الصحف والمجلات
لست أدري هل لا تزال الصحافة تُعتبر السلطة الرابعة في الدولة، أم إن الراديو قد انتزع منها هذه المكانة؟ ولكنني أعلم على أيَّة حال أنَّها لا تزال من أقوى أجهزة الثقافة والتوجيه والسيطرة على الرأي العام.
وأول ما يستحق البحث هو كيف استطاعت الصحافة أن تصل إلى هذه المكانة؟ وما هي الدعائم التي نهضت عليها؟
لقد عُرِفت الصحافة في أنحاء مختلفة من العالم منذ وقتٍ بعيد في القِدَم، عندما كان الملوك والأمراء والحكام يستخدمون الصحف المخطوطة لإبلاغ القوانين والقرارات والأوامر إلى الرعايا والمحكومين، ولكنَّها كانت بالضرورة محدودة الانتشار غالية الثمن وإخبارية خالصة، حتى إذا تمَّ اختراع الطباعة والحروف المتحرِّكة في القرن السادس حدث فيها انقلابٌ كبير؛ إذ أصبح من الممكن طبعُ نسخٍ عديدة من كلِّ جريدة في زمنٍ وجيز وبنفقات أقل كثيرًا من النَّسْخ اليدوي. إلا أنَّ الصحافة ظلَّت مع ذلك محدودة التداوُل غالية الثمن قليلة الصفحات، وذات هدف إخباري خالص، وإن تكن قد أخذت تضيف إلى الأخبار الرسمية أخبارًا أخرى اقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وغيرها.
وفي سنة ١٨٣٧ أحدث الصحفي الفرنسي بول جيراردان في الصحافة انقلابًا آخر بالغ الخطورة، بل لعلَّه الانقلاب الذي حدَّد مصيرها، ومهَّد أمامها السبيل لتحتلَّ في عالمنا الحديث تلك المكانة التي أباحت تسميتها بالسلطة الرابعة.
وقد أحدث جيراردان هذا الانقلاب بفكرة عبقرية خطرت له، وهي استخدام الصحافة كوسيلة للإعلانات التجارية، وبفضل ما تُغِلُّه تلك الإعلانات على الصحف من كسبٍ وفيرٍ استطاعت أن تزيد من عدد صفحاتها، وأن تُنوِّع من أبوابها، وأن تُضيفَ إلى مهمَّتها الإخبارية القديمة عدَّة مهامَّ أخرى كالتثقيف والتسلية والتوجيه، ثم السيطرة على الرأي العام. وهي مع ذلك لا تغطِّي نفقاتها فحسب، بل تحقِّق أرباحًا وفيرة رغم رُخْص ثمنها، حتى أخذت تتحوَّل في كثير من البلاد شيئًا فشيئًا إلى صناعةٍ وتجارةٍ مربحة، تعتمد على رءوس الأموال، وتُنافس الكتب منافسةً خطيرة، وإن كانت لا تزال عاجزة عن أن تنهض بمهمَّة الكتاب في التثقيف ونشر المعرفة حتى ليقول في ذلك جورج ديهامل في صفحة ٤١ من ترجمتنا العربية لكتاب «دفاع عن الأدب»: «الجريدة ضرورية لرجلِ القرن العشرين، فهي تفتح عينه عندما ينهض من فراشه، فتوقظه وترميه بحفنةٍ من الوقائع والآراء، والجريدة إفطار الصباح، وهي مكتوبةٌ على نحوٍ يحرِّك الخيال أكبر ممَّا يثقف أي يكون الإدراك، وهي تثير النفس وتقص الحوادث وتعرض الآراء، وفي كلِّ يومٍ تلجأ إلى حِيَلٍ جديدة في الطباعة، كما تُخصِّص للصور التي لا تتطلَّب أي جهد مكانًا يزداد يومًا بعد يوم. وهي تسعى أولًا إلى استهواء القارئ، وهي لا شكَّ تُقدِّم إليه أفكارًا وقواعد وقليلًا من عسل الأدب، ومن جوهر الفلسفة، ولكنَّها تحمل إليه قبل كلِّ شيء زادًا من أكوام الحوادث اليومية التي لا تزال حارَّة.»
