٣
شارك طه حسين في الحياة الأدبية منذ وهب نفسه للأدب، واعتبر نفسه مسئولًا أمام الرأي العام الأدبي؛ فهو لا يترك عملًا ذا قيمة دون أن يعلق عليه ويبدي فيه رأيه؛ فهو منذ أواخر العشرينيات إلى أن اختاره الله مشغول بأعمال الآخرين، لا يصرفه عنها شيء. كتب عن «أهل الكهف» لأستاذنا توفيق الحكيم، واعتبر مسرح الحكيم هو بداية المسرح العربي.
وكتب بعد ذلك عن كل عمل أدبي يرى أنه يستحق أن ينوه به، فهو يكتب عن أبناء جيله وعن الجيل الذي يليه وعن الجيل الذي تلا جيله.
ولما كنت متفقًا معك أنني لا أقدم كتابًا منهجيًّا، فإنني سأكتفي بأن أقدِّم بعض أمثله مما كتبه في هذا المضمار.
فلتنظر مثلًا إلى ما كتبه عن زميله الدكتور محمد حسين هيكل حين نشر روايته الأخيرة «هكذا خلقت». ومن المعروف طبعًا أن الرواية المصرية وُلدت على يد أستاذنا الدكتور هيكل بخالدته «زينب».
لست أدري أأهنئ صديقنا الدكتور محمد حسين هيكل برجوعه إلى القصة، أم أهنئ القصة برجوعه إليها، ولكني أعلم أن قرَّاء الأدب النقي الصفو هم الجديرون بالتهنئة؛ فقد أتاحت لهم عودة هيكل إلى القصة، بعد أن كان من السابقين إليها، وبعد أن هجرها هجرًا طويلًا غير جميل، أتاحت لهم كتابًا رائعًا جديرًا أن يُقرأ وأن يُقرأ في أناة ومهل، وجديرًا حين يُقرأ أن يملك قارئه أمْرَه كله ووقته كله وملَكاته كلها أيضًا.
فهيكل بارع في هذه القصة لا يتحدث فيها إلى القلب والشعور وحدهما، ولا يتحدث فيها إلى العقل وحده، ولكنه يتحدث إلى هذه الملكات كلها هي وملكات أخرى غيرها، يتحدث إلى السمع بهذا اللفظ السهل العذب النقي البريء من التبذل والابتذال جميعًا، والبريء مع ذلك من التعقيد والتكلف، ومِن هذا التصنُّع البغيض الذي ما زال بعض الناس يشغفون به ويتورطون ويورطون غيرهم فيه، ويتحدث إلى البعض بهذه الأوصاف البارعة لنجوم السماء حين ترسل سهامها المضيئة إلى الأرض، وللشمس حين تغرُب فتملأ كل شيء روعة وجمالًا، وتأخذ على الناظرين إليها أبصارهم وعقولهم وأذواقهم جميعًا، وللقمر حين يلقي ضوءه الهادئ المطمئن على النيل وعلى البحر وعلى الصحراء وعلى قمم الجبال وسفوحها.
وهو يتحدث إلى الضمير حين يقيس أعمال الناس بما فيها من خير وشر، وبما فيها من إحسان إلى الناس أو إساءة إليهم، وبما فيها من إرضاء للعقل والشعور الديني، مجتمعين أو متفرقين، وهو من أجلِّ هذه الأحاديث كلها، لا يشغل بعض ملكات قارئة وإنما يشغل ملكاته جميعًا، وهو من هذه الناحية مريح للقارئ ومتعب معًا؛ يريحه لأنه لا يشغل بعض ملكاته عن بعضها الآخر، ويتعبه لأنه يأخذ القارئ فلا يَذَرُه إلى نفسه وإلى ما يحيط به من ظروف وإلى ما يدعوه من شئون الحياة إلا بعد أن يفرغ من قصته.
وقد قلت إنه يتحدث إلى القلب والشعور، وأيُّ حديث أقرب إلى القلب والشعور من حديث الحب هذا الذي يشقى به صاحبه؛ لما يثير في نفسه من الأهواء المتناقضة والعواطف المختلطة، ويشقى به غيره؛ لِمَا ينغِّصُ عليه من بياض أيامه وما يؤرق عليه من سواد لياليه!
ويشقي القارئ نفسه لما يضطره إليه من العناء كلِّ العناء حين يريد أن يهتدي في هذه الخصومات الملتوية العنيفة بين ألوان العواطف وضروب الشعور. وقلت إنه يتحدث إلى العقل، وأيُّ حديث إلى العقل أكثر متاعًا من حديث هذه القيم الكثيرة لأعمال الناس، وملاءمتها للحق مرة، ومخالفتها له مرة أخرى، وموافقتها للعدل حينًا، وانحرافها عنه حينًا آخر، وائتلافها مع القصد في أول النهار، واندفاعها إلى الجور المسرف في آخره، واضطرابها في هذا المتصل، وتأثيرها بهذا الاضطراب في آراء الناس وأحكامهم فيما يكون بينهم من الصلات، بل فيما يكون بينهم وبين نفوسهم من صلات. وقلت إنه يتحدث إلى الضمير، وأي حديث إلى الضمير أدق وأنفذ وأمضُّ في الوقت نفسه من محاسبة الإنسان لنفسه في كل لحظة من لحظات حياته، وتقدير الإنسان لكل عمل من أعماله وكل لفظ من ألفاظه، وبما يمكن أن يكون لهذا اللفظ أو لهذا العمل من أثر حسن أو سيئ، قوي أو ضعيف، في نفوس غيره من الناس، وأي حديث إلى الضمير أدق وأنفذ من حديث الدين حين يتخذه الإنسان مقياسًا لكل ما يصدر عنه من قول أو فعل، ولكل ما يضطرب في نفسه من تفكير أو شعور. كل هذا تجده في الكتاب؛ فتنعم به وتشقى به أيضًا؛ تنعم به لأنه يمتصك، وتشقى به لأنه لا يخرجك من حيرة إلا ليدخلك في حيرة أخرى؛ ولأنه يضطرك إلى أن تكون مشاركًا لأشخاصه حين يرضون وحين يسخطون وحين يثورون وحين يهدءون. ثم لا يعفيك الدكتور هيكل من أن تشرف من قرب على محاسبة هؤلاء الناس لأنفسهم واحتكامهم إلى ضمائرهم، فترضى عنهم مرة، وتسخط عليهم مرة أخرى، وتوافقهم الآن لتخالفهم بعد حين، وتعطف عليهم في هذه الصفحة من صفحات الكتاب لتصبَّ عليهم نقمتك بعد صفحتين أو صفحات، وأي غرابة في ذلك وقد قلت لك إن هذا الكتاب متعب مريح ومُسْعِد مُشْقٍ وممتع مثير!
كانت تلك هي المقدمة التي مهَّد بها الدكتور طه لنقد رواية «هكذا خُلقت» للدكتور هيكل، ثم هو يمضي بعد ذلك في تلخيص الرواية، كما تعوَّد أن يفعل، ذلك التلخيص الرائع الذي يحيط بالرواية يكاد لا يفلت منها شيئًا. وما أحسبني في حاجة إلى الحديث عما يعانيه الملخِّص من جهد، وخاصة إذا كان ذلك لعمل فني؛ روايةً كان أو مسرحية. وما أصعب هذا التلخيص إذا كان كاتب الرواية من أولئك الكُتاب الجادين الذين يحاسبون أنفسهم على كل كلمة أو حركة يرسمون بها عملهم! فلنمضِ قليلًا مع هذا النقد لنرى كيف أنهى الدكتور طه نقده بعد أن أبدى بعض ملحوظاته على الرواية.
«وملاحظة أخيرة أذكرها ولا أقف عندها؛ وهي أن صديقي هيكلًا لم يُرِد أن يخلف ظني به فيما يظهر؛ فقد كنت أغيظه أيامَ الشباب بأنه يهمل الاحتياط للغته العربية بين حين وحين، وكان يردُّ عليَّ بأني أنا لا أحسن العربية ولا أجيد كتابتها، وهو قد وفى بحقي عليه، فإنه يهمل في غير موضعٍ حقَّ اللغة ليتيح لي أن أذكِّره بأيام الشباب، ومن يدري لعله يحمل هذا الإهمال على خطأ المطبعة وتقصير المصححين! وما أكثر ما يُحمل على المطابع والمصححين! وهو على كل حال لا يستطيع أن يحمل على المطبعة ولا على المصححين إسرافة في استعمال اسم الإشارة الذي طالما عبثت به من أجله؛ لأني أراه منافرًا بعضَ الشيء للذوق المصري الحديث، وهو هاتيك، وما أكثر هاتيك في قصة هيكل، ولو قد وضع مكانها هذه أو تلك لكان له في إحدى هاتين الكلمتين مقنع وغناء.
أما بعد فكل هذه الملاحظات لا تنقص من قدر الكتاب ولا تنقص من قيمته الفنية، ولا تزهِّدُ محبًّا للفن ومشغوفًا بالأدب الجدير بهذا الاسم في أن يقرأه حفيًّا به حريصًا على الاستمتاع بدقائقه، والشيء الذي أستطيع أن أؤكده مطمئنًا هو أن قارئ هذا الكتاب لن يفرغ من قراءته إلا راضيًا مغتبطًا، راجيًا أن يمتعه هيكل بين حين وحين بقصة تشبه هذه القصة.»
وبهذا ينهي الدكتور طه نقده لرواية «هكذا خلقت»، ألا تريد أن نلقي نظرة مرة أخرى على ما نقلته إليك؛ لنرى معًا كيف كان النقد عند العميد فنًّا باذخًا لا يدانيه فيه أحد من ناقدينا! فإنه يندُر بين نقَّادنا من يمارس هذا الفن، الذي يعتبر ركنًا هامًّا في عالم الأدب، بضمير حر خالص من مختلف أنواع التأثر الشخصي. وخير هؤلاء — على سوئه — من يتعصب لأيديولوجية معينة، أما الغالبية الكاثرة فتقيم أسس نقدها على الأحقاد الشخصية.
ولعل عملي في الميدان الأدبي يتيح لي أن أقدم بعض الأمثلة لتشهد بنفسك كيف أصبح النقد عندنا قائمًا على أي شيء غير الضمير.
كنت مرة جالسًا إلى بعض الأصدقاء، وكان معنا الدكتور لويس عوض، ويبدو أن الدكتور لويس كان قد أفرط في الشراب بعضَ الشيء فواتَتْه نوبة من الصراحة العجيبة؛ فإذا هو يقول لي دون أي مقدمات: «أتعرف لماذا لا نكتب عنك؟» ودون أن أدري ما تعنيه نون الجمع هنا، ودون أن أفكر فيما إذا كان قد اصطنعها للتعظيم أم لتشمل قومًا بذاتهم يعنيهم؛ قلت: «لا.» قال: «لأن طه حسين كتب عن أول كتاب لك … أتراك وُلدت عملاقًا مثل التلفزيون؟» وعلت الحاضرين وَجْمة، وسكت. ولم أشأ أن أناقش ولم أشأ أيضًا أن أقول إن الكلمة الواحدة من أي مقال لطه حسين عني تعدل كلَّ ما كتبه لويس عوض فيما مضى من حياته وفيما هو آتٍ منها؛ فقد خشيت أن يظن أي رد مني يحمل معنى الغيظ أو الغضب أنه لا يكتب عني؛ فأنا مِن هؤلاء الذين يؤمنون أن الفنان لا يحتاج إلى وسيط عند الجمهور، فالفنان بفنه فقط، ولعل الدليل على ذلك أنني ما زلت أعيش في الحياة الأدبية، على الرغم من أن الدكتور لويس، ومن عناهم بنون الجماعة، إذا لم يكن يعني تعظيم نفسه — وهو بهذا خليق — لا يكتبون عني، فإن فعلوا هاجموا.
ولنفس الدكتور حكاية أخرى؛ فقد كتب مرةً مقالتين عن المقارنة بين شوقي وعزيز أباظة، وكانت المقالة الأولى موضوعية إلى حدٍّ ما، وأما المقالة الثانية فقد كانت هجومًا لا يتصل بالموضوعية بسبب، وحدث أن لقيته بعد مقالته الثانية فإذا هو يقول: «لقد كانت المقالة الثانية عنيفة لأني خشيت أن يظن الناس أنني أسوِّي بين شوقي وعزيز.» وفي هذه المرة أجبت: «عليك أن تعلم يا دكتور أن رأيك هذا بالنسبة إلى شاعر مثل عزيز أباظة لا يزيد عن كونه رأي فرد في شاعر يُعتبر أكبر شعراء جيله، أردت أم أبيت.» وكم أسِفْتُ أنني لم أقل له: إن السبب الحقيقي في هجومك على عزيز أباظة هو أنه رجل اتخذ من التاريخ العربي مسرحًا لأغلب رواياته، ومن الكلمة العربية أساسًا لجميع شعره. وكم أسفت أنني لم أقل له إن عزيز أباظة خالدٌ مهما تحاول النَّيل منه، أما أنت فلم يظهر لك بعدُ شيء سيُبقي اسمك في عالم الأدب العربي.
أما الدكتور لويس وموقفه من نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، فهو أيضًا موقف كان من شأنه أن يدعو إلى الدهشة، لولا أنه صادر عن الدكتور لويس عوض؛ فقد كان يُغدق عليهما المديح في الجرائد المصرية ويكبل لهما الثناء، حتى إذا فُصل عن العالم العربي وذهب إلى أمريكا، أباح للناس دخيلةَ نفسه، فهاجم الكاتبَين العملاقَين هجومًا أوشِك أن أقول فاحشًا؛ فقد تخطَّى النقد الأدبي الفني إلى المساس بضميرهما الوطني والفني جميعًا.
والدكتور لويس — في الواقع — يتمتع بكمية من الرضاء عن النفس يُغبط عليها؛ فقد حدث مرةً أنْ كنت جالسًا معه، وجاء ذكر السينما، وفهمت خطأً أن له رواية ستنتج في السينما المصرية، فسألته لأتأكد أنني لم أخطئ الفهم: «ألك رواية ستنتج في السينما؟» فإذا هو يقول في ثقة مطمئنة: «لا؛ إن رواياتي لن تنتَج إلا في هوليود.» وسكت طبعًا لم أحِر جوابًا، وقد مر على هذا الحديث عشر سنوات ونيِّف، ولا أدري بعدُ ماذا كتب الدكتور لويس في عالم الرواية ولكنني واثق أن هوليود لم تنتج له شيئًا إلى الآن.
هذا ناقد. وناقد آخر أراه أحقر من أن أذكر اسمه … هاجمني مرة، وإلى هنا لا بأس عليه؛ ولكنني صُدمت حين توليت العمل بمجلة القصة بهذا الناقد يأتي إليَّ معتذرًا عن نقده قائلًا إنه لم يفهم أدبي حقَّ الفهم، وإنه يريد أن يصلح خطأه بأن يكتب نقدًا لرواية لي كانت قد ظهرت في هذه الأيام، وهو يستأذنني أن أنشر النقد بالمجلة، فقلت له ببساطة: «إنك تستطيع أن تنشر بالمجلة أي شيء تريد إلا أن تنقُد كتابًا لي؛ فلست سخيفًا إلى درجة أن أفسح صفحات في مجلة أعمل بها لمديحي.»
وحدث أن اختار بعض الكتاب الشباب قصة قصيرة لي ضموها إلى مجموعة قصصية تضم أعمالهم إلى أعمال كُتاب آخرين ممن تجاوزوهم في السن، وقد اختارت هذه الجماعة ذلك الناقد ليعلق على القصص المنشورة، فراح يكيل لي المديح؛ فعجبت، ومضت الأيام وسافر هذا الناقد إلى لبنان فإذا بي أسمع أنه يهاجمني هناك هجومًا مُرًّا.
وهذا ناقد. وناقد آخر نشب بينه وبين المرحوم محمد عبد الحليم عبد الله خلاف، فإذا هو يقول لي: «طيب يا عبد الحليم هو أنت مش حتكتب روايات بعد كده! والله لأوريك!»
ولك وحدك أن تقدر مقدار الحق في نقدٍ صدَر قبل أن يصدر العمل الذي ينقده. وهكذا ترى أن الجمهور على حق حين تنعدم ثقته بالنقاد، فهم في وادٍ والجمهور في وادٍ آخر، والعجيب أن هؤلاء النقاد جميعًا إما تلامذة للدكتور طه أو هم من أجيال لاحقة به، ولكن يبدو أن النفوس إن كانت مريضة فلا أدب يفيد ولا أديب، كما يقولون، ولكن هذا لا يمنع، ما دمت قد قدمت هذا الحديث عن النقاد، أن أذكر آخرين قلة جديرين بكل تقدير وإكبار؛ ومنهم على سبيل المثال الدكتور شكري عياد والدكتور علي الراعي، ولعل هناك آخرين لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم الآن.
عودًا بنا إلى ذلك الحديث العذب الذي استقبل به الدكتور طه عمل زميله وصديق عمره الدكتور هيكل، أتراك لمست الإنصاف في الحديث؟ فهو يمتدح العمل في موضوعية وأصالة مبينًا ما يدعوه إلى هذا المديح، ثم هو يداعب الدكتور هيكل مداعبة الأخ لأخيه، ولا يعدو مع ذلك الحقيقةَ التي يرتئيها؛ من أن الدكتور هيكل لا يُعنى باللغة العنايةَ التي ترضي الدكتور طه. ويأبى ضمير الدكتور طه الأدبي أن يعدو هذه الملاحظة ويُصِرُّ أن يثبتها في نقده، على رغم الصداقة الوطيدة التي تصله بالدكتور هيكل، وعلى الرغم من معرفته التامة بمكانة الدكتور هيكل الأدبية في مصر وفي العالم العربي أجمع، بل والدكتور طه يعلم أيضًا أي شخصية ضخمة هو الدكتور هيكل بين عمالقة جيله. ولكن شيئًا من هذا لم يمنع الدكتور طه أن يقول رأيه بصراحة ووضوح وبرقة أيضًا وكياسة بالغتين.
وننتقل إلى نقد آخر للدكتور طه، ولنرَ ماذا قال عن خالدة نجيب محفوظ «بين القصرين» كان عنوان المقال «بين القصرين؛ قصة رائعة للأستاذ نجيب محفوظ»، ثم يبدأ المقال هكذا: «فقد أُتيح له في هذه القصة الرائعة البارعة نجاحٌ ما أرى أنه أُتيحَ مثله منذ أخذ المصريون ينشئون القصص في أول هذا القرن، ولكن الأدب المعاصر، كغيره من الآداب على اختلاف عصورها، وكغيره من الإنتاج العقلي؛ شيء نفهمه نحن ولا يفهمنا، ونقدِّره نحن ولا يقدرنا، ونشعر نحن بما يتاح له من نجح وما يفرض عليه من إخفاق، ولا يشعر هو برضانا عنه أو سخطنا عليه.
فلأقدم تهنئتي إذن كأصدقِ وأعمقِ ما تكون التهنئة إلى كاتبنا الأديب البارع نجيب محفوظ، ولأقدمها إليه بلا تحفُّظ ولا تحرُّج؛ فهو جدير بها حقًّا؛ لأنه أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة، ومن العمق والدقة، ومن التأثير الذي يشبه السحر، ما لم يُتِحْه لها كاتب مصري قبله.
وما أشك في أن قصته هذه «بين القصرين» تثبُت للموازنة مع ما شئتَ من كتَّاب القصص العالميين في أي لغة من اللغات التي يقرؤها الناس.
وما رأيك في قصة تتجاوز صفحاتها المئات الأربع، وتقرؤها منذ تبدأ إلى أن تنتهي، فلا تحس بها ضعفًا، ولا تشعر فيها بفتور في أي موقف من مواقفها، ولا تثير فيك إحساسًا بأن الكاتب على إطالته قد أدركه شيء من الإعياء، أو أصابه شيء من التراخي، أو ناله ما ينال الكتَّاب المطوِّلين من هذا الجهد الذي يدعو إلى شيء من الراحة والتنفس في ذلك؟
بل ما رأيك في قصة تتجاوز صفحاتها المئات الأربع، وتقرؤها أنت فلا تشعر في أي وقت من أوقات القراءة بالحاجة إلى أن تستريح منها إلى غيرها من الكتب، أو تستريح من القراءة إلى غيرها من ألوان العمل، وإنما يتجدد نشاطك إلى المضيِّ في قراءتها دون أن يجد الملل أو السَّأَم أو الضعف أو الفُتور إلى نفسك سبيلًا؟ وأنت جدير أن تأخذ في قراءتها فلا تدعها حتى تتمها، لولا أن ظروف الحياة تحول بينك وبين ما يجب من ذلك، وتضطرك إلى الوقوف لتأتي عملًا لا تستطيع تأجيله أو تقرأ شيئًا لا سبيل إلى إرجاء قراءته.
ثم أنت لا تكاد تفرغ من هذا العمل الذي صرفك عنها حتى تعود إليها مدفوعًا إلى هذه العودة، دفعًا لا تستطيع مقاومته ولا الامتناع عليه.
بل أنت لا تفرغ من هذه القصة لتنصرف عنها إلى غيرها من فنون القراءة وألوان العمل، وإنما أنت مضطر إلى أن تفكر فيها تفكيرًا طويلًا متصلًا، وربما أخذت فيما يجب أن تأخذ فيه من أعمالك وقراءاتك، واضطربت فيما يجب أن تضطرب فيه من شئون الحياة، ولكنك ترى نفسك بين حين وحين مضطرًّا إلى أن تعود إلى التفكير فيها، والإعجاب بها، والثناء عليها بينك وبين نفسك، والتحدث عنها إلى الناس حين تلقى الناس.
تقف بعقلك وقلبك عند هذا الموطن من مواطنها، أو هذه الصورة من صورها، فلا تكاد تتحول عنه إلا لتقف عند موطن آخر أو صورة أخرى.
وقد يمضي الوقت الطويل بعد فراغك من قراءتها وإذا أنت على ذلك تعود إليها، فترى أنك لم تنسَ منها شيئًا؛ لأن قراءتك الأولى لها قد ثبَّتت أحداثها وصورها وأحاديثها في نفسك تثبيتًا.
بهذا كله شعرت أنا، وبهذا كله شعر غيري من القلة الذين لقيتهم وتحدثت إليهم عنها؛ فإذا هم قد قرءوها وتأثروا بها كما تأثرت، وقدَّروها كما قدَّرتها، وأحسوا روعتها مثلما أحسست، وألحَّت على عقولهم وقلوبهم كما ألحَّت على عقلي وقلبي.
ومصدر هذا كله فيما أرى أن الكاتب يحقق في هذه القصة، تحقيقًا رائعًا، خصلتين يبلغ بهما الأثر الأدبي أقصى ما يقدَّر له من النجاح؛ وهما الوحدة التي لا تغيب عنك لحظة، والتنوع الذي يذود عنك السأم، ويخيَّل إليك أنك تحيا حياة خصبة حافلة مختلفة المظاهر والمناظر والأحداث.
فأنت تتنقل في كل هذه المظاهر والمناظر والأحداث، لا كما يتنقل المتنزِّه في بستان يختلف فيه الزهر والثمر والشجر، بل كما يتنقل الإنسان في حياة مضطربة لا يمر يوم من أيامها أو ساعة من ساعاتها إلا لقيه فيها حدثٌ من الأحداث، يُرضيه أحيانًا ويُسخِطه أحيانًا، ويثيره مرةً ويردُّه إلى الهدوء مرة أخرى.»
أرأيت كيف يكتب الأستاذ الكبير عن عمل كبير؟ لقد مدح ولم يتَأَسْتذْ، وقدَّم إعجابه صريحًا نقيًّا واضحًا متدفقًا؛ لأنه طه حسين. ولأنه طه حسين لا يستكبر أن يقول: فقد أتيح له في هذه القصة الرائعة البارعة نجاحٌ ما أرى أنه أتيح مثلُه منذ أخذ المصريون ينشئون القصص في أول هذا القرن. وطه حسين من أول من أنشئوا القصة المصرية في أول هذا القرن. ولكنه العملاق الضخم الراسخُ القَدم، الوطيدُ الثقة بنفسه، المترفِّع عن الصغار، يعلن في هدوء ووضوح وإبانة أن كاتبًا قبل نجيب محفوظ لم يُتَحْ له ما أتيح لنجيب من نجاح.
ثم أرأيت كيف يتكلم الدكتور طه في صراحة وصدق عن صلتنا بالأدب الحديث، على الرغم من أن كتبًا كثيرة له تُرجمت إلى لغات أجنبية، ولكنه يعلم أننا، نحن الأدباء العرب، منفصلون عن الأدب المعاصر، فنحن نفهمه وهو لا يفهمنا، ونحن نقدِّره وهو لا يقدِّرنا، ونحن نشعر بما يتاح له من نُجْح وما يُفرَض عليه من إخفاق، ولا يشعر هو برضانا عنه أو سخطنا عليه.
ثم لننتقل إلى أديب آخر وموقف العميد منه، وليكن أديبنا يوسف السباعي، ولننظر معًا موقف الدكتور طه منه. ولعل يوسف السباعي من أكثر أدبائنا إثارةً للجدل حوله.
فأنت تجد المتحمسين له الذين يقرءون كل ما يكتبه في شغف واستمتاع، وفي نفس الوقت تجد النقاد، وبعضًا منهم بصفة خاصة، يَلْوون عنه أعناقهم في صَلَف وتكبر، وهو يوسف السباعي، يمضي في طريقه سعيدًا بهؤلاء الذين يقرءون له ويستمتعون منه، في مصر وفي العالم العربي أجمع، غيرَ حافل في الوقت نفسه بهؤلاء المشقشقين من النقاد، الذين يحبون أن يُظهروا مبلغ ثقافتهم بالغضِّ من شأنه أو إهمال أعماله، بينما الأعمال تشق طريقها إلى القراء غير آبِهة برأي هؤلاء النقاد، ومن يدري لعل هؤلاء النقاد، وكُره الجمهور لهم، يجعل أعمال يوسف أكثر قَبولًا عند القراء، ويجعل القراء أكثر شغفًا بها.
كتب الدكتور طه عن أربع روايات ومسرحية ليوسف السباعي. وله في كل رواية من هاته الروايات رأي بطبيعة الحال، ولكن رأيه في يوسف السباعي يوشك أن يكون واحدًا لم يتغير في أي من هذه المقالات.
فنجده يقول مثلًا عن رواية طريق العودة: «قصة رائعة بأوسع معاني هذه الكلمة وأدقها، وما أعرف أني قرأت للأستاذ يوسف السباعي بعد قصته البارعة السقَّا مات شيئًا يشبه هذه القصة في روعتها وإتقانها وإمتاعها. والغريب في أمرها أنها تبدأ هادئة مطمئنة وحديثًا مألوفًا لا يؤذِن بشيء من جودة، فضلًا عن الروعة. وأعترف بأني مضيت في قراءة الفصول الأولى منها كسلًا أو أشبه شيء بالكسل، وربما نازعتني نفسي إلى الإعراض عنها والأخذ في شيء أنفع منها وأشد إمتاعًا. ولكني عودت نفسي إذا بدأت كتابًا أن أتمه مهما تكن الصوارف عنه والمزهِّدات فيه، فلا أحكم على الأثر الأدبي بجزء منه، وإنما أستقصيه من أوله إلى آخره قبل أن أقول فيه شيئًا أو أُصدر عليه حكمًا.
وقد مضيت في الكتاب واستقصيته، فحمدت الكرى حين أصبحت، وأصطنع هذه الجملة عن عمد لأني كنت أقرأ هذه القصة ليلًا، وأتممتها ذات يوم حين ارتفع الضحى، وأشهد لقد قرأتها مرتين إعجابًا بها ورضًى عنها. والغريب من أمرها أيضًا أنها خلت، أو كادت تخلو، من الخطأ المروع في اللغة العربية، وهذا نادر فيما يكتبه صاحبها.»
أحب أن أقف قليلًا بعد هذه الفقرة، لأحكي لك عن نقاد شهدتهم يذهبون إلى التسجيل في الإذاعة ليناقشوا أعمالًا، لم يقرءوا منها شيئًا أو قرءوا بضعة أجزاء متناثرة، وقصدوا إلى الإذاعة ليسجلوا رأيهم وليوقعوا استئمارة الصرف.
أما طه حسين فقد أخذ نفسه إذا بدأ كتابًا أن يتمه ولا يحكم على الأثر الأدبي بجزء منه وإنما يستقصيه من أوله إلى آخره قبل أن يقول فيه شيئًا أو يصدر عليه حكمًا، بل كثيرًا ما يقرأ العمل مرتين، ولا يجد غضاضةً أن يقول هذا. وهكذا أصبح طه حسين طه حسين، وهكذا سيظل النقاد الآخرون في وادي الخمول والهَزْل والهُزال إلى أبد الآبدين.
نعود إلى طه حسين ويوسف السباعي، فالدكتور طه يرى أن يوسف السباعي من أبرع القصَّاصين ومن أكثرهم جاذبيةً للقارئ، ويرى في أسلوبه أنه أخَّاذ، يتسم بخفة الظل والرشاقة.
وأسلوب القصة مختلف؛ فيه الفكاهة الحلوة التي تصور خفة روح الكاتب حين يصف الدعابة والعربدة والمجون، وفيه الجد الرقيق الذي يصور الحب الناشئ ونقاءه ونزاع النفوس إلى أهوائها، وضبط الضمائر لهذه الأهواء.
وفيه الدعابة المرحة التي تصور وداعة الأطفال ونقاء نفوسهم وسذاجة أعمالهم وأقوالهم، وفيه بعد ذلك كله هذا الجد المُر الذي تنخلع له القلوب وتضطرب له الضمائر أشدَّ الاضطراب.
ولكن الدكتور العميد يأخذ على يوسف دائمًا عدم اهتمامه باللغة، فتجده يشير إلى ذلك إشارةً عابرة في هذا النقد لرواية «طريق العودة»، ولكنه يبلور هذا الرأي بعنف في مقالته عن رواية «إني راحلة»، ثم هو يعود إلى هذا الرأي مرة أخرى بصورة لعلها أخفُّ وقعًا وأيسر قسوةً في مقالته عن رواية «ليل له آخر».
«وإذا لم يكن بدٌّ من النقد وشيء من القسوة على الكاتب، فلأكتف بالأسف الشديد على ما في القصة من هناتٍ تتصل باللغة والنحو، وهذه الصفات مبثوثة في القصة كلها، لا تملؤها لحسن الحظ، ولكنها تظهر فيها بين حين وحين، فيضيق بها القارئ ويأسف لها أشدَّ الأسف، إذا كان هذا القارئ يشاركني الحرص على اللغة العربية الفصحى … والضيقَ بكل ما يسوءها، قل أو كثر، وما أكثر ما رجوت من الكاتب الصديق أن يتحقق أو يعرض قصته قبل أن تُنشر على من يحقق له سلامتها وبراءتها من كل خطأ عربي!»
وهكذا لم تستطع الصداقة الوطيدة التي تقوم بين الدكتور طه ويوسف أن تُعفي كاتبنا من نقد الدكتور طه له حين يتصل الأمر بشأن اللغة. ولم يستطع الإخلاص الذي يكنُّه يوسف ويبديه للدكتور طه في كل مناسبة أن يكفَّ قلم الدكتور طه عن مؤاخذته على عدم اهتمامه باللغة، بل لم يستطع إعجاب الدكتور طه بالفن الروائي عند يوسف أن يعفي هذه الروايات من هجوم الدكتور طه فيما يتصل باللغة، إنه الأستاذ الأصيل الذي يحاسب نفسه على رأيه الأدبي أولًا وقبل أي معنيٍّ آخر.
وحين يكتب الدكتور طه حسين عن «دموع إبليس» للأستاذ فتحي رضوان يُبدي رأيه في جفاف الرواية بأسلوب رائع أخَّاذ.
«وأنت تقرأ القصة فلا تجد فيها رمزًا ولا إيماءً، وإنما تجد فيها تصريحًا واضحًا كل الوضوح، منذ تبدأ القصة إلى أن تفرغ منها، فالأشياء مسماة بأسمائها، والأشخاص مسمَّون بأسمائهم، والأحداث تقع في أرض يسكنها الناس ويشقَوْن فيها ويسعدون ويحسنون فيها ويسيئون، وأنت تستطيع أن تضع هذه الأرض حيث شئت من بلاد الله.
تستطيع أن تتخيلها في مصر لأن الأسماء أمامك كلها عربية، ولأن البيئة تشبه بيئتنا المصرية في القرى، وتستطيع أن تتخيلها بلدًا آخر؛ لأن الشقاء والسعادة والغنى والفقر والنعيم والبؤس، كل ذلك، يعرض للناس حيث يكونون. ومع ذلك فأنت تشعر أثناء القراءة بأن أحداث القصة تقع في عالم آخر قريب من الأرض، ولكنه بعيد عنها يوشك أن يكون فيها، لولا أن هؤلاء الأشخاص، الذين يذهبون ويجيئون ويختصمون ويتفقون، يحيط بهم شيء من الغرابة يُدنيهم منك ويُنئيهم عنك، فهم بينَ بين. وهذا أول ما يرضيك عن هذه القصة؛ لأنه يخرجك من الأطوار المألوفة للناس دون أن يبعدك عنهم، فأنت حين تقرؤها توشك أن تكون في شيء يشبه الحلم، وإن كان أدنى إلى الحق منه إلى الحلم.
ولست أدري كيف يكون موقع هذه القصة من النظارة المصرية لو عُرضت عليهم ممثلةً تمثيلًا متقنًا كلَّ الإتقان؛ أيصبرون عليها أم يقصُرون عن المضي معها إلى آخرها!
ذلك أن القصة صارمة صرامةً متصلة لا يكاد الضحك أو الفكاهة يُلمَّان بها إلا قليلًا، وصرامتها تأتيها من أن كاتبها يفلسِفُ كل شيء، ويفلسف كل كلمة من كلماتها، فموضوعها نفسه فلسفي، وهو الصراع بين الخير والشر في حياة الإنسان والشيطان جميعًا.
وحوارها فلسفي منذ يبدأ إلى أن ينتهي، لا يعرض للطبيعة ولا لفلسفة العلم، ولا يبعد عن الناس، ولكنه قريب منهم عسير عليهم؛ فهو تحليل دقيق صادق فيه كثير من الروعة، ولكن هذه الروعة الصارمة التي لا تحب لعبًا ولا تندُّرًا.»
ويمضي الدكتور العميد في تلخيص القصة ثم ينهي مقالته الرائعة.
«والقصة رائعة اللفظ قد كُتبت في لغة عربية رائعة، لولا هناتٌ تعترضك هنا وهناك، ولكنها قليلة الخطر، وإن كنت أحب للكاتب أن يبرأ من أمثالها. وأنا بصدد ذلك أهنئ الكاتب بإتقانه وإمتاعه، وما أشك في أن قرَّاءه سيشاركونني في هذه التهنئة، وفي تهنئته بشيء آخر، وهو أن أعباء الوزراء لم تحُل بينه وبين هذه اللحظات الخصبة التي يسعد فيها الإنسان بالخَلوة، بين حين وحين، إلى القلم والقرطاس.
لن أستطيع، ولعل غيري يستطيع، أن يستقصي طه حسين الناقد وأثرَه على الأدب العربي طول فترة نيَّفت على الخمسين عامًا، ولكني واثق أنه ليس بين كُتَّاب العربية قاطبة من لم يكن يطمع أن ينال كلمة رضًى من طه حسين، مكتوبةً كانت هذه الكلمة أو غير مكتوبة، وأنا لا أستثني من هؤلاء الأدباء أحدًا كبيرًا ما كبر ذلك الأديب.
وأنا أيضًا عاجز أن أستقصي مواقف طه حسين عميد الأدباء العرب بالنسبة إلى الأدباء، وعاجز أن أتابع مواقفه كإنسان كبير، خاض الحياة مكفوف البصر فقيرًا، يخذُله من كان يرجو منه العون، فإذا هو يقف في دفاع الحياة يتحدى هذا الدفاع بغير سلاح، إلا ثقافته وإلا ثقته الوطيدة بذكائه وعقله، واطمئنانه إلى موهبته الفنية الباذخة.
وينشئ أسلوبه هذا الذي اشتهر به، والذي به يحطم قوالب الإنشاء العربي، ويندلع في الأدب العربي الحديث عملاقًا يستخدم اللفظ، بعد أن كان الأدباء يخدمون اللفظ، على حد قول سارتر، ويختار من السياسيين أبعدهم عن عامة الناس، مؤثِرًا أن يكون مع المثقفين على أن يكون مع الذين يواكبون الجماهير ويتحسسون رغباتهم، ويثبت وطائده على الأرض الصلبة فارضًا نفسه وثقافته على الأصدقاء والأعداء، داعيًا إلى حرية الفكر وحرية البحث، داعيًا إلى تحرير النفوس والعقول والعقائد من كبول التقاليد، ومن أيدي المتزمتين، ومن أعباءِ ما تواضع عليه الناس، كل ذلك مع التزام تام بالحفاظ على اللغة والأخلاق، وعلى ما يقبله العقل وتقبله النفس من التقاليد، فثورته ثورة ذات قانون؛ فهي ثورة مثقفة، يحكمها العقل وتحكمها الأخلاق، وتدعو في ذات الوقت إلى الحرية، وتدور حوله أو يديرها، فإذا هو عنيف، كأشدِّ ما يكون العنف، حين يتصل الأمر بحرية إنسان، يقف إلى جانبه، يؤازره على الطاغوت ويمكِّنه من حريته، وإن كان في موقفه هذا خسرانٌ له وتَلَفٌ لموارده أو لمنصبه.
يدخل معه عبد الرحمن الشرقاوي في نقاش حول وظيفة الأدب ودور الأديب، ويرى الدكتور طه أن الأدب لا ينبغي له أن يوظَّف لأحداث الثورة الاجتماعية، وفي صيف ١٩٥٣م ينشر الشرقاوي مقالًا في جريدة المصري يسأل فيه الدكتور طه حسين عن دوره في حماية حرية الفكر، وهو الرائد الذي علَّم الذين أتوا من بعده كيف يدافع القلم عن الحرية، ويشيع في المقال عتب على الدكتور طه؛ لأنه لم يهاجم هؤلاء الأساتذة الأمريكيين الذين جاءوا إلى كلية الآداب ليدرِّسوا بها الإنجليزية بدلًا من الإنجليز؛ فإذا هم ينتهزون الفرصة ويقومون بما اعتبره الشرقاوي دعايةً سياسية. ويغضب الدكتور طه من هذا العتب، ويكتب ردًّا عنيفًا على مقال الشرقاوي ويتوجه بنفسه إلى جريدة المصري حاملًا المقال. ويلْقاه أحمد أبو الفتح ويقرأ المقال فيجد الدكتور طه يهاجم الشرقاوي هجومًا قاسيًا، متَّهمًا إياه أنه يروِّج للفكر الاشتراكي الذي كان محرمًا آنذاك، ويقول أحمد أبو الفتح للدكتور طه إن عبد الرحمن الشرقاوي مطلوب للمعتقل، متهمًا بالترويج لمبادئ هدامة في روايته «الأرض» التي كانت تُنشر مسلسلةً في المصري في ذلك الحين، كما أنه متهم بهذه التهمة ذاتها من واقع مقالاته التي كان يجادل بها الدكتور طه، وينفُضُ الدكتور طه عن نفسه الغضب، وينسى أن شابًّا من أبنائه عتب عليه عتابًا بلغ به إلى هذا الغضب. ويعود الدكتور طه إلى طه حسين أبي الأدباء جميعًا؛ فهو يسترد المقالة ويحذف منها كلَّ ما يتضمن الهجوم الصريح على عبد الرحمن الشرقاوي، ويكتب بدلًا من فِقرات الهجوم فقرات أخرى فيها تحية وإطراءٌ لعبد الرحمن الشرقاوي.
ذلك هو طه حسين الذي رضي أن يجعل نفسه غير متفهم لرواية «هارب من الأيام»؛ ليحمي كاتبها من الطاغوت، هو نفسه لم يتغير.
وفي يوم بينما كان الدكتور طه حسين مستشارًا لوزارة المعارف عهد الوفد عام ١٩٤٢م، يرسل إليه عبد الفتاح الشناوي، المدرس وقتذاك بمدرسة أهلية بالقاهرة، خطابًا شديد اللهجة يهاجمه هجومًا قاسيًا عنيفًا. وأْذَنوا لي أن أوقف القصة هنا لأقدم إليكم عبد الفتاح الشناوي. إنه من خريجي العلوم، وكان قبل تخرُّجه زعيم طلبة الأحرار الدستوريين بالكلية. وقدمه أبي أول ما عرفه حين سمع، وهو سكرتير عام حزب الأحرار الدستوريين، أن البوليس يحاصر دار العلوم، وأن الطلبة لا تستطيع الخروج، فقصد إلى دار العلوم فوجد الشناوي في ملابسه الداخلية ممسكًا بخرطوم ماء يذود به البوليس أن يدخلوا إلى الكلية. ومنذ ذلك الحين تعرف الشناوي إليَّ، فحين اختير وزيرًا للمواصلات في وزارة أحمد ماهر، اختار الشناوي سكرتيرًا له، ثم أصبح مديرًا لمكتبه، وقد لازمه طوال فترة بقائه في الوزارة، وهي فترةٌ امتدت خمس سنوات، لم يتركه فيها الشناوي إلا فترةً لا تتجاوز الأيام القلائل، تلك التي قضاها وزيرًا أصيلًا للخارجية، وحين ترك أبي الوزارة كان الشناوي في منصب مدير مكتب وزير الأوقاف، وقد كانت آخر وزارة تولاها أبي. وبقي في هذا المنصب فترة طويلة بعد ذلك.
وأنا لم أعرف، وما أظنني سأعرف، وفيًّا في مثل وفاء عبد الفتاح الشناوي، كما أنني لم أعرف، وما أظنني سأعرف، رجلًا جريئًا في الحق وأخًا ومُعينًا على الدهر، ومحبًّا للخير في غير تظاهر، وبعيدًا عن الشبهات في غير سماجة، وقريبًا إلى الله في غير تزمُّت، مثل عبد الفتاح الشناوي.
وفي كتاب طه حسين أحب أن أروي عن الشناوي قصة غير تلك مع الدكتور لتعرف منها جانبًا من جوانبه.
كان مديرًا لمكتب أحد الوزراء وجاء خطاب من مدير مكتب الوزراء في ذلك الحين، معنونًا باسم الوزير مباشرة، فإذا الشناوي يطلب مدير مكتب رئيس الوزراء: حضرتك مدير مكتب رئيس الوزراء؟
– أيوه … نعم؟
– حضرتك بعثت خطابًا إلى وزير الأوقاف بتوقيعك؟
– أيوه … نعم.
– هذا لا يجوز.
– ايه هو الذي لا يجوز؟
– مدير المكتب يجب أن يبعث إلى مدير المكتب والوزير يبعث إلى الوزير حتى لو كان الوزير رئيس مجلس الوزراء.
– أنت عارف بتكلم مين؟
– نعم؛ مدير مكتب رئيس مجلس الوزراء.
– أنا …
وذكر المتحدث اسمه ومنصبه، وهو اسم ومنصب تنخلع له الأفئدة الثابتة في هاته الأيام، ولكن الشناوي ظل على ثباته.
– لا بأس … منصبك هذا وضع آخر، ولكنك هنا مدير مكتب رئيس الوزراء وأنا أكلمك بهذه الصفة.
– الله يلعن أبوك ابن كلب.
– يلعن أبوك ابن ستين كلب.
– أنت ابن …
لا يستطيع القلم أن يكتبها.
– أنت ابن ستين …
ما يزال القلم لا يستطيع أن يكتبها.
ويقفل عبد الفتاح الشناوي التليفون، ولم يكَد حتى يناديه وزيره.
– أنت عملت ايه؟!
– حافظت على كرامتك.
– وأنا قلت لك حافظ لي عليها! … أنا لا شأن لي … مليش دعوة.
– وأنا طلبت منك حاجة … ملكش دعوة … لا شأن لك أنت.
ويذهب الشناوي إلى منزله ينتظر القتل أو يتفاءل وينتظر الاعتقال، ولكن الليل يمر بسلام ويذهب الشناوي في صباح اليوم التالي إلى الوزارة، ويدق عنده جرس التليفون.
– مين؟
– أقول ولا تشتمني؟
– أنا لست قليل الأدب.
– أنا …
ويذكر اسمه الذي تنخلع له الأفئدة الثابتة، ويكمل حديثه.
– أنا غلطان وأعتذر … هل يكفي هذا الاعتذار أم تريدني أن آتي إلى مكتبك لأعتذر إليك؟
– لا، هذا يكفي، وشكرًا.
وينتهي الحادث عند هذا، وتمضي سنوات يلتقي فيها هذا الرجل، الذي كانت تنخلع من هَوْل اسمه الأفئدة، بابن أخ لعبد الفتاح الشناوي فيسأله إن كان قريبًا له، فيقول إنه عمه، فيقول إنه من الرجال القليلين الذين عرَفهم في حياته، ويروي هذه الواقعة على الجمع الذي كان حاضرًا.
وبهذه الجرأة أرسل الشناوي إلى الدكتور طه حسين خطابه. وقد كانت تكفي الدكتور يومذاك مكالمةٌ تليفونية للمدرسة حتى يجد الشناوي نفسه في اليوم التالي في الطريق العام بلا وظيفة، ولكن شيئًا من هذا لا يحدث، بل يحدث شيء آخر مختلف كلَّ الاختلاف. يزور الدكتور محمد عبده عزام الأستاذ الشناوي، ويفاتحه في الخطاب الذي أرسله إلى الدكتور طه حسين.
– وكيف عرَف الدكتور طه صلتي بك؟
– إنني تلميذ له، وهو يعرف أنني من المطرية، وقد ذكرت المطرية في خطابك، وقد سألني عنك فقلت إنك خريج دار العلوم، وأنك مدرس بالتعليم الحر؛ ظنًّا مني أن هناك من يسعى لتعيينك بالمدارس الحكومية. وإذا به يفاجئني بأن يطلب من سكرتيره أن يُريَني الخطاب الذي أرسلته إليه، أهذا كلام؟
– المقصود … وماذا حصل؟
– ماذا حصل؟ تُهت ولم أجد شيئًا أقوله.
– وهو؟
– سكت مليًّا ثم قال لي يا عزام أريدك أن تحضر لي الشناوي؛ حتى أعترف له شفاهًا بالحق فيما يأخذه عليَّ من مآخذ، وحتى أقول له إن كل ما جاء في خطابه هو الصدق بعينه، أما أن أرد عليه كتابةً فهذا لن يكون. وضحك ضحكة المنتصر على نفسه أن استطاع أن يتغلب على غضبه.
وأراد الدكتور عزام أن يصحب الشناوي إلى الدكتور طه، فخجل الشناوي أن يلقاه بعد هذا الهجوم، وأرسل إليه خطابًا يشكر له قبوله لنقده العنيف واحترامه لحرية الرأي. ومرت السنون وانتقل المغفور له الشيخ الأكبر مصطفى عبد الرازق إلى رحمة الله، وندب الزعيم المصري العظيم المغفور له عبد العزيز فهمي باشا عبد الفتاح الشناوي ليُلقي كلمة عنه في حفل التأبين، وهناك التقى بالدكتور طه، وكان من خطباء الحفل، وحين انتهى الشناوي من إلقاء كلمة عبد العزيز باشا، فوجئ بسكرتير الدكتور طه يستدعيه إليه، فإذا هو يبادره: «يا شناوي المطرية دقهلية، لقد أرسلت إليك محمد عبده عزام لتأتي إليَّ؛ حتى أعترف لك بصدق رسالتك، ولكنك أبيت. وها قد تقابلنا اليوم من غير ميعاد، وما دمت محل ثقة أستاذنا عبد العزيز فهمي، فإني يهمني أن أراك.»
فشكره الشناوي على تلطُّفه وسماحته، وظل خجلًا أن يذهب إليه.
أذكر هذه القصة وأذكر قصة أخرى لوزيرٍ أمَر مدير مكتبه أن يحمل خطابًا إلى رئيس وزراء، فإذا رئيس الوزراء يأمر بمدير المكتب أن ينتظر حتى يتسلم الرد، وإذا الرد يتمثل في القبض على مدير المكتب … مدير المكتب وليس الوزير الذي كان قد أرسل خطابًا شديد اللهجة إلى رئيس الوزراء الطاغية.
وأذكر قصة الشناوي فأعود وأذكر ما كان بين الدكتور طه وعبد الرحمن الشرقاوي عام ١٩٦٢م، حين دار حوار بينهما حول التجديد في الشعر. وكتب الدكتور طه مقالًا عنيفًا يهاجم فيه المتأدبين من الشبان، وعاد عبد الرحمن يعتب على العميد إطلاق كلمة المتأدبين على الأدباء الشبان، فرد الدكتور طه بمقال أشد عنفًا اتهم فيه عبد الرحمن بأنه يجهل اللغة العربية، فالأديب والمتأدب بمعنًى واحد … ورد الشرقاوي بمقال يوضح للقراء المصدر الذي اعتمد عليه في اعتباره قيام فارق بين الكلمتين في المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، ورجا الدكتور طه أن يوضح للقراء المصدر الذي اعتمد عليه في اعتبار الكلمتين بمعنًى. فإذا بالدكتور طه يطلع على الشرقاوي وعلى القرَّاء جميعًا بمقال يعتذر فيه عن هذا الخطأ قائلًا: «قُرئ عليَّ القاموس المحيط خطأً.»
إنه هو طه حسين الذي عرف خطاب عمر بن الخطاب الشهير فاتخذه نبراسًا له بأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي. وهو طه حسين الذي تجعله ثقته الوطيدة بنفسه يعترف بالخطأ. وما أرى اعترافه هذا إلا ترفعًا عن الجدال فيما اتضح له صوابه.
وحين فُصل الدكتور طه حسين من جريدة الجمهورية عام ١٩٦٤م، وهو رئيس تحريرها يومذاك، وكانت موجة التشتيت قد اجتاحت عشرات من محرريها وكُتَّابها، وراحت القرارات تلقي رءوسًا إلى الفصل وأخرى إلى النقل لمؤسسات صناعية وتجارية، وكان طه حسين يومذاك في أشد الحاجة إلى مرتِّبه، وطُلب إليه أن يرفع تظلمًا على سبيل الشكل حتى يتاح له أن يعود إلى مكانه، فرفض طه حسين قائلًا: «أنا لا أقبل أن أعاد للعمل في صحيفة تعامل كتَّابها على نحو يدل على الجهل التام بدور الكاتب.»
وهكذا لم يكن غريبًا أن يصبح اسم طه حسين علَمًا على الثقافة العربية، لا في مصر والبلاد العربية وحدها؛ بل في جميع بلاد العالم. وقد بلغ هذه المكانة لا بإنتاجه الأدبي وحده، وإنتاجُه بهذا خَليق، وإنما بلغه بما يُروى عنه من مواقفَ صلبة في الدفاع عن الثقافة والكتاب ودور الثقافة والكاتب في الحياة جميعًا.
كان طه حسين صديقًا للشاعر الفرنسي الكبير أراجون، وكان أراجون قد تعوَّد أن يزور طه حسين كلما عرف أنه في باريس. وذات صيف زار الدكتور طه باريس، وأقام بها بضعة أيام ولم يزُرْه أراجون، على الرغم من أن الدكتور طه ترك له رسالة بالمنزل تنبئه بمجيئه. وعرف أحد المصريين من تلامذة طه حسين أن الدكتور طه عاتب على أراجون، فأبلغ أراجون بهذا العتب، فإذا بأراجون يسارع إلى الدكتور طه ويعتذر له أن رسالته لم تبلغه، ويخرج أراجون ليقول لكل من يلقاه من المصريين أو العرب إن طه حسين كنز ضخم تعتز به الثقافة الإنسانية لا الثقافة العربية وحدها.
ولعل أراجون عرف بموقف طه حسين من الثقافة الإنسانية حين كان رئيسًا لتحرير الجمهورية. وكتب إبراهيم الورداني يهاجم الأدب اليوناني مرتئيًا فيه أنه أدب خرافات وعفاريت، فإذا بطه حسين لا يكتفي بالرد وإنما يهدد بالاستقالة — على حاجته للمرتَّب — إذا عادت الجمهورية إلى نشر هذا المستوى من المقالات.
وبعد؛ فقد قلت لك منذ بدأنا السير معًا في طريق طه حسين إن الذي بيننا هو حديث مطلق حر، لا قيد فيه عليَّ ولا قيد عليك، وإنما أروي لك ما أذكره، كما يقف الابن أمام صورة أبيه يحكي لمن حوله ما كان بينهما من ذكريات. لا … لن أستطيع أن أستقصي الذكريات جميعًا من مواقف طه حسين الشهيرة، فما لهذا اصطحبنا أنا وأنت لنسير في هذا الطريق. وما اصطحبنا كذلك لندرس أو نتدارس طه حسين، فما أنا بهذا … وإنك لواجد عند غيري ما تتوق إليه من دراسة وتدارس، إن كنت إلى هذا تتوق، إنما هو الحديث المطلق الحر؛ فقد كان، طيب الله مثواه، يحب الحديث المطلق الحر، يحب أن يقوله ويحب أن يسمعه. وكان أيضًا يحب مِن محدثه أن يدرك دائمًا أنه إنما يحدث طه حسين. كانت تجلس إليه أستاذة كبيرة من تلامذته، وقالت في أثناء حديثها إنها كانت في المصيف، وفتحت ياء المصيف، كما نقول الكلمة في حديثنا العادي، وإذا بالدكتور طه يقول: مصْيَف؟
فأخذت الأستاذة الكبيرة واستدركت: آسفة أقصد مصِيف … لقد كنت ألقي الحديث ببساطة.
ويقول طه حسين في لهجة الأستاذ المدل على تلميذته: وهل يُتحدث إليَّ أنا ببساطة؟
ولم يرَ رحمه الله حمرة الخجل وهي تكسو وجهها.
كان مهيبًا جليلًا، رأيت أستاذًا من كبار الأساتذة الأجلاء يجلس إليه، وكان هذا الأستاذ معروفًا بتكبره وغطرسته واعتزازه بنفسه، ولكنه أمام طه حسين كان يجلس وذراعاه متشابكتان على صدره، لا يعفيهما من وضعهما هذا المتعب مهما تَطُل الجلسة، وهو يعلم علم اليقين أن الدكتور لا يراه، ولكن احترامه للدكتور كان نافذًا إلى أبعد أعماق نفسه، فذراعاه متشابكتان.
وفي يوم كنت جالسًا إليه، وكان معه أستاذ جامعي من أكبر أساتذة الجامعة، بل من ألمع شخصيات مصر، وكان معروفًا عن هذا الدكتور الجامعي أنه عنيف مع تلاميذه عنفًا لا رحمة فيه ولا هوادة. ودار الحديث وقال الدكتور طه: لا نفس لي للأكل.
– الواحد يأكل بضرسه لا بنفسه.
وإذا بالدكتور طه يقول في هدوء: ما هذه السخافة؟
وذعرت ولكن الأستاذ الدكتور ضحك كأن أباه هو الذي يحادثه.
هكذا كان هو مُنطلقًا بسيطًا قاسيًا في أبوَّة، أستاذًا في تلطف، أبًا للجميع، يحب الجميع أن يكونوا أبناء.
لا سبيل مع الدكتور طه حسين أن تعامل اسمه أو سيرته كما تعامل الأسماء الأخرى أو السير.
فإنني أعتقد أن أديبًا ما لم تُكتب سيرته بالتفصيل الذي كُتبت به سيرة الدكتور طه، ولو لم يكتب فيها إلا خالدة «الأيام» لكان هذا حسْبَها وحسبه. ولكن الواقع أن الكثير قد كُتب بعد ذلك، فقد شغل الدكتور طه النقاد طيلة نصف قرن من الزمان أو يزيد، وقد كان الرجل من أكبر معالم أدبنا العربي إن شاء أحد أن يقدم أدبنا العربي إلى الغرب، ولعلي لا أكون مبالغًا إن قلت: إنه أكبر هذه المعالم وأكثرها شمولًا وأوسعها مجالًا. فكان من المستحيل أن يتكلم شخص عن الأدب العربي الحديث ولا يكون الدكتور طه في مقدمة هذا الحديث.
فمن العبث إذن أن أحاول التنويه بهذه السيرة، ولكنني في الواقع قد وقعت على عدد من مجلة الأدب التي كانت تصدرها جماعة الأمناء برئاسة المرحوم الأستاذ الكبير أمين الخولي. وقد أخذت مجلة الأدب في عددها هذا جانبًا لا أحسب أن مجلة أخرى اتجهت إليه؛ فقد قدمت المجلة ما ليس مشهورًا عن طه حسين وما ليس مشهورًا من أدب طه حسين؛ مقالات قديمة وقصائد لم تُتداول، وقد كنت خليقًا أن أنقل إليك عدد المجلة جميعًا، إلا أنني لا أتسم بالجرأة التي تتيح لي أن أبدأ بدعة لم تكن معروفة، ولعل للتربية المحافظة التي أحاطت بي منذ بدء حياتي أثرًا في ذلك، ولهذا فأنا لا أجرؤ أن أنقل إليك مواد العدد جميعًا، ولكن لعلني ألتمس الجرأة فأقدم إليك بعض ما جاء في هذا العدد، ولعل من الظريف أن أقدم إليك ما لم يذكره الدكتور طه في كتابه «الأيام» من أسماء أقاربه الذين أشار إليهم دون أن يذكر أسماءهم الحقيقية، أو أولئك الذين لم يشِر إليهم أبدًا؛ فوالد الدكتور طه مثلًا اسمه حسين، وليس في هذا جديد، ولكن لعل الأغلبية الكاثرة ممن قرءوا سيرة الدكتور لا يعرفون أن اسمه حسين علي سلامة، وقد كان علي جد الدكتور طه مشتغلًا بالتجارة في مديرية سوهاج. أما حسين، والد الدكتور طه وإخوته الأحد عشر، فقد كان يشتغل بغادريقة الدائرة السنية بالمنيا، وانتقل إلى مغاغة بوظيفة قباني براتب شهري قدره أربعة جنيهات، وكانت الدائرة السنية تبني لموظفيها مساكن، وقد ابتنت بعض هذه المساكن بقرية أو عزبة تسمى عزبة الكيلو؛ لأنها تبعد عن مغاغة بمقدار كيلومتر. وقد استقر حسين بهذه العزبة منذ عام ١٨٨١م، أي قبل مولد الدكتور طه حسين بثمان سنوات. وقد تزوج حسين من أسرة عوف التي كان يتاجر معها أبوه، وهي عائلة تجار بالخرنفش بحي الجمالية، وبنتهم التي تزوجها اسمها نفيسة، وقد ولدت له ابنتين، هما أمينة وجلفدان. وقد روى لي الدكتور طه عن جلفدان، وأذكر أنه كان يذكر لي اسمها مشيرًا إلى الغرابة أن يكون اسم أخته جلفدان، وهي ابنة رجل من الصعيد. أما نفيسة الأم فقد كان الدكتور وإخوته من أمه ينادونها بالخالة نفيسة، وأمينة الأخت الأخرى هي أقرب أخوة الدكتور طه إليه؛ فقد كانت تُعنى به وتقوم بشأنه في حدب وإشفاق. ويمضي عدد الآداب قائلًا إن صحة نفيسة قد اضطرت حسين علي سلامة إلى زواج آخر سببه النزعة الصوفية السائدة في هذه المناطق، تلك التي نوه بها الدكتور طه في كثير من كتاباته.
وقد كان في المنطقة شيخ صوفي من بلدة تسمى السرارية شرقي سمالوط، وكان من تلاميذه ومريديه علي سلامة جد الدكتور طه لأبيه، وموسى محمد جد الدكتور طه لأمه رقية، وهكذا تم الزواج، ولم يكن حسين هو أول زوج لرقية؛ فهي أيضًا كانت قد تزوجت من قبلُ بالحاج يوسف، وكان الدكتور طه وإخوته يدعونه بالخال يوسف، كما كانوا يدعون زوجة أبيهم الأولى بالخالة نفيسة.
أما أبناء حسين فهُم: أمينة وجلفدان ومحمد توفيق وأحمد حسين، وقد كان يسمى وقت أن وُلد بأحمد عرابي، فحين هُزم عرابي صار اسمه أحمد حسين. وبعد أحمد حسين جاء محمود الذي وصل في التعليم العالي إلى البكالوريا، وتهيأ لدخول مدرسة الطب، ولكن الأجل وافاه مصابًا بالكوليرا في إجازة الصيف، وقد كان لوفاته أثر واضح على الدكتور فيما رواه بالأيام. وبعد محمود جاء حامد الذي درس ثم اشتغل بوزارة الأوقاف، ثم فاطمة وزينب، ثم طه حسين في عام ١٨٨٩م، ثم عبد العزيز وياسين، وأخيرًا عبد المجيد عام ١٩٠٣م.
وقد ظل الوالد حسين يعمل في شركة كوم أمبو إلى سنة ١٩٣٢م، ثم عاد إلى المنيا، وتوفي رحمه الله سنة ١٩٤٢م، أما والدة الدكتور طه فقد اختارها الله عام ١٩٥١م. ويمضي عدد الآداب بعد ذلك منوِّها بطفولة الدكتور طه التي شبت بعزبة الكيلو، مع هؤلاء الإخوة ومع هذا الرمد الذي عولج أعنف علاج وأقساه حتى انتهى بهذه الآفة التي يقول عنها الدكتور طه في ذكرياته:
كانت تؤذيه سرًّا ولا تجاهره بالخصومة والكيد. لم تكن تمنعه من المضي في الدرس ولا من التقدم في التحصيل ولا من النجح في الامتحان، وإنما كانت أشبه شيء بالشيطان الماكر المسرف في الدهاء، والذي يكمن للإنسان في بعض الأحناء والأثناء، بين وقت ووقت، ويخلي له الطريق يمضي فيها أمامه قُدمًا، لا يلوي على شيء، ثم يخرج له فجأةً من مكمنه ذاك هنا أو هناك، فيصيبه ببعض الأذى وينثني عنه كأنه لم يعرض له بمكروه، بعد أن يكون قد أصاب من قلبه موضع الحس الدقيق والشعور الرقيق، وفتح له بابًا من أبواب العذاب الخفي الأليم.
والله وحده يعلم إلى أي متجَه في الحياة كان سيتجه طه حسين لولا هذه الآفة، غير أنه إذا كان لنا أن نشق الغيب ونضرب في المجهول، لأصررنا على أن طه حسين لم يكن يستطيع أن يكون غير طه حسين، مبصرًا كان أو غير مبصر؛ فهذه الطاقة العملاقة لا يردها شيء مهما يكن هذا الشيء خطيرًا خطورة البصر.
ولعله لا يجوز لنا أن نعبر مرحلة الطفولة هذه دون أن نذكر هذه الواقعة الطريفة التي يرويها الشيخ أحمد حسين حين كان يصطحب أخاه طه في الطريق إلى ترعة المجرة، التي تمر أمام بيت علي سلامة والمتفرعة من ترعة الإبراهيمية. وتقابل الأخوين في الطريق جاموسة تأخذ عليهما الطريق الضيق، فيركنان إلى جانبه ناحية الترعة، فما يلبثان أن ينزلقا إليها، فيواجه أحمد بدل الويل ويلين؛ الأول وقوعه في الترعة، والثاني أنه أوقع أخاه طه. كما قالت الوالدة للشيخ نخلة شيخ الكتَّاب، وكان لا بد لأحمد أن يلتقي بعقابه عشرين جريدةً على أكعابه، ظل يذكرها ما امتد به العمر.
وحين ينزل الشيخان إلى القاهرة يعتمدان على القدامى من المجاورين، وقد وجههما والدهما أن يسكنا مع مجاور قديم، هو الشيخ صالح أبو حديد، فسكنا في حوش عطا وهو حوش مقسم إلى أرباع، كل ربع بترتيبه، والربع كما لا يزال إلى الآن يشبه الثكنة؛ فهو مقسم إلى وحدات تتكون من الغرفة الواحدة على اختلاف في السَّعة، أو بعض الملحقات من المداخل أو المرافق. وفي الغرفة الأولى على اليسار من الربع الأول من حوش عطا، يسكن طه مع أحمد وصالح أبي حديد المجاور الكبير، ويدفعون في الأودة عشرة قروش أجرة شهرية، ومصروف الواحد من الأخوين عشرة قروش للسكنى وغيرها، بعد الزوادة التي ترسل إليهما مع تجار مغاغة الذين يتوافدون تباعًا إلى القاهرة محملين بما تُطيق الأم أن ترسله، لا تنسى حتى أن تحملهم بالخشب مكسرًا ليكون وقودًا ودفئًا.
ويدخل طه الأزهر الشريف قبل بلوغه السن التي كان محددًا يومذاك للانتساب إلى الأزهر، وهي ١٥ سنة. ويتم هذا بطريقةٍ ما. وتمر السنون وينتقل أحمد وطه من الربع الأول في حوش عطا إلى الربع الثاني بالحوش نفسه، وهو سكن التجار، وترتفع الأودة إلى خمسة وعشرين قرشًا في الشهر، ويشارك الأخوين فيها أخوهما حامد وابن أختهما أمينة ومحمد عبد العال ابن خالتهما زينب، الذي شارك في رفقة طه ليفرغ أحمد لشأنه.
ولعل أهم ما ذكر في هذا الحديث هو الأسماء التي أشار إليها الدكتور طه دون أن يذكرها في كتبه. فقد أخذ نفسه في أيامه ومذكراته ألا يذكر اسمًا حتى نفسه أشار إليها بالفتى.
أما ما بعد ذلك من حياة الدكتور طه فأعتقد أنه لا يحتاج إلى إشارة، فجميعه معروف، وقد قدم هذا العدد من الأدب نماذج من مقالات الدكتور طه في ذلك الحين ومن شعره. ولعل أهم ما جاء في هذه النماذج قصيدة نُشرت في جريدة مصر الفتاة قدمت لها الجريدة قائلة: يرى القارئ في القصيدة البليغة الآتية أن صاحبها الأديب الفاضل قد انتهج فيها أسلوبًا يظنه بعض الأدباء من الأساليب الإفرنجية؛ لاتفاقها مع الشعر الإفرنجي في التقاطيع والروي، ولكن هذا النوع لم يفُت العرب في جاهليتهم؛ فقد كانوا ينظمونه ويسمونه المسمط، وقد نظم فيه امرؤ القيس أسماطًا أتى على أمثال منها صاحب لسان العرب في مادة «سمط»، وكان للعرب الأندلسيين اليد الطولى فيه. وتراه في موشحاتهم التي تفنَّنوا في وزنها ورَويِّها، وأبدعوا ما شاء الله التفنن والإبداع.
وإليك ما قاله حضرة الشاعر المجيد صاحب الإمضاء (طه حسين) في قصيدته التي التزم أن يجعلها أسماطًا، وكل سمط أربعة أبيات، ويتفق البيت الأول مع البيت الثالث في الروي والبيت الثاني مع الرابع كذلك، قال حفظه الله ونصر به الأدب:
•••
•••
•••
وقد أوردت المجلة نماذج كثيرة من شعر الدكتور طه، ونحن بطبيعة الحال حين نذكر شعر الدكتور طه، فإنما نذكره كعلامة تاريخية في أدبه؛ فصاحب هذا النثر الشاهق العملاق لا يمكن أن يكون صاحب هذا الشعر، والظاهر أن موهبة الشاعر تختلف كل الاختلاف عن موهبة الأديب الكاتب مهما يكن هذا الكاتب طه حسين.
وقد سألت مرة الدكتور طه كيف لم تعجب بشوقي وأنت صاحب هذا الأسلوب الموسيقي الرنان؟ وقال الدكتور: لقد أخذت على شوقي أنه يخطئ في التاريخ. ولعل هذه الفترة التي هاجم فيها شوقي من هذه الفترات التي أسف عليها بعد ذلك. وإني لا زلت أذكر يوم أقام أبي حفل تأبين في ذكرى حافظ إبراهيم استمرت ثلاثة أيام بدار الأوبرا، ووقف المرحوم إبراهيم عبد القادر المازني ليقول: لقد كنا أنا والعقاد نهاجم شوقي وحافظ لنقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من أنفسنا ومن الحق.
وقد اعتذر الدكتور طه عن هذه الفترة جميعًا، وقال إن بعض الناس قد أغروه وهو في زهوة الشباب واندفاعه بهذا الهجوم، وهو يقول بعد ذلك إنه لم يأسف على شيء في حياته أسفَه على هذه الفترة وما كتب فيها من مقالات.
ومنذ قريب وقف العقاد العظيم يمتدح شوقي ولكنه في كبريائه، ولا أقول كبره، لم يذكر شيئًا عن سابق هجومه عليه.
إن طه حسين يستطيع أن يعتذر عن حفنة من المقالات لم يرضَ عنها بعد ذلك … فما هي في أدبه إلا كلمة عابرة يستطيع أدبه المحيط أن يبتلعها فلا يبين لها أثر. إن طه حسين الروائي، وطه حسين صاحب الكتب الإسلامية، وطه حسين صاحب النقد المتفرد، وطه حسين الذي فتح النوافذ مع إخوانه على الأدب العربي، وطه حسين الذي خرَّج الأدب العربي الحديث؛ يستطيع أن يقول إنه أخطأ في شبابه، ونستطيع نحن أن نرحب باعتذاره، وكم أديب أقل حجمًا من طه حسين أخطأ ثم أبى أن يقول إنه أخطأ!
حين وُلدَت الرواية المصرية الحديثة على يد أستاذنا المغفور له الدكتور محمد حسين هيكل، وُلدَت كالطفل اللقيط الذي يتخفى أبوه من أبوَّته؛ فقد مهرها الدكتور هيكل بتوقيع مصري فلاح. ولم يكن هذا غريبًا، ولا لوم على أستاذنا ولا تثريب، فلم يكن الدكتور هيكل يعدُّ نفسه أن يكون روائيًّا، بل هو مهيأ لأن يكون كاتبًا سياسيًّا وكاتبًا مفكرًا، ولعله في ذلك الحين لم يكن يفكر أنه سيصير من أعظم مؤرخي السيرة النبوية إن لم يكن أعظمهم. وكانت حكايات أبي زيد الهلالي سلامة والزناتي خليفة تملأ المقاهي على الربابة في ذلك الحين، ولعله خشي أن يرميه خصومه السياسيون بأنه شاعر ربابة يروي الحواديت. وما أكثر ما اختلق خصوم هيكل عليه من أكاذيب! وعلى أية حال لم تكن نظرة هذا الجيل إلى الرواية نظرة الإجلال والإكبار التي تتمتع بها الرواية اليوم، ولعلي لم أعرف أحدًا كان يُجلُّ الروائيين ويُكبِرهم من هذا الجيل، أو من الجيل الذي تلاه، إلا أبي رحمه الله؛ فقد كان يحب الرواية ويُجِلُّ كتَّابها، ولعل هذا يرجع إلى تشرُّبه للثقافة الفرنسية مع ثقافته العربية. ولا شك أن الدكتور هيكل كان يعرف قيمة الكاتب الروائي في الأدب عامة، فإن قليلًا من الناس تهيأ له من الثقافة ما تهيأ للدكتور هيكل؛ فقد نال ليسانس الحقوق قسم اللغة الإنجليزية ثم درس الدكتوراه وقدمها باللغة الفرنسية؛ فهو إذن يجيد اللغتين إجادة تامة، ومثله لا يجهل قيمة الأدب الروائي ولا الكاتب الروائي، ولكنه مع ذلك تحرج أن يكتب اسمه على أول رواية له، بل أول رواية في الأدب العربي كافة. ولست أنسى يومًا دعيت فيه أن أجلس إلى أستاذنا الكبير الدكتور هيكل، لتسجيل حديث لمحطة الشرق الأدنى، وكانت فكرة الحديث أن يجلس الدكتور هيكل إلى واحد من تلامذته، وسأل مقدم البرنامج الدكتور: لقد بدأت معاليك بالرواية، ثم اشتغلت بالسياسة والتاريخ، ثم عدت إلى الرواية مرة أخرى في هكذا خلقت؟
وإذا بالدكتور هيكل يقول في هدوء وبساطة: حين عُزلت وحُرمت حقوقي السياسية رجعت إلى الرواية، وأؤكد لك أنني حين أستعيد حقوقي السياسية فسوف أترك الرواية وأعود إلى حياتي السياسية مرة أخرى.
وأذيع الحديث.
على أية حال، ومهما تكن الأسباب، فقد وُلدَت الرواية المصرية مجهولة الأب رسميًّا، وإن كان الجميع قد عرفوا أباها حين ولادتها. ولم تصبح الرواية أصيلة النسب في الأدب العربي إلا حين كتبها طه حسين وتوفيق الحكيم والمازني وتيمور.
وكتاب الأيام للدكتور طه تعارف الناس بشأنه فيما بينهم أنه سيرة ذاتية؛ لأن الناس تبينوا فيه الدكتور طه وزوجته وابنه وابنته وإخوته وذويه، وهو لم يحاول أن يخفي شيئًا من ذلك، ولكن لا نستطيع أن نضعه مع السيرة الذاتية بغير مناقشة؛ فقد تكلم الدكتور طه عن الفتى بصيغة الشخص الثالث؛ فهو لم يقُل أنا، وإنما روى قصة ذلك الفتى كما نروي أية قصة عن بطلٍ ما نصنعه بخيالنا؛ ليحمل إلى الناس ما نريد أن نقول؛ فهو يبدأ كتابه «الأيام» كما يبدأ أيُّ قاصٍّ قصته.
«لا يذكر لهذا اليوم وقتًا بعينه، وإنما يقرِّب ذلك تقريبًا. وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو عشائه. يرجح ذلك لأنه يذكر أن وجهه تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف، الذي لم تذهب به حرارة الشمس. ويرجح ذلك لأنه على جهله حقيقة النور والظلمة يكاد يذكر أنه تلقَّى حين خرج من البيت نورًا هادئًا خفيفًا لطيفًا، كأن الظلمة تغشى بعض حواشيه. ثم يرجح ذلك لأنه يكاد يذكر أنه حين تلقى هذا الهواء وهذا الضياء لم يُؤْنِس من حوله حركة يقظة قوية، وإنما آنس حركة مستيقظة من نوم أو مقبلة عليه. وإذا كان قد بقي له من هذا الوقت ذكرى واضحة بينة لا سبيل إلى الشك فيها، فإنما هي ذكرى هذا السياج الذي كان يقوم أمامه من القصب، والذي لم يكن بينه وبين باب الدار إلا خطوات قصار. هو يذكر هذا السياج كأنه رآه أمس.»
فهو إذن يريد أن يقدم إليك حياته كقصة. وعلينا، نحن القراء، أن نستقبل هذا العمل كقصة؛ لأن مؤلفها يريد لها ولنا ذلك. قد نعرف الأبطال ونتبين حقيقتهم؛ لأننا عايشنا الدكتور طه وعايشنا بعضًا ممن ذكرهم في القصة، وعرفناهم عن قرب أو عن بُعد أو عن سماع. ولكن الكتاب ليس مكتوبًا لنا وحدنا، نحن أبناء مصر، ولا لنا، نحن أبناء الأمة العربية، إذا قُدِّر لأبناء الأمة العربية أن يعرفوا عن الدكتور طه ما نعرف، بل إن هذا الكتاب قد تُرجم إلى عدة لغات. وشرَّق الكتاب وغرَّب، وما أظن أن النقاد قد لاحقوه حيث ذهب ليخبروا الناس في شتى بلدان العالم أن هذا الكتاب سيرة ذاتية. وحتى لو لاحقوا الكتاب وقرَّاءه وأخبروهم أنه سيرة ذاتية لظل الكتاب مع ذلك رواية؛ لأن العمل الفني يقوم بذاته لا بتفسير الناس والنقاد له. والكتاب أيضًا ليس مكتوبًا لنا نحن أبناء هذا الجيل، وإنما المفروض في العمل الأدبي أنه يوجد ليبقى ولتتوارثه الأجيال، فإذا مات في الطريق إلى هذه الأجيال، فهذا لا ينفي أنه في أصل وجوده إنما وجد ليبقى، والموت بالنسبة إليه عارض، ولم يكن مقدورًا له يوم وُلد. وعلى كل حال فكتاب الأيام من الكتب التي تحمل تباشير بقائها إلى ما بعد فناء هذا الجيل على أقل تقدير.
فهو إذن رواية بكل ما تقوم به أركان الرواية.
وبهذه الرواية وبروايات الدكتور طه الأخرى: دعاء الكروان، شجرة البؤس، أحلام شهرزاد، أوديب، الحب الضائع، المعذبون في الأرض. وبروايات توفيق الحكيم: عودة الروح، الرباط المقدس. وبروايات المازني إبراهيم الكاتب، وإبراهيم الثاني، وميدو وشركاه، وعود على بدء. وبقصص محمود تيمور الأولى. بهذه الروايات والقصص ولدت الرواية والقصة المصرية ولادة شرعية تعرف أباها وتنتسب إليه. وحين ولدت الرواية هذه الولادة الشرعية قبل الدكتور هيكل الرجل المحافظ أن ينسب روايته إلى اسمه، فظهرت الطبعة الثانية من رواية زينب ممهورة باسمه الصريح الدكتور محمد حسين هيكل.
إذن فالأيام رواية، فماذا إذن فعلت الأيام في دنيا الرواية؟ أنا لا أنسى يومًا كنت أسير فيه مع عملاق الرواية نجيب محفوظ، منذ ما يقرب من عشرين عامًا، فقلت له: إنني أعتقد أن طه حسين في الرواية أقل منه في ميادينه الأخرى، وإذا هو يقول: لا نستطيع أن ننسى أن طه حسين قد فتح الأبواب لألوان كثيرة من الرواية العربية؛ فقد كتب صراع الإنسان مع القدر في الأيام، وكتب رواية الأسرة في شجرة البؤس، وكتب صراع الإنسان مع التقاليد في دعاء الكروان. ووجدت منطق نجيب قويًّا وصادقًا، واتجهت بتفكيري إلى هذا المتجه، وأستطيع اليوم أن أزيد أنه كتب الرواية الرمزية في أحلام شهرزاد وصراع الإنسان مع نفسه في أوديب والأسطورة الإسلامية في على هامش السيرة. إن طه حسين فعلًا قد فجر في الرواية العربية ما لم تكن تعهده، ولنتنقل معًا في بعض رواياته.
إنه في الأيام يصور شخصية الطفل الكفيف يلتقي بالحياة، أولَ ما يلتقي بالحياة، فاقدًا بصره، ويقدم شخصية فتاه وهو يصارع الحياة جميعًا بعد أن سلبته عنصرًا من أهم عناصر كفاحه. إنه لا يرى الحياة حتى يصارعها … إنه لا يرى عدوه حتى يتقي ضرباته أو يسدد إليه الضربات. ومن عجب بعد ذلك أن يصيب العدو ويقهر الحياة ويرغمها على أن تكون في ركابه بدلًا من أن تكون من أعدائه. إنها قصة ذلك الإنسان الذي استطاع بجهده أن يصبح شكله مقبولًا لا تقتحمه العين ولا تزدريه، وأن يهيئ لابنه وابنته حياة راضية، واستطاع أن يثير في نفوس كثير من الناس ما يثير من حسد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس ناس آخرين ما يثير من رضًا عنه وإكرام له وتشجيع.
تلك هي رواية الأيام لطه حسين … إنها هذا الصراع العاتي الذي بدهت به الحياة، فتًى طفلًا فقيرًا كفيفًا، يحيط به جهل القرية، ويحاصره من كل جهاته، ثم يصبح مع ذلك إلى ما صار إليه وهو في ريعان العمر وريق الشباب.
إنها قصة أوديب الملك الذي صارع القدر وفقأ عينيه، وإن كان الفتى قد صارع القدر بعد أن فقد عينيه. لا صلة بين الروايتين في التفاصيل والأحداث، ولكن الروايتين تصدران عن منبع واحد؛ كلا البطلين صارع القدر. وأظن أن أستاذنا لم ينسَ هذه المقارنة وهو يجعل راوي القصة يقول لابنة الفتى الذي يروي عنه: «نعم يا ابنتي! لقد عرفت أباك في هذا الطَّور من حياته، وإني لأعرف أن في قلبك رقة ولينًا، وإني لأخشى لو حدثتكِ بما عرفت من أمر أبيكِ حينئذٍ أن يملككِ الإشفاق وتأخذكِ الرأفة فتجهشي بالبكاء.
لقد رأيتكِ ذات يوم جالسة على حجر أبيك وهو يقص عليك قصة «أوديب ملكًا»، وقد خرج من قصره بعد أن فقأ عينيه لا يدري كيف يسير، وأقبلت ابنته أنتجون، فقادته وأرشدته. رأيتكِ ذلك اليومَ تسمعين هذه القصة مبتهجةً من أولها، ثم أخذ لونكِ يتغير قليلًا … قليلًا، وأخذت جبهتكِ السمحة تربدُّ شيئًا فشيئًا، وما هي إلا أن أجهشتِ بالبكاء وانكببتِ على أبيك لثمًا وتقبيلًا، وأقبلت أمكِ فانتزعتك من بين ذراعيه، وما زالت بكِ حتى هدأ روعكِ. وفهمت أمكِ وفهم أبوكِ وفهمت أنا أيضًا أنكِ إنما بكيتِ لأن أوديب الملك كان كأبيكِ مكفوفًا لا يبصر ولا يستطيع أن يهتدي وحده؛ فبكيتِ لأبيكِ كما بكيتِ لأوديب.»
ويقول راوي القصة قبل ذلك مجمِلًا ذلك العنت الذي لاقاه الفتى:
«لقد كان أبوكِ ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهرين من خبز الأزهر! إن كانوا ليجدون فيه ضروبًا من القش وألوانًا من الحصى وفنونًا من الحشرات. وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز الأسود إلا في العسل الأسود، وأنتِ لا تعرفين العسل الأسود، وخير لكِ ألا تعرفيه.»
ذلك بعض من العناء أجمله الراوي إجمالًا، وربما فصَّله بعد ذلك في أجزاء الأيام الأخرى، قد أصبح من الشهرة بحيث لا يحتاج إلا إلى الإشارة والعناء الأكبر ذلك الذي يقوله راوي القصة حين يقول: «كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه وخامس أحد عشر من أشقَّته، وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكانًا خاصًّا يمتاز من مكان إخوته وأخواته، أكان هذا المكان يرضيه؟ أكان يؤذيه؟ الحق أنه لا يتبين ذلك إلا في غموض وإبهام، والحق أنه لا يستطيع الآن أن يحكم في ذلك حكمًا صادقًا. كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينًا ورفقًا، وكان يشعر من إخوته بشيء من الاحتياط في تحدُّثهم إليه ومعاملتهم له. ولكنه كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئًا من الإهمال أحيانًا، ومن الغلظة أحيانًا أخرى. وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئًا من الإهمال أيضًا والازورار، من وقت إلى وقت. وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه؛ لأنه كان يجد فيه شيئًا من الإشفاق مَشوبًا بشيء من الازدراء.
على أنه لم يلبث أنْ تبين سبب هذا كله؛ فقد أحس أن لغيره من الناس عليه فضلًا، وأن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وينهضون من الأمر لما لا ينهض له، وأحس أن أمه تأذن لأخواته وإخوته في أشياء تحظُرها عليه، وكان ذلك يحفظه. ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق؛ ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به؛ فعلم أنهم يرون ما لا يرى.»
مسكين ذلك الفتى، لقد استقبلته الحياة بالهول أيِّ هول، وأرادت منه مع ذلك أن يصارعها. لكَمْ شقيَ بطل رواية الأيام بذلك المكان الخاص الذي يمتاز به من مكان إخوته وأخواته! ولكَم شقيَ برحمة أمه ورأفتها، وبلين أبيه ورفقه، وباحتياط إخوته في معاملتهم له! وشقي نفس الشقاء بإهمال أمه أحيانًا، وغلظتها في أحيان أخَر، وبإهمال أبيه وازوراره من وقت إلى وقت! وشقي نفس الشقاء، بل أكثر، إن كان هناك أكثر، بإشفاق إخوته وأخواته ذلك المَشوبِ بشيء من الازدراء.
أفانين من الشقاء وألوان من الألم في مطالع الحياة التي يستقبلها الأطفال، كلُّ الأطفال، لينًا ولهوًا وبُلَهْنيَةً وسعادة وأملًا واطمئنانًا.
وتمضي به الحياة لا تعفيه، فيروي عن أخيه الذي أعطاه نظارة واستردها، وهو نفسه من كان يقتر عليه لينال من نفقته الضئيلة، ويمتع نفسه بها مرتاح الضمير هادئ النفس. ويروي عن الحرب شنَّت عليه لأنه دعا إلى حرية الرأي … ويروي … ويروي …
وتستمع الأيام لما يروي، وترضخ الأيام لعزمه وتلين لجبروته، وهو يغزوها مُطمئنًّا أنه يحمل في نفسه شيئًا يريد أن يقدمه للعالم ويقدمه، ويبلغ من الأيام ما يريد لنفسه أن يبلغ.
فأي صراع مع القدر أقوى من هذا الصراع! وأي رواية تستطيع أن تضم في أحنائها أشجار الإسنان مع الحياة قدر ما ضمت رواية الأيام!
فإذا انتقلنا إلى رواية دعاء الكروان وجدنا ذلك الصراع بين البيئة والإنسان، وإن كان الإنسان قد انتصر في رواية الأيام، فإن البيئة والمجتمع قد انتصرا في دعاء الكروان. والواقع أن المجتمع وإن كان جزءًا من الحياة إلا أنه أقوى من الحياة. ولست بناقل لك تلخيصًا لرواية دعاء الكروان، صغُر هذا التلخيص أو كبر، وإنما هي الإشارة العابرة ثم نمضي. فإن لم تكن قد قرأت الرواية فأنت مقصر في حق نفسك، وإن شئت فالتمسها فإنك واجدها؛ فكتب طه حسين لا تنفَد من الأسواق لأن المطابع تطبعها دائمًا؛ لتواجه بها مطالب الأجيال الثقافية من القراء.
وقد كان آخر اتفاق مع الدكتور طه هو ذلك الذي تم بينه وبين دار الكتاب اللبناني، التي طبعت كل أعماله في خمسة عشر مجلدًا، وقد كان عجيبًا أن تقوم لبنان بذلك ولا تقوم مصر! ولعل الأعجب من ذلك أن أعجب أنا؛ فإن شيئًا لم يعُدْ عجيبًا في بلدنا.
على أية حال فالرواية لا تحتاج إلى تلخيص، والعمل الفني بطبيعته غير قابل للتلخيص، ولكن الرواية في أسلوبها الشاهق الناصع تقدم لك مأساة فتاة تصارع تقاليد الصعيد، وويل لأهل الصعيد من تقاليده! وويل للصعيد من تقاليد أهله!
والدكتور طه يقول في الصفحات الأولى من الرواية على لسان الفتاة التي تروي القصة: «لبيك! لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب مَقدَمَك وأنتظر نداءك، وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك وأسمع صوتك وأستجيب لدعائك، ألم أتعوَّد هذا منذ أكثر من عشرين عامًا؟
لبيك! لبيك أيها الطائر العزيز! ما أحبَّ صوتَك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم آمنةً لا تخاف، صامتة لا تسمع! إن صوتك إذن لأشبه الأشياء بأن يكون صوتًا لروح من هذه الأرواح، ليذكرني روح هذه الأخت التي شهدت مصرعها معي في تلك الليلة المهيبة الرهيبة. وفي ذلك الفضاء العريض الذي لم يكن من سبيل إلى أن يسمع الصوت فيه مهما يرتفع، ولا أن يجيب المستغيث فيه لمن استغاث.
لبيك! لبيك أيها الطائر العزيز! ادنُ مني إن كان من أخلاقك الدنو، وأْنس إليَّ إن كان من خصالك الأنس إلى الناس، واسمع مني وتحَّدث إليَّ، وهلم نذكر تلك المأساة التي شهدناها معًا، وعجزنا عن أن ندفعها أو نصرف شرها عن تلك النفس الزكية التي أُزهقت، وعن هذا الدم البريء الذي سُفك.
فلم نزد حينئذٍ على أن بعثنا صيحات ترددت في ذلك الفضاء العريض، لكنها لم تبلغ أذنًا ولم تصل إلى قلب، وإنما صعدت إلى السماء حين هوى ذلك الجسم الجميل الممزق في تلك الحفرة التي أُعدَّت له إعدادًا، ثم هيلَ الترابُ وسوِّيت الأرض، وأنت تدعو ولا من يستجيب، وأنا أستغيث ولا من يغيث، وامرأة متقدمة في السن قد انتحت ناحيةً وجلست تذرف دموعها في صمت عميق، ورجل متقدم في السن قد قام غير بعيد يسوي الأرض ويصب عليها الماء ويردها كما كانت، ثم ينتحي قليلًا ويزيل عن جسمه وثيابه آثار الدم والتراب، ثم يرتفع صوته آمرًا أنْ هلم؛ فقد آن لنا الآن أن نرتحل.
منذ ذلك الوقت تم العهد بينك وبيني أيها الطائر العزيز، على أن نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل؛ حتى نثأر لهذه الفتاة التي غودرت في هذا الفضاء، ثم نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل بعد أن نظفر بالثأر، ليكون في ذكرنا إياها وفاءٌ لهذه النفس التي أُزهقت، ولهذا الدم الذي سُفك، ورضًا عن الانتقام، وقد ألمَّ بالآثم المجرم وردَّ الأمر إلى نصابه، وأراح هذه النفس التي ما زالت تطلب الريَّ حتى تظفر بالثأر من الذين اعتدوا عليها.
لبيك! لبيك أيها الطائر العزيز! إنا لنلتقي كلما انتصف الليل منذ أعوام وأعوام فندير بيننا هذا الحديث، أفتَدَعُني أقُصَّ أطرافًا منه على الناس؛ لعلهم أن يجدوا فيه عظة تعصم النفوس الزكية من أن تُزهق، والدماء البريئة من أن تُراق؟»
ويستطيع النقاد أن يوجهوا إلى هذه الفقرة، بل إلى الرواية كلها من خلال هذه الفقرة، ما يشاءون من نقد، فهم يستطيعون مثلًا أن يقولوا ما هذا الجرس اللفظي الموسيقي المحكم? وكيف يتأتى لفتاة في أعماق الصعيد أن توقع هذا الكلام العذب الذي توشك مقاطعه أن تكون شعرًا؟ ليس هذا الحديث حديث الفتاة، وإنما هو حديث طه حسين. لا واقعية في هذه القصة، إنما هي محاضرة يلقيها الدكتور طه حسين الأستاذ الجامعي على قرَّائه.
وقد قالوا هذا فعلًا أو قريبًا من هذا. وهؤلاء النقاد يحمِّلون الواقعية فوق ما تحتمل، فإن أحدًا لم يقل إن الواقعية نقل من الواقع، فالكاتب ليس مصورًا فوتوغرافيًّا، وإنما هو قصَّاص، والذي ينقل الواقع هو المصور الفوتوغرافي أو الصحفي الأمين، ويندر بين قصص الحياة ما يحتمل النقل بلا تحريف. إن وظيفة القصاص الواقعي أن ينقل عن الحياة لا قصصها، وإنما واقعها. فالحدث واقعي إذا كان قابلًا للوقوع في الحياة. فالواقعية مذهب طور الرومانسية التي كانت تحفل بالمبالغات في التسامي أو الشرور، ونقل الحياة كما يمكن أن تكون الحياة. وهناك قصص كثيرة يراها القصَّاص وقد ألفتها الحياة، ومع ذلك لا يستطيع القاص أن ينقلها إلى الفن؛ لأن الفن سيجفوها ويرفضها، فهي خالية من المنطق. فالحياة حين تؤلف لا تُعنى في كثير أو قليل بمنطق المتفرج أو رأي النقاد أو نظام الحياة نفسه. إنما القصة التي تؤلفها الحياة هي قصة تكسر طبيعة الأمور ومجرى الحياة العادي، تفتعل من الأحداث ما لا يقبله منطق ولا عقل، بينما القصَّاص لا يجرؤ أن يجاريها في هذه الجرأة على طبيعتها. والعجب أن وظيفة القاص تظل مع ذلك، وبعد ذلك، هي أن ينقل أحداثًا غير طبيعية، على أن ينقل معها منطقها الذي يسوغها للقارئ ويجعلها مقبولة عنده، وهذه هي الواقعية، وهي بعد ذلك قد تحمل رأي الكاتب صريحًا أو مهموسًا. ولكن لا بد أن يتدثر هذا الرأي بالعمل الفني. فالقصة في الواقع — في رأيي — عبارة عن انعكاسين؛ الأول هو انعكاس الحياة أو أحداث معينة وأشخاص بذواتهم من الحياة، على نفس الكاتب، ثم انعكاس هذه الأحداث وأولئك الأشخاص وقد تضافروا في تكوين عمل قصصي فني من نفس الكاتب إلى قرائه. وفي هذا الانعكاس الثاني لا بد أن يرى القارئ كاتبه باللون الذي عرفه، إن كان كاتبًا معروفًا، أو باللون الذي اختاره الكاتب لفنه، أو فُرض عليه بحكم ثقافته. وهكذا يختلف طه حسين عن المازني عن توفيق الحكيم عن هيكل عن تيمور عن نجيب محفوظ عن السباعي عن عبد الرحمن الشرقاوي عن عبد القدوس عن عبد الحليم عبد الله.
ثم هناك بعد ذلك نوع من الخداع البريء المتفق عليه بين القارئ والكاتب. فالقارئ يعلم أن الكاتب لا يروي له تاريخًا، وإنما هو يقص عليه قَصصًا يريد به أن يقول شيئًا له. فالقارئ يُقبل على كاتبه إذا استطاع أن ينسيه أن ما يحكيه له خيال لم يقع في واقع الحياة، والكاتب يعلم هذا عند قارئه؛ فهو يحاول ما وسعه الجهد أن يقدم فنه وكأنه أمر واقع، يحاول ما وسعه الجهد أن يُنسي القارئ أن ما يرويه له هو انعكاسه الفني. فالقارئ إذن لا ينتظر من قصَّاصه الصدق في الحكاية، وإنما ينتظر منه الصدق في الفن، والطريق إلى هذا ليس هو التهافت في الأسلوب، كما يظن البعض، وليس العامية في الحوار، كما يظن البعض الآخر، فكل هذه تفاصيل يلجأ إليها الشداة الجدد الذين لم يتكون لهم أسلوب بعدُ ولا يطيقون أن يديروا الحوار بالعربية البسيطة. إن الطريق إلى ذلك أن يكتب الفنان نفسه وهو يكتب ولا ينظر إلا إلى نبض قلبه هو لا نبض قلب غيره. فلو أن إحسان عبد القدوس كتب دعاء الكروان وكتب هذه الفقرات التي سقتها إليك، لَمَا أقبل قارئه عليه، ولا أقبل عليه أيضًا قارئ طه حسين. إن هذه الفقرات التي سُقتها إليك هي طه حسين، ولا يمكن أن يكون طه حسين إلا هكذا.
فليس على أستاذنا من بأس أن يومئ إلى بعض من أحداث روايته في أول الرواية، فما زال بنا شوق أن نعرف كيف حدث هذا الذي يومئ إليه.
وقد يقول بعض النقاد إن هذا الأسلوب الجميل قد يصرف القارئ عن أحداث الرواية ليستمتع بالأسلوب. وهذا تخريف؛ فالثوب الجميل يزيد الشخص الجميل الذي يلبسه جمالًا. ولا يمكن أن تنصرف عيناك عن جمال الشخص إلى جمال ملابسه، بل إن جمال كلٍّ منهما يزيد الآخر تألقًا وإشراقًا. وما أجمل أن تقرأ قصة في موسيقى أسلوبية كهذه التي يعزف بها طه حسين حين يكتب!
ولا شك أن كثيرًا من النقاد سيقولون إن هذه الجمل الوعظية التي جاءت في آخر الفقرة تتنافى مع هدف العمل الفني جميعًا، فالمفروض أن الموعظة — إن كان لا بد أن تكون هناك موعظة — تُستَشف من العمل الفني في جملته بغير تصريح، فإن صرحت انتقل العمل الفني من القصة إلى المقالة. وقد يصيبون بعض الحق إن قالوا هذا، ولكن لو تذكرنا أن هذه الرواية قد كُتبت في عام ١٩٣٤م، وهي من أوائل الروايات التي نقلت الفن الروائي إلى عالم الواقعية، ولو تذكرنا أن قرَّاء هذه الفترة لم يكونوا قد مَرَنوا بعدُ على قراءة الرواية، لقَبِلْنا من أستاذنا هذا الذي كتبه؛ فقد كان يمهد الطريق، فلا عليه إن هو ترفَّق بالقارئ وهو يجتذبه إلى طريق جديدة عليه لم يتعود السير فيها.
ولو لم يفعل هذا أستاذنا الدكتور طه حسين لاضطر أن يفعله أستاذنا نجيب محفوظ؛ فإن نجيبًا كتب بالاكتمال الذي كتب به حين وجد أن الطريق قد مهد بأقلام سابقيه من العمالقة الرواد؛ هيكل وطه والحكيم وتيمور والمازني.
وفي رواية أوديب ينتقل الدكتور طه إلى لون آخر من ألوان الصراع لعله من أدق ألوانه وأكثرها احتياجًا إلى الفنية والمعرفة بأحناء النفس الإنسانية وطواياها، فهو يرسم صراع الإنسان مع نفسه … ذلك الصراع بين ما يريد الإنسان أن يكون وبين ما يستطيع أن يكون. كيف يدور الصراع بين آمال الإنسان ومكناته، وبين طموحه ونزعات نفسه. والرواية ترسم شخصًا بذاته عرفه الدكتور طه وصاحبه وذكر لي اسمه، وإني لمخفٍ هذا الاسم، بل إني حتى قد نسيته؛ لأنه طلب إليَّ ألا أذيع اسمه بين الناس، وأنا أنسى السر إذا استودِعْتُه؛ حتى لا تخالجني نفسي أن أعلنه. ولكن الذي أذكره أن الدكتور كان يحب هذا الرجل حبًّا عميقًا، وكان يكبره ويعتز بصداقته، ولعل حديثه إليه في تقديم الكتاب يُظهِرك على مبلغ ما يكنُّه له من حب وإكبار.
«أخي العزيز، وددت لو أسميك ولكنك تعلم لماذا لا أسميك. وحسب الذين ينظرون في هذا الكتاب أن يعلموا أنك كنت أول المعزِّين لي حين أخرجني الجور من الجامعة، وأول المهنئين لي حين ردني العدل إليها. وكنت بين ذلك أصدق الناس لي ودًّا في السر والجهر، وأحسنهم عندي بلاءً في الشدة واللين. فتقبل مني هذا العمل الضئيل تحية خالصة صادقة لإخائك الصادق الخالص.»
أما الشخص الأول فيروي ما يعرفه فقط — أي إنه يروي من القصة ما اتصل به وحده، فإذا ذكر حادثًا لا يتصل به اضطر أن يتلمس وسيلة يبلِّغ بها القارئ كيف اطلع على هذا الحدث الذي وقع بعيدًا عنه. والكاتب صاحب الأسلوب المتألق يستطيع أن يفسح لقلمه وأسلوبه المجال إذا اختار صيغة المتكلم؛ لأن طبيعة هذا النوع من الرواية تتيح للكاتب أن يتدفق تدفقًا أسلوبيًّا دون حرج. وأنا لا أعتقد أن أستاذنا الدكتور قد اختار هذا الطريق لهذه الأسباب؛ فقد كان يضرب برأي النقاد فيما يتصل بالأسلوب عرض الأفق. إنما أراد أن يكرم صاحبه ويظهِر القارئ على هذا الود الذي كان بينهما، ويهدي إلى روح صديقه هذه الرواية تحية حب وإجلال وإكبار. وهكذا يبدأ الدكتور طه روايته، وكأنما يبدأ كتابًا يبحث في شأن الأديب وما يعانيه من حياته وما تعانيه منه الحياة، حتى يصل إلى صاحبه فيبدأ قصته عنه أو قصته معه إذا شئت.
«زعموا أن من أظهر خصائص الأديب حرصه على أن يصل بين نفسه وبين الناس، فهو لا يحس شيئًا إلا أذاعه، ولا يشعر بشيء إلا أعلنه، وهو إذا نظر في كتاب أو خرج للتروض أو تحدث إلى الناس فأثار شيء من هذا في نفسه خاطرًا من الخواطر، أو بعث في قلبه عاطفة من العواطف، أو حث عقله على الروية والتفكير، لم يسترحْ ولم يطمئنَّ حتى يقيد هذا الرأي أو تلك العاطفة أو ذلك الخاطر في دفتر من الدفاتر أو على قطعة من القرطاس.»
ذلك لأنه مريض بهذه العلة التي يسمونها الأدب؛ فهو لا يحس لنفسه وإنما يحس للناس، وهو لا يشعر لنفسه وإنما يشعر للناس، وهو لا يفكر لنفسه وإنما يفكر للناس، وهو بعبارة واضحة لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للناس. وهو حين يأتي من الأمر هذا كله يخادع نفسه أشد الخداع ويضللها أقبح التضليل. فيزعم أنه مؤثر لا يريد أن يستمتع وحده بنعمة الإحساس والشعور والتفكير. إنما يريد أن يشرك الناس في هذا الخير الذي أنتجته طبيعته الرقيقة الخصبة الغنية، فإذا كان متواضعًا معتدل الرأي في نفسه، فهو شقي تعس محزون، يحب أن يعلن إلى الناس ما يجد من شقاء وتعَس وحزن؛ لعلهم يرثون له أو يرأفون به أو يشفقون عليه. وربما لم يرَ في نفسه إيثارًا، ولم يحس أنه شقي وإنما آثَر نفسه بالخير، وأحبها قليلًا أو كثيرًا، فهو يسجل ما يحس وما يشعر وما يفكر؛ لحفظه من الضياع وليستطيع العودة إليه من حين إلى حين، كلما خطر له أن يستعرض حياته الماضية. وكثيرًا ما تعرض له الفرص التي تحمله أن يستعرض حياته الماضية، والذاكرة قصيرة ضعيفة، فلِمَ لا يسجل خواطره وعواطفه وآراءه التي يتكون منها تاريخه الفردي الخاص ليعود إليه كلما دعاه إلى ذلك جدُّ الحياة أو هزلها؟
وما أكثر ما يدعو جد الحياة أو هزلها إلى أن يستعرض الإنسان حياته الماضية وما اختلف عليه فيها من أحداث.
يخدع الأديب نفسه هذه الضُّروبَ من الخداع، يعللها بهذه الألوان من التعلَّات، وحقيقة الأمر أنه يكتب لأنه أديب لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كتب. يكتب لأنه محتاج إلى الكتابة كما يأكل ويشرب ويدخن؛ لأنه محتاج إلى الطعام والشراب والتدخين. وهو حين يكتب قلما يفكر فيما يحسن أن يكتب. وما ينبغي ألا يعرفه القرطاس أو يجري به القلم، كما أنه حين يأكل ويشرب قلما يفكر فيما يلائم صحته وطبيعته ومزاجه من ألوان الطعام والشراب وأصناف التبغ. إنما هي حاجة تضطره إلى الحركة فيتحرك، وتدفعه إلى العمل فيعمل. فأما عواقب هذه الحركة ونتائج هذا العمل فأشياء قد يتاح الوقت للتفكير فيها في يوم من الأيام، حين تصبح أمرًا مقضيًّا لا مُنصرَف عنه ولا سبيل إلى التخلص منه.
إذا كان هذا كله صحيحًا، وأكبر الظن أنه صحيح، فيجب أن يكون صاحبي الذي أريد أن أتحدث إليك عنه أديبًا، فلست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلًا أضْنَتْه علة الأدب واستأثرت بقلبه ولُبِّه كصاحبي هذا. كان لا يحس شيئًا ولا يشعر بشيء، ولا يقرأ شيئًا ولا يرى شيئًا ولا يسمع شيئًا، إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق: في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع.»
وهكذا وببراعة فائقة تبدأ الرواية وتمضي فصولها، لتروي لك عن هذا الصديق، وكأنما لا يقصد الدكتور طه إلا أن يروي عن هذا الصديق، وقد يرى قارئ طيب أن الدكتور طه لم يُرِد إلا أن يروي عن صديقه هذا ويكرم حياته بعد مماته، ولكن هذا القارئ الطيب إن أنعم النظر قليلًا لَتكشَّفَ له ما كان خفيًّا، ولاتضح له ما تلبَّسه النص من معنًى، فإذا هذا الأديب يدخل في صراع عَتيٍّ بين ما يصبو إليه وبين ما يحن إليه؛ فهو يصبو إلى الجِد ويحنُّ إلى المتعة. وصراع آخر بين ما وهبَتْه له الحياة من مكنات الصحة وبين ما يريد من الحياة أن تعطيه … ما أقل ما نال من الحياة! وما أعظم ما كان يرجو منها!
هلم بنا الآن لنتذاكر معًا كتاب طه حسين الرائع «المعذبون في الأرض»، ودعنا نتساءل أول ما نتساءل في أيِّ قسمَي القصة سندرج «المعذبون في الأرض»، أهي رواية أم مجموعة من القصص القصيرة؟
لشتاينبك عمل فني لا أستطيع أن أنسبه هو الآخر إلى الرواية ولا إلى القصة القصيرة. وقد قرأت هذا الكتاب مترجمًا؛ فقد تُرجم عدة ترجمات سُمي في إحداها مراعي السماء، وكانت هذه هي الترجمة التي وقعت عليها أنا. والكتاب عبارة عن مجموعة قصص. تبدأ بقصة عن المكان، يذكر فيها أسماء الأبطال الذين سيروي عنهم جميعًا، ولنسمهم مثلًا «زيد وعمرو وعاصم وإلهام وصفية»، حتى إذا وصلنا إلى القصة الثانية وجدنا زيدًا وقد أصبح بطل القصة بدلًا من المكان مراعي السماء، الذي كان بطلًا في القصة الأولى، ونحن في قصة زيد سنلتقي بمراعي السماء وبعمرو وعاصم وإلهام وصفية وهم يلفُّون حول البطل كشخصيات ثانوية، وفي القصة الثالثة نجد عمْرًا قد صار البطل، ونزل زيد عن البطولة ليصبح شخصية ثانوية مع الآخرين، ومع المكان وهكذا. ومنذ قرأت هذا الكتاب وأنا حائر في اختيار النوع الذي ينتسب إليه أهو رواية أم مجموعة قصص قصيرة. ولا عليه ولا علينا أن يكون أيًّا من الاثنتين؛ فهو عمل فني رائع.
والمعذبون في الأرض يقف بنا عند هذه الحيرة، وهو سابق في تاريخ صدوره على مراعي شتاينبك. فإن كانت الصلة في قصص شتاينبك هي الأشخاص، فالصلة في «المعذبون» هي الموضوع. فهم جميعًا معذبون في الأرض.
وقد ذهب بعض النقاد المذهبيين إلى أن هذا الكتاب يخدم مذهبًا بذاته؛ ولعل هذا القول هو أسخف ما قاله النقاد عن طه حسين. إنه كتاب إنساني يدق الرءوس الغارقة في الغنى، الغافلة عن الفقر، ويشق الأعين المتخمة من الكظة، والناعسة عن العيون، المتهرئة من الجوع. وهذه معانٍ إنسانية إن لم يعتنقها الكاتب فهو ليس إنسانًا؛ وبالتالي فهو ليس كاتبًا؛ لأن الكاتب بطبيعة وظيفته في الحياة هو الإنسان الشفاف الذي يشق سدوف الغيب عن المستقبل، فيدعو إلى الحذر أو يشق ما استغلق حول أحداث الماضي؛ ليبين ما خفي من معانيها وما استخفى من عِبَرها. وهذه النغمة التي شاعت في كتاب «المعذبون في الأرض» كان يكتب بها جميع الكتَّاب مهما تختلف منازع عقائدهم، ولعل محمود تيمور من أكثر الكُتَّاب كتابةً في هذا الميدان، مع أنه أبعد الناس عن العقائدية، ولكن الكُتَّاب كانوا بطبيعتهم يحاربون الطبقة الميسورة؛ لأن الغالبية العظمى منها لم تكن موطأة الأكناف للفقراء، فكان الكتاب يهزون مضاجعهم ليشركوا الفقير فيما ينعمون به. حتى إذا أصبحت هذه الدعوى شعارًا رسميًّا وقف الكتَّاب من هذه النغمة؛ لينظروا ما الرسميون فاعلون، حتى إذا زالت الطبقة جميعًا أصبحت مهاجمتها نوعًا من الرخص المبتذل الحقير، فإن حرب الغائب جبن. وبدأت الشجاعة تتبلور في محاربة الطبقة الجديدة التي حلت مكانها أقسى ما يكون الحلول وأبشع ما يكون التبدل، والفقير على الحالين يرقب الأغنياء ويتملق عطفهم. فإن كان هناك في زمن مضى من يهزه دعاء لمحتاج أو يخشى دعوة المظلوم، فإن الطبقة التي تكونت كونت معها سياجًا، أيرد دعاء المحتاج ويتعالى عن دعوة المظلوم؟ ولكن الله لم يكن بغافل عن المعتدين، ومن لم يلقَ الجزاء فجزاؤه أمامه في الطريق، وإنه ملاقيه.
فكتاب «المعذبون في الأرض» كتاب طبيعي في فترته؛ فهو إنساني في دعوته، يصدر عن كاتب إنسان، ومرة أخرى من ليس إنسانًا فهو ليس بكاتب على أي صورة من الصور.
والمعذبون في الأرض يجمع إلى القصص الحديث القصصَ التاريخي، أتراك تريد أن نرنو معًا إلى كتاب تاريخي محض من روايات أستاذنا العظيم؟
لنصحب على هامش السيرة، تلك التي تجنَّى عليها البعض وظنوا بها أنها كتاب تاريخي، وراح بعضهم يحاسبها على هذا الأساس في سذاجة وعناء. ولو قد ألقى نظرة إلى مقدمة الكتاب، بل إلى السطر الأول من مقدمة الكتاب، لأراح واستراح، ولبدأ يبحث لهذا الكتاب عن مكان آخر يضمه إليه في المكتبة العربية.
«هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين، ولم أقصد بها إلى التاريخ، وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءة للسيرة، فأثبتها مسرعًا، ثم لم أرَ بنشرها بأسًا. ولعلي رأيت في نشرها شيئًا من الخير، فهي ترد على الناس أطرافًا من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرءون ما كتب القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام، فلا تكاد تظفر بهم. إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم أو بلغة أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق، يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع، ما يغريهم به ويرغِّبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوقه أشد عُسرًا، وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطولة، والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم والذوق الهين الذي لا يكلف مشقة ولا عناء!
ذلك أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتًا مستقرًّا، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذته إلا في نصوصه، يقرءونها ويعيدون قراءتها ويستظهرونها ويُمعنون في استظهارها، إنما الأدب الخصب حقًّا هو الذي يلذُّك حين تقرؤه؛ لأنه يقدم إليك ما يرضي عقلك وشعورك، ولأنه يوحي إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويعيرك من خصبه خصبًا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة، ويُنطِقُك كما أنطق القدماء، ولا يستقر في قلبك حتى يتصور في صورة قلبك أو يصور قلبك في صورته، وإذا أنت تعيده على الناس فتلقيه إليهم في شكل جديد يلائم حياتهم التي يحيونها، وعواطفهم التي تثور في قلوبهم، وخواطرهم التي تضطرب في عقولهم.
هذا هو الأدب الحي. هذا هو الأدب القادر على البقاء ومناهضة الأيام. فأما ذلك الأدب ينتهي أثره عند قراءته فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غناؤه، ولكنه أدب موقوت، يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه. ولو أنك نظرت آداب القدماء والمحدثين لرأيت فيها طائفة لا يمكن أن توصف بأنها آداب عصر من العصور، أو بيئة من البيئات، أو جيل من الأجيال؛ وإنما هي آداب العصور كلها والبيئات كلها والأجيال كلها، لا لأنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسب، بل لأنها مع ذلك تلهم الناس وتوحي إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكتَّاب والمتصرفين في ألوان الفن على اختلافها.
وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تُقرأ فتُحدث اللذة وتثير الإعجاب في كل وقت وفي كل قطر، بل هو يأتيها من هذا، ومن أنها ألهمت وما زالت تلهم الشعراء وتوحي إليهم أروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان «إيسكولوس» أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة هوميروس. وما زال القُصَّاص وشعراء التمثيل والغناء في الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله إيسكولوس منذ خمسة وعشرين قرنًا. ولم تكن قصص إيسكولوس وغيره من شعراء التمثيل اليوناني أقل خصبًا من الإلياذة، بل هي قد ألهمت من الكتَّاب والشعراء قديمًا وحديثًا، وما زالت قادرة على أن تلهمهم إلى اليوم وإلى الغد.
وإني لأذكر أني قرأت منذ أعوامٍ قصة تمثيلية هي الثامنة والثلاثون من نوعها، وقد سماها صاحبها «جيرودو» بهذا الرقم، فوضع لها هذا العنوان «أمفيتريون رقم ٣٨»، كانت أسطورة تتصل بمولد هرقل، فصورها سوفوكل قصة تمثيلية في القرن الخامس قبل المسيح، وما زال الشعراء والكتَّاب من اليونان والرومان والأوروبيين المحدثين يتأثرون ويذهبون مذهبه، أو غير مذهبه، في تصوير هذا الموضوع، حتى انتهت القصص التي كُتبت فيه شعرًا ونثرًا إلى هذا العدد الضخم.
ولم يُحجِم فحول التمثيل عن طرق هذا الموضوع لأنهم سُبِقوا إليه، بل زادهم ذلك حرصًا عليه ورغبةً فيه. وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتيني «بلوت» والشاعر الفرنسي «موليير»، ثم لم يشفق جيرودو من أن يطرق موضوعًا سبق إليه الفحول من شعراء التمثيل في العصور القديمة والحديثة، فصوَّر قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظارة في باريس سنة ١٩٢٩م، فكان فوزها عظيمًا، وإعجاب النظارة والقرَّاء بها لا حد له.
وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة وما يكفل للناس من لذة ومتاع قدرة على الوحي وقدرة على الإلهام؛ فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تُكتب مرة واحدة ولم تحفظ في صورة بعينها، وإنما قصَّها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف. وقُل مثل ذلك في السيرة نفسها؛ فقد ألهمت الكتَّاب والشعراء في أكثر العلوم الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية أيضًا، فصوَّروها صورًا مختلفة تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفني. وقُل مثل هذا في الغزوات والفتوح، وقُل مثل هذا في الفتن والمحن التي أصابت العرب في العصور المختلفة. ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبي العظيم عند الكتَّاب والشعراء الذين ينمِّقون النثر ويَقرِضون الشعر في اللغة العربية الفصحى، بل جاوزهم إلى جماعة من القُصَّاص الشعبيين الذين تحدثوا إلى الناس في صور مختلفة وأشكال متباينة، بما كان لآبائهم من مجد مؤثَّل، وبما أصاب آباءهم من مِحَن مظلمة وفتن مدلهمَّة عرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كرامًا ظافرين. ولا خير في حياة القدماء إذا لم تُلهِم المحدثين ولم توحِ إليهم رائع البيان شعرًا ونثرًا. وليس القدماء خالدين حقًّا إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأشعار. إنما يحيا القدماء ويخلدون إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوبُ الأجيال مهما يبعد بها الزمن، وكانوا حديثًا للناس إذا لقي بعضهم بعضًا، وكنوزًا يستوحيها الكتَّاب والشعراء لإحياء ما يعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام.
إلى هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأولين، قصدت حين أمليت فصول هذا الكتاب. ولست أريد أن أخدع القرَّاء عن نفسي ولا عن هذا الكتاب، فإني لم أفكر فيه تفكيرًا، ولا قدَّرته تقديرًا، ولا تعمدت تأليفه وتصنيفه كما يتعمد المؤلفون، وإنما دُفعت إلى ذلك دفعًا، وأُكرهت عليه إكراهًا، ورأيتني أقرأ السيرة فتمتلئ بها نفسي ويفيض بها قلبي وينطلق بها لساني، وإذا أنا أُملي هذه الفصول وفصولًا أخرى، أرجو أن تُنشر بعد حين.
فليس في هذا الكتاب إذن تكلُّف ولا تصنُّع، ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتبًا أخرى، مهما تكن. والتي لا أملُّ قراءتها والأنس إليها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها، وحرصي على أن يقرأها الناس، ولكن الناس مع الأسف لا يقرءونها؛ لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يستطيعون. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحبِّب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربي القديم عامة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخصبة، فأنا سعيد حقًّا، موفق حقًّا لأحبِّ الأشياء إليَّ وآثرِها عندي.
وإذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن في سذاجتها ويسرها جمالًا ليس أقل روعة ولا نفاذًا إلى القلوب من هذا الجمال الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد. وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى واتخاذها موضوعًا قيمًا خصبًا، لا للإنتاج العلمي في التاريخ والأدب الوصفي وحدهما، بل كذلك للإنتاج في الأدب الإنشائي الخالص، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
ثم إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقي في نفوس الشباب أن القديم لا ينبغي أن يُهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغي له أن يُطلب لأنه جديد، وإنما يُهجَر القديم إذا برئ من النفع، وخلا من الفائدة، فإن كان نافعًا مفيدًا فليسوا أقل حاجةً إليه منهم إلى الجديد، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد.
وأنا أعلم أن قومًا سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدَثون يُكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه؛ وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يُسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشْكون ويُلحُّون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجِدَّه في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها، وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول، هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء؛ لأنهم يقرءون فيه طائفةً من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس. وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملَكاتٍ أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئنَّ إليها العقل، ولم يَرْضها المنطق، ولم تستقِم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم، وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها؛ ما يحبِّب إليهم هذه الأخبار ويرغِّبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشُقُّ عليهم الحياة. وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يُقرُّها العلم، وتستقيم بها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفةٌ عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش. وأُحب أن يعلم الناس أيضًا أني وسَّعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، فإني لم أُبِح لنفسي في ذلك حريةً ولا سَعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث ورجال الرواية وعلماء الدين.
ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فصول هذا الكتاب، القديم في جوهره وأصله، الجديد في صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التي أخذ منها؛ فهذه المصادر قليلة جدًّا لا تكاد تتجاوز سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري. وليس في هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد في كتاب من هذه الكتب.
فإذا اتصل الخبر بشخص النبي، فإني أردُّه إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل في ذلك تَبِعة خاصة؛ لأني لا أذهب فيه مذهبًا خالصًا، إلا أن يكون تبسيطًا في الشرح والتفسير، واستنباطًا للعِبرة والوصول إلى قلوب الناس.
فليُيسِّرِ الله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليحسِّن الله موقعه في القلوب.»
وبعد، فإني نقلت المقدمة جميعًا لم أُسقط منها كلمة، ومن شاء أن يعرف لماذا فليُعِد قراءتها مرة أخرى، أو إن شاء فإني على استعداد أن أعيد له نقْلَها مرة ثانية وثالثة وعشرين وألفًا.
وأُقسم، وما أنا إلى القسم بمضطر، لقد حاولت أن أكتفي بالنقل عند نهاية كل فقرة، فإذا الفقرة التي تليها تجذبني إليها جذبًا فأنقلها، وما زالت المقدمة بي وما زلت بها حتى نقلتها جميعًا، بل لقد طاب لي أن أضع اسمه في نهايتها؛ فإنه هو هذا طه حسين.
تُرى هل سيتاح للمتشدقين بالآداب الغربية أن يقرءوا هذه المقدمة التي كتبها العميد، الذي أصر على أن يتعلم طلبتُه الآداب اللاتينية، والذي فجر الثورة الأدبية وثورة الحرية الفكرية في العالم العربي والإسلامي، والذي نال الدكتوراه من فرنسا، والذي تزوج فرنسية؟ تُرى أيُتاح لواحد من هؤلاء أن يقرأ هذه المقدمة؛ ليدرك أن كاتبًا ما لن يكون كاتبًا إذا لم يستظل بأدب بلاده وقومه أولًا، ثم لينظُرْ بعد ذلك إلى ما شاء من آداب أخرى؟ أنا لن أمضي في إثر سطور المقدمة لأتدارسها كلمةً كلمة؛ فهي من القوة والوضوح والإشراق بحيث يفسدها الشرح وينقصها التعليق؛ ولهذا نقلتها كلَّها.
وإنما أريد أن أخلُص منها أن رواية على هامش السيرة رواية، ولعلها تكون بداية الأسطورة في الأدب العربي. وكم أرجو ألا تكون نهاية الأسطورة أيضًا!
وبعد، فقد ذكرت لك في أكثر من مكان من هذا الكتاب أنني لا أكتب دراسة عن طه حسين؛ فهذه خطة لا أطيق السير فيها. وقد تكلمت في هذه الصفحات الأخيرة عن الرواية عند طه حسين في لمحات خاطفة سريعة؛ فأنا لست ناقدًا، وإنما أنا قارئ أروي لك ما انطبع في نفسي. ولا شك أن هناك جوانبَ لم ألمِسْها مثل ترجماته للمسرحيات الغربية، ومقالاته السياسية التي كان يهاجم بها الحكام وهم ممسكون بالصولجان، وهناك قبل كل هذا، وبعد كل هذا، طه حسين أستاذ الجامعة الذي تخرَّج الأدب العربي على يديه. تلك بعض جوانب لم أقترب منها؛ لأني أخشى المغبَّة أن أبدأ الخطو ثم يقصر بي القلم عن المسير.
ماذا قدمت إليك إذن في هذا الكتاب؟ أما أنا فأُقسم لك في غير تواضع، إنني أحس أنني ما قدمت شيئًا، فهل تراك تقْبَله على أنه حديث أحببت أن أسوقه إليك راجيًا أن تقبله في تفضُّل منك وتسامح؟ فإن فعلت فإني لك شاكر، وإلا فدعني أتوجه بحديثي هذا إلى أستاذي العظيم الخالد طه حسين؛ فقد كان يقبل منا كلَّ حديث في سماحة أستاذ وحنان أب.
تقبلك الله أيها العميد في أكرم رحاب، وسلامٌ عليك في الخالدين. فإن عزَّانا فيك ما تركت من آثار ضخام، فلا عزاء لنا فيك، نحن حلقةَ ندوتك، وأبناء كلمتك، ونبْتَ أدبك. لست أنساك قبل وفاتك بعام وكنا في مطالع الصيف، وتوقعت أن يكون موعد سفرك إلى أوروبا قد اقترب؛ فكلمت سليم سكرتيرك فإذا هو يخبرني أنك مسافر في اليوم نفسه بعد ساعات قلائل، وإذا هو يخبرني أنك تريد أن تراني، فوضعت سماعة التليفون لأكون عندك. وصعِدت إلى حجرة نومك، ولم أعجب؛ فقد كنت ألقاك في أغلب زيارات السنتين الأخيرتين بحجرة نومك … وكنت أجدك جالسًا في فراشك أو في كرسيك بجانب الفراش، أما في ذلك اليوم فقد كنت مستلقيًا في فراشك استلقاءً كاملًا، وحين دخلتُ إليك أحببتَ أن تُخرج يدك من تحت الغطاء الحريري لتصافحني، ووجدتك تبذل جهدًا كبيرًا لتخرج يدك هذه، فسارعتُ أُبقي يدك حيث هي، وأعيد من الغطاء ما أقلقَتْه المحاولة، وإذا أنت تقول في صوت واهن ضعيف مرتعش: «أنا تعبان قوي يا ثروت! أنا تعبان قوي!» وعجبت كيف ستسافر في يومك هذا نفسه! … لبثتُ قليلًا وانصرفتُ وأنا أخشى عليك مشقة السفر. وعُدتَ في بوادر الشتاء وقد تحسَّنت صحتك.
واستدار العام وتهيأت للسفر، وذهبت لزيارتك فوجدتك قد أعددت لي الجزء الثالث من كتابك الأيام، وعليه إهداء سأتركه لأولادي ثروةً هي أعظم ثروتهم، وانصرفت وأنا مطمئن عليك؛ فقد كنت جالسًا، وكنت تروي من الأحاديث ما ينفُذ في أغوار الزمن الماضي أربعين عامًا أو خمسين. وفي يوم من أوائل شتائنا هذا أحسست حنينًا إليك، فطلبت بيتك لأعرف إن كنت عدت، فإذا سليم يخبرني أنك كنت تتحدث عني في هذه اللحظة، وأنك تريد أن ترسل إليَّ برقية تعزِّيني في وفاة عمي عزيز باشا، وكلمتني يا رَحِمَك الله، قلتُ لك إنني لم أعلم بمجيء معاليك، وإني إنما أطلب لأعلم، فإذا أنت تخبرني أنك وصلت في يومك هذا … أتُرى خفقةٌ من روحك السامية هي التي ألهمتني أن أطلبك في يوم وصولك، ليكون آخر حديث بيننا هنا في هذه الدنيا! … لعلها كانت كذلك، بل إنها لكذلك. وعزَّيتني — من يعزيني فيك! — وانتهت المكالمة على وعد باللقاء قريبًا، ثم جاء النبأ وسارعت إلى بيتك، ويخبرني سليم أنك كنت في المصيف بأحسن حال، وأنك قرأت كتابي الأخير عدة مرات، وكان كلما قال لك قرأناه قلت معلهش، أريد أن أقرأه مرةً أخرى، ومضيت … لقد أكرمتني حيًّا وميتًا يا رحمك الله. ولو كان غيرك من مات لدعوت الله أن يعوضنا عنك، ولكن ما إلى تحقيق هذه الدعوة من سبيل.
القاهرة في ٣٠ / ١٢ / ١٩٧٣م