الرسالة الرابعة
وأخيرًا أشرقت أنوار أنقرة، العاصمة المكرمة!
لقد كان بلوغها في منتصف الساعة الحادية عشرة تقريبًا من صبيحة الأمس.
وكان الجو بديعًا رائقًا وتهلل الربيع الآسيوي يفيض سحره الباهر على جميع الأشياء ويغرق الطبيعة في لجة من الضوء الساطع.
ووقف القطار في الخط الحديدي الأخير على بعد مائة متر عن المحطة، ليتمكن الوفد من الاتصال مباشرة بالشعب الناسل من كل حدب وصوب، بقصد أداء شعيرة التحية إليه، وقد احتشد هذا الشعب المتماوج على طول الطريق الكبرى الممتدة بموازاة السكة الحديدية.
وكان رئيس الوفد واقفًا متحفزًا للنزول عند باب المركبة. في حين أن جميع الأعضاء التزموا التأخر عنه قليلًا. وما كاد القطار يقف حتى بادر بكر سامي بك بالانحدار من المركبة. ورُئِيَ حينئذ ذلك الرجل ذو العقل المتناهي في السمو والذكاء، الذي استطاع منذ عامين ونصف حول أن يتناول بين يديه القديرتين أزمة العالم الإسلامي، وهو قادم لملاقاة رئيس الوفد.
ومصطفى كمال باشا ذو قامة متوسطة، رقيق، أبيض اللون مشرب بالحمرة الوردية، له عينان زرقاوان حادتان نظرتهما تكتنه الخفايا وتخرق الحجب الكثيفة. وجبينه المرتفع دال على النبوغ يكسوه قلبق أسود ذو صفة ممتازة جد الامتياز متسع أعلاه. ويشتمل ملبسًا جبليًّا سنجابي اللون ضاربًا إلى القتمة في غاية البساطة، إلا أنه بديع الهندام. وفي يده قفاز مصطبغ بلون الملبس وعصا صغيرة من الخيزران.
فتقدم بقدم مطمئنة وصافح رئيس الوفد مصافحة يتمشى فيها الود والولاء. فانحنى هذا معانقًا مقبلًا بحب وإخلاص ذلك الذي التفت حوله شخصه آمال الجميع.
وبعد مصطفى كمال باشا هرع الوزراء والضباط والنواب والسراة ووجهاء أنقرة إلى التسليم على رسل السلام.
وعلى الرغم من الحفاوة والبشاشة وألفاظ الترحيب العذبة التي استقبل بها أهالي أنقرة الوفد، فقد كانت نظراتهم جافة تنطبع فيها سيما الأوصاب التي كابدوها في ليالي العمل الموصول خلال كل المكافحات التي تتابعت.
وهؤلاء الأهالي المتجمعون في أنقرة يكوِّنون مجموعًا عظيم الشأن صحت عزيمته على القيام بالواجب المفروض عليه كيفما كان هذا الواجب شاقًّا هائلًا.
ثم عطف مصطفى كمال باشا على أعضاء الوفد يقرئهم السلام وما هم إلا الخلاصة المتخيرة من باقة الأمة؛ ما بين سياسيين وشراع وماليين وضباط وصحفيين وكتمة أسرار، وبالجملة كل أولئك كانوا يمثلون في الخارج جزءًا من الوطن المحبوب غير منفصل عنه، تقدموا بالمثل وأدوا واجب التحية المشفوعة بالاحترام.
وكان هذا التلاقي في محطة أنقرة بعد الأخطار المتعددة والصعاب المتنوعة التي صار التغلب عليها في الأسابيع الأخيرة مما يدعو إلى تحرك النفوس بشدة، وأخذت القلوب تسبح في لجة من الابتهاج عند رؤية هذه الأفواج المتماوجة — التي خيل إليها نظرًا للحوادث المستجيشة الغضب التي تتلاحق بعضها ببعض — أنها لن تتلاقى إلا بعد غياب غير محدود.
وطفق هؤلاء الرجال الأباة اليقنون بعظمة المهمة المضطلعون بها، المعذبون على الدوام بسبب تشربهم روح الحرية والاستقلال، والذين إنما يجاهدون لأجل العالم الإسلامي بأسره، يتصفحون وجوه القادمين الجدد بنظرات مستشفة مستفسرة.
وظلت مراسم الاستقبال بضع دقائق، ثم صحب الزعيم الأكبر بكر سامي بك يمنة وفوزي باشا يسرة، وسار بهما محاذيًا الخط الحديدي منتحيًا وجهة منزله الصغير الظريف الناهض على جانب الطريق الكبرى غير بعيد عن المحطة.
وسار الوزراء والنواب وأعضاء الوفد جميعًا في آثار أولئك الرؤساء الثلاثة زمرًا متلاحقة.
وبعد المرور ببضعة بيوت وكذلك بفندق صغير ذي شكل حديث الطراز بدا منزل محاط برحبة بديعة النسق على مدخلها جنود لازيون ذوو مناظر باهرة يتولون الحراسة.
وقبل اجتياز الرتاج استقبل مصطفى كمال باشا جمهور المؤتمين به مسلمًا عليهم مستثنيًا منهم الوزراء ورئيس الوفد وه زاده، الذين بعد أن اجتازوا الرحبة دخلوا مسكن الزعيم الأكبر.
وعند مرورهم حمل الجنود اللازيون أسلحتهم مؤدين التحية العسكرية. وهم فتيان غر الوجوه أصحاء الأجساد لونهم نحاسي، مفتولو السواعد، مدربون تدريبًا لا يعتوره نقص، تزدهي قاماتهم العظيمة بثيابهم البديعة المحوكة من الصوف الأسود المطرز، وتتجمل خصورهم بمناطق من الفضة المهدبة، وتبدو على وجوههم سيما الأبهة والإباء والتجهم تحت ظلال عمائمهم ذات الشكل الخاص بهم، وهي سوداء اللون ذات أهداب من النضار تسترسل خلفها عذبات مطرزة بوشي خاص.
وتقدم الزعيم الأكبر مستقيمًا في صعوده إلى الطبقة الأولى التي يوجد على يسار مدخلها بهو الاستقبال. وكل ما هو موجود في هذا المكان مطبوع بطابع الوطنية البحتة؛ فالأثاث والأواني، والأبسطة والطنافس، والستائر، بل أقل الأدوات الصغيرة والزخارف كلها مكسوة بالصبغة البلدية، وهي من صنع هذه البلاد، وهدايا مقدمة إليه كل خاماتها من نتاج الأناضول، وقد أبدعت صنعها الأكف الأناضولية في خلال هذه السنوات العصيبة.
والمتأمل في أثاث هذا المكان لا يلبث أن يجد بصره قد اتجه إلى الطنفسة التي تكسو مائدة الوسط، وذلك لأن براعة التطريز جملتها بتسطير الآية الشريفة الشهيرة التي تم الاتفاق على اتخاذها شعارًا مقدسًا منذ ابتداء هذه الحرب الغاشمة وهي: نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ.
وعلى مقربة من الأرائك المرقشة بنقط ذهبية سفعاء تنهض موائد صغيرة مستديرة من الخشب المنقوش أو من المرمر الأخضر، وهو الحجر الرمزي لدى البكطاشيين، وضعت فوقها منافض سجائر وعلب كبريت، وكلها من الصناعات الأناضولية، وهي على جانب عظيم من دقة الفن وسلامة الذوق.
وفوق الأريكة الكبيرة — الممتدة يمنة والمتبوئ فيها بكر سامي بك وأحد الوزراء — تتراءى لوحة رمزية معلقة في الجدار. ويحوي إطار هذه اللوحة قطعة من نسيج الحرير الرقيق الأبيض بارز فوقها رسم سيفين متعانقين على شكل صليبي، وأحدهما مبتور، وقد كتبت فيما بين قبضتي السيفين الموشيين بالحرير الأسود جملة معناها «إن سيف الحق يمحق دائمًا سيف الباطل.»
وما ذلك الباطل إلا محاولة الاستيلاء وهمًا على أمة لها حق الحياة وقد حكم عليها بالفناء بالنار والحديد.
وأمام هذه اللوحة ذات المغزيين المتمازجين اللذين يوضحان فكرة الاستقلال، يحلق الفكر في جو التأمل حتى يصل إلى الحكم الجازم بالموت، الذي أصدرته أوروبا منذ بضعة أسابيع سالفة؛ لأنه لا يوجد بين الإسلام والإغريق ما يجيز التردد!
ثم أخذ مصطفى كمال باشا بعد أن استقر المجلس بالحضور يتكلم ويفرق على الجميع — وهذا أمر مدهش — سجائر مصرية من أفخر نوع.
وبعد الانتهاء من تناول القهوة صار الكلام عامًّا بين سائر الموجودين، فجرى الحديث عن السفر الطويل الذي تم بمشقة، وعن الحفاوة التي أظهرتها أوروبا للوفد، ثم العودة إلى الأرض المقدسة والتحمس العظيم الذي أبداه الأهالي المطالبون بحقوقهم التاريخية المقررة من أزمان طوال.
وكان الزعيم الأكبر تارة يصغي إلى ما يقال، وآونة يتكلم بما يقتضيه الحال، وقد قال أخيرًا في معرض الإيضاح: «أجل إن الأمة بأسرها قد أدركت — بعد العذاب والجهاد ونشر الحقيقة بكل الوسائل الممكنة — أن أعداءها يريدون إخماد أنفاسها، ولذا فإنها هبت بحذافيرها كرجل واحد مرتمية في حومة الوغى عندما اشتد الهجوم اليوناني.»
ولما خلا الجو لهؤلاء الثلاثة قال الزعيم الأكبر: «على الرغم من شدة تعبك فإني مستبقيك لتتناول طعام الغداء معي. ولكن لا تخف فإني سأخفف عنك العبء فأتولى الكلام بدلًا منك في هذا اليوم … لقد ذهب فكري إليك، وأخذت أتصور مقدار دهشك منذ ما يصل إلى سمعك نبأ تراجع الجيش المدبر عسكريًّا قبل وقعة أين أوني.»
ثم ضحك وقال: «وهذا هو السبب في الإشارة البرقية التي أرسلتها إليك ليزول روعك وتظل مطمئنًّا.»
قال بكر سامي بك مستدركًا: «على أننا لم تصل إلينا أية إشارة برقية، سوى تلك التي تحمل إلينا على جناحيها السعيدين نبأ الانتصار الذي تكلل به ملتحم إسكي شهر، بيد أن اضطرابنا كان بالتأكيد عظيمًا؛ لأننا لم نكن ندرك شيئًا من أسرار هذه الحركات العسكرية التي ظلت خافية علينا تمام الخفاء. إن ثقتنا بجيشنا لم تطرأ عليها خلجة من الشك آونة ما، إلا أن الأنباء التي نمت إلينا عن الارتداد الأول بعد المفاوضات التي دارت في مؤتمر لوندره، واعترف أثناءها خصومنا أنفسهم جهرة بما لجنودنا الشجعان من القيمة العظيمة في القتال، كان من شأنها أن تحرك في نفوسنا عاطفتي القلق والاكتئاب.»
فابتسم الزعيم الأكبر ابتسامة منطوية على ألم ومرارة ثم قال: «في الوقت المناسب الذي كانت أوروبا تعرض فيه علينا مقترحات للصلح سمحت للأغارقة بأن يتخذوا خطة الهجوم ضدنا، فما الذي كنا صرنا إليه الآن لو أننا استسلمنا إلى وعودها الخلابة وسبحنا في لجة من الأماني الكواذب؟ فأية فائدة أمكن استخلاصها من خداع وغش بعض أولئك الممثلين الهزليين البكم الذين ظهروا بأدوارهم المفتعلة في مسرح مؤتمر لوندره الشهير، الذي صار لنا درسًا تاريخيًّا لا يمكن تناسيه؟»
وبعد ذلك شرع الزعيم الأكبر قيامًا بالواجب يشرح بعناية سائر التفاصيل المختصة بالأعمال الحربية، وأوضح بدقة فوق العادة التقلبات التي تراوحت بينها المعركة.
وهنا تغير المنظر: فبعد أن كان الذي يتكلم بلطافة ووداعة هو رب البيت الحفي بأضيافه ذو الشمائل الرقيقة، إذا به قد تحول إلى القائد الذي يؤيد بالحوادث المؤكدة ما قام به جنوده من الأعمال الباهرة في القتال الأخير. وليظهر كيف اضطر العدو إلى الهجوم في النقطة التي كان هذا الزعيم الحازم قد عينها بالتدقيق، وطبقًا للخطة التي رسمها هو بنفسه، وأخذ يذكر الطريقة الحمقاء التي اندفع الإغريقيون بمقتضاها في تراميهم إلى الأمام، وهم يسيرون على غير هدى، وليس لهم مقصد معين يرمون إلى إدراكه، معتمدين على تفوقهم العددي، متباهين بأدواتهم الحربية الخيالية، إلى غير ذلك.
ثم قال مصطفى كمال باشا مستتبعًا بيانه: «لقد قام كل رجل من رجالنا الغيورين بواجبه خير قيام، منجزًا عمله بمنتهى الإحكام، والأوامر التي كانت تصدر لم يكن ثمت حاجة لمراقبة تنفيذها لأنها كانت تنفذ من تلقاء نفسها؛ لأن الضباط الشبان ماهرون وذوو إقدام باهر، وقد أتت المدفعية بالمعجزات الباهرات، وبهذه المناسبة أذكر أن رئيس إحدى البطاريات رأى مدمني الأعداء يستخدمون مدافع الهاون بمهارة ونجاح، فجمع كل مدافعه وصوب ألسنة نيرانها على مدافع العدو الهاونية، وبعد انتهاء المعركة بحث في مواقع العدو فألفى ثلثي تلك الفوهات الفظيعة أصبحت في حكم العدم.
ولقد أحسن العدو إلى نفسه بالاعتراف المتقدم ذكره عن كفاءة عساكرنا وشجاعتهم، وهذا الاعتراف الذي لا سبيل إلى إخفائه يشرف قدره.
وأما من جهة الفرسان فقد جدوا في آثار الأعداء يضربون في أقفيتهم ولا يدعون لهم سبيلًا إلى الراحة أو لم شعثهم، حتى بلغ من اشتداد الحرج على الإغريقيين أنهم لم يستطيعوا أثناء إدبارهم أمام فرساننا أن يقتلوا أحدًا أو يحرقوا دارًا. وظلت هذه حالتهم حتى صدر الأمر إلى الخيالة بالكف عن مطاردة أولئك الشاردين. ومذ هذه الآونة أي مذ الانقطاع عن المطاردة ابتدأ إغراق البيوت بالبترول ثم إرسال ألسنة اللهب عليها.
وفي نهاية الساعة الأولى بعد الظهر نزل الحاضرون إلى الطابق الأرضي حيث توجد فيه قاعة الطعام، وهي قائمة منظومة على النسق العثماني البحت.
وقد أعدت المائدة لجلوس اثني عشر شخصًا، وتقدمت المآكل الشهية بنظام مراعى فيه أحدث ترتيب عصري.
وعم الحديث بين الجميع وألم بسائر الموضوعات، إلا أن الموضوع الذي أصاب الاهتمام أكثر من سواه هو الكلام على الخطوط الحديدية التي تم مدها أثناء الحرب، ثم يلي هذا الموضوع التكلم على رقي الصناعات الوطنية.
وبعد الفراغ من أكلة الغداء صعد المجتمعون إلى قاعة الاستقبال المرقشة بالنقط الذهبية حيث شربوا القهوة، وبعد هنيهات وجيزة استأذن الجميع الزعيم الأكبر في الانصراف فسمح لهم قائلًا: «تفضلوا واستريحو من أتعابكم ولتكن مقابلتكم غدًا على أتم سرور.»
وقد خصصت سيارته المنتظرة أمام الباب لنقل اثنين من أضيافه، وكان الذي يتولى إدارة هذه السيارة سواق عسكري، وكان على جانب هذا السواق جندي جالسًا لا يبدي حراكًا.
وانطلق الأتوموبيل مخترقًا الشارع الأكبر ومتجهًا نحو المسكن الذي خصص لسكنى رئيس الوفد، وهذا المسكن كائن في مدينة أنقرة القديمة.
وكان قد خف إلى منزل هذا الرئيس جمهور كبير من سائر طبقات الناس قادمين من كل ناحية لرؤيته. وعلى الرغم من التعب الذي لا يوصف لم يتهيأ للنوم إلا بعد منتصف الليل بمدة طويلة، عقب انفضاض المجتمعين، وهم حاملون بين جوانحهم عواطف مختلفة حسبما تأثرت به نفوسهم من هذا السفر الشاق المؤلم في أقصى أنحاء أوروبا.