الصحافة والدولة
ومنذ أن أصبحت الصحافة سلطة رابعة في الدولة، وأصبح لها ذلك النفوذ القوي في السيطرة على الرأي العام وتوجيهه، أخذت الدول بشتَّى نُظُمها السياسية تبحث في علاقة الدولة بالصحافة ومدى إشرافها عليها. ولم تكتفِ الدول بالقانون العام الذي يعاقب على بعض الجرائم الصحفية التي تمسُّ سلام الدولة أو الأديان أو الأخلاق أو نظرة المجتمع الأساسية والدعوة إلى استخدام العنف في تغييرها، بل أصدر الكثير منها ما يُسمَّى بقانون المطبوعات الذي ينظِّم حق إصدار الصحف، ويقيِّده أحيانًا بقيود خاصة، مثل قانون المطبوعات المصري الذي ينصُّ على ضرورة إخطار الدولة بالعزم على إصدار أيَّة صحيفة، وانتظار شهر بعد هذا الإخطار تستطيع الحكومة أن تعترض في خلاله على إصدارها، فإذا لم تعترض أصبحت في حكم الموافقة، وجاز إصدار الصحيفة الدوريَّة، كما ينصُّ على ضرورة إيداع ضمانٍ مالي أو عيني بمبلغ ثلاثمائة جنيه في حالة إصدار صحيفة يومية، ومائة وخمسين جنيهًا في حالة إصدار مجلة أسبوعية أو نصف شهرية أو شهرية أو أيَّة دورية كانت، وذلك بينما رأت بعض الدول الأخرى تأميم الصحافة بحيث تصبح كلُّها ملكًا للدولة توجِّهها كيفما شاءت.
والمفكِّرون لا يزالون متردِّدين بين تأميم الصحافة أو عدم تأميمها، ولقد حدث أن ألَّفت حكومة العمال الاشتراكية الأخيرة في إنجلترا لجنةً كبيرة من المختصين ورجال السياسية لدراسة هذه المشكلة، وانتهت اللجنة من بحثها لها بالإيصاء بعدم التأميم حرصًا على حرية الرأي وعلى الحياة الديمقراطية، وبذلك ظلَّت الصحافة حرة غير مُؤمَّمة في إنجلترا، كما هي حرة غير مؤمَّمة في إيطاليا وأمريكا وفرنسا، ومع ذلك نرى أستاذًا جامعيًّا فرنسيًّا مثل ألبير باييه يقول في ص١٠٨ من الكتاب الذي ترجمناه له عن «تاريخ إعلان حقوق الإنسان»: «إن الصحافة في البلاد الرأسمالية لا تتمتع إلَّا بحرية اسمية، وإنَّ رجال الأعمال يسيطرون عليها سيطرة أقسى وأشد ضررًا بحياة الشعوب من سيطرة الدولة.» وذلك عند حديثه عن الوسائل التي يلجأ إليها أصحاب رءوس الأموال في السيطرة على حياة الشعوب وحكوماتها، حيث يقول بعد حديثه عن عدَّة وسائل أخرى: «وثمَّة وسيلة أخرى أكثر من السابقة غلة، وهي وضع رجال المال أيديهم على الصحف باسم حرية الصحافة، وذلك إمَّا بشرائها وإمَّا بالسيطرة عليها بمنحها الإعلانات التي لا تستطيع أن تعيش بدونها أو حرمانها منها، وعندما يتملَّكون هذا السلاح الخطير نراهم يستعملونه بطرق ثلاث؛ أولاها: أن ينظِّموا حملاتِ سبابٍ وتشهير ضد رجال السياسة الذين يرفضون طاعتهم، وهناك وريقات خاصة — صحف — مُخصَّصة لهذه الغاية، وثانيها: اتخاذ التدابير اللازمة لكي تفوز الحكومات المطيعة بتلك الثقة التي تنجح بفضلها في عقد القروض، وأما الحكومات العاصية، فمآلها إلى الانحدار أمام إذاعة الذعر الاقتصادي المُنظَّم. وأخيرًا تأتي الطريقة الثالثة وهي أخطرها جميعًا؛ إذ نرى الصحافة الكبيرة المُعدَّة إعدادًا فنيًّا قويًّا تبسط تأثيرها المباشر على الرأي العام؛ أي على الناخبين، وبفضل الأخبار المغرضة أو الكاذبة تُملي على جانب كبير من الرأي العام اتجاهات تفكيره.»
وهكذا يجد المفكِّرون أنفسهم في حيرةٍ شديدة، فهم يخشون من سيطرة الدولة على جهاز ضخم كالصحافة إذا دعوا إلى تأميمها، وقد تعتور الدولة حكومات استبدادية فاسدة أو عاجزة عن حماية مصالح الشعوب الحقَّة ومواهب أبنائها الإبداعية التي لا تزدهر إلَّا في جوِّ الحرية، وهم يخشون من جهةٍ أخرى أن يستغلَّ رجالُ المال الجشعون حرية الصحافة الرسمية في السيطرة عليها، وتسخيرها في مصالحهم الظالمة على ذلك النحو القاتم المحزن الذي صوَّره الأستاذ ألبير باييه. وإلى اليوم لا أعرف مُفكِّرًا واحدًا استطاع أن يقترح حلًّا لهذه المشكلة العويصة.
صحافة الرأي وصحافة الخبر
ومن حيث أنواع الرأي وموقف الصحف من الحياة العامة، يُقسِّم الباحثون الصحف إلى أقسام ثلاثة: صحف محايدة، وهذه هي الصحف التجارية البحتة البالغة الضرر؛ لأنها لا تريد أن تتحمَّل مسئولية أي رأيٍ في قضايا البلاد الكبرى، وكلُّ همِّها هو الاتِّجار بمهمتها عن طريق الإخبار المجرد أو التسلية والترويح الرخيص أو غير الرخيص، وكأنَّها غريبةٌ عن الوطن وبنيه. وثانيها: الصحافة التي تُسمِّي نفسها مستقلَّة، وهي الصحافة التي لا تلتزم بمذهب سياسي معين، ولا ترتبط بحزبٍ بذاته، بل تزعم أنها تحتفظ باستقلالها في الرأي؛ لتحكم على كلِّ حدث أو ظاهرة عامَّة حكمًا مستقلًّا غير مقيَّدٍ بمذهب ولا حزب. وهذا الاتجاه يبدو في ظاهره سليمًا لا غُبار عليه، ولكنه كثيرًا ما يتمخَّض في حقيقته عن حرص هذه الصحف على أن تظلَّ قادرة على مُمَالأة كلِّ حكومة أو حزب يَلِي الحكمَ حتى تستطيعَ أن تجمع المال في كلِّ عهد، وأن لا تتعرض لأية خسارة أو أذًى. وأخيرًا أتت الصحافة التي تلتزم بمذهب معيَّن أو حزب بذاته، وهذه هي صحف الرأي النضالي التي تمرُّ من التأييد إلى المعارضة تبعًا لتولِّي أنصارها الحكم أو اعتزالهم له، وهي في كافَّة الحالات تدعو لمذهبها أو حزبها، وتروِّج له بين الجماهير من أنصارها وخصومها على السواء. ولقد دلَّت تجربة صحيفة «الديلي ميل» الإنجليزية على حقيقة هامَّة تخص جميع صحف الدعاية المذهبية أو الحزبية، فقد أُنشِئت هذه الصحيفة في أول الأمر للدعاية لحزب العمال ومبادئه، وكانت في أول الأمر تُخصِّص معظم صفحاتها — إن لم تكن صفحاتها كلها — لتلك الدعاية، ولكنَّها لم تلبث أن أصابها الفشل حتى انحطَّ توزيعها انحطاطًا شديدًا، فاجتمع مجلس إدارتها لبحث أسباب هذا الفشل، وبعد الدراسة العميقة المستفيضة اتخذ الحزب قرارًا يقضي بأن لا تشغل الدعاية الحزبية من صفحات الجريدة أكثر من العُشر، وأن يخصَّص الباقي للمواد الصحفية الأخرى من إخبارية وثقافية وترويحية. ومنذ ذلك التاريخ، وبفضل هذه السياسة، انتعشت الصحيفة حتى احتلت المكانة المرموقة التي تحتلها اليوم بين صحف إنجلترا.
مدارس الصحافة
ونستطيع اليوم أن نميِّز بين مدرستين متميزتين في عالم الصحافة؛ أولاهما: المدرسة التي تؤمن بأنَّ للصحافة رسالةٌ ثقافية وتوجيهية وأخلاقية يجب أن تؤدِّيَها، وثانيتهما: المدرسة التي ترى أن الصحافة تجارة همُّها الأول والأخير هو كسب المال، وهي تحتال على ذلك بكافَّة السبل ولا تتورَّع عن شيء، ولمَّا كانت تُدرك أن أهم مورد للكسب هو الإعلانات، وأنَّ إقبالَ المُعلِنين عليها يزدادُ كلَّما ازداد عددُ ما تطبع من نسخ وازداد توزيع هذه النسخ، فإنها تحرص قبل كلِّ شيء على ازدياد هذا التوزيع، ولو بتملُّق غرائز الجماهير الدنيا، وإشباع فضولهم وإقبالهم على الأخبار المُثِيرة كأخبار الجنس والجرائم والفضائح، وما إلى ذلك من مُثِيرات مدمِّرة. وتصرُّف هذه المدرسة لا ينمُّ عن خيانة لرسالة الصحف الإنسانية والاجتماعية والثقافية فحسب، بل ينمُّ عن احتقارها للشعب وللرأي العام، حتى لكأنها تنظر إليه نظرتها إلى الحيوانات التي يقول عنها مَثلُنا الشعبي السائر: «حِش وارمي لها.»
وليس من الصعب تمييز هذه المدرسة عن تلك؛ إذ يستطيع الإنسان بنظرةٍ عابرة إلى الصفحة الأولى من كلِّ جريدة، وإلى «المانشتات» الكبيرة التي تضعها على رأسها أن يميِّزَ إلى أي مدرسة تنتمي. فالمدرسة التي تهتم برسالة الصحافة الأمينة تبرز في مانشتاتها الأحداث القوميَّة والوطنيَّة والعالميَّة الجادَّة الكبرى، وتركِّز عليها الاهتمام، بينما نرى المدرسة الأخرى، مدرسة التجارة بحياة الناس وكرامتهم لا تختار مانشتاتهم إلَّا من الأحداث التافهة المثيرة، في الوقت الذي يعجُّ فيه العالم ويعج الوطن بكُبْرَيات الأحداث.
ومن غريب الأمر أن هذه المدرسة تزعم أنَّها تمثِّل أحدث تطوُّرات الفن الصحفي، وأنها تقيم هذا الفن على حقائق النفس البشرية وحاجات الجمهور، وذلك مع العلم بأنه لو صحَّ أنَّ الجمهور فاقد الوعي والإرادة إلى هذه الدرجة لوجب على الصحافة النزيهة أن تَعْملَ على أن تَقِي هذا الجمهور شرَّ نفسِه، وأن تُجاهِد للأخذ بيده حتى يصلَ إلى مستوى الرشد الإنساني السليم والوعي الثقافي والسياسي الكامل. وإنه لمن سوء الحظ أن نلاحظَ أنَّ صحف هذه المدرسة قد أصابت في العالم العربي نجاحًا غير مشروع حتى أخذت عَدْواها تنتقل منها إلى الصحف الجادَّة، وبذلك رأينا بعض الصحف تحاوِل منافستها، وهي — لِنَكد الطالع — ليست منافسةً إلى أعلى، بل منافسةً إلى أسفل.
المجلة وسط بين الكتاب والجريدة
وأما المجلات والدور الذي تلعبه في حياتنا الحديثة، فيُخيَّل إليَّ أنَّ جورج ديهامل قد أحسَّ تحديده في كتابه «دفاع عن الأدب» حينما قال: «وفي خلال السنوات الأخيرة غيَّرت المجلة من منظرها، والتمست لها مظهرًا جديدًا، فلدينا اليوم المجلة الأسبوعية التي تُحافِظ على مظهر الجريدة، وإن قدