٢
كنت خليقًا أن أظل على تباعدي، ولكن مهما يكن إيماني بالاختيار لا بالجبر، فإن الحياة تركب صدفًا بعيدة كل البُعد عما يحاول الإنسان أن يرتبه أو يسير فيه. ولعل حكايتي مع أمين يوسف غراب تدل على هذه الحقيقة أصدق دلالة. فقد كنت أريد لقاءه في أمر هام، وكان منقولًا حديثًا إلى القاهرة، فلم يكن عنده تليفون، وكان منقولًا أيضًا من وظيفته في السكة الحديد، ولم يكن قد تسلم عمله الجديد بعد، وليس عندي عنوان بيته. ورحت أسأل عنه كل من أعرف أنه على صلة به؛ وعبثًا ضاع جهدي، إلى أن كان يوم ذهبت فيه إلى زيارة زميل دراستي عبد الفتاح مجدي، وإذا بي أفاجأ بلافتة تحمل اسم أمين يوسف غراب على الشقة المقابلة لشقة مجدي، وعن طريق أمين يوسف غراب أصبحت أحد أبناء الدكتور طه المقربين. فقد كان أمين يزور الدكتور من حين إلى آخر، وكان يطلب مني أن أذهب معه فأتحرج.
حتى كان يوم أخبرني أمين أن الدكتور يسأل عني ويتساءل لماذا لا أذهب إليه، وعندئذٍ تشجعت وذهبت مع أمين. وتعودت على هذه الزيارات. وأذكر أن أمينًا أخبرني يومًا أنه يؤلف رواية أو قصة قصيرة، لا أذكر، وقص عليَّ فكرة القصة فقلت له إنك تقيم قصتك على فكرة فيها خطأ شرعي. وذهبنا إلى الدكتور وسأل الدكتور أمينًا — كما يفعل دائمًا مع أبنائه — عما يكتبه في تلك الآونة. فتطوعت أنا للإجابة راويًا القصة ذاكرًا أنها تقوم على فكرة فيها خطأ شرعي، فقال الدكتور «أظنك على حق … يا فريد هات المصحف.» وجاء فريد بالمصحف فقال له: «اقرأ الآية التي أولها كذا …» فقرأها فقال له: «اقرأ قبلها بآيتين.» فقرأ؛ فإذا هي الآية التي تحمل شاهد المسألة الشرعية التي اختلفت فيها مع أمين، وقمت من هذه الجلسة وأنا مذهول من هذه الذاكرة الحافظة؛ فقد كنت قبل أن يصدر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم أسأل الشيخ من المقرئين عن آية أريد أن أنقلها كشاهد فيما أكتب؛ فإذا هو يتلو السورة كاملة ليصل إلى الآية المنشودة.
في هذه الفترة صدر كتابي «هارب من الأيام»، فكان من الطبيعي أن أقدم منه نسخة إلى أستاذي الكبير. وكان أقصى أمل أطمع فيه أن يقرأ طه حسين الكتاب. وكان هذا الأمل يلوح لي كسراب في صحراء، يبدو وما يلبث عند التمعن أن يختفي. فلقد أهديت له من قبل «ابن عمار» فلم يذكر لي عنه شيئًا، واستحييت أن أساله، وابن عمار كتيب صغير قد يفرغ منه قارئُه في ساعة وبعض الساعة، فكيف أطلب أو أتصور أن طه حسين جميعًا سيقرأ هارب من الأيام؛ وهي الرواية التي أنافت صفحاتها على الثلاثمائة صفحة … ثم من أنا حتى يقرأ لي طه حسين؟! … إنما عرفني فتًى شابًّا يكتب بعض المقالات في الصحف، ويعجب به إعجابًا شديدًا، وليس هذا ولا ذاك بسبب كافٍ أن يقرأ لي طه حسين، فكم هناك من كُتاب المقالات! وكم له من معجبين! وكنت حينذاك في أواخر العشرينيات من عمري لا أكاد أبدأ الثلاثين، وقد سألني عن سني وعرفه … لا … لا سبيل إلى هذا … لا سبيل.
وفي يوم زارني أمين غراب، وقال هلم بنا إلى الدكتور طه، وسألته: «ما المناسبة؟» قال: «لا مناسبة، لقد قرأ روايتك ويريد أن يراك.» وسمعت الخبر ووجدت له في نفسي صدى الفرحة التي تواتيك إذا تحقق لك هدف لم تتصور أن تجعل منه أملًا لك؛ حتى لا يفجعك انهدامه. ولم ألبث. قمت من فوري مع أمين، فما هي إلا الومضة الخاطفة حتى كنت جالسًا إلى الدكتور طه، وكان معه بعض الزوار. وكان الحديث بينه وبين زوَّاره جاريًا، فتركه في مجراه بعض الوقت ثم مال إليَّ: «هيه يا عم ثروت! روايتك عظيمة!» فقلت: يكفيها شرفًا أنك قرأتها. وحينئذٍ قال جملة سأثبتها هنا مهما يكن في إثباتها من نرجسية. فربما كان رأيي أنا غير هذا الرأي، ولكنها كلمة سمعتها من طه حسين جميعًا ولم أقُلها إلا إلى الخاصة المقربين؛ استحياءً من العجب والزهو، واليوم قد مات الرجل. وقد كنت يوم قال ذلك أتحسس الطريق بخطوات متعثرة في عالم القصة. وقد كنت يومذاك في الثلاثين من عمري، بل لعلي كنت قبيل الثلاثين. أما اليوم فقد وضح منهجي في القصة؛ ومن كان راضيًا عنه فشكرًا له، ومن لم يكن فإني أعتذر إليه أنني لم أستطع إرضاءه، ولكني على كل حال أصبح لي مكاني المحدد الواضح، إن كان قليلًا عند بعض، أو كان كثيرًا عند بعضٍ آخرين؛ فهو قد تحدد، وما كان كان والأمر لله. فأنا اليوم قد تخطيت السادسة والأربعين، ولا سبيل لي أن أغيِّر نفسي أو أغير منهجي، فإذا خيِّل إليك أنني أعتذر عن الجملة التي قالها لي الدكتور، فنعم؛ إني أعتذر. فما كرهت شيئًا قدر أن يمدح الإنسان نفسه، وما وجدت شيئًا يصغِّر بالإنسان قدر المديح الذي يطلقه هو عن نفسه، ولكنك إذا أتحت لي المعذرة أنني ناقل ولست منشئًا لمديح، وإذا أتحت لي العذر أن أكتب كتابًا عن طه حسين بعيدًا كل البُعد عن الدراسة المنهجية والأكاديمية، إذا أتحت لي العذر بهذا جميعًا، فشكرًا لك، وإذا أصررت بعد ذلك على مؤاخذتي فقل إني سخيف، وسأحتملها في سبيل أن أذكر هذه الجملة التي قالها عميد الأدب العربي.
قال الدكتور بالحرف الواحد: «بإخلاص، لم يكتب في تاريخ العربية عن الريف المصري مثلما كتبت أنت في هارب من الأيام.»
فإذا ذكرت أيها القارئ هؤلاء الذين كتبوا في الريف المصري، أولئك الذين لا أجرؤ أن أذكرهم أنا، وإنما أكتفي فقط أن أقول إن عميدنا نفسه قد كتب الكثير من الروايات في الريف المصري، إذا ذكرت هؤلاء ولم تمهد لي المعذرة في أن أثبت هذه الجملة، فمرةً أخرى ارمِني بأني سخيف، وأمري إلى الله.
وبعدُ، فليس هذا الكتاب مديحًا لي، ولكن إذا كان المديح من طه حسين فإني سأذكره واغفروا لي هذا؛ فإن كل إنسان يطرب للمديح، ولكن الإنسان أيضًا مع السن يعرف المديح الذي يخلُقُ به أن يطرَب له، والمديحَ الذي يخلق به أن ينصرف عنه كأنه ما قيل. ومديح طه حسين دائمًا وفي كل وقت مديح يُسعى إليه، فإذا سعى هذا المديح إلى كاتب دون مجهود منه، فإنه إذن مغرور إذا لم يَزْهُ به أو على الأقل يلتمس الثقة بالنفس.
ثم قال الدكتور بعد ذلك: «إنك أديب قلت ما تريد قوله عن طريق الرواية.» وطبعًا لا أنتظر أن تسألني عما أجبت به طه حسين، فإني لم أعُدْ أذكره؛ فقد وجدت نفسي فجأة وبلا مقدمات أديبًا يقرأ له طه حسين ويلقي إليه بهذا الحديث، فلا عجب إذن أن يصيبني الدُّوَار … بل أنواع من الدوار … دوار الفرح … ودوار الزهو … ودوار الشعور بأن الأمل الذي كان يبدو لي بعيدًا في أن أُصبح من جملة الأدباء؛ قد تحقق. وأنواع أخرى من الدوار لم أعد أذكرها اليوم، وقبل أن أقوم قال لي الدكتور: ومع ذلك حاشِدْ ودنك!
قلت: «لماذا يا معالي الباشا؟» قال: سترى
وخرجت مع أمين لا أكاد أحس أنني أسير.
وما هي إلا أيام قلائل حتى ضرب جرس التليفون في منزلي، وكانت جريدة الجمهورية، وطلب المتحدث منها صورة لي لينشرها مع مقال الدكتور طه عني، فأرسلت الصورة ولم أنَم الليل وتنظَّرت الجريدة مع الفجر.
وجلست أقرأ المقال، طبعًا لا تنتظر مني أن أذهب في السخافة إلى المدى الذي يجعلني أنقل إليك المقال، ولكني سأنقل منه بعض فقرات قد يطيب لي أن أعلق عليها.
فأستأذنا لم يعجبه العنوان؛ لأنه لا مهرب من الزمان للكائن الحي ما دام حيًّا، وذلك ما قاله أبو العلاء في بيته الرائع الخالد:
ثم يقول الأستاذ العميد: «وأكبر الظن أن هذا العنوان إنما راق المؤلف؛ لأن فيه شيئًا من الغرابة والغموض يروعانه هو أولًا ويروعان كثيرًا من قرَّائه بعد ذلك؛ وإن كان شيء منهما لم يَرُعْني ولو أني أطعت العنوان لانصرفت عن قراءة القصة، ولحرمت نفسي متعة قيِّمة حقًّا؛ فقد أتيح للأستاذ ثروت أباظة حظ حسن جدًّا من الإجادة مكَّنه أن يفرض عليك المضيَّ في القصة إذا بدأتها حتى تبلغ غايتها، بل مكَّنه من أن يفرض عليَّ أنا قراءتها مرتين لم أباعد بينهما في الزمان.»
ومن أجل هذه الأنا الرائعة نقلت إليك هذه الفقرة؛ فهو فيها يعرف نفسه حقَّ المعرفة … وأي تحية يمكن أن يقدمها لكاتب أعظم من أن يقول: … مكَّنه من أن يفرض عليَّ أنا قراءتها مرتين …
وأنت طبعًا تدرك وقْع هذه الجملة على فتًى لم يجرؤ أن يقيم في نفسه أملًا بأن يقرأ طه حسين روايته.
«وقد لخصت لك هذه القصة في إطالة شديدة وفي إيجاز أشد منها، لم أجد بدًّا من الإطالة لأبين لك أن القصة واقعية في تفصيلها، نائية في جملتها وفي غايتها عن الواقع. كل التفصيلات يعرفها الناس ويرون أشباهًا لها في حياة بعض القرى أحيانًا، ولكن هذه الجماعة التي تأتلف لتأخذ من الأغنياء وترُدَّ على الفقراء ليست من واقع الحياة في شيء؛ ليس من واقع الحياة أن يتخذ الناس الإثم والنكر وسيلة إلى الخير، وأن يتخذوا هذا الخير نفسه وهو إعطاء الفقراء وسيلة إلى اقتراف الجرائم والآثام.»
كل هذا ابتكره خيال الكاتب الشاب ابتكارًا وليس عليه بذلك بأس؛ فمن حق الكاتب أن يستجيب لخياله حتى حين ينأى به عن الواقع شيئًا، ولكن ليس للكاتب أن ينسى أن قصته تُنشر على الناس فيقرؤها منهم الراشدون والقاصرون، ويقرؤها منهم العقلاء والأغرار، وقد ينخدع بعض هؤلاء عن بعض ما يقرءون. وقد يصادف من نفوسهم مواطن الضعف، وقد يورطهم ذلك في بعض ما يسوءُهم، ويسوء الناس بهم. والكاتب مسئول أمام ضميره أولًا وأمام الجماعة التي يكتب لها ثانيًا؛ فليس له بدٌّ من أن يستحضر تبعته حين يكتب وحين ينشر أو يذيع. ولست أدري مِن أين اشتق خيال الكاتب لهذه الصورة، صورة العصبة الآثمة التي تتخذ الإثم وسيلة إلى البر، وتتخذ البر نفسه وسيلة إلى الإثم. أيمكن أن يكون قد قرأ كثيرًا أو قليلًا من أخبار الصعاليك في حياة الجاهلية وفي بعض الأعصار العربية بعد الإسلام؟ أولئك الذين كانت تضيق بهم سبل العيش، ويكرهون النظام الاجتماعي الذي لا يتيح لهم تحقيق ما يطمحون إليه، فيخرجون على النظام، ويستبيحون لأنفسهم النهب والسلب والقتل أحيانًا، ويعيشون في عزلة عن الجماعة لا يدنون منها إلا ليروعوها ويرزءوها في أموالها، ثم ينأون عنها ليعيشوا في عزلتهم أجوادًا كِرامًا يُؤمِّنون الخائف الذي ينقطع به الطريق، ويطعمون الجائع، ويعطون المرحوم، ويرون هذا كله مكملًا لمروءتهم ومحققًا لرجولتهم، ويفاخرون بهذا كله في شعرهم الذي حفظت منه كتب الأدب أطرافًا لا بأس بها.
ولكن عصر الصعاليك قد انقضى، فنحن لا نعيش في البادية ولا في القرن الأول الهجري، وإنما نعيش في الحاضرة ونعيش في القرن الرابع عشر للهجرة، وما ينبغي لعصر الصعاليك أن يعود وهو لم يعُد والحمد لله. أفيكون الأستاذ قد قرأ شيئًا من أخبار هؤلاء الصعاليك الذين يأخذون من الأغنياء ليردوا على الفقراء؟ ولا يغضب الكاتب فقد كنت أحب أن يجد صيغة أخرى غير الأخذ من الأغنياء والرد على الفقراء؛ لأن لهذه الصيغة مكانها الملحوظ من فرض الزكاة وتحبيب الصدقة إلى الناس.
حين قرأت مقال الأستاذ الدكتور ظللت أستعيده حتى قاربت الساعة الضحى، فذهبت إلى منزل الدكتور ووجدته جالسًا بمكتبه، وتقدمت إليه بالشكر فإذا هو يقول: أنت مزعلتش؟
– أزعل؟ وده معقول؟ …
– قل لي إيه قصدك من روايتك؟
– معاليك فهمت قصدي.
– أحب أن أعرف منك.
– معاليك قلت لي أنت أديب قلت رأيك عن طريق الرواية.
– أيوه … لكن عايز أعرف منك.
فقلت له إنني بطبيعة الحال لم أقصد مجرد ظاهر النص، فقال: آه أنا فهمت كده برضه، بس أنا باستحلفك برحمة والدك وبحياتي عندك، إذا كان لحياتي عندك قيمة، ألَّا تذكر ما قصدته لأحد مهما يكن قريبًا منك، فأنا أخاف عليك العواقب … فالواقع أن العواقب غير مأمونة، وأنا قصدت أن أقسوَ عليك، وأفسر الرواية تفسيرًا خاطئًا، وأجعل العمدة هو الهارب من الأيام؛ حتى يمكنك إذا سُئلت أن تستشهد بمقالتي دي على أنك لم تقصد شيئًا.
ألجمني هذا الحديث وفكرت أن أقبِّل الرجل ولم أستطع؛ فقد منعتني هيبته أن أفعل، ولكن وجدت دموعًا تنحدر من عينيَّ لم يَرَها الرجل، فإننا لا نلتقي بحنان الأب في حياتنا إلا نادرًا، بل إنني أوشك أن أقول إن الإنسان لا يلتقي بهذا الحنان إلا مع الأب وحده.
كيف تأتَّى لطه حسين، وهو طه حسين، أن يخطِّئ نفسه ويلوي تفسير القصة بهذا العنف، ويقبل أن يقول عنه القارئ إنه لم يفهم القصة؛ في سبيل أن يحمي كاتبًا لم يعرفه إلا منذ قريب أن يعدو عليه طغيان!
انتهت المقابلة ولا أذكر كيف انتهت، ولكنني أذكر أنني كنت مسافرًا إلى البلدة في ذلك اليوم، وانتهزت فرصة أنني لست في القاهرة، وكتبت خطابًا إلى الدكتور طه كشفت فيه عن مشاعري التي منعني جلاله أن أكشف عنها بمشهد منه.
وصدق حدسي في أن بعض الناس سيقولون إن طه حسين لم يفهم الرواية، فكيف يقول إن الهارب من الأيام هو العمدة وليس كمالًا الطبال! فإن في بعض الناس صَغارًا، وكثير منهم يحب أن يتسقط الأخطاء للعمالقة. وقد استطاع صَغارهم أن يهيئ لهم أن طه حسين الذي علَّم هذه الأجيال جميعًا يخطئ في فهم روايةٍ أبعدَ ما تكون عن الغموض.
وفي بعضٍ آخر من الناس غباء، وفي بعضٍ منهم طيبة، ومن هؤلاء الآخرين أستاذنا فريد أبو حديد. فقد وضعت مقالة الدكتور طه عن هارب من الأيام في الطبعة الثانية وما تلاها من طبعات، على رغم كرهي الشديد للمقدمات في العمل الفني، إلا أن طه حسين استثناء لا يُقاس عليه. وشاءت الجمعية الأدبية المصرية أن تناقش الرواية في ندوة لها، وشاء أستاذنا فريد أبو حديد أن يناقش هذا الرأي للدكتور طه، فسألني «كيف فهم الدكتور طه الرواية على أن الهارب من الأيام هو العمدة، وليس كمالًا الطبال؟» فقلت: «هذا شأن الدكتور طه.» فقال: «ولكنك وضعت مقالته في أول الطبعة الثانية.» فقلت: «لأنها مقالة الدكتور، وكل ما يكتبه الدكتور طه على رأسي من فوق.» فسكت أستاذنا فريد أبو حديد ولم يشأ أن يطيل في النقاش.
توطدت صلتي بعد ذلك بالدكتور طه وشهدت من أخلاقه ما لا يعرفه عنه الكثيرون؛ فهو كريم غاية الكرم، يصل الناس ويخص بصلته المكفوفين، وليس في هذا غرابة. كنت في مجلسه يومًا فقدِم إليه شخص كفيف البصر، ويبدو أنه كان يعلم عنه أنه رقيق الحال فاستدعاه، ومد يده إليه ليصافحه، وطبعًا لم يرَ الضيف يده، فتقدم فريد في دربه ووضع يد كلٍّ منهما في يد الآخر، ثم أخرج الدكتور طه حافظة نقوده، وأخرج منها ورقة مالية وسأل فريد بالفرنسية: «أهذه خمسة جنيهات؟» فقال فريد: «نعم.» فقدَّمها إلى الرجل الذي لم يرَها، ويمسك فريد بيده مرة أخرى ويضعها في يد الضيف. فشكره الرجل ثم سأله عن شأن له، فأنبأه أنه تكلم في أمره إلى المختص، وانصرف الرجل.
ولا أكتمك؛ لقد تأثرت غاية التأثر وأنا أرى فريدًا مرتين يضع يد كلٍّ منهما في يد الآخر، ولا أدري لعلني تذكرت في هذه اللحظات أبيات مطران:
وكان الدكتور كثيرًا ما يطيب له أن يروي ذكرياته. وقد كان دائمًا يروي لي عن أبي قصته، تلك التي رواها في رثائه عن التليفون، ويبدو أنه كان متأثرًا بها غاية التأثر، وروى لي مرةً قصة عن أبيه، لعلها بسيطة ولكني أحب دائمًا أن أرويها؛ فهو يقول إنه حين عُيِّن أستاذًا في الجامعة كان الدرس الأول له عن الجزيرة العربية، فطلب أن تُعَد خريطة بارزة للعالم العربي، واستعان بالسيدة الفاضلة زوجته في معرفة هذه التضاريس باللمس. وقبل أن يدخل المحاضرة طلب أن توضع الخريطة على منصة الأستاذ، ودخل فألقى الدرس عن جغرافية الجزيرة العربية، واستعان في شرح الدرس بالخريطة مشيرًا على تضاريسها وكأنه يبصرها، وحين انتهى الدرس صفق الطلبة تصفيقًا شديدًا أشعره أنه بلغ من نفوسهم ما يريد أن يبلغ، وعند خروجه فوجئ أن أباه كان حاضرًا للدرس، فقال له: وأنت يا أبي لماذا تعذب نفسك بسماع هذا الكلام الذي لا صلة لك به؟ فقال له: ومن قال لك إني أريد أن أفهم شيئًا مما تقول؟
– أمال جاي ليه؟
– جاي أشوفك وأنت بتدرس التلامذة.
لا أدري لماذا … أو لعلني أدري لماذا أتأثر بهذا الحوار كلما ذكرته لأحد، ولا أخفيك أن الدموع تشرئبُّ في عيني الآن وأنا أكتب هذه الكلمات. ولعله يحلو لي أن أذكر فيما أذكر الحلقة التلفزيونية التي أعدها الأستاذ أنيس منصور ليجتمع بعض الكُتاب والأدباء بعميدهم طه حسين في منزله. ولا أعرف أن حلقة تلفزيونية لاقت من النجاح أو النقاش قدر ما لاقت هذه الحلقة. وقد تناقلها التلفزيون في البلاد العربية جميعًا، فكان لها صدًى بعيد حيثما عُرضت، وأذكر من هؤلاء نجيب محفوظ، يوسف السباعي، عبد الرحمن الشرقاوي، د. عبد الرحمن بدوي، أمين يوسف غراب، محمود أمين العالم، أنيس منصور. وقد ذهبنا إلى البيت فوجدنا البيت يضرب يقلب، كما يقول المثل العامي، وأنا أعرف أن السيدة، حرم الدكتور، تحب أن يكون البيت مرتبًا دائمًا، فتوقعت أن تثور السيدة على هذه الفوضى التي أشاعها التلفزيون ومعداته في البيت. وصح ما توقعته؛ فالسيدة ثائرة، وقد كان الدكتور طه في ذلك الحين مريضًا بعض الشيء فزاد هذا من ثورتها، فاستدعتني وقالت لي في حدَّة: «أنت المسئول عن الدكتور؛ إذا أحس بتعب أو ألم فعليك أن توقف التسجيل فورًا، وأنا أتركه أمانة في يديك أنت، وأنت المسئول أمامي.»
فقلت لها: لا تخافي، سأفعل هذا. وخرجت إلى الحديقة حيث كنا ننتظر حتى نُستدعى إلى التسجيل. وكان بالحديقة محمود أمين العالم، وكان في هذه الفترة قد كتب مقالة غاية في العنف مهاجمًا عبد الرحمن الشرقاوي، وقد اتسمت المقالة بشيء أسوأ من العنف؛ فقد كان ينقد مسرحية الشرقاوي «الفتى مهران»، وبدلًا من أن ينقدها نقدًا موضوعيًّا راح يكشف خباياها؛ فأصبح النقد أشبه ما يكون ببلاغ بوليس. وهو أمر تواضع النقد على التعفف عنه، فالرموز في الرواية أمر يتخفى وراء العمل الفني، وفَهْم هذه الرموز يختلف من قارئ إلى آخر، فلا يجوز للناقد أن يفرض فهمه على القراء، وخاصة إذا كان كشف هذه الرموز يُعرِّض الكاتب لما لا تُحمد عقباه.
وجدت أمين غراب يكلم العالِم بشأن المقالة، وسمعت طرفًا من الحديث، وسمعت العالم يقول: «إنني لم أقل شيئًا.» فتملَّكني الغيظ وتدخلت في النقاش فارضًا نفسي لأقول: «إنك لم تفعل شيئًا إلا ما يؤدي بالشرقاوي إلى المشنقة … بسيطة!» وأخذ العالم ولم يُجِب.
وكانت ليلى رستم هي التي تقدم البرنامج في التلفزيون؛ فمن المعروف أن الذي يُعِد البرنامج يكون عادة من الأدباء أو الصحفيين؛ أما مقدم البرنامج فيكون موظفًا في التلفزيون، وكانت ليلى رستم هي الموظفة المختصة بتقديم هذا البرنامج، وإذا هي تقول لي على غير معرفة بيننا: «أنا حائرة ماذا أفعل أو أقول! إنني لم أقرأ لطه حسين غير عشر صفحات من كتاب الأيام.» فقلت لها: نصيحتي ألا تتكلمي مطلقًا … سنسأل وسيجيب هو، فما الداعي لكلامكِ؟ وإن لم أكن نسيت حوار الحلقة فأعتقد أن الأستاذة ليلى أخذت بنصيحتي.
وقمنا بالتسجيل، وتفاصيله معروفة لكل من شاهد هذه الحلقة، إلا أن الناس أخذوا على الدكتور طه أنه قال لأنيس: «إننا لم نتفق على أن تأتي بعشرة كُتَّاب … لقد قلت ثلاثة.» ولو عرفوا ثورة السيدة حَرَمِه والمرضَ الذي كان قد بدأ يعانيه في هذه الأيام، لمهَّدوا له العذر.
وفي الحلقة ثار تساؤل: من يمثل الشباب فيها؟ فقال أمين غراب: إن ثروت هو أصغر الموجودين، وقد كنت كذلك فعلًا، ومن عادتي إذا دافعت عن رأي أن أبدو وكأني غاضب، وإن لم أكن كذلك، وقد أحببت أن أدفع رأيًا قيل؛ من أن الدكتور طه لا يهتم بالأدباء الشُّبَّان، فتكلمت بشيء من الحدة مبينًا أن الدكتور طه يحتضن الأدباء الشُّبَّان ويشجعهم تشجيعًا لا يجدونه عند أديب كبير آخر. ويبدو أن الأستاذ يوسف السباعي ظن أنني غاضب لأنني احتُسبت من الأدباء الشبان؛ فقال في ابتسامته العذبة: أنت زعلت علشان قالوا عليك شاب … حد يطول!
وعلم الله؛ لم أزعل ولم أفكر في الزعل، ولكن هي حدَّتي في الدفاع التي لم أستطع التخلص منها حتى اليوم.
وقبل أن أغادر هذا الفصل يطيب لي أن أروي أبياتًا كان يطالعني بها كلما أبطأت في زيارته … كان يقول:
كم كنت أخجل حين أسمعه يبدؤني بهذه الأبيات! وكم أدرك الآن مقدار التقصير الذي كنت أقع فيه عندما أتأخر عن زيارته! وهو تقصير في حق نفسي؛ فقد كنت أحسب أن المنيَّة لن تَعجَل إليه هكذا وشيكًا … وقد كنت أحسب أنه سيعبُر المائة من عمره بمأكله الهيِّن الذي لا يكاد يقيم الأوَد، وبنفسه الهادئة المطمئنة لا يصيبها هلع أو قلق. ولكن يبدو أن الأيام … أيامه التي رواها، قد انتهبت من الشجرة في نبتها الأول ما جعلها صوحت حين أصبحت دوحة … أترى هل آن لي اليوم أن أقول له: