الرسالة السابعة
لقد شخص الزعيم الأكبر منذ ثلاثة أيام إلى جبهة القتال حيث ينبغي أن يتلاقى هنالك مع عصمت باشا ورأفت باشا للفصل في مسألة توحيد القيادة.
وغادر قطاره الخاص البهي أنقرة في منتصف الليل، وصحبته ثلة من ضباط أركان الحرب؛ لأنه كان لا بد له من انتهاز هذه الفرصة للتفتيش في الخطوط المعرضة لنيران العدو. والسكينة التي كانت قد أعقبت الهزيمة اليونانية انتهت على ما يظهر. وبدأت الألسنة تتداول الروايات المختصة بالمناوشات الحديثة التي وقعت بين الطرفين، فكان هذا داعيًا لإنهاء القرار المتخذ من قبل، بعد تدبر وبحث طويلين في الحالة العامة، القاضي بوجوب الرجوع إلى قيادة وحيدة عليا. وهذه مسألة دقيقة وأمر عسير الحل؛ لأن ذينك الرئيسين العسكريين قائدان عظيمان من ذوي الكفاءة السامية.
وكان وقود القطار الذي يقل مصطفى كمال باشا إلى إسكي شهر من الخشب. والقاطرة الألمانية الضخمة كانت تلتهم مقدارًا جسيمًا من هذه المادة الثمينة.
وعلى هذا شرعوا يستأصلون أشجار الغابات، ويحتطبون من تلك الأشجار الباسقات العقيقة المتخلفة من عهود بعيدة والتي لها منزلة عزيزة في القلوب، كما أنهم نسفوا جزوع الأرومات المكينة في جوف الغبراء بالديناميت.
وهذا هو السبب في رؤية الجنود على مقربة من الأجمات ومن المحطات منهمكين في نشر الأحطاب المخصصة للمدن.
وفي بعض الجهات لا ترى البتة آثار تلك الغابات العظيمة التي كان يؤمها ذوو الأفكار السامية والدراويش والشعراء من رجال العهد الغابر ليستكينوا إلى أفيائها، وكذلك أشجار السنديان الضخمة التي يلجأ إلى ظلالها الملطفة الداعية إلى الهدوء والراحة الموسيقاريون المطربة أصواتهم وآلات عزيفهم، مستافين عبق الربيع المنعش السليم من شوائب الأدران، ومسترسلين في نظم أشعارهم المرقصة المطربة الخالدة على مر الدهور.
كل ذلك من شأن الماضي …
أما الآن فمن الواجب المجاهدة في سبيل الحياة، ولا بد من الرضا بتقديم الضحايا القيمة لأجل التوفيق في هذه المجاهدة! آه من تلك الكلمة الهائلة: الحياة …
وهل يجوز للمرء بعد كل ما تقدم أن يستمطر تلك الإجماعات فيوض العبرات؟ إذن لا تبقى في المآقي مدامع كافية لإزرافها على حالة أولئك الذين كان يحبهم.
•••
ما أكثر الأشياء الواجب تحقيقها منذ عهد المطاردة واقتفاء الأثر! إن الكنوز المختزنة في جوف آسيا الصغرى لكافية جد الكفاية بمفردها لإيفاء كل المطالب وسد كل أماكن الفراغ، ولكن ألا يقضي استخراجها من مكامنها أن تتوفر الأيدي العاملة وتتفرغ لها، ويظل العاملون هادئين آمنين متمتعين بقسط من الراحة ومن الرغد ليتمكنوا من المثابرة على القيام بأشغالهم النافعة؟
على أن الواقع المشاهد خلاف ذلك؛ فمنذ أن وضعت الحرب الكبرى أوزارها وأبرمت الهدنة أصبحت هذه البلاد التعسة هدفًا لكل ضروب الشقاء والمحن التي ظلت تتابع بعضها أثر بعض منذ إنزال الجنود الإغريقية في الثغور الأناضولية، إلى زحف القوى الإنجليزية حتى مرزيفون، وإلى احتلال الفرنسويين بالمثل عدة بقاع من سواحل البحر الأسود.
لقد تذوق الروملي فيما سلف طعم مرارات الحرب وفظائعها، وقد أَنَى للأناضول أن يأخذ بنصيبه من هذه الأهوال الجسام. وبما أن هذه الإغارات التي قامت بها الجيوش المتعددة لم تكن كافية للاقتصاص من هذا الشعب فلم يك بد من خلق المشاكل والقلاقل بين العناصر المتوطنة في البلاد العثمانية.
فنتأت فتنة الأروام الذين على الرغم من قلتهم التي لا تكاد تذكر أرادوا إلا أن يكونوا من أنفسهم دولة مستقلة منفصلة عن سواها في كل أمر.
بل لقد أدت الدسائس المبثوثة داخل البلاد إلى تشبع الطائفة العلوية أي الشيعة بروح العداء والانتقاض على دولتها.
وأدى الذهب المنثور جزافًا بين أيدي سكان قونية المساكين المأثور عنهم شدة الولاء للسلطان، والذين بحكم العادة المتبعة في مدينتهم ينضمون بأسرهم تقريبًا إلى الطريقة المولوية الموجودة تكيتها المشهورة هنالك، إلى ذلك العصيان المحزن.
ولم تغب عن البال قصة الجنود الأرامنة الذين احتشدوا في قليقيا وما نجم عن تجيشهم وتراميهم على مواطنيهم المسلمين …
بيد أن كل هذه المشاغبات المتفرقة لم ترض أهواء أولئك الكائدين المحرضين، فصار من المحتم إثارة الاستياء العام وتعميمه في سائر بقاع آسيا الصغرى وإيصاله إلى أبعد أعماق القلوب، فأخذوا يبحثون عن أمر يزعزع الشعور العام بصورة جدية تكون مؤدية إلى انتزاع تلك الثقة العمياء التي يتجه بها الشعور العام إلى تلك المسألة المقدسة التي يدافع بعزم لا يغالب عنها.
وانتشرت حينئذ الدعوة المحرضة علنًا ضد الحكومة الوطنية لأجل مصلحة حكومة الأستانة العاجزة، التي شرعت تدافع بطريقة رسمية عن حقوق الخلافة، التي صارت مسلوبة منذ ابتداء الاحتلال الأجنبي. إن عاصمة الإسلام يجب قبل كل شيء أن تكون مستقلة وبعيدة عن كل تأثير أجنبي.
فكان عمل الخصم في هذه المرة محكمًا باهرًا! وكانت طعنته نجلاء سديدة أصاب بها سويداء القلب، وإذا كان السهم المطلق مسمومًا فقد أحدث جرحًا مؤلمًا، إلا أنه لم يلبث أن اندمل وبرئ على توالي الزمن بعد أن برَّحَت آلامه بفؤاد الأمة وقتًا قصيرًا.
وذلك أن بعض القبائل الشركسية المقيمة في دوزجة وفي خندق وفي أضه بازر صدقوا ما وسوس به الدساسون الأجانب في صدورهم من ألفاظ المكر والتغرير، فهاج عدد عديد من هؤلاء الصناديد المشهورين بقوة البأس في الملتحم مستجرين خلفهم جحافل من الفرسان المغاوير سلالة ذلك العنصر، الذي لا تلوى شكيمته، ولا يسلس قياده إذا ما ثارت حفيظته، والذي تعرفه أوروبا حق المعرفة بفضل ما اختص به من الذكاء النادر والسجايا الغراء والنفس الأبية العيوف، وبسبب المذابح الهائلة الخالد ذكرها التي اقترف فيها جنود القائد أفديكيموف الروسي سنة ١٨٦٤ «من أنواع المظالم والفظائع ما لم تجرؤ الجيوش الوثنية التابعة للإمبراطوريين الرومانيين على إتيان ما يدانيها أثناء مطاردتهم الشعب الإسرائيلي في فلسطين منذ ألفي عام.»
إن هذه القبائل ذات شعور ديني بالغ من القوة أقصاها وهم يدينون بالشكر العظيم للسلطان عبد المجيد الذي أقطعهم ولاية سيواس أثناء هجرتهم الرهيبة المفزعة، فاتخذوا منها وطنًا جديدًا لهم، وصار من ذلك العهد ارتباطهم بالسلطان الخليفة الذي يخلف منقذهم الجليل شديدًا إلى حد لا يمكن تصوره.
ومن هنا يتضح جليًّا أن ما يزجى إلى أفكارهم من الرغبة في انتقاص نفوذ السلطان الخليفة وانتزاع سلطته منه يبعث بلا شك على هياجهم ونفورهم. بل لقد ذهب الماكرون إلى أبعد من هذه الدسيسة موهمين هؤلاء السذج الأوفياء أن الجيش الوطني لا يحارب للحصول على استقلال البلاد التي يعتبر الخليفة ولي أمرها الشرعي، بل لما هو بعيد عن ذلك بالمرة، أي لإسقاط الخليفة نفسه، في حين أنه الرئيس الاسمي لسائر جيوش الدولة، وفي حين أن اسمه لم يزل إلى هذه الآونة مذكورًا بالتجلَّة والإكرام في جميع المساجد …
إن مسألة هياج الشراكسة مؤلمة جدًّا؛ لأنهم هم الذين في مفتتح الحركة الوطنية قاتلوا الأغارقة تحت رئاسة أدهم بك وتغلبوا عليهم في عدة وقائع.
وهذا المحارب الشجاع قام بأعمال خارقة للعادة مستعينًا بامرأة مقدامة اسمها عائشة شاووش، كانت قد فقدت زوجها في الحرب، فأشعلا نيران الحماسة في نفوس القرويين الذين تحمسوا فحملوا السلاح وانطلقوا إلى منازلة العدو المغير على أرض الوطن.
وهي الآن ممرضة في أحد مستشفيات أنقرة …
توجد شئون سامية مرتكزة على الروية والحكمة لم يدرك حقائقها الملحدون إلى الآن. فمن هذه الشئون مسألة الخلافة المتناهية في الدقة وفي الاعتياص. وذلك لأنها ترجع إلى حكم ثلاثمائة مليون مسلم منتشرين في كافة أنحاء الكرة الأرضية لا إلى إرادات الحماة الأجانب الذين يحتلون القسطنطينية.
إن السلطان الخليفة الذي يعتبر من الوجهة الشرعية الرئيس الأعلى للجيوش، التي تجاهد في سبيل الاستقلال، لا يعدو كونه جزءًا غير منفصل من الدولة العثمانية السليمة من كل اعتداء عليها المتمتعة بحريتها واستقلالها.
فإذا ما شجر خلاف بين ولي الأمر ورعيته، أو وجد سوء فهم بينهما، فللشرق وحده حق السعي في إزالة الجفاء أو تسوية الخلاف.
وإذا لم يعرف فرد من سلالة الغازي عثمان الأول في أحرج الأوقات التي عهدت في تاريخ بلاده أن يكون على أتم وفاق مع نخبة أمته الذي يعتبر قلبها الخافق، أو إذا لم يجرؤ على مساندتهم في الوقت الذي يقتضي المعونة، فهل يجوز أن نتناسى أن الخلافة غصن لا ينفصل من شجرة أنساب العثمانيين الذين بمجازفاتهم وتعرضهم للأخطار عرفوا كيف يدافعون دفاعًا مجيدًا مدة سبعة قرون عن علم الرسول المقدس؟
فلا يجب إذن إدخال أصبع أجنبية بين لباب الشجرة ولحاها.
وبعد انتهاء الهياج الشركسي أقبل جاسوس سري هندي إلى آسيا الصغرى بقصد إحداث اضطرابات أخرى فيها، إلا أنه لم يجسر على إتيان ما أوفد لأجله، سواء أكان ذلك من جراء الوسائل الشديدة المتَّخَذة في هذه البلاد وخوفًا من العقاب الصارم، أم من دهشه من عظم الرقي والنظام اللذين تمشَّت بهما الحركة الوطنية في شرايين البلاد بسرعة مدهشة، على الرغم من المحن المتوالية عليها. وعلى كل حال فإن مرسلي هذا الرجل قد أخفقوا في اعتمادهم عليه. فهل كان توقفه ناجمًا عما أَلَمَّ به من وَخْذ الضمير؟ أو كان خشية من العاقبة؟ ذلك ما لا علم لأحد به، ومن ذا الذي يستطيع إيضاحه؟
ولقد كانت نهاية كل دسيسة على هذه الشاكلة، وهي الإخفاق قبل إحداث الأذى المرغوب.
وعلى إثر ذلك أوحى الماكرون إلى ذلك الرجل الخسيس المعتبر عارًا على العالم الإسلامي مصطفى الصغير المجرم الكبير بأن يضطلع بأفدح تبعة يتحمَّلها عاتق إنسان، وهي طعن الوطنية العثمانية في لبتها طعنة قاتلة.
وإن دسائس هذا الصغير الساقط في مصر، وفارس، والأفغانستان والسلطنة العثمانية، واعترافاته الهائلة أثناء قضيته التي اشتهر ذكرها في سائر الأقطار … وخطة الاستعمار الإنجليزي التي هتك ستارها هذا الجاسوس نفسه الذي باع ضميره وحياته بأبخس ثمن لتنفيذها، كل هذه الأمور أصبحت معلومة للجميع، وقد خاضت فيها الصحف طويلًا حتى صار ترديد صداها في هذه الأوراق عديم الجدوى …
«إن النفس لتضطرب هلعًا عند تحريك هذه الذكريات.»
•••
•••
وآب الزعيم الأكبر من سفرته.
ويقصون من أنباء رحلته إلى الجبهة أنه حينما أوضح للقائدين الغيورين عصمت باشا ورأفت باشا الضرورة القصوى التي تقتضي توحيد الرئاسة في ميدان القتال أظهر كلاهما في وقت واحد، بدافع وجداني وبحمية باهرة، رغبته في التخلي عن مركز القيادة، وأظهر إعجابه بقرار المجلس الأعلى المشتمل في آن واحد على الحكمة والبراعة في الفن العسكري. وأمام هذه الصفة الجليلة، صفة التخلي عن الأنانية، ارتبك الزعيم الأكبر وحار في الأمر وطفق يكرر الرجاء على كل واحد منهما بتولي الرئاسة العليا على جيش الجبهة، في حين أن الآخر سيذهب معه إلى أنقرة ليشترك معه في إدارة كل ما يهم من شئون البلاد، وهو عمل يوازي في خطارة شأنه مهمة رئاسة الجيش المقاتل.
وأخيرًا قبل عصمت باشا أن يستقر مع الجيش في الجبهة كما استقر رأي رأفت باشا أن يذهب إلى أنقرة، بعد تسليم كل ما كان في دائرة إشرافه إلى خلفه.
وحينئذ تقدم إليهما الزعيم الأكبر وأهوى عليهما معانقًا ومقبلًا وهنأهما على ما أوتيا من سعة العقل وعظم النفس. وبهذه الطريقة البسيطة انحلت هذه المسألة التي كان المظنون فيها أنها ستصير في غاية الصعوبة والتعقد.
والفضل في تسهيل هذه المهمة على الزعيم الأكبر يرجع إلى سمو نفسي هذين القائدين الجليلين.