختلفة على اقتطاع أضعف العناصر المنفصلة عن الكتلة الإسلامية الكبرى.
ولئلا يقع بينهم الشجار والقتال بسبب هذه الغنائم المستلبة أخذوا يعقدون المؤتمرات السياسية ويُبرِمون الاتفاقات السرية التي يتساومون بواسطتها فيما بينهم على ذلك النهب المقسم.
وإنني لأسطر في هذا المقام بمداد من عَبَرَاتي أو من دمي أو بأحرف من النار المنبعثة من قلبي الآسف المتلهف الحزين نادرتين شهيرتين تدلَّان على مبلغ ما وصلنا إليه من التقاطع والتخاذل والانقسام:
أولاهما: تتضمن ضياع الأندلس من حوزة الإسلام بتاتًا، ففي هذه الآونة، أي في أواخر القرن الخامس عشر كانت الدولة العثمانية في عنفوان شبابها وشدة قُوَّتها وصَوْلتها، فقام أهل الأندلس يستصرخون إخوانهم المسلمين في سائر أرجاء العالم الإسلامي لإنقاذهم من فرديناند الكاثوليكي وزوجه إيزابلا، اللذين حاصرا غرناطة وأوشكا أن يقضيا القضاء الأخير على دولة الإسلام التي كانت زاهية هنالك، فلم تُحرِّكْ الدولة العثمانية على عهد بايزيد الثاني ساكنًا لإنقاذ تلك الدولة التي أصبحت في خبر كان. وكذلك لم تحرك الدولة المصرية جنديًّا واحدًا لهذا الغرض الشريف. وإن في قصيدة شاعرهم النونية الشهيرة ما يقطع الأكباد أسًى وحسرة!
والنادرة الثانية: زحف محمد علي باشا والي مصر على الأستانة في الوقت الذي أباد فيه السلطان محمود جنود الينيشارية مستعيضًا عنها بالنظام الحربي الجديد الذي عمَّ أوروبا. فلم يمهل والي مصر خليفة المسلمين المدة الكافية لإتمام الصلح الجديد وتثبيته، بل قضى بانقسامه على دولته على كل أمل في إنهاضها وتقويتها، وكان هذا العمل مدعاة لموت السلطان محمود كمدًا حزينًا! ولم تقم للدولة العثمانية قائمة من ذلك الوقت إلى الآن؛ لأن أوروبا انتهزت هذه الفرصة ولم تسمح لهذه الدولة الشرقية المحروبة بأن تجد الوقت الكافي لاستجماع قواها وتنظيم شئونها بما تخلقه لها من الدسائس الخفية، وبما تشهره عليها من الحروب المتوالية. ولقد كان جزاء مصر من هذا العمل أن سقطت في شبكة الاستعمار الغربي، وعجزت الدولة العثمانية عن إنقاذها من جراء الضربة القوية التي أصابها بها محمد علي باشا وبقيت آثارها إلى هذا الحين.
الوطنيات الشرقية
أراد الغربيون أن يدسوا على الشرق دسيسة هائلة تقضي عليه بالسقوط الأبدي، فنشروا دور تعليمهم التي تدسُّ السم في الدَّسَم ملقِّنة أحداث الشرقيين مبادئ لا تنطبق على حالة الشرق ولا على مصلحته، فشبَّ هؤلاء الأحداث ما بين مسيحيين وإسرائيليين ومسلمين على التشرب بروح البغضاء للدولة العثمانية، راغبين في الانفصال عنها لتكوين وطنيات خاصة بها، فجاء هذا السلاح المسموم أضرَّ على الدولة العثمانية خاصة، وعلى الشرق عامة، من الدسائس العنصرية ومن الحروب الاستعمارية المتفرقة. وذلك لأن هذه المبادئ التي أفادت في أوروبا المتألفة من كتلة مسيحية كبرى — تكاد لغاتها تتجانس — سممت الأفكار الشرقية، ونزعت منها كل أثر للاتحاد، فاندفع الشُّبَّان المستنيرون إلى المطالبة باستقلال بلادهم، وهم لا يدرون أن الاستقلال شَرَكٌ ينصبه الغربيون لاصطياد بلادهم به.
على أن الدولة العثمانية لم تجهل خطر هذا السلاح الجديد، فأخذت تجاهد بكل ما في وسعها لحفظ كيانها، علمًا منها بأن هذه العناصر إذا تفرقت سقطت في قبضة أوروبا ولم يفدها انفصالها من الرابطة العثمانية سوى الوبال.
وأبى شبان العناصر المختلفة أن يخضعوا للقوة، فارتموا في أحضان الدول الغربية التي أوهمتهم أنها نصيرة الأحرار، وشجعتهم بالأموال، وفتحت لهم صدور صحفها.
وظلت الحالة قلقة مضطربة مُؤْذِنَة بتفاقم الشر حتى شبت نيران الحرب الكبرى. هنالك شرعت العناصر المختلفة تساعد الدول المعادية على قهر الدولة العثمانية وإذلالها آملة أن تساعدها تلك الدول بعد انتهاء الحرب على الفوز بالاستقلال.
وانتهت الحرب الكبرى بضياع أجزاء مهمة جدًّا من مجموع الدولة العثمانية، ولكن البلاد المنفصلة لم تتحرر وذهب حلم الوطنيات المستقلة مع ليالي الآمال اللذيذة التي كان الشبان العثمانيون المستنيرون يقضونها في نوم الغفلة والغرور.
على أن أحرار العثمانيين فَطِنُوا للعواقب الوخيمة التي ستنتجها مكيدة النزعات الوطنية، وعلموا أن محاولة القضاء بالقوة على هذه النزعات التي تأصلت في النفوس — كما حاولت ذلك حكومة عبد الحميد المستبدَّة — ليس من ورائها سوى توسيع الهوة، وزيادة النفرة، وتمكين العدو من ثغرة يصل بها إلى داخل البلاد العثمانية، فشرعوا يتفاهمون مع سائر العناصر العثمانية بالحسنى، وبدءوا في إعداد طريقة مثلى لإنالة هذه العناصر أمنياتها أو ما يقرب منها، مع بقائها مرتبطة برابطة الجامعة الكبرى التي تحفظ كيان هذه المجموعة الكبيرة من التمزق والسقوط تحت براثن وحوش الاستعمار، وكادوا يصلون بالفعل إلى تحقيق الغرض الأسمى لولا قيام الحرب الكبرى.
أما الآن وقد انحلَّت الروابط التي كانت تربط المجموعة العثمانية، وأدرك عقلاء العناصر التي سقطت تحت نير الاستعباد الأجنبي أنهم كانوا مخدوعين بالأماني التي زينها لهم الدساسون الأجانب، فمن الواجب على هؤلاء العقلاء أن يعملوا بقدر استطاعتهم على إيجاد صلة اختيارية قائمة على المصلحة المشتركة بين الجميع تصل بين كل الوطنيات الشرقية الرازحة تحت عبء الاستعمار. ولا يتسنى تحقيق هذا المقصد إلا بالالتفاف حول نواة هذه الوطنيات، وهي قوة الوطنية العثمانية التي تجاهد الآن حق الجهاد لأجل الشرق بأسره، والتي تعلم الدول الأوروبية خطرها على الاستعمار الغربي، فتعمل في السر والعلن وبطرق شتى لمحوها من عالم الوجود حتى لا تظل الوطنيات الشرقية معلقة آمالها بها، وحالمة بالخلاص والاستقلال على يدي هذه الوطنية المسلحة القوية.
والالتفاف المنشود حول هذه الوطنية لا يكون بالقول أو بالتمني، بل يكون بتعضيدها تعضيدًا ناجعًا يضمن لها النجاة من الموقف الحرج الذي أوقفتها أوروبا الناقمة عليها فيه.
الأقليات في الشرق
كانت الأقليات في الشرق من جملة العلل التي تتوسل بها الدول المستعمرة للتداخل في شئون الأمم الشرقية، أو بالأحرى لخلق الأسباب التي تجيز لها التحكم في هذه الأمم، ثم إخضاعها والاستيلاء على بلادها المستقلة بعد مُماحكات تؤدي إلى امتشاق الحسام، ولقد فقهت هذه العناصر التي يطلقون عليها اسم الأقليات بعد تجارب عديدة أنها آلات مسخرة للدول الغربية المستعمرة، وأن الغرم كله عليها والغنم لتلك الدول التي تستخدمها، وأن البلاد إذا ما سقطت في قبضة الدولة المغيرة لا تلبث هذه الأقلية أن تتساوى في المعاملة بالأكثرية، بل ربما عادت الدولة المستعمرة إلى مراضاة الأكثرية على حساب الأقلية، فأخذت العناصر الصغيرة تتجنب الائتمار بإغراء الدول المستعمرة.
وأهم الأقليات التي فطنت إلى هذه المسألة وحلتها بطريقة التفاهم مع أكثرية الأمة التي تتألف منها مباشرة الأقلية الإسلامية الهندية التي تبلغ ثلث مجموع الأمة الهندية تقريبًا، ثم الأقلية القبطية في مصر.
ولا يسعنا أمام ما فعله إخواننا الأقباط النبلاء العريقون في المجد والوطنية الصادقة أخلاف أولئك الأسلاف الكرام فراعنة وادي النيل العظماء، إلا أن نشدو بالثناء عليهم ونبالغ في تكريمهم، فقد أبدوا من التضامن معنا — نحن إخوانهم في الوطنية وفي الجامعة الشرقية — ما قضى على الدسائس الاستعمارية شرَّ قضاء. وأي لسان لا يتعطر بذكر هؤلاء الأعزاء المحبوبين الذين لم يعد بيننا وبينهم فارق بعد أن اعتنق الصليب الهلال وعانق القس الشيخ، وبعد أن قضت السياسة الاستعمارية بفصل بعض أبطال الوطنية من هؤلاء الإخوان من وظائفهم في الحكومة، لا لعلة سوى سعيهم في تحرير بلادهم! حياهم الله من إخوان أحرار مستقلِّين صادقين.
وبلغ من ذكاء هؤلاء الإخوان وتبصُّرهم وارتباطهم بمجموع الأمة أنهم لم يكتفوا بمجاملة المجموع في مسألة الاكتتاب لأجل الأناضول، بل لقد أصدروا في الإسكندرية أوراق نصيب خصصوا نصف دخلها لهذا الاكتتاب، فكانوا أسبق بهذه الفكرة الحميدة في إكساب الاكتتاب صبغة الاشتراك العام فيه، وهي فكرة جليلة جدًّا سنذكرها لهم بالشكر الجزيل متى حان أوان الجزاء الأوفى.
إلا أن ما جاد به إخواننا الأعزاء الكرام لا يكاد يذكر حتى الآن. ومن المعلوم أنهم أوفر منا ثروة وأقل دَيْنًا، ففي استطاعتهم إذا شاءوا أن يتباروا في مضمار الاكتتاب بل في مضمار المساعدات الخاصة التي تفيد الفائدة الحقيقية المنشودة. فإذا ما ماثلت حميتهم في هذا المجال غيرتهم في ميدان الوطنية فإن عملهم المجيد سيكون باعثًا لإشعال نار النخوة في نفوسنا نحن المسلمين، فنساعد حينئذ إخواننا العثمانيين بما ينفعهم جد النفع.
وليتأكد إخواننا الأقباط أن ما يسدونه من الجميل سيكون دَيْنًا لهم علينا وطَوْقًا ذهبيًّا يطوقون به أعناقنا، فلا يكون بينهم وبيننا في المستقبل أيُّ فارق يفرِّقهم منا. وإذ ذاك يتأكد الطامعون فينا أننا أصبحنا بنعمة الله إخوانًا لا تفرق الأديان بيننا، وليس فينا عناصر مختلفة، ولا أقلية ولا أكثرية، بل كلنا أمة واحدة متَّحِدة في جميع المناهج السياسية.
إلا أن الاستعمار الغربي الذي أخفق في مصر وفي الهند لم يخفق — وا أسفاه — في البلاد العثمانية، إذ لا يزال العنصران الرومي والأرمني يخلقان المشاكل ليجيزا للدول الأوروبية أن ترفع عقائرها صائحة لا أمان لبقاء الأقليات تحت الحكم العثماني الجائر الملوَّث بأدران التعصب الديني الفظيع!
وأي أمان — بل أي تعصب — تستند عليه الدول العاملة على محو الدولة الشرقية الوحيدة التي وقفت حائلًا قويًّا عدة قرون دون تدفق التيار الغربي في البقاع الشرقية؟
أفذلك الأمان الذي يريدونه هو تحكم أقلية عنصرية معادية متفقة مع الأجنبي ملوثة الأكف بالدماء في أكثرية تبلغ تسعة أعشار الأمة أو أربعة أخماسها على الأقل؟
وهل يريدون بلفظة التعصب ذلك الدفاع المشروع عن النفس والنفيس والأهل والولد؟ وأية شريعة في الكون لا تجيز للقوي وللضعيف على السواء حق الدفاع عن النفس؟ وهل من مصلحة العثمانيين الذين تكالبت عليهم المصائب والأهوال أن يضعوا فوق رءوسهم مصيبة أخرى بتحرشهم بالأروام أو بالأرمن في هذا الموقف العصيب؟ أليس من المعقول أنهم بذلوا الجهد الجهيد في تسكين ثائرتهم وإفهامهم حقيقة المقاصد السيئة التي تَرمي إلى إثارتهم للاستفادة من وراء أعمالهم الضارة بهم وبمجموع الأمة والوطن؟ على أن مواطننا العزيز ﻫ. زاده لم يغفل هذا الموضوع، بل ألم به في عرض رسائله الممتعة، إذ ذكر المساعي العديدة التي بذلتها الحكومة الوطنية لتهدئة الأروام المنتشرين على سواحل البحر الأسود، وهم أنفسهم الذين عادوا إلى الهياج مرة أخرى ائتمارا بتحريضات الدسائس الاستعمارية، فاضطرت الحكومة الوطنية بحكم الضرورة إلى تخير أهون الشرَّيْن، فنقلتهم من مواطنهم إلى داخل البلاد، وربما نجم عن انتقالهم من مساقط رءوسهم عدم توفر المواد الغذائية لديهم، فهلك منهم بضع مئات أو بضعة ألوف، وكذلك ربما عمدت الحكومة إلى مقابلة الشدة بمثلها زجرًا واستئصالًا لأسباب الفتنة بتاتًا، وكذلك من المحتمل أن يكون الفريق المسلم من الأهالي لم يطق صبرًا على حرب العصابات الرومية، وهو في أشد حالات الضيق والكرب من جراء الحرب اليونانية العثمانية الحالية، فقابل العدوان بمثله وحمل السلاح ونظم العصابات التي تقتاف آثار العصابات الرومية وتُغِير على قُرَى الأروام منكِّلة بمن تجده فيها.
كل هذا جائز الحدوث إذا صح ما تزعمه الدولة الصائحة الآن والمطالبة بإجراء التحقيق، بيد أن الحكومة الوطنية رفعت صوتها بالتحذير من هذه السياسة الجديدة، التي إنما يراد بها التجسس على القوة الوطنية لمصلحة الدويلة اليونانية! وربما أريد بها كذلك بث الفتن والدسائس أثناء مباشرة التحقيق الوهمي …
وعلى كل حال فإن الأروام والأرمن العثمانيين قد أخلُّوا بواجبهم الوطني، ولم يساووا في الحكمة والتدبر والبصر بالعواقب إخواننا مسلمي الهند وإخواننا الأقباط — وكنت أود أن لا أذكر لفظة الأقباط؛ لأنها تدل على وجود عنصرية في مجموع الشعب المصري، ونحن بفضل الله شعب واحد غير قابل التجزئة — فللأمة الهندية وللشعب المصري أن يفاخرا بوطنيتيهما الصادقتين المتينتين.
شبهات باطلة
روج المسيو سون في صدور الناس أثناء الحرب الكبرى ضلالة يريدون أن يفرقوا بها بين المصريين وإخوانهم العثمانيين ليستعينوا بالأول على الآخرين، ويظهر أن تلك الضلالة قد راجت وتمكَّنت من نفوس أناس كثيرين لا علم لهم بحقائق الدسائس الأجنبية الهائلة ومقدار تفننها وبراعتها وإحكامها. والمظنون أنها أثرت بنوع أخص في عقول شبابنا الأعزَّاء الذين لم يخبروا دخائل أولئك الماكرين المفرقين.
فبينما أنا في غيابة السجن قبيل الهجوم العثماني على قناة السويس إذ أقبل إليَّ نفر في الخفاء يسائلونني عما أشيع من أن العثمانيين إذا دخلوا مصر امتلكوها وأعادوا حكم (الكرباج!) إليها.
قلت هذه ضلالة يراد بها التفريق بيننا وإخواننا القادمين إلينا لإنقاذنا ليستعينوا بنا عليهم. أما حكم الكرباج فلن يعود إلى هذه البلاد مطلقًا.
قيل لي: وهل لم يستعمل الأتراك الكرباج في حكمهم الأول؟
فأجبت: إذا كان الكرباج قد صار من نصيبنا يومًا فقد كان قاع البسفور من نصيب الألوف من الأتراك أنفسهم، وذنب أولئك المغرَقين حبهم لوطنهم ورغبتهم في إزالة حكم الكرباج وأمثاله من الأحكام التي لا تتفق مع روح العدل والإنصاف والحرية. فكل تلك المظالم قد زالت منذ أن نشر الدستور ظلاله على أرجاء الدولة العثمانية، وهيهات أن يعود مرة أخرى؛ لأن أحرار العثمانيين على تمام اليقظة والحذر.
على أن المهم في هذه الدسيسة ليس هو إعادة حكم الكرباج، بل هو عودة العثمانيين إلى إدارة شئون البلاد بأنفسهم؛ لأن مجرد التفكير في هذا الأمر باعث على اشمئزاز النفوس الحرة التي تأبى الخضوع مطلقًا لأي نوع من أنواع السيادة. فالذين أرادوا التفريق أحكموا تلفيق دسيستهم. وحقيقة الأمر أن العثمانيين آتون لإنجاد المصريين وإنقاذهم من الاحتلال الأجنبي لا لاحتلال البلاد المصرية، وبين المصريين والعثمانيين عهود ومواثيق كتابية يرجع عهدها إلى عام ١٩٠٩ بأن تكون الرابطة التي تربط مصر بالدولة العثمانية أشبه شيء بالرابطة التي تربط المجر بالنمسا، فنظام الجيش والبحرية واحد والسياسة الخارجية واحدة، وما عدا ذلك فمصر حرة التصرف في سائر شئونها الخاصة.
وهنالك أمر آخر يجب أن تفهموه وأن تذيعوه في طول البلاد وعرضها، وهو أن العثمانيين مدينون بالجميل العظيم للمصريين في مساعداتهم العظيمة المتوالية، وفي عطفهم الشديد عليهم، وفي دفاعهم المجيد بأقلامهم وألسنتهم عنهم، سواءٌ أفي مصر أم في الخارج، وتطوعهم في سائر الحروب التي أشهرها عليهم أعداءُ الشرق. ومن جهة أخرى يعتقد العثمانيون اعتقادًا جازمًا لا يتحولون عنه البتة أن المصريين أعرق الشعوب الشرقية في المجد وأذكاهم عقلًا وأوسعهم علمًا وأشرفهم نفسًا، فليس من المعقول ولا من المصلحة العامة إخضاع مثل هذا الشعب للسلطة المتحكمة، وإنما المعقول والمفيد الاتفاق مع هذا الشعب الحُرِّ النبيل على ما فيه فائدة الشرق بأسره.
وزيادة على ذلك، فإن بضعة أشخاص من المصريين يديرون شئون الدولة العثمانية إدارةً غير مباشرة، ولهم كلمة مسموعة ورأي نافذ في كل مشروع سياسي ترسمه الدولة العثمانية. وهؤلاء الأشخاص هم الذين سعوا في جمع كلمة العناصر المختلفة التي تتكون منها الأمة العثمانية حول دولتهم وحمل هذه الدولة على إشراك كل هذه العناصر إشراكًا فعليًّا قويًّا في تولي شئون البلاد، فالشعب الذي يكون لأبنائه هذه المنزلة وهذا التأثير في أعمال الدولة العثمانية لا يعقل أن يحاول العثمانيون استعباده.
أما الحملة العثمانية على مصر فلم تكن موجهة ضد المصريين، بل ضد أعداء المصريين، وهي من مقترحات المصريين المقيمين في الأستانة، وقد ظلوا يُلحُّون على وزارة الحربية العثمانية بإرسال هذه الحملة على عجل قبل فوات الفرصة السانحة حتى اضطرت إلى تسيير ما تيسر لها حشده من القوى بسرعة تحت ضغط النفوذ المصري المتسلِّط على الأستانة، وقبل إتمام الاستعداد اللازم لمثل هذا العمل العظيم.
هذا ما أجبت به في ذلك الوقت، أي في أوائل عام ١٩١٥. وأزيد الآن على ما تقدم أن الحملة العثمانية على مصر كانت مصرية بحتة، فكثيرون من ضباطها مصريون وأكثر جنودها مصريون، والذين يديرون شئونها في سوريا مصريون، حتى إن جمال باشا — قائد الجبهة الغربية — كان في مبتدأ الأمر آلة في أيدي المصريين.
وأسباب فشل هذه الحملة انصياع وزارة الحرب العثمانية لأوهام إخواننا المصريين غير الحربيين والشروع في الاشتباك قبل توفر القوة الكافية وقبل تنظيم طرق المواصلات، وقبل إيجاد المقادير العظيمة من الذخائر. والذي أعلمه علمَ اليقين قبل تحركي من الأستانة أن النية كانت معقودة على عدم الشروع في الزحف قبل احتشاد خمسة وعشرين ألف جندي نظامي بسائر أدواتهم وذخائرهم في المرحلة الثالثة، أي خط الهجوم إزاء رفح واجتماع خمسة وعشرين ألفًا أخرى في المرحلة الثانية، وهي بئر سبع، وخمسين ألفًا في المرحلة الأولى، وهي معان، ووصول الأنباء المشعرة بسنوح الفرصة المناسبة للبدء في الهجوم. ولكن إخواننا المصريين المقيمين في الأستانة حملوا وزارة الحرب على مباشرة الهجوم قبل وصول أي نبأ من مصر، وقبل احتشاد أية قوة من القوى المتقدم ذكرها ظنًّا منهم أن المصريين لا يلبثون أن ينهضوا على بكرة أبيهم خلف ظهر العدو، فيسقط العدو بين قوتين عظيمتين قبل استعداده الحربي …
ليس هذا المقام مقام النقد ولا سرد التفاصيل التي لم يحن وقت إيضاحها، بل المراد من إيراد هذه الخلاصة إفهام المصريين أن الدولة التي ضحت نفسها لأجل سواد أعينهم، والتي يتحكم فيها المصريون إلى هذا الحد لا يمكن أن تحاول استعبادهم، وأنها لا تتمنى لمصر وأبنائها إلا السعادة والسمو.
وإذا كان هذا مبلغ حب العثمانيين للمصريين، وهو أقل ما نستطيع أن نبسطه في هذه الملاحظات الوجيزة، فهل يجمل بالمصريين أن يقتصروا على التبرعات اليسيرة التي سخت بها أكفُّهم إلى الآن؟
وأعود إلى إيراد شبهة باطلة كانت قد وقرت في بعض الأذهان في أوائل الحرب الكبرى.
ذهبت قبل اعتقالي إلى إحدى جهات الأرياف زائرًا بعض إخواني، وكان يقطن هذه الجهة جم غفير من إخواننا الأقباط، فلما شعروا بقدومي من الأستانة حديثًا هرعوا إلى مقابلتي وسألوني إذا كان ثمت خوف على حياتهم وأموالهم.
قلت لهم: ممن تخشون؟ فإن كانت خشيتكم من العثمانيين فهم لا يجيئون فاتحين متحكمين، بل منقذين مستعينين بنا. وإن كنتم تخشون من إخوانكم مسلمي مصر، فهذه مسألة أخرى يرجع الحكم فيها إلى سلوككم معهم أثناء الحرب، فإن اعتبرتم أنفسكم وطنيين واشتركتم مع السواد الأعظم من الشعب في شعوره، ولم تجعلوا للدسائس الأجنبية سبيلًا عليكم فأنتم آمنون أبد الدهر وإن مالأتم العدو وتأثرتم بوساوسه كنتم أعداء مصر وعوملتم معاملة الخونة المارقين.
وَهَبُوا أن العثمانيين سيديرون مدة الحرب شئون مصر، وهذا أمر مستحيل، فإن البلاد العثمانية غاصة بالإسرائيليين والأرمن والبلغاريين والأروام الذين لا يعاملون إلا بالرحمة والعدل والمساواة، ولا يقع اعتداء على أحد منهم إلا إذا أراد أن يمالئ ذوي المطامع الاستعمارية على خيانة دولته ووطنه، فحينئذ يكون عقابه كعقاب المسلم الذي يرتكب هذا الجرم نفسه.
ولقد اطمأنت نفوس إخواننا الذين لاقوني على إثر هذا البيان. ولست أدري إذا كانوا قد أذاعوه سرًّا في الجهات الأخرى أم لم يذيعوه، ألا إنهم التزموا طول مدة الحرب وبعد انتهائها أقوم خطة، والتحموا بكتلة الأمة حتى لا يكاد الأجنبي يجد فارقًا يفرق بينهم وبين إخوانهم المسلمين.
ولا أزال أذكر أن أناسًا منهم خفوا إلى ملاقاتي عقب تخلصي من الاعتقال، وعرض عليَّ بعضهم مساعدات مالية، وكثرت عليَّ تهنئاتهم.
فالآن أذكِّر هؤلاء الإخوان الأعزاء وبقية إخواننا الأقباط مرة أخرى بوجوب التضافر مع إخوانهم المسلمين على إعانة الوطنيين العثمانيين الذين يجاهدون في سبيل الشرق أجمع.
بقي أن نلمَّ بنقطة أخرى، وهي أن نفرًا من أبناء وطننا الذين كانوا قد ذهبوا إلى الأستانة في حرب البلقان أو قبلها أو بعدها، وهم يحسبون أنهم سيعودون إلى مسقط رأسهم بالأموال الوفيرة، أو سيتنسَّمون قمم العلياء والمجد في بلاد الدولة العثمانية بمجرد وصولهم إلى عاصمتها، أو بعد قضاء بضعة أشهر أو سنوات قلائل في وظائف حكومتها، سواءٌ أكانوا من ذوي العلم والكفاءة أم من الشذَّاذ السابحين في لجج الأوهام قد أخفقوا في حسبانهم، فعادوا ناقمين على الدولة واصمين رجالها بكل نقيصة، منفِّرين القلوب منها، داعين إلى عدم الاهتمام بها والاتفاق معها، فهؤلاء الذين آثروا مطامعهم الشخصية على مصالح أمتهم ووطنهم قد ساعدوا أعداءنا مساعدة لم يكونوا يحلُمون بها، من غير أن ينفقوا في سبيلها درهمًا واحدًا. ولقد حادثت كثيرين منهم وأقنعتهم بوجوب العدول عن مطاعنهم الجارحة، وأفهمتهم أن الدولة العثمانية لا تملك خزائن الأرض، ولا يسعها أن تخلق الوظائف جزافًا، ولا أن تنزع ذوي الكفاءة من موظفيها القائمين بالأعمال لتحملهم هم محل أولئك الموظفين بمجرد وصولهم إلى الأستانة واندماجهم في سلك التوظف. كما أني أوضحت لهم أن العثمانيين من كبار إلى صغار ليسوا سوى آدميين غير معصومين من الخطأ، وأنهم قضوا أعوامًا طوالًا تحت ضغط الاستبداد محرومين من التجارب، وأن واجبنا الوطني يقتضي التجاوز عن هفواتهم، إن لم يكن لمجرد كونهم إخواننا في الدين وفي الجامعة الشرقية الكبرى، فعلى الأقل لمجرد مصلحتنا الوطنية الخاصة. فكانوا يتظاهرون بالاقتناع، ولكني كنت أعلم أنهم لا يلبثون أن يفارقوا المجلس الذي يجمعني بهم حتى يعاودوا خطتهم المُضِرَّة.
ويوجد أفراد قلائل من الصحفيين، الذين كانوا ينتحلون النزعة الوطنية في مبتدأ ظهورهم، شهروا نصلًا ماضيًا على الرابطة المتينة التي كانت تربطنا بإخواننا العثمانيين، زاعمين أن مصلحة مصر تستدعي نفض أيدي أبنائها من المسألة العثمانية بتاتًا؛ لأن مصر قد انفصلت من الدولة العثمانية التي أصبحت من جهة أخرى غير قادرة على حفظ كيانها وأخذوا يتقوَّلون على المرحوم فريد بك أقوالًا يبرأ منها شلو فريد بك في قبره.
ولقد قلنا وكررنا القول ولا نزال نقول إن العثمانيين لا يطمعون في مصر ولا يحلمون باستعباد المصريين، فالجلبة المغرضة التي أثار غبارها أولئك المفرقون لم يكن لها سبب ولا نفع، اللهم إلا انتفاع المستعمرين منها بجعلنا أمامهم وجهًا لوجه، وإخراج المسألة المصرية من صبغتها الدولية القائمة على المعاهدات والاتفاقات التي أبرمتها الدول الأوروبية مع الدولة العثمانية.
على أن الشعب المصري الحازم البصير بعواقب الأمور لم يلبث أن فطن إلى الحقيقة، فضرب بتلك الأقوال المفرقة أديم الثرى، وأظهر شعوره القوي بأدلة محسوسة قضت على تلك الدسيسة، وأهم وآخر تلك الأدلة الاكتتاب للأناضول الذي أخذ يزداد ويعم نطاقه يومًا بعد يوم، حتى لنكاد نحسب أن هذا الاكتتاب سيبلغ على توالي الأيام مبلغ ما حدث من قبيله في الحرب البلقانية.
وقد كان من جراء هذه اليقظة المباركة أن خرست الألسنة المفرقة، واضطرت إلى مجاراة التيار الجارف الذي اكتسحهم أمامه.
فهاتان الفئتان هما اللتان أحذر منهما أبناء وطني المخلصين الأذكياء الكرام، الذين دلت التجارب العديدة على أنهم لا ينخدعون بالأقوال المدسوسة عليهم المموهة بطلاء الوطنية الفتان!
الجامعة الإسلامية
الجامعة الإسلامية أو الاتحاد الإسلامي هي غول أوروبا المستعمِرة، فما تكاد تسمع هذه اللفظة حتى تقوم وتقعد من الفَرَق والهَلَع والغَيْظ والغضب، زاعمة أن الإسلام سينقضُّ على المسيحية فيمزِّقها إربًا إربًا!
ونحن إذا تصدينا لخوض هذا المبحث، فلا نريد بهذا التصدي إزالة رعب أوروبا من هذا الغول الوهمي، أو إفهامها حقيقة الجامعة الإسلامية والغرض المقصود من تحقيقها؛ لأننا لو شئنا هذا الأمر لوضعنا كتابًا خاصًّا فيه باللغة الفرنسوية التي هي أكثر اللغات الأوروبية انتشارًا، بل نريد إزالة ما قد يكون عالقًا بأذهان إخواننا الشرقيين غير المسلمين، ولا سيما مواطنينا الأقباط والإسرائيليين، كما نريد أن نشرح للذين لا يدركون فائدة هذه الجامعة من المسلمين على العموم والمصريين منهم على الأخص ما ينتجه تحققها من الفوائد التي لا يمكن تقديرها للشرق بأسره.
من تأمل في حقيقة الدين الإسلامي وجده دستورًا اجتماعيًّا يراد به خير المجتمع البشري. وليس أدل على هذه النظرية التي يحق أن تعتبر بديهية من النظر في قواعد الإسلام الخمس: فالشهادتان ترميان إلى توحيد القوة التي تدبر الوجود وإبعادها عن التجزُّؤ والتجسُّد والتمثُّل؛ للقضاء على المعتقدات الوثنية التي كانت تستوجب الجهل والجمود والخنوع للاستعباد، فلم يعد من الممكن بمقتضى هذا الدستور أن يزعم أحد الناس أنه إله أو شريك الإله أو أخوه أو ابنه أو مثاله، بل أصبح سائر الناس متساوين من الملك إلى الصعلوك ومن النبي إلى أجهل إنسان، وإنما الذي يرفع المرء عمله النافع للمجتمع البشري، ثم إلى الاعتراف برسالة محمد الذي إذا لم يعترف بها المسلم لا يجد نفسه مرغمًا بحكم الدين للأخذ بما حضَّ عليه والانتهاء عما منع عنه. ثم الصلاة بلوازمها، وهي الاغتسال والوضوء وطهارة الثياب، وهذه اللوازم من جملة قانون الصحة، والصلاة نفسها حركات رياضية منشطة مقوية للأعصاب. والصوم تنقية للدماء وتطهير للجوف، وتذكير بألم المسغبة. والزكاة رحمة من جانب الأغنياء بالفقراء. والحج هو الركن الأهم في هذا الدين من الوجهة الاجتماعية البحتة؛ لأنه اجتماع المسلمين في صعيد واحد لمقصد وحيد؛ فهنالك يتعارفون ويتآلفون ويتناجون بما فيه مصلحتهم جميعًا.
وإذا كان المسلمون في هذا العصر قد جهلوا هذه الفوائد الجليلة التي يشتمل عليها دينهم الاجتماعي، وأغفلوا التمسك بها، فإن إهمالهم فائدة الحج التي لا يمكن تقديرها قد عاد عليهم بأوخم العواقب.
إذا كان المسلمون في العهد الأول لم يعقدوا المؤتمرات في موسم الحج، ولم يتشاوروا ويتفاوضوا في شئون الأمة الإسلامية أجمعها، فما ذلك إلا لأن الإسلام كان من الشوكة والمنعة في المرتبة التي تغنيه عن تشاور أبنائه وتفاوضهم في الذود عن حياضه، وفي التآزر والتناصر لإنقاذ بعضهم بعضًا. فلم يكن ثمت باعث على الجامعة الإسلامية؛ لأن قوة الخلافة كانت تجمع كلمة المسلمين كافة، وكان هذا الاتحاد المقدس خير وسيلة لحفظ كيان الإسلام وسلامة بلاده من كل عدوان.
فلما انقسمت الجمهورية الإسلامية إلى ثلاث خلافات وعدة ممالك وإمارات، دعت الحاجة إلى البحث في مسألة الجامعة الإسلامية، ليتعارف الجمهور الإسلامي، ويتفاهم ويعاضد بعضه بعضًا.
فمسألة الجامعة الإسلامية ليست مسألة تعصب ديني كما يصورها بعض الواهمين من الأوروبيين، ولا يقصد بها قتل المسيحيين أو إجبارهم على اعتناق الدين الإسلامي قَسْرًا أو الإغارة على القارة الأوروبية واكتساحها، كما حدث في عهد بعض ملوك السلجوقيين وبعض السلاطين العثمانيين، بل هي رابطة تربط جميع العناصر الإسلامية بعضها ببعض، فيصبح مجموعهم قويًّا لا يطمع فيه الطامعون.
قد يقال هنا إن الإسلام دين السيف والقوة وإنه انتشر بسواعد أبنائه أكثر من انتشاره بالدعوة والتبشير، فمحاولة جمع كلمته هي محاولة إعادة قوة الاعتداء الأولى إليه، فالجامعة الإسلامية إذن خطر كبير.
وهذه الشبهة إنما تتبادر إلى أذهان الذين لا يعرفون الإسلام على حقيقته، فالإسلام ليس بدين السيف، وما قام محمد في بادئ أمره والسيف في يده يدعو الناس إلى اتباعه قسرًا، بل لقد أخذ يدعو الناس تارة في الخفاء وأخرى في العلن: إلى توحيد الله، وترك العادات المستقبحة، والجنوح إلى العدل والإخاء، وعدم قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وتجنب اعتداء بعضهم على أعراض البعض. فهال سروات قريش — وهم خيار العرب إذ ذاك — قيام محمد من بينهم بأمر يرفع قدره على سائر العرب، بل ينشر ذكره في الخافقين، وحسدوه وعزَّ على نفوسهم الأبية أن تطيعه، فسخروا منه وكذَّبوه وتحرَّشوا به وآذوه، حتى اضطر إلى أن يهاجر من مكة في نفر من رفاقه إلى يثرب. وهناك علت كلمته وكثُر مناصروه، فاشتد مشائخ العرب حسدًا له وموجدة عليه وعلى أصحابه، وأبوا إلا أن ينكِّلوا به جميعًا، فكان ما لا بد من حدوثه، وهو دفع العدوان بالقوة، فالمسألة إذن مقصورة على دفع الشر. ويكفي أن نلفت الأنظار إلى ما جاء في القرآن من أمثال قوله تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ووَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وإِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ولَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ إلى غير ذلك مما يثبت أن الدين الإسلامي دستور اجتماعي يراد به الخير العام، وأن لا سبيل إلى حمل الناس على اتباع هذا الدستور بالقوة، بل الذي ينبغي على الداعين إلى هذا الدستور أن يبينوا محاسنه ويقيموا الدليل على صحة قواعده، فمن شاء بعد ذلك أن يتبعه فعل، ومن لم يشأ فهو حر في إرادته، على شرط أن لا يتخذ من مجافاته هذا الدستور سببًا للتحرش بالآخذين به والداعين إليه، فإذا ما جنح إلى المشاكسة والمعاداة فعلى كل مسلم حينئذ أن يرد العدوان بكل ما في استطاعته من حول وقوة؛ لأن هذا الدستور يأبى على الآخذين به أن يكونوا أذلة صغار النفوس.
على أن المسلمين الآن في حالة لا تجعلهم يفكرون أثناء اجتماعهم في الاعتداء على أحد، بل في الطرق التي تمكنهم من البقاء على وجه الكرة الأرضية. فإذا سلب منهم هذا الحق بالمثل فقد أريد محوهم من الوجود، ولن تقابل هذه الإرادة إلا إرادة التشبث بالبقاء.
أما العناصر غير الإسلامية الهادئة في أحضان الشعوب الإسلامية، فهذه ستَلبَثُ آمنة مطمئنة ما دامت راضية بمقاسمة مواطنيها حظهم في حالتي السرَّاء والضراء، وعاملة على سلامة الوطن وسعادته وسموه.
وإذا ألقت هذه العناصر بأبصارها إلى العهود المنصرمة، لتتذكر الحوادث الفردية التي اقترفها بعض الملوك أو الأمراء والقواد والوزراء المسلمين في إبَّان الجهل والظلم والاستبداد، لتجعلها مقياسًا لما يمكن حدوثه في عهد الجامعة الإسلامية، أو بالأحرى في عهد الجمهورية الإسلامية الكبرى، فإنها تخطئ في هذا القياس جدَّ الخطأ؛ لأنها لو وجهت بأنظارها إلى الحوادث الأخرى التي كانت تقع في تلك العصور المظلمة، إلى جانب الكوارث التي أصابت أفرادًا من العناصر غير المسلمة، لرأت أن أولئك الملوك الطغاة المستبدِّين كانوا يصادرون الوزراء والقواد ويستبيحون أموالهم ودماءهم بغير محاكمة ولا لعلة، سوى انحرافهم عليهم، فالظلم إذن كان عامًّا لا خاصًّا. بل لو ألقت هذه العناصر نظرة منصفة إلى أوروبا نفسها في تلك الأعصر لوجدت محكمة التفتيش تفعل ما لا يستطيع وصفه قلمُنا، ولرأت لويس الرابع عشر يستأصل شأفة البروتستانتيين كافة من فرنسا في عشية وضحاها، ولرأت إنجلترا البروتستانتية تحاول القضاء على العنصر الكاثوليكي، بل لو أنصفوا لتذكروا أن الروسيا المستبدة أبادت عشرات الألوف من الإسرائيليين في أوائل هذا القرن، القرن العشرين؛ قرن المدنية والعلم والاختراع، قرن الكهرباء والراديوم والطيارات الحربية والفناطيس السيَّارة والمدافع الرشاشة والغازات الخانقة! بل لعلهم يتذكرون قيام الإنجليز على الإسرائيليين منذ عدة سنوات فقط في بلاد الغال!
ولكنهم إذا استبعدوا هذه الحوادث الفردية وجدوا تاريخ الصدور الأولى من الإسلام حافلة بنوادر عجيبة من التسامح الإسلامي، وعطف المسلمين على العناصر الصغيرة المندمجة فيهم، فقد اتخذ أمراء المسلمين الوزراء والكتاب والأطباء بل القواد بالمثل من غير المسلمين.
بل لقد بلغ من جنوح ملوك المسلمين إلى مَهَرَة الصناع من غير المسلمين أن اصطفى محمد الفاتح أحد المهندسين الفنيين البيزانطيين ووثق به، وعهد إليه صنع مدافع جيشه الذي فتح بيزانطة أي القسطنطينية.
وهذا الغازي مصطفى كمال باشا قد عهد إلى مهندس أوروبي تشييد بيته الخلوي بأدوات معمارية خلقها ذلك المهندس الأوروبي خلقًا.
ولا حاجة بنا إلى ذكر استوزار محمد علي باشا أحد الأقباط، واستوزار إسماعيل باشا نوبار وتكران ويعقوب أرتين وسواهم، ولا إلى ذكر استوزار الحكومة العثمانية الدستورية سليمان البستاني أفندي وبساريا أفندي وسواهما من الأروام والأرمن.
أما الحوادث الموجبة للأسف التي تكرر وقوعها في البلاد العثمانية، فهذه منشؤها الدسائس الأجنبية، ولا شأن مطلقًا للتعصب الديني فيها، ولقد حدثت أمور من أمثالها في الهند، وأحدثت المكائد الاستعمارية فظيعة من قبيلها أثناء الثورة العرابية، وكادت تحدث أشياء أخرى مماثلة لها في عدة مرار أخرى خاتمتها في عام ١٩١١، لولا أن أنعم الله على عناصر هذا الشعب النبيل بمِنَّة الرزانة والتدبر.
ولسائل أن يسأل: ولماذا تكون هذه الجامعة إسلامية ولا تكون شرقية ما دامت فائدتها عائدة على الشرق بأكمله، وما دامت البلاد الإسلامية مقطونة بعناصر أخرى غير إسلامية؟ وألا تكون الفائدة أعظم إذا ما انضمت الأمم الكبرى الوثنية في آسيا وأفريقيا إلى هذه الجامعة العظيمة؟ وألا تمنع مثل هذه الجامعة كل تقول وتنفي عنها صبغة التعصب الديني؟!
والرد على هذه الأسئلة المعقولة في منتهى البساطة: فمن ذا الذي — من المسلمين — لا يريد أن يكون الشرق كتلة واحدة تقف في وجه الغرب وتصد تيار مطامعه؟ لقد حاول عبد الحميد أن يُوجِد هذه الرابطة العظمى؛ فبعث بالباخرة أرطغرل العثمانية إلى اليابان تحمل وفدًا يصحب هدايا قيمة إلى الميكادو، ولكن تلك الباخرة غرقت وهي على مقربة من البلاد اليابانية، وكان هذا المشروع منذ ثلاثين حولًا تقريبًا. وأراد عبد الحميد أن يعود إلى تنفيذ هذه الفكرة مرة أخرى، إلا أن المشاغل العديدة التي كانت الدول المستعمرة تخلقها للدولة العثمانية حالت دون تحقيقها، فهذه الجامعة الواسعة أحب إلى كل مسلم غيور على مصلحة وطنه من جهة، وعلى مصالح الشرق أجمع من جهة أخرى من تلك الجامعة المحدودة؛ بيد أن هنالك حائلًا قويًّا يحول دون تحقيق هذه الأمنية، وذلك أن مثل هذه الجامعة تحتاج إلى أحد أمرين؛ أولهما: عقول مستنيرة تدرك فائدتها، وتحتم من تلقاء نفسها على الشعوب غير الإسلامية أن ترتبط بها بمحض اختيارها، وهذا ما لا يتوفر في أغلب الشعوب الشرقية مسلمة وغير مسلمة، وثانيهما: وجود سلطة روحية قوية تجبر النفوس بالإرهاب من جانب — وبالترغيب من جانب آخر — على الارتباط بها، وهذه السلطة لا تتوفر إلا في الدين الإسلامي الذي يُرهب بالنار ويُرغب بالنعيم.
على أننا نتمنى من صميم الفؤاد أن يتوفق ذوو العقول السامية في اليابان وفي البلاد العثمانية إلى إيجاد هذه الجامعة الكبرى، التي لا نقول باستحالة وجودها وبصعوبته، بل نرى وجودها ميسورًا إذا صحت العزائم وتفاهمت سائر العناصر الشرقية بواسطة الأمتين العظيمتين المستنيرتين اليابانية والعثمانية. وإلى أن تبرز هذه الجامعة الكبرى إلى حيز الوجود لا يحسن بنا أن نقف مكتوفي السواعد لأجل ما يقال عن الجامعة الإسلامية من الأقاويل التي لا نصيب لها من الصحة، في حين أننا لا نريد بها، كما بيَّنَّا، سوى الدفاع عن استقلال الشعوب الشرقية بأجمعها، بل الذي يجب هو العمل بكل ما في الوسع لإيجادها واغتنام فوائدها.
والآن فَلْنَتَناجَ فيما بيننا نحن المسلمين: يحسب أناس منا أن الجامعة الإسلامية وهم، وأنها إذا تحققت، من باب الفرض، كان شرها أعظم من نفعها، وأن مثل هذه المسألة تليق بالأعصر الوسطى لا بعصر المدنية والاشتراكية والمشاعية، هذا العصر الذي قضى على الأديان وأبادها، وإنما يليق بهذا العصر تحرير الأوطان وتحضيرها وتزويدها بأوسع ما يستطاع من ضروب العلوم والفنون.
فلنواجه هذه الاعتراضات بروية وإنصاف: ما هي الجامعة الإسلامية؟ أهي اجتماع للصلاة أو للوعظ والإرشاد أو للتنفير من الخمر والميسر والفحشاء؟ كلا الجامعة الإسلامية هي اتفاق كلمة الإسلام على تحرير بلاده وشعوبه من الاستعمار والاستعباد، وسواءٌ اجتمع المسلمون في مكان واحد، أم تفاهموا بالمراسلات، أو بما تنشره صحفهم وكتبهم، فقد اتَّحَدت كلمتهم وتكونت الجامعة الإسلامية. ولقد يسخر البعض من هذا الإيضاح ذاهبًا إلى أن شعوبًا كثيرة متحدة كلماتهم ومتَّفقة أفكارهم، ومع ذلك فلم يتحرر واحد منها، فهل يعقل أن العالم الإسلامي إذا أجمع على كلمة واحدة صارت شعوبه وبلاده بمجرد هذا الإجماع حرة مستقلة؟ والجواب على هذا الاعتراض أن الاتحاد لا يتم إلا إذا تحققت معانيه وإلا فهو تفرق. فهذا الجسد الإنساني مثلًا لولا تضامن سائر أعضائه، بل مجموع ذراته لما أصبح كتلة واحدة حية متحركة شاعرة. فكل جزء من الجسد يقوم بواجبه للمجموع، فإذا ما أخل أحد الأعضاء بواجبه ولم يقم عضو آخر بمهمته دبَّ دبيب التخاذل والضعف في سائر أجزاء الجسد، وآل به الأمر إلى الانحلال فالزوال.
ومع ذلك فما لنا ولهذه القضايا المنطقية؟ ألا نرى بأعيننا في كل يوم المؤتمرات التي تعقدها دول أوروبا التي كانت متعادية متقاتلة بالأمس لإزالة أسباب الجفاء ولإصلاح ما أفسدته الحرب ولإنعاش الحالة الاقتصادية في أوروبا؟ إذن فهنالك جامعة أوروبية تنظر في مصلحة أوروبا، وهذه الجامعة تريد أن توسع دائرتها لتصير جامعة غربية بإدخال أمريكا في عقدها، ولكنها لا تريد أن تتسع لأكثر من ذلك، أي إنها لا تقبل أن تدخل دائرتها أي دولة شرقية.
واليابان؟ أليست دولة شرقية؟ ألم تحضر مؤتمرات أوروبا؟ فهل هي من طينة خاصة لم تجبل منها أراضي الشرق وأقوامه؟
نعم إنها من تربة خاصة، من تربة القوة والعزم! اليابان دولة شرقية، إلا أنها أفسحت لنفسها مكانًا في مؤتمرات أوروبا بنصل البتار، فمتى بلغنا شأو اليابان تفتحت لنا أبواب المؤتمرات، بل تفتحت لنا قلوب الأمم! أنسينا يوم أن دخل أنور باشا أدرنة وقد حظرت عليه أوروبا دخولها فقال: «لقد دخلت بحد السيف ولن أخرج من هنا إلا بحد السيف.» فصمت الجميع وبقيت أدرنة عثمانية! على أن إنجلترا هي التي تجتذب اليابان إلى جانبها لتستفيد صوتها في الشئون التي يراد الفصل فيها في المؤتمرات. أما شئون أوروبا خاصة فمن الجلي أن اليابان ليس لها نصيب من النظر فيها.
إن الاشتراكية والمشاعية ليستا سوى مبدأين من مبادئ الجامعة الإسلامية، فيهما زيادة يسيرة لا تتفق وروح الإسلام، ونحن نرى أن هاتين الجامعتين تعقدان المؤتمرات في كل آونة، فتزداد روابطهما إحكامًا ويكثر أشياعهما حتى لتوشكا أن تغمرا أوروبا الاستعمارية بتيارهما الجارف. فلماذا لا نحاول نحن بالمثل أن تكون لنا جامعة تشمل جميع العالم الإسلامي؟ ليكن كل فرد منا كيفما شاء إن متعبدًا وإن عربيدًا، فمرجع الأمر في أخلاقه وأعماله الخاصة إلى نفسه ثم إلى الله، فلو شاء الله لهداه، ولو أريد له الضلال لبقي طول حياته ضالًّا، والله يتكفل جزاءه إن عقابًا وإن ثوابًا. ولكن ليكن كل واحد منا مسلمًا قلبًا، وليعمل لنفسه ولأهله ولوطنه ولمجموع الأمة الإسلامية. وهذه الأعمال لا تنجح أمام الطرق الاستعمارية الحديثة إلا إذا كانت محمية بقوة منظمة فعالة، وهذه لا تتوفر إلا في الجامعة الإسلامية.
إن الجامعة الإسلامية تستطيع تنشيط أعمال الأفراد الحاصلين على رءوس أموال، وإيجاد أعمال لمن ليست لهم رءوس أموال، وإمداد الأسرات المحتاجة بما يعوزها من مطالب الحياة والتكفل بتربية الأيتام وتثقيفهم وتغذية عقولهم بضروب الفنون التي تعينهم على خوض غمار الحياة، وعلى القيام بالأعمال التي تعود بالفوائد العظيمة على المجموع. والجامعة الإسلامية هي التي تستطيع أن توفر لكل شعب أسباب المطالبة الفعلية بالحرية والاستقلال.
ولنتكلم الآن بطريقة أوضح من هذا الإجمال المبهم لتنقشع آخر غمامة من الشك عن أفكار المترددين والساخرين: بماذا تستقل الشعوب والأوطان؟ بالمظاهرات والاحتجاجات وبحملات الصحف وحماسة الخطباء فقط؟ كلا إننا لم نسمع أن أحد بلاد العالم تحرر بهذه الوسائل الابتدائية الضعيفة، ولا سيما في هذا العصر الذي أصبح الاستعمار فيه فنًّا منظمًا قائمًا على قواعد علمية مستخلَصة من التجارب العديدة. فالدولة المستعمرة إذا رأت الشعب الذي تستعبده قد أكثر من التظاهر والاحتجاج صادرت حريته تارة، ثم خففت عنه قيود المصادرة تارة أخرى، ونفت خطباءه آونة، ثم عفت عنهم وردتهم إلى مساقط رءوسهم آونة أخرى، وابتاعت الصحف والأقلام، وبثت العيون والأرصاد، ونشرت الرسائل والكتب، وجاملت الشعور العام، وأرضت المطامع الوطنية إرضاءً ظاهريًّا، وخدَّرت أعصاب الشعب، ولا تزال على هذه الوتيرة ما بين جذب وإرخاء، والعام يتلو العام والجيل يعقبه الجيل، وكل جيل ينسى مجهودات سلفه، وإذا ألمَّ بشيء منها استخف بها واعتدها من السفاسف، وحَسِب أن مجهوداته هو موصلة إلى الأمنية المنشودة، ولكنه لا يلبث أن تخور عزيمته عندما يرى صوته ذاهبًا سدى في فضاء لا نهاية له، وكذلك تعمد الدولة المستعمرة إلى إيجاد الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، وإلى خلق الأحزاب التي تتخاذل وتتحاقد ويعمل بعضها على محو بعض، ويرمي بعضها بعضًا بالمروق والخيانة والارتشاء وممالأة العدو، وأخيرًا تزول النزعة الاستقلالية على تمادي الزمن، ولا يعود الشعب يحلم إلا بشيء من التوسعة، ثم يستصوب أن تكون له حقوق أبناء الدولة المستعمرة أنفسهم، ليخلصوا من كل قيد وكل إرهاق، فتكون هذه أخرى مراحل الاستعمار، إذ يصبح الوطن المستعمر جزءًا من الدولة المالكة. ومن أبرع الطرق التي يتوسل بها الاستعمار الحديث استمالته الشعوب النزاعة إلى الاستقلال من طريق نزعتها باستئجاره أشد الصحف تطرفًا، فتضرب على نغمة الجمهور علنًا وتنحرف به عن السبيل القويم بطريقة غير محسوسة؛ مثال ذلك أن يكون الشعب مطالبًا باستقلاله مصممًا على إدراك حريته، غير قابل أن يساوم فيها أو يقبل أية توسعة في الحكم الإداري يجود به الاستعمار عليه، فتنادي الصحف المتطرفة في الوطنية بمطلبي الشعب جهارًا، ولكنها تقبل المناقشة فيما تعرضه السلطة المستعمرة من المنح، فتنقل الجمهور بهذه الوسيلة من الجوهر إلى العرض، وبهذه الطريقة تتسمم الأفكار وتنحرف عن جادتها المثلى.
ومن هذا البيان يتضح أن التخلص من أشراك الاستعمار الحديث الفني المنظم بوسائل التظاهر والاحتجاج والنشر بواسطة الصحافة والكتب وبث الحماسة في النفوس بالخطب مستحيل، وأن اعتماد أي شعب في مطالبته بالحرية والاستقلال على مجهوداته فقط غير مؤدٍّ إلى هذين المطلبين العسيرين. ولو تصفحنا تواريخ سائر الأمم والشعوب التي تحررت واستقلت بلادها لوجدناها استعانت في بذل جهودها ببعض الدول القوية التي تكون في حالة خلف وعداء مع الدولة التي تحتل بلادها، فمن قبيل ذلك أن الولايات المتحدة التي لبثت تجاهد أعظم جهاد أكثر من نصف قرن بلا مرة حتى إذا وصل لافييت في عام ١٧٧٦ على رأس فريق كبير من متطوعة الفرنسويين، ثم تلاه روكامبو على رأس فرقة كاملة من الجنود، وأعقبهما أسطول فرنسوي تحت قيادة ديستنج، وكذلك أرسلت فرنسا إلى الجيش المجاهد مقادير جسيمة من الأسلحة والذخائر والأدوات الحربية، ابتدأ دور الجهاد العملي النافع، وأخذ جيش الولايات المتحدة ابتداءً من عام ١٧٧٧ ينتصر تحت قيادة واشنجتون على الجيش البريطاني.
وكذلك كان شأن إيطاليا في تحررها واستقلالها، فإن مجهودات مازيني وغاريبالدي وكافور لم تؤدِّ إلى الغرض المقصود إلا بتداخل فرنسا في المسألة الإيطالية منذ منتصف القرن الماضي.
واليونان لم تحرر إلا في سنة ١٨٢٩ على إثر اجتماع أساطيل أوروبا في مياه نافارين وإحراقها الأسطول العثماني المصري.
ورومانيا لم تستقلَّ إلا بعد حرب القرم سنة ١٨٥٥.
وبلغاريا والصرب لم تدركا حريتيهما إلا بعد الحرب العثمانية الروسية في سنة ١٨٧٨.
وهذه بولونيا لبثت عشرات السنين تعالج الخلاص وتضرم نيران الثورات المتتالية على غير جدوى حتى تم تحريرها بعد انتهاء الحرب الكبرى.
ولسنا الآن في مقام الشرح المسهب لنورد تفاصيل الأعمال التي قامت بها كل دولة لمساعدة البلد الذي أرادت تحريره، ولكننا أوردنا هذه السطور القلائل لكي ندرك الحقائق ولا نسبح في لُجة الحلم الكاذب، حاسبين أننا سنتغلب بمجهوداتنا المتفرقة على الدول المستعمرة المتألبة علينا.
فإذا أدركنا الحقائق وجب علينا أن نتساءل عن الدول التي يمكنها أن تظاهرنا وتمدنا بكل الوسائل اللازمة لأعمال الاستقلال، فإذا ما ولَّيْنا وجوهنا شطر أية دولة غربية نجدها تأبى إمدادنا بيد المعونة إلا إذا كانت تريد ثمنًا باهظًا، فكأننا لا نتفلَّت من قبضة استعمارية إلا لنسقط في قبضة أخرى قد تكون شرًّا من الأولى؛ فلم يبق أمامنا إلا أن نوجه أبصارنا صوب الدول الشرقية. ومَنْ بين تلك الدول التي تستطيع أن تنبري لمساعدتنا مساعدة فعالة؟ فأما اليابان فدولة لا هم لها إلا تقليد إنجلترا في الاستعمار والأنانية، وقد سَرَّها الآن أنها صارت في عداد الدول الكبرى، فلا تريد أن تثير ثائرة سخطهن عليها وارتيابهن فيها، وأما فارس فلم تكد تنجو من أشراك الاستعمار إلا بالجهد الجهيد بمعونة أحرار العثمانيين، سواءٌ أفي الحرب الكبرى أم فيما بعدها إلى العام الماضي، وأما الأفغان فبعد أن ساعدها أحرار العثمانيين على الإفلات من الإشراف الأجنبي شرعوا ينظمون شئونها وينيرون أبناءها بأنوار العلوم. فلم تبق أمامنا إذن سوى الدولة العثمانية القوية من قبل، والتي اعتادت منذ أزمان طوال على المكافحة والمصابرة في سبيل الذَّوْد عن الإسلام والشرق. فهذه الدولة هي التي يجب أن تكون مركز دائرة الجامعة الإسلامية، ولكن هذا المركز لا يجوز أن يصير متحركًا خوفًا من تلف هذه الدائرة، بل ينبغي أن يبقى ثابتًا مكينًا في مُستقرِّه، ولن يثبته ويمكنه سوى التفاف العالم الإسلامي حوله، وهذا الالتفاف لا يتسنى إلا إذا قام كل مسلم بما يجب عليه من العمل لإعادة تشييد هذه الدولة بما تبعثر من أنقاضها؛ فالأمر موكول إلى المسلمين إن شاءوا أبرزوه من حيز التفكير والتمني إلى حيز الظهور والعمل، وإن شاءوا قضوا عليه القضاء الأخير؛ فينفرط عقد الإسلام ولا يعود بعد اليوم إلى الالتئام، وتمسي آمال الشعوب الإسلامية في الحرية والاستقلال أضغاث أحلام وأوهامًا في أوهام …
وهنا ننبه المسلمين قاطبة — وأبناء العرب منهم خاصة — إلى أن أوروبا التي وقفت الآن موقف المكاشرة والعداء للوطنيين العثمانيين، زاعمة أنهم اقترفوا مظالم هائلة، قضت على مئات الألوف من الأروام والأرمن من رجال إلى نساء ومن شيوخ إلى أطفال، وراغبة باتحادها مع الولايات المتحدة الأمريكية إجراء تحقيق في دائرة البقاع العثمانية التي يتولى الدفاع عنها الوطنيون العثمانيون، تحاول أن تضرب الجامعة الإسلامية ضربة ساحقة بإيجاد جامعة عربية تحت الإشراف الأوروبي، فهذه الجامعة التي أراد الله خيرًا بالمسلمين كافة إذ كشف لهم أسرارها بسبب المطامع الاستعمارية المتضاربة التي جعلت كلتا الدولتين المتناظرتين في الشرق تفضح أعمال الأخرى وتعرقل مساعيها، ولكن هذا الاختلاف القائم بينهما ربما لا يدوم طويلًا، فقد تتفقان على قسمة توافق مصلحتيهما كما حدث فيما سبق، إذ اتفقت إنجلترا وفرنسا على حساب مصر ومراكش في سنة ١٩٠٤، وكما اتفقت فرنسا وألمانيا في سنة ١٩١١ على حساب مراكش والكونغو، فالاتفاق غير مستحيل بين دول الغرب، ولكنه مستحيل بينهن وبين أمم الشرق وشعوبها.
فلينتهز المسلمون كافة هذه الفرصة السانحة، وليعضدوا الوطنيين العثمانيين بكل ما في وسعهم من ضروب التعضيد. وليعلم المسلمون أن كل ما ينفقونه في هذا السبيل يعود عليهم بالخيرات المادية التي لا يمكن تقديرها، وأن خير دليل مقنع للمسلمين بإثمار الأموال التي يمدون بها إخوتهم المجاهدين قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.
بعد كتابة هذا الموضوع قرأت في الصحف نبأً سرني جدَّ السرور، وهو تبرع أهل بيروت بثلاثة آلاف ليرة للهلال الأحمر العثماني، وإرسالهم هذا التبرع إلى أنقرة بواسطة متصرف مرسين.
فهذا التبرع شمل، من غير شك، المسلم والمسيحي والإسرائيلي من سكان بيروت، وهو عمل جليل يدل على إخلاص وبعد نظر أبناء ذلك الثغر المشهورين من قديم الزمن بحميَّتهم ونخوتهم وشهامتهم وإخلاصهم للدولة العثمانية، على الرغم من وجود أفراد كانوا يعملون لتنفير القلوب منها وخدمة المصالح الأجنبية. ولقد تحققت بنفسي في أوائل الحرب الكبرى مقدار ما تنطوي عليه قلوب أهالي ذلك الثغر من الولاء لدولة الخلافة، فلا غرو إذا أيدوا الآن بالدليل القاطع المحسوس صحة نظري على الرغم من مركزهم الدقيق. فحيا الله همم أولئك الغيورين الذين ضربوا خير الأمثال لسواهم من بقية السوريين خاصة وسائر العرب كافة. إنهم في حماستهم وأريحيتهم يكادون يماثلون إخوانهم السكندريين مثال النخوة والشهامة والمروءة.
الشرق والغرب
الشرق مهد المدنيات القديمة والحديثة، ومنبع الحكمة الفياض، ودار النبوة، ومنبت الشجاعة، وأرض الخصب والكنوز، التي لا يعلم مقدار ثروتها إلا الذي أودعها جوف هذه الأرض المباركة، الشرق الذي تخلقت من تربته المقدسة وشمسه المنعشة المنضجة وأمواهه الحافلة بعناصر الحياة أول نسمة تسعى، الشرق الذي أرسل أبناءه يجوبون أنحاء الكرة الأرضية معمِّرين وأنهضت همم قيوله أعظم الآثار التي بقيت على توالي الأدهار، هذا الشرق المهيب العجيب يبلغ أمره مع ترامي أطرافه ووفرة أبنائه أن يصبح نهبًا مقسمًا مستعبدًا للغرب الذي لا يدانيه اتساعًا ولا يحاكيه غنى وسكانًا! أليس من المدهش — بل من المخجل — أن تتسلط بقاع الغرب البالغة مساحتها نيفًا وتسعة وخمسين مليون كيلومتر مربع ونفوسها ٦١٥ مليونًا على ديار الشرق البالغة ثلاثة وثمانين مليونًا من الكيلومترات وأنفسها ٩٦٢ مليون نسمة؟ أليس هذا منتهى الصغار وغاية الفضيحة والعار؟ فبماذا تعلل هذا الحادث الغريب؟ أبما يرتئيه بعض علماء الغرب الاجتماعيين من أن شدة الحرارة في الشرق هي التي تولد خمود الذهن وفتور الهمم؟ ولكن الشرق ليس مقصورًا على منطقة خط الاستواء التي يشتد حرها إلى درجة هائلة يمكن أن يرجح لأجلها هذا الرأي، بل في الشرق جهات يشتد فيها البرد إلى درجة لا يمكن تحمُّلها، وفيه جهات أخرى متناهية في اعتدال الجو وطيب المناخ. وثمت أمر يكذِّب هذا الزعم، وهو ظهور محمد ﷺ وأصحابه الأجلة في البلاد العربية المشهورة بشدة حرها. على أن معظم بقاع خط الاستواء صحارى أو بحيرات واسعة قليلة السكان، فلا يحكم على قارتين عظيمتين بمنطقة لا تكاد تشغل خمس مساحتها، ولا يكاد يقطنها خمسة في المائة من مجموع سكانهما. فالعلة إذن ليست علة الحر أو البرد، بل ترجع إلى اندفاع تيار من الخمول في الشرق اكتسح عزائم أبنائه في طريقه فأدى بهم إلى أن تتحكم هولاندا التي لا يتجاوز أبناؤها بضعة ملايين في جاوه التي يبلغ أبناؤها أربعين مليونًا! وإلى أن يحكم ستون ألف إنجليزي ما يقارب مائتي مليون من الهنود! وإلى أن يسوس عشرة آلاف بريطاني أبناء وادي النيل البالغين عشرين مليونًا! ولو اتسع نطاق هذا التذييل للشرح الطويل لأفضنا في سرد عجائب هذا الخمول، إلا أننا نقتصر على القول بأن هذه الأعداد القليلة من الغربيين إنما تدير شئون مئات الألوف من الشرقيين بسواعد الشرقيين أنفسهم، فإنجلترا لم تضرب الدولة العثمانية إلا بالعرب والسوريين والمصريين والهنود، ولم تخمد كل حركة في مصر والهند إلا بالشرطة المصرية والجيش المصري في مصر والشرطة الهندية والجيش الهندي في الهند. فنشاط الغربيين واستخدامهم ذكاءهم في مصالح دولهم هما السببان الجوهريان لسؤددهم واستيلائهم على البقاع الشرقية.
وكنا نود أن نرى اليابان موجهة هِمَمَها إلى إنهاض الأمم الشرقية الكابية بإنارة عقول أبنائها بأنوار العلوم والفنون وبتشجيعها أحرار الشرقيين على الاستمرار في مجهوداتهم الشريفة حتى تثمر، ويكون الفضل في تحرير الشرق واستقلاله راجعًا إليها، لا أن نراها نافضة يديها من هذا الأمر، ولا همَّ لها إلا موالاة الدول الغربية المستعمرة من جهة والعمل في السر والخفاء للاستيلاء على الأمصار الشرقية المجاورة لها …
ولهذا اتجهت أبصار الشرق إلى المجاهدين العثمانيين الذين تريد أوروبا المستعمرة أن تقضي عليهم القضاء الأخير، لتأمن مغبَّة التفاف قلوب الشرقيين كافة حولهم.
لقد تدفق تيار الهنود من وثنيين إلى مسلمين قبيل الحرب الكبرى نحو البلاد العثمانية كما ابتدأ تيار الجاويين والجزائريين والتونسيين يتدفق صوبها، فخشيت الدول المستعمرة بأس هذا الحادث الجديد، وأخذت تفكر في الوسائل التي تمنع بها شره، فجاءتها الحرب الكبرى بنتائج لم تكن لتحلم بها، إذ تمزقت الدولة العثمانية شر ممزق، ولم يبق إلا أن تقضي على الثمالة المتخلفة منها. فإذا شاء الشرقيون أن يستبقوا هذه البقية لمصلحتهم العامة فليشدوا أزرها وليمدوها بوسائل الحياة والقوة، والظهور على أعدائها الذين هم أعداء الشرق بأسره وأعداء السلام العام.
الوطنيون العثمانيون
إن موقف الوطنيين العثمانيين دقيق جدًّا، فهم محصورون من كل جانب بأعداء طامعين فيهم، أو خاشين بأسهم يدارونهم حتى تأزف ساعة القضاء الأخيرة، فينقضُّوا عليهم انقضاض الطيور الجوارح على الشلو الممزق في الخلاء. وإذا كان الروسيون قد تظاهروا بمحالفتهم وممالأتهم فما هذا التظاهر إلا ستار كاذب يستر حقيقة آمالهم، فقد انفضح رياؤهم في مؤتمر جنوة إذ وقفوا موقف الريب والتردد إزاء المسألة العثمانية، فلم يجعلوا وجود العثمانيين في حلقة الدول المجتمعة شرطًا أساسيًّا لصحة عقد المؤتمر، ولما ارتفع صوت نجم الدين عارف بك بالاحتجاج لم يحرك تشيشرين لسانه بكلمة مؤيدة للاحتجاج. بل استخدمت الروسيا سكون العثمانيين في هذه الآونة للتغرير بأوروبا موهمتها أنها ذات النفوذ الأعلى في الشرق، وأنها قادرة على تخدير أعصابه إذا أرضتها أوروبا وبذلت لها الأموال الطائلة. وهذه فرنسا صديقة الإسلام وحليفة الوطنية العثمانية، وأولى الأمم التي رفعت صوتها للمدافعة عن حقوق الإنسان، كانت في صف الدول التي لم تسمح بدخول العثمانيين مؤتمر جنوة، ولماذا؟ لأنهم شرقيون! ولأنهم لا يزالون في حالة حرب مع أوروبا! فهل اليابانيون غربيون؟ وهل العثمانيون حتى الآن في حالة حرب مع فرنسا؟ ومع إيطاليا؟ ومع الروسيا؟ ومع ألمانيا؟ ومع البلجيك؟ إلخ … أليست الحقيقة أن لا صداقة بين الغرب والشرق ما دام الأول طامعًا والثاني مطموعًا فيه، وما دام الأول مساومًا والثاني مادة التساوم؟ أجل هذه هي الحقيقة التي لا ريب فيها والتي يجب علينا — نحن الشرقيين — أن نتَّعِظ بها.
فبعد معركة سقاريا المشهورة التي لم تؤدِّ إلى أية نتيجة حاسمة وقف أولئك الأبطال المحروبون يَنْشُدون الإنصاف والمرحمة من الإنسانية الأوروبية! ولكن هذه الإنسانية صخرية القلب جامدة الشعور لا ترقى ولا تتحرك إلا عندما يتحرك الأروام والأرمن من وراء الجبهة العثمانية ويحاول الوطنيون إخماد حركاتهم! فلماذا إذن لم يستمرَّ الوطنيون العثمانيون على مطاردة العدو المغير على بلادهم وإجلائه عن إسكي شهر وأفيون قرة حصار وبورصه وسواها؟ بل لماذا استسلموا إلى الأوهام التي لا يمكن تحققها؟ ذلك لأن القوة التي تحرك الجسم قد قاربت النفاد، فهي في حاجة إلى التجديد، وإلى أن يتيسر لهؤلاء الأبطال توفير القوة اللازمة للشروع في الهجوم يتوكئون على ذلك العكاز الضعيف، عكاز الإنسانية الاستعمارية! فالمسألة إذن اضطرارية لا اختيارية. وإذا شئنا أن نعرف مقدار ما تقتضيه الحرب فما علينا إلا أن نرجع إلى آخر قتال أصبحت معلوماته حقائق ثابتة، وهو القتال الذي دار بين الروسيين واليابانيين. ففي معركة موكدن تقاضى قتل وجرح مائة ألف رجل ثمانين مليون رصاصة، فكأنما تعطيل رجل واحد من الاستمرار على القتال يتطلب ثمانمائة رصاصة. فالحرب الآن ليست منازلة قِرن لقِرن بالسيف والرمح والمجن والدرع، ولا تراميًا بالنبال والمقاليع والمجانيق، بل تبارٍ في إحكام الخطة الحربية وكثرة الجنود ووفرة الآلات الحربية وذخائرها. وهذه كلها أمور متوقف وجودها في هذا الزمان على المال. فمن للوطنيين العثمانيين بالمال الكافي؟ لهذا وجهنا أغلب أقوالنا ولا نزال نوجهها إلى إنهاض همم المسلمين واستدرار أكفهم السخية.
وبما أن المالية العثمانية لا تساعد على توفير وسائل الهجوم فقد استصوب أولئك الأبطال أن يرابطوا لعدوهم حتى يجدوا لهم فرصة تمكنهم من مهاجمته أو يشرع هو في مواثبتهم، فيكبدوه أفدح خسارة يستطيعونها، ولكن هذه السياسة القائمة على التدبر والحكمة إذا أفادت إلى بضعة أشهر من المؤكد أنها تعود بأوخم العواقب إذا امتدت إلى عام فأكثر. ولهذا كنا ننتظر حدوث طارئ جديد ما بين آونة وأخرى إذ لا بد من المجازفة بعد هذا الانتظار، فقد انقضى الشتاء والربيع وتناصف الصيف فإذا لم يَجِدَّ شأن آخر أقبل الشتاء وحال بزمهريره دون القيام بعمل حربي مثمر. ومن المعلوم أن الأروام يحتلون الآن أغنى البقاع العثمانية وأشهر مدن الأناضول. والأصقاع التي تحت سلطة الوطنيين — إذا استثنينا منها أطنه وأضاليا — تكاد تكون أكثر البلاد العثمانية إقفارًا وإمحالًا. ومن جهة أخرى فإن أوروبا تجتهد في هذه الفترة في تخدير أعصاب الشرق وإخماد حركاته الوطنية، فإذا لم يتحرك إعصار مكتسح يفسد خطط أوروبا الاستعمارية ويجمع الوطنيات الشرقية في سلك قوي يحول دون انفراطها، فإن هذه الوطنيات، التي كادت تنهض وتتقوى، تسقط السقطة الأخيرة وتتلاشى قواها بتاتًا.
أمام حكومة الأناضول الآن المشكلة التي خلقتها إنجلترا وتريد أن تتوكأ عليها فيما تضمره لهذه الحكومة التي تلتف حولها قلوب الهنود والمصريين من قديم الزمن، وأصبحت تلتف حولها قلوب الفلسطينيين والعراقيين منذ عامين، وهذه المشكلة هي ما نسميه اضطهاد الأروام والأرمن. ولكن هذه المشكلة التي أحدثت دويًّا هائلًا في الغرب عند ظهورها واسترعت جميع الأسماع لم تلبث أن ظهرت أوجه بطلانها، فالعدد المزعوم فناؤه من الأروام لا يوجد خُمسه في سائر الجهات المقول بحدوث الاضطهاد فيها، ومن جهة أخرى فقد انجلى الغبار عن الأمريكيَّيْن اللذين لا يستبعد أن يكونا أجيرين للمطامع الاستعمارية، فإنهما هما اللذان لفَّقا تلك الإشاعة الباطلة التي كذبها الغربيون النقية أكفهم وجيوبهم من أدران الأغراض. فالتحقيق المطلوب القيام به، والذي وافقت عليه الدول الغربية بالإجماع — ولا عبرة بما أدخله بعض الدول من شرط التحقيق في البقاع التي تحت النفوذ اليوناني الآن — إما أن تقبله حكومة الأناضول، على خلاف ما بدأت بإعلانه، وفي هذه الحالة لا بد للأصابع البريطانية أن تشتغل في الخفاء فتعكر جو الأناضول وتفسد صفاء القلوب العثمانية، وإما أن ترفضه بتاتًا كما أعلنت من قبل، ولن يصيبها من هذا الرفض فوق ما هي مصابة به، وحينئذٍ تُسيغ الدولة البريطانية لنفسها مساعدة اليونانيين. وعلى كل حال فإن هذه المشكلة الحديثة أرجأت النظر في التوفيق بين العثمانيين واليونانيين، وإنه لأشأم وأتعس توفيق …
ونجم عن هذه المشكلة الملفقة اعتداء الأسطول اليوناني على صامسون، وقد قيل من مدة إن لحكومة أنقرة أسطولًا … ولكن هذا القول لا يعدو حد التعلل بالوهم، فمن الممكن أن تكون حكومة الأناضول قد ابتاعت من الروسيين بضع غواصات أو استوهبتها شيئًا من قبيل ذلك، ولكن هذه الغواصات القلائل لا تعتبر أسطولًا، ولا يمكنها أن تخرج عن حد التعرض للسفن اليونانية في البحر الأسود على الأخص، وربما في بعض سواحل بحر الأرخبيل، فمسألة الأسطول العثماني لا تزال إذن تصميمًا متوقِّفًا تحقُّقه على مقدرة حكومة أنقرة من الوجهة المالية، فإذا انحلت هذه العقدة، وحلها في استطاعة العالم الإسلامي، وإذا توفرت المواد الحربية لدى جيش الغزاة المدافعين عن الإسلام والشرق، فعلى اليونان وعلى الاستعمار الغربي العفاء، وإذا لم يتوفر شيء من ذلك فعلى الإسلام والشرق السلام. عطف الله الشرقيين على المجاهدين الأبرار.