١
كُنا في بيت أبي نتنفس الأدب مع الهواء، فأنا لا أذكر منذ متى سمعت اسم طه حسين، ولكن الذي أذكره في ثقةٍ أن اسمه وصل إلى أذنيَّ محفوفًا بالإجلال والإكبار منذ وصل؛ فقد كان أبي — رحمه الله — يعجب به أشد الإعجاب، على رغم الخصومة السياسية بينهما، ولكن أبي كان من هؤلاء القلة النادرة التي تستطيع أن تضع الرجال في أماكنهم الصحيحة العادلة، دون نظر إلى خصومة أو صداقة.
فالدكتور طه مثلًا هاجم الأسرة الأباظية في يوم من الأيام حين نقد شعر حافظ إبراهيم، فذكر أن قصائده في مديح الأباظية مثل مديحه لملكة الإنجليز، وقد رد أبي على هجومه غاضبًا أن يشبهنا الدكتور طه بالإنجليز.
وقد جاءت الخصومة السياسية حين انضم الدكتور طه إلى الوفد، بعد أن كان من عُمد جريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين، ويرأس تحريرها الدكتور محمد حسين هيكل، وقد توطدت الصداقة بينه وبين أبي في ذلك الحين، وقد ذكر الدكتور طه في حديث من أحاديث الأربعاء أن مجلس تحرير جريدة السياسة كان مجتمعًا، وكان النقاش يدور حول الرد على مقالة كتبها الأستاذ أبو شادي عنوانها «ما قول فئة ما قولها»، يهاجم بها الأحرار الدستوريين، وبينما كانوا يبحثون في منهج الرد ومن الذي يتولاه، يقول الدكتور طه حسن إن دسوقي أباظة طلع عليهم بمقالة يرد بها على الهجوم عنوانها «ها قولُ فئة ها قولها» أغنتهم عن التداول في منهج الرد وفيمن يكتبه.
وانفصل الدكتور طه عن الأحرار الدستوريين، وبقي أبي طبعًا سكرتيرًا عامًّا للحزب، ويبدو أن هذا الانفصال جعل الصلة بين الرجلين تَهِن؛ فأنا لم أرَ الدكتور طه في بيتنا أبدًا ولكن اسمه كان يملأ بيتنا كما كانت كتبه.
وحين شببْتُ عن الطوق أصبحت أنا أشتري هذه الكتب وأعطيها لأبي يقرؤها أولًا ثم أقرؤها من بعده، فإن كان مشغولًا قرأتها أنا أولًا ثم أعطيتها له، ولا أذكر أنني وجدت أحدًا معجبًا بالدكتور طه حسين الأديب إعجابًا جارفًا، لا تحفُّظ فيه ولا قصد، مثلما كان أبي مُعجبًا به. وقد تلقَّيت هذا الإعجاب عن أبي كما يتلقَّى كل ولد رأيَ أبيه بلا تحفُّظ ولا قصد ولا بحث، حتى إذا قرأت له ولغيره أصبحت مُعجبًا به نفسَ هذا الإعجاب عن فَهم تام بما أقرأ، وعن ثقة عميقة بأنه خليق بهذا الإعجاب وأكثر، إن كان هناك أكثر.
وأذكر فيما أذكر أننا كنا نصطاف في رأس البر، وكنت آنذاك تلميذًا في المرحلة الثانوية، وكان يصطاف معنا عمي المستشار جمال الدين بك أباظة، وهو رجل لا مثيل له في حب الأدب؛ فقد كان يحفظ، من الشعر العربي القديم والحديث حتى شوقي، مقدارًا لا أعرف أن أحدًا من الناس استطاع حفظه، وأنا من الذين يعجبون بشوقي ويحفظون الكثير من شعره، وكم حاولت أن أروي له من شعر شوقي، فما أوشِك أن أبتدئ حتى يكمل هو القصيدة بأكملها، لا يُفلت منها بيتًا! وكان كذلك أمره في جميع الشعر الذي سبق شوقي، فما كنت أستطيع أن أجعله يسمع إليَّ إلا إذا رويت له من الشعراء المحدثين، مثل طاهر أبي فاشا والعوضي الوكيل وأحمد الغزالي ومحمود غنيم، وما ذلك إلا لأنه كان حين عاصر هؤلاء الشعراء قد أصبح ضعيف البصر ضعفًا لا يمكِّنه من القراءة إلا بصعوبة شديدة. وقد قرأ جمال بك، فيما قرأ، الأغاني، وهي ما تدري حجمًا وتشعُّبَ موضوعات، وقد قرأها بإمعان حتى لقد كان يقول: إن صاحب الأغاني قال في أربعة مواضع منها: وسيأتي ذكر هذا فيما بعدُ. ولم يأتِ.
المهم أنني كُنت أقرأ لعمي جمال بك في المصيف ما يحب قراءته، وكنت أجد في ذلك متعة ومنفعة، أما المتعة فمصدرها بطبيعة الحال القراءة ورفقتي لهذا العم الذي أحببته كأب وأحبني كابن، وأما الفائدة فإنني كنت أقيم بهذه القراءة لساني حتى أتعود ألَّا أخطئ في اللغة أو النحو، إذا أنا قرأت أو تكلمت. وفي هذا العام ظهر الجزء الثالث من كتاب «على هامش السيرة»، فكنت أقرؤه لعمي جمال بك، وفي أحد الفصول بدأ الكتاب يصف مشهدًا يمهد به للقصة التي سيرويها، وقد كان الدكتور طه يحب أن يصف، تطاوعه في ذلك لغة لم يعرفها العرب قبله، ولا أحسب أنهم سيعرفونها من بعده، وكان عمي جمال بك مُتلهفًا أن يصل إلى القصة التي يسوقها الكتاب، وكان هذا الوصف يقف حائلًا بينه وبين القصة، فكان يضيق بالإطالة، ولكنه في نفس الوقت يتوق أن يسمع هذه السيمفونية من الوصف التي يعزفها الدكتور طه بالكلمات، فكان يقول: «اقفز الصفحات.» وقبل أن أطيعه يقول: «ولَّا أقول لك، استمِر!» وهكذا تكرر تردده بين الأمرَين مرات ومرات؛ حائرًا بين رغبته في الاستمتاع باللغة ورغبته في بلوغ القصة ومعرفة أحداثها. وهكذا هو طه حسين يُرغم القارئ أن يقرأ له مهما يكن ملهوفًا أن ينصرف عنه، وإن كان سينصرف عنه إليه.
وأظنني في غنًى عن القول إنني قرأت جميع كتب الدكتور طه بغير استثناء. وأظنني في غنًى عن القول أيضًا إنني قرأت أغلب كتبه أكثر من مرة؛ فأنا من ذلك الجيل المظلوم الذي لم يجد حين نشأ كثيرًا يقرؤه؛ فقد بدأت قراءتي بكتب كامل الكيلاني وقصصه وغيرها من كتب الأطفال. ولا أستطيع أن أذكر الكيلاني وأنسى فضله على جيلنا جميعًا؛ فقد أوتيَ من البراعة في السرد وفي اختيار الألفاظ العربية وشرحها في بساطة موهوبة لم تتأتَّ لكاتبِ أطفال غيره، فإذا عرفنا أنه من أحفظ الناس لشعر العرب، وإذا عرفنا أنني لم أجد أديبًا آخر يحضره الشاهد لكل ما يسمعه أو يقوله أو يقرؤه مثلما كان يحضر الكيلاني، لَعرَفنا أن موهبة الكتابة للأطفال عنده تقف وراءها ثقافة عريضة في الأدب العربي. ولا نستطيع أن ننسى للكيلاني أيضًا أننا تعرفنا على يديه ونحن في غضارة الطفولة بشكسبير، الذي ترجم أغلب كتبه في شكل مبسط سهل ممتع وممتنع أيضًا، كما تعرفنا بقصص ألف ليلة وليلة في شكل نقي أخَّاذ.
وقد استطاعت كتب الكيلاني أن تأخذ بيدي إلى الأدب الكبير دون جهد أو عَنَت، لم يشُقَّ عليَّ أن أقرأ «الأيام» وأنا في البواكير الأولى من العمر، وإذا كنت قد قرأت «الأيام» فما أيسر أن أقرأ ما كان قد ظهر حتى ذلك الحين من كتب توفيق الحكيم والمازني وتيمور! ولعل الكاتب الوحيد الذي شق عليَّ هو العقاد رحمه الله؛ فلم أستطع أن أقرأ له إلا بجهد جهيد وعنت شديد، وقد ظل هذا شأني مع كتبه حتى الآن، ولكنني مع ذلك أقرؤها مُعجبًا مُكبرًا مهما تكلفني من المشقة؛ لأنه العقاد، ولا بد أن يُقرأ العقاد.
كُنا في ذلك الحين نقرأ لهؤلاء العمالقة، وننتظر حتى يُصدر أحدهم كتابًا آخر فنسعى إليه ملهوفين، ونتوفر عليه لا ننصرف عنه أو ننتهي منه.
حتى إذا كبرت بعضَ الشيء استطعت أن أقرأ لهيكل؛ فقد كنت إلى ذلك الحين أخاف الكتاب الضخم، وأخشى أن أمسك به فلا أستطيع أن أبلغ شاطئه الآخر، وهكذا أمسكت بكتاب حياة محمد وأنا أتوجس من نفسي ومن الكتاب خيفة، حتى إذا أمضيت في صفحاته الأولى وجدتها قد أسلمتني إلى صفحاته الأخيرة، وأنا ذاهل عن الدنيا وعما حولي جميعًا. وهكذا استطعت أن أضم الدكتور هيكل إلى الكُتَّاب الذين أقرأ لهم. وأذكر مرة وأنا في رأس البر، وقد نلت شهادة الثقافة، وكانت هذه الشهادة تسبق الشهادة التوجيهية بسنة، أمسكت كتاب حياة محمد أقرؤه للمرة الثانية، وكنت جالسًا إلى أبي وإلى الدكتور هيكل، فقال له أبي: ثروت يقرأ حياة محمد للمرة الثانية، وأنا أنصحه أن يحاول المذاكرة للتوجيهية التي سيدخلها في عامه القادم، فقال الدكتور هيكل بسعادة: بل دَعْه يقرأ ما يريد.
والحقيقة أنني كنت أقرأ حياة محمد للمرة الثانية لا للمتعة وحدها، ولكن لأن الكتب التي كانت جديرة بالقراءة كانت قليلة ونادرة؛ فهذه الحكاية التي أرويها مثلًا وقعت حوالي عام ١٩٤٤م، وكانت الحرب الثانية تجتاح العالم، فلم يكن أحد يؤلف في العالم الغربي، فإن كان هناك من يؤلف فإن هذه الكتب لم تكن تجد سبيلها إلى مصر، وكيف للكتاب أن يجد مكانًا مع السلاح! البواخر لا تنقل إلا الأسلحة، وهيهات للكتب أن تنافس الأسلحة! ولو أن هذه الكتب كانت قد نُقلت إلى مصر لكان لا بد لها من نقلة أخرى حتى تصل إلينا. كان لا بد أن تجد من ينقلها من لغتها إلى لغتنا العربية؛ فقد كنا، نحن أبناء المدارس المصرية، إلى ذلك الحين لا نستطيع أن نقرأ وحدنا كتابًا بلغة أجنبية؛ فهذه تجربة لم نستطع خوضها إلا بعد جهد فردي كبير.
إلا أنني مع كتب الدكتور طه كان لي موقف آخر؛ فقد كُنت — وما زلت — أحب أن أعود إلى كتبه؛ لأنني أحب أن أعود إليها. وها أنا ذا اليوم والكتب تنهال علينا من كل حدب وصوب، ومن كل لغة نشاء أو لا نشاء، ومع ذلك أحب أن أعود إلى «الأيام» وإلى «على هامش السيرة» وإلى «أحلام شهرزاد» وإلى «الشيخان» وإلى «الفتنة الكبرى» وإلى «مرآة الإسلام»، لماذا؟ لأنها كتب طه حسين، ولأنني أحب أن أقرأها.
كذلك كنت وكذلك لا أزال. وقد بلغ من شغفي بأدب طه حسين أنني حين بدأت الكتابة بدأتها وأنا في الخامسة عشرة من عمري في مجلة الأسرة. وقد كتبت لها مقالة لا أذكر موضوعها الآن، ولكنني أذكر أنني بعد أن قرأتها وجدت نفسي أقلد الدكتور طه جاهدًا خلفه جهدًا لا يغني ولا يفيد، فمزقت المقالة وعزفت عن الكتابة، منتويًا ألا أعود إليها إلا وقد تخلصت من هذا التقليد. فحين عدت إليها كنت أكتب نفسي ولا أكتب تقليدًا مشوهًا لعميد الأدب العربي. وكان أول مقال نشرته بعد هذه الواقعة بعام في مجلة الثقافة، التي كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان يشرف عليها الأديب العظيم الأستاذ الدكتور أحمد أمين بك رحمه الله، وقد أخذ بيدي منذ ذلك الحين وشجعني على النشر، وقد طمأنني رضاؤه عني أنني لم أعُد مقلدًا؛ فلو كنته لما قبِل أن ينشر لي؛ فالأولى به أن ينشر الأصل لا التقليد الممسوخ.
ولا أظن أنني تخلصت من أثر الدكتور، بل إنني لا أظن أنني كنت أريد في يوم أن أتخلص من هذا الأثر، كل ما أردته أن أكون أنا، فإن بقي من أدبه أثر فيما أكتب فليكن أثر الأستاذ على تلميذه، وأثر الرائد على لاحقيه. وقد قال بعض النقاد إنني متأثر به فما كذبتهم، وأعتقد أنهم ذهبوا إلى هذا المذهب لعنايتي باللغة فيما أكتب، وأنا فعلًا أحب لغتي وأحب أن أجملها ما دام تجميلها لا يأتي مني عن صنعة أو تكلُّف أو عنف، وإنني أضرب عرض الأفق بهذا الرأي الأمي الذي يقول إن اللغة الجميلة تقف حائلًا بين القصة أو الرواية أن تصل إلى القراء؛ فإنما هذا رأي ابتدعه المتفرنجون والجهلاء من كتَّاب القصة والرواية؛ ليعتذروا عن جهلهم بلغتهم، فلو أطاقوا أن يكتبوا اللغة الجميلة ما مالوا عنها إلى اللغة الهزيلة، وإلا فكيف وصلت روايات ديكنز وفاوبير وموباسان ودودريه وهاردي إلى قرائهم؟ بل وكيف وصلت مسرحيات شكسبير وكورني وراسين؟ بل وكيف وصلت روايات طه حسين جميعًا لا أستثني منها واحدة؟
فهذا الأثر الذي يذكر النقاد أنهم يجدونه فيما أكتب من الدكتور طه؛ هو عنايتي بموسيقى الكلمة والجملة، وأحبِبْ بهذا من أثر!
وسواء كان النقاد قد فطنوا إلى هذا أو لم يفطنوا، فإني أشرُف أن أقول إن الدكتور طه هو صاحب أكبر أثر عليَّ فيما أكتب، وأحمد الله أنني استطعت، مع إعجابي به وإكباري لأدبه إعجابًا لا حد له، وإكبارًا ليس مدًى، استطعت أن أفلت من قبضته الآخِذة القوية الأَسْر؛ فأكتب نفسي ولا أكتب غيري، مهما يكن هذا الغير هو عملاق الأدب العربي وصاحب أجمل أسلوب عرفه العرب في العصر الحديث أو غير الحديث. وإنني بهذا الحمد أحقق رأي طه حسين نفسه الذي كتبه إلى كاتب قلده تقليدًا واضحًا لا شبهة فيه ولا شك، فكتب له الدكتور طه خطابًا من العجيب أن الكاتب المقلد أثبته في كتابه، قال له فيه إنه ينبغي أن يتخلص من التقليد، وأن يكون لنفسه أسلوبه الخاص به.
واللغة الجميلة تقوم بعمل آخر في القصة أعتقد أنه جدير بكل عناية؛ فالقصة والرواية والمسرحية جميعها أدب وارد على الأدب العربي ليس أصلًا فيه. فالأدب العربي لم يدرِ من هذه الألوان شيئًا؛ فقد كان الشعر يسد أقطار الحياة الأدبية على ألوان الأدب الأخرى التي ظهرت في العالم، بل إنه من عجب أن العرب لم يتأثروا بالمسرحية الإغريقية مع أنهم كانوا تجارًا كثيري الأسفار، ولا شك أنهم رأوا المسرحية فيما رأوا، ولكن على أية حال هذا هو ما حدث، وإنني أعتقد أن واجب أجيال كُتاب الرواية والقصة المعاصرين أن يثبتوا أصول الرواية والقصة في الأدب العربي، ولن يكون هذا إلا بأن تنتسب الرواية والقصة في اللغة إلى الأدب العربي الأصيل. فالمضمون في أغلب أمره يفرض نفسه من البيئة، ولكل بلد من البلاد العربية بيئتها، والشكل يفرض نفسه من الخارج، وقَل أن يهتدي روائي أو قصَّاص عربي إلى شكل جديد، فإن فعل فإنما هي مرة أو اثنتين ثم عودًا إلى الأشكال التي أرسلها إلينا الغرب.
ولا بأس علينا أن، نحن، تناولنا هذه الأشكال بالتعديل الذي يتواءم مع أذواقنا العربية وأدبنا العربي، فتيار الوعي مثلًا بدأ حين بدأ عند جويس جملًا متناثرة لا رابط بينها ولا صلة، ولكن حين استعمله نجيب محفوظ جعل منه مونولوجًا داخليًّا مترابطًا. ونجيب حين فعل هذا كان جريئًا، ولكن هذه الجرأة واتته من طه حسين؛ فهو أول من حطم الشكل الغربي في أستاذية رائعة، وكان ذلك في كتابه المعذبون في الأرض.
«وسواء رضي القارئ أم لم يرضَ فقد كانت أم صالح حية من غير شك؛ لأني أنا أريد ذلك، وليس يعنيني ما يريد غيري من الناس، فأنا الذي أخترع صالحًا من لا شيء، أو آخُذ صالحًا من عرض الطريق؛ لأن صالحًا موجود ولأنه غير موجود. موجود في حقيقية الأمر؛ لأننا نراه في كل ساعة وكل مكان، وغير موجود في حقيقة الأمر؛ لأننا نراه في كل ساعة وفي كل مكان، وغير موجود في حقيقة الأمر أيضًا لأنه يملأ المدن والقرى، ويسرف على نفسه وعلى الناس في الوجود.
والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما يقال. فأنا إذن وحدي، كما كان يقال أيضًا، أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيري من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها ماتت، وإنما تركت الدار لأنها طلقت. وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد هذا الطلاق ما أشاء؛ أستطيع أن أدعها مطلقة تعمل خادمًا في بعض الدور، وأستطيع أن أجد لها زوجًا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخِّرها لبيع الخضر، وقد أسخِّرها لبيع الفاكهة، وقد أكلفها أن تصنع الخبز في بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلفها أن تغسل الثياب في هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله؛ لأني حر فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث، ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثي كما أسوقه إليه، ثم هو حر بعد ذلك أن يقبله أو يرفضه، وفي أن يرضى عنه أو يسخط عليه.»
ويقول الدكتور في سطور أخرى قبل هذه ببعض صفحات: «لا أضع قصة فأُخضعها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول؛ لأني لا أومن بها ولا أذعن لها ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بيني وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخطر لي، فأمليه ثم أذيعه، فمن شاء أن يقرأه فليقرأه، ومن ضاق بقراءته فلينصرف عنه، ومن شاء أن يرضى عنه بعدُ فليرضَ مشكورًا، ومن شاء أن يسخط عليه بعدُ فليسخط مشكورًا أيضًا.»
وواضح من هذه الفقرة أنه يقصد عن عمد أن يضرب بأصول النقاد التي وضعوها عرض الأفق، ومع ذلك نرى ناقدًا كبيرًا من تلامذة طه حسين يقف يومًا فينقد هذه السطور من الكتاب قائلًا: إن من القواعد القصصية المعروفة ألا يدخل الكاتب إلى القصة ولا ينبئ عن شخصه. وكأن الأستاذ يعتقد أن طه حسين جميعًا لم يكن يعرف هذه القاعدة التي لا يجهلها أحد من المشتغلين بفن القصة. ولعل الأستاذ الناقد الكبير نفسه قد تعلم هذه القاعدة من الدكتور طه حسين.
ولكن الناقد أراد أن ينقد دون أن يفكر من هذا الذي ينقده، فمثل هذا النقد يوجه إلى الكاتب المبتدئ ليتعرف الطريق، حتى إذا استوى عليه لا يجوز لأحد أن يوجهه؛ لأنه ما دام قد خالف القاعدة فلا بد أنه يريد أن يخالفها، وعلى الناقد بعد ذلك أن يرى إن كان قد أحسن أم أساء.
ومن العجيب أنني رأيت روايات بعد ذلك «لشتاينبك»، ولعله أعرف كُتاب العصر بالشكل الروائي، وأكثرهم تجاربَ فيه، قد ضرب فيها عرض الأفق هو أيضًا بهذه القاعدة، فكان يسفر عن وجهه في القصة ثم يعود إلى الاختفاء، غير حافل برأي النقاد، ولعل هذا كان في روايتيه اللتين تكمل إحداهما الأخرى «الخميس العذب وطريق السردين الملعب».
وتبعه أيضًا البرتومورافيا في رواية له حاول بها أن يحطم الطقوس التي تعارف عليها القرَّاء والكتَّاب. وإن كانت هذه الرواية لم تلقَ النجاح الذي تلقاه في أغلب الأمر روايات مورافيا.
قرأت «المعذبون في الأرض» فيما قرأت لأستاذنا الدكتور ولم أكن حينذاك أعرف قواعد القصة، ولم أكن أيضًا أعد نفسي لأكون قصَّاصًا، بل لعلي لم أكن أعرف شيئًا عن طريقي في الأدب جميعًا، فقد كنت أقرأ لأن متعتي في الحياة كانت أن أقرأ.
وأذكر أنني حين قرأت هذه السطور للدكتور طه تولاني إعجاب كبير به، بل تولتني دهشة كواحد من الناس يسمع عن البحر ثم يراه … إنه يبهت. لعله كان يظنه ضخمًا وكبيرًا ولكنه أبدًا لن يُقدِّر حقيقة هذه الضخامة وذلك الكِبَر حتى يراه. كنت ذلك الشخص فقد كنت أُكْبِر الكاتب إكبارًا عظيمًا وأُجلُّه … كان عمل الكاتب في ذهني المغلف بضباب الصبا شيئًا يدعو إلى الإبهار، ولكن حين قرأت هذه السطور تبينت أنه مهما يكن الإبهار الذي ينبعث من عمل الكاتب فإنه أقل من الحقيقة التي تشرق من هذه السطور. لقد وقفت أمام البحر ولم أكن رأيته.
ولا أظن أنني أبالغ إذا قلت إن كتب الدكتور طه كانت تبهرني دائمًا، بل إنني لا أبالغ إذا قلت إنها ما زالت تبهرني إلى اليوم؛ كما كانت تفعل بي في أول لقاء بيني وبينها منذ لا أذكر متى.
كل ما أذكر أنني قرأت «الأيام» في جزئه الأول وأنا في مراحل الطفولة الأخيرة وأوائل الصبا، وقد أعطانيه أبي رحمه الله. ثم قرأت «الأيام» في جزئه الثاني وأنا بعدُ في ظلال هذه المرحلة. ثم قرأتها مرة أخرى وأنا شاب في بواكير الشباب، ثم قرأتها وقرأتها لا أعرف متى، وكانت آخر مرة قرأتها فيها منذ سنوات لا تتجاوز الثلاث مع ابنتي، وهي مقررة عليها في دراستها.
وقرأت بعد ذلك كل ما كتبه الدكتور طه، وهذا شيء أشترك فيه مع كل هاوٍ للأدب في الشرق العربي.
وقد ظللت حتى شببت عن الطوق لا أتصور أنني سألتقي بطه حسين أبدًا؛ فقد كنا، نحن أبناء هذا الجيل، نتصور أن هؤلاء العمالقة من الأدباء لا سبيل إلى الوصول إليهم. فأنا مثلًا كنت أكتب في مجلة الثقافة وأنا تلميذ في نهاية المرحلة الثانوية، وبدأت أكتب تمثيليات للإذاعة وأنا في أواخر مرحلة التعليم العالي، وقد ظللت، طوال هذه السنوات الواقعة بين كتابتي المقالة وكتابتي للتمثيلية، أحضر ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان يجلس فيها أستاذنا توفيق الحكيم، وكنت قبل أن أجلس معه في هذه الندوة أراه على قهوة أمام البنك الأهلي بشارع شريف، وكنت أتحرى أن أعبر الشارع وأقف في الناحية الأخرى أنظر إليه في إجلال وإكبار بضع دقائق ثم أنصرف. وكان من الطبيعي حين التقيت به في لجنة التأليف والترجمة والنشر أن أكلمه أو أعرِّفه بنفسي ولكني لم أفعل … خجلت أن أفعل. بل والأعجب من ذلك أنه كان موظفًا مع أبي في وزارة الشئون الاجتماعية حين كان أبي وزيرًا لهذه الوزارة، وقد دعاه في يوم إلى بيتنا لتناول الغداء، ودعا معه المرحوم الأستاذ المازني، وكان من الطبيعي أن أستقبلهما كما أستقبل كل ضيوف أبي، ولكني مع ذلك خجلت أن أستقلبهما أو أعرِّفهما بنفسي، ولم يكن ذلك الخجل يتولاني مع أي ضيف من ضيوف أبي مهما يكن شأنه، وظل الحال هكذا مع توفيق بك حتى كان يوم من عام ١٩٥٠م. كنا في ندوة لجنة التأليف والترجمة، وكانت قد انتقلت إلى المنيرة، وانقضت الندوة وخرجنا إلى الخارج، وتأخرت عن الخروج حتى يخرج الأساتذة الكبار أولًا. ولعلي شُغلت بحديث استغرق بضع دقائق مع صديقي عثمان نويه، الذي كان السبب في تقديمي إلى الدكتور أحمد أمين، وفي ذهابي إلى لجنة التأليف. وانتهى الحديث واتجهت إلى السلم، فوجدت الأستاذ توفيق الحكيم منتظرًا في ممشى الدار، فما إن رآني حتى ابتدرني: «هل أنت فلان؟» قلت: «نعم.» قال: «إني أسمع رواياتك في الراديو ولا أترك البيت إذا عرفت أن لك رواية.» وأظن القارئ في غنًى عن أن أنقُل إليه مدى فرحتي؛ فليس إلى نقلها من سبيل. المهم أنني لم أستطع أن أكلم الأستاذ توفيق الحكيم لمدة سنوات طوال، ولم يستطع الحديث أن يتصل بيننا إلا حين بدأني هو به.
فكيف السبيل إذن إلى الدكتور طه حسين؟ قد يكون سبيلي إلى الأستاذ توفيق الحكيم ميسورًا؛ فهو يخرج إلى الناس ويجالسهم. أما الدكتور طه فقد كان تصوري أنه قليل الخروج محدود الصلة بالناس.
وهكذا طويت أمل اللقاء به أو الحديث إليه مع ما نطويه من آمال لا سبيل إلى تحقيقها، واكتفيت أن أقرأ له مع من يقرءون، واكتفيت بأن أتسقَّط أنباءه، ما كان منها تاريخًا أو ما كان حديثًا دائرًا بين الناس. وسمعت فيما سمعت عن مقالاته السياسية التي كانت تهز أرجاء البلاد هزًّا، مع أنها كانت مقالات تهاجم سعد زغلول وهو من هو زعامةً وشعبية. وسمعت فيما سمعت بعض عناوين هذه المقالات وبعض فقرات منها، فكنت أحفظ العناوين وأحفظ الفقرات.
وظل الحال هكذا حتى توفي أبي في ٢٢ يناير سنة ١٩٥٣م. وكان حزب الأحرار الدستوريين قد حل مع الأحزاب الأخرى قبيل وفاته بأيام قلائل. وأراد أعضاء الحزب أن يقيموا له حفل تأبين فتولى الدكتور هيكل باشا الأمر، وبدأ يُعِدُّ العُدة لإقامة حفل التأبين.
وأسمى الجماعة التي تقوم بحفل التأبين اللجنة القومية. وراح الدكتور هيكل باشا متفضلًا يتصل بالمتحدثين في الحفل. وكنت في زيارة له فقال لي إنه يريد أن يكلم الدكتور طه حسين ليشترك في حفل التأبين، ثم قام إلى التليفون فطلب الدكتور طه فسمعت صوته في التليفون؛ فقد كنت واقفًا بجوار الدكتور هيكل، وكانت التليفونات ما زالت صالحة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها صوته في التليفون؛ فقد حضرت له محاضرات في الجامعة الأمريكية وسمعته في أحاديث الإذاعة، ولكني لم أسمع صوته في التليفون أبدًا. وقال له الدكتور هيكل «يا طه.» وتعجبت للحظة … كيف يمكن أن ينادي الدكتور طه حسين باشا جميعًا ﺑ «يا طه»، وما لبثت أن تذكرت أن المتحدث هو الدكتور هيكل، وأنهما زملاء عمرٍ وزملاء جريدة السياسة وزملاء قلم. ولم يحس الدكتور هيكل بما دار في خلدي، والحمد لله، وأكمل حديثه: «إننا نقيم حفل تأبين لدسوقي يوم كذا الساعة كذا.» وسمعت الدكتور طه يقول: «في هذا الموعد أنا عندي محاضرة سألغيها وأجيء لأتكلم في التأبين.»
وهكذا شاء القدر أن يكون أول لقاء لي بالدكتور طه حسين في مناسبة من أكرم المناسبات وأقربها إلى مشاعري … وهكذا شاء القدر أيضًا أن يكون الدكتور طه متفضلًا عليَّ فضلًا لا أستطيع أن أنساه ولا أملك الوسيلة لشكره عليه.
وفي يوم الحفل جاء الدكتور طه وألقى كلمة التأبين. وأنا أحب أن أثبتها في هذا الكتاب؛ فهي أولًا كلمة لم تُنشر، ومن حق كل كلمة ألقاها الدكتور طه أن تُنشر، وهي مُهداة إلى أبي وأنا الذي أؤلف هذا الكتاب، فلا بأس عليَّ أن أثبتها وفاءً لأبي إن لم يكن لأي معنًى آخر.
غيري من الخطباء والشعراء أقدر مني على ذكر مآثر الفقيد العزيز وتعدادها، إن كان إلى تعدادها سبيل.
أما أنا فلم أقم مؤبِّنًا أو معدِّدًا للمآثر، وإنما أنا صديق يقول كلمة حق في صديق. لا أبكيه، ومتى نفع البكاء على الذين فارقوا الدنيا؟! إنه لا يردهم ولا يُسلي الباقين على ما يجدون من حزن.
لا أبكيه هو، وإنما أبكي لأصدقائه الذين عاشوا بعده — وأنا منهم — فإن فقْدَ الأصدقاء ليس إلى تعويضه وليس إلى العزاء عنه سبيل.
إن الشباب يستطيعون أن يستقبلوا حياتهم في أمل رضي، يستطيعون أن يجددوا عهدهم بالأصدقاء — أما الذين تقدمت بهم السن، فإنهم إذ يفقدون صديقًا فإن حزنهم مقيم ما أقاموا في هذه الديار، حزنهم لهم صديق وعشير، ملازم لعقولهم، مستقر في أعماق ضمائرهم، يضطربون في شئونهم مع الناس، ولكنهم ما يكادون يخلون إلى أنفسهم حتى يجدوا الحسرة والهم والبؤس.
إني — أيها السادة — لأذكر هذا الصديق الكريم منذ عرفته في ميعة الشباب، كنا في ذلك الوقت نشيطين عنيفين في نشاطنا، نستقبل الحياة غير حافلين بأحداثها، قد آمنا بالحق واندفعنا في سبيل الذود عنه، لا نعمل لأحد ولا لشيء حسابًا، وإنما نندفع مع الحق حيث يريد أن يدفعنا. وكان هذا الصديق أخًا كريمًا وفيًّا يذكرنا إذا غبنا عنه، ويتفقدنا إن طالت غيبتنا، ثم أخذت الأيام تفرِّق ما بيننا، فكدنا لا نلتقي إلا بين العام والعام، ولكننا كنا على ما عرف كلٌّ منا لصاحبه من الود وصدق الوفاء، وإني لأذكر ذات يوم — وكان وزيرًا — وكنت من أشد الناس عنفًا في مخاصمة وزارته التي كان فيها، كنت أُصبِّحها وأُمسِّيها باللوم الشديد — ولكني لا أذكر أني وجدت على دسوقي مأخذًا أو مغمزًا — وما أذكر أني فكرت فيه لحظة حين أوجه إلى وزارته أشد اللوم وأعنفه — ومع ذلك فقد شكا إليَّ بعض الناس أنه يطلب التليفون منذ خمس سنين، ولا يجد السبيل إليه إلا سبلًا لا يريد أن يسلكها، وذكرت أن دسوقي هو وزير المواصلات، واستحييت أن أكلمه في ذلك، فكلفت صديقًا بذلك، وإني لجالس ذات يوم وإذا دسوقي يدعوني بالتليفون ويعتب عليَّ عتبًا مريرًا على أن وسطت بيني وبينه صديقا، حتى اضطرني أن أعتذر إليه في أنني لم أتصل به اتصالًا مباشرًا.
أذكر هذا الصديق وأذكر أصدقاء آخرين سبقوه إلى الموت، ماتوا كما يموت الناس، إلا أنهم في قلبي أحياء، لم يرفق واحد منهم على هذه النفس البائسة التي ألِفَت توديع الأصدقاء، حتى سئمت توديعهم وتمنت أن تفرغ من هذا التوديع كما يقول أبو العلاء.
إن قلوب الأصدقاء الأوفياء أشبه شيء بالمقابر الحية، في كل قلب مقبرة تعيش مع صاحب هذا القلب، يخلو إليها حين يجنُّ الليل، يتحدث إليهم ويذكر الساعات الحلوة التي لم تشتقَّ حلاوتها من متاع الحياة وأغراضها، وإنما اشتقته من صدق الود وكرم الصلة وحسن الوفاء.
بنيان هذه الأسرة الكريمة وبنيان هؤلاء الأدباء الذين كان يحبهم ويؤثِرُهم، ويرعى الشباب الذين يحتاجون إلى الرعاية منهم، لا يتكثر بذلك ولا يتخذه فخرًا ورياءً، وإنما فُطِر محبًّا للأدب، فرأى حقًّا للأدب أن يرعى الأدباء. وبنيان أصدقائه هؤلاء الذين يذكرونه محبين في كل آنٍ.
لا أقول فيه إلا ما قاله رسول الله حين مات ابنه في حجره فدمعت عينه، فقال له بعض أصحابه أتبكي وقد نهيت الناس عن البكاء؟! فقال: «إن النفس لتجزع، وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.»
وبهذا الحديث أنهى الدكتور طه كلمته، وهي كما ترى كلمة بسيطة لم يتكلف فيها الرثاء ولم يفتعله افتعالًا، ولكنني — ولا أدري لماذا — أحس أنها صادرة من أعماق قلبه. وكنت وأنا أستمع إليها أبكي بكاء مُرًّا كأني أواجه موت أبي من جديد في كل كلمة منها.
كنت أحب طه حسين الأديب. ويومذاك أحببت طه حسين الإنسان، وظللت أحب الاثنين فيه حتى الآن، وما أشك في أن هذا الحب سيصحبني يومَ أنا ذاهب إلى لقائه هو وأبي في عليين.
انتهى الحفل وصرت حائرًا ماذا أفعل لأشكره! واستحييت أن أقصده لأول مرة في حياتي لأشكره. ومن أنا حتى أشكره؟ … إنه حين رثى أبي إنما رثى صديقه وفاءً منه له. فأي شأن لي أنا حتى أذهب للشكر! إن أبي شخصية عامة، والشخصية العامة أرفع من أن تكون ملك أبنائها أو آلِهَا؛ فالذهاب لمجرد الشكر وحده لا محل له.
كان صديقنا، الأستاذ الشاعر الوفي أحمد عبد المجيد الغزالي، يقوم بجمع الكلمات والقصائد التي قيلت في حفلات تأبين أبي. وقد تم له ذلك، فرأيت أن أقل ما أستطيع أن أقدمه إلى الدكتور طه حسين هو هذا الكتاب. وكان كتابي «ابن عمار» قد ظهر في هذا الحين، فحملت الكتابين وقصدت إلى منزل الدكتور طه الذي كان بالزمالك آنذاك. وكان الدكتور طه جالسًا في شرفة بيته يستقبل الزوار والشمس، فجلست إليه وقدمت الكتابين. وأذكر أن تحدثْنا يومذاك عن موقعة الأحزاب وموقف اليهود منها، وأذكر أنني سألته إن كان يرى بعض العنف في المقتلة التي أصاب بها النبي اليهود في أعقاب هذه الموقعة، فقال لم يكن للنبي خيار، إنه يومذاك لم يقتل اليهود لأنهم يهود، وإنما قتل أبناء مدينة خانوها، فلو كان يريد أن يقتل اليهود لقتلهم قبل ذلك، ولكن الواقع أنهم الخونة، وعقوبة الخيانة القتل حتى يومنا هذا بعد كل هذه الحضارة والرفاهية التي ألمَّت بالجنس البشري، فكيف بهذه الفترة من الزمان؛ حيث كان القتل بعض عمل العرب. وأذكر أنه قال يومذاك أيضًا إن الإسلام أدخل الكثير من الرحمة والشفقة إلى القلوب، وهي معانٍ كانت بعيدة عن الخلق العربي، بل كان العربي يرى فيها بعض أخلاق النساء. فحين جاء الإسلام منع وأْدَ المواليد من إناث وذكور، وجعل القتل عقوبة على المعاصي الكبرى. وحين عاد الحديث إلى اليهود قال: لم يكن النبي يستطيع أن يفعل بهم أقل من هذا، فلو تركهم يخرجون فسيكونون حربًا عليه، والإسلام بعدُ في أيامه الأولى لم تثبت رواسيه ولم تقُم أركانه، ولو تركهم يقيمون دون ما عقابٍ فسيكونون بؤرة خيانة في حرب يخوضها المسلمون بعد ذلك.
أذكر أنني زرت الدكتور طه بعد ذلك مرة واحدة أو اثنتين في بيته بالزمالك، ثم انتقل بعد ذلك إلى بيته «رامتان» بالهرم.
كنت في هذه الأيام الأولى مِن تعرُّفي بالدكتور أتحرَّج أن أثقل عليه بالزيارة، وكنت أحسب أن صلتي به ستكون في حدود رسمية لا تتعداها. وكان أن هاجم أحد الكُتاب الأساتذة الكبار من رواد الأدب العربي. وقد ظللت عمري أكره هذه الطريقة في محاولة الظهور. وقد كنت، ولا زلت، أرى فيها طريقة رخيصة غاية الرخص في التسلق على أكتافهم. فكتبت مقالة عنيفة في مجلة الرسالة الجديدة التي كنت أكتب بها في هذه الأيام. وكان أن ذهبت في أعقاب المقالة إلى دار الأدباء، وكان مقرها نادي القصة الآن، وكانت هناك مناسبة لا أذكرها، فكان بالدار جمْعٌ كبير على رأسه الدكتور طه حسين، فتقدمت إليه مسلِّمًا فأبدى رضاءه عن المقالة، فأسعدني هذا، ولكنني ظللت على تحرجي من الزيارة وعلى اعتقادي أن صلتي بالدكتور ستظل في حدود رسمية لن تتعداها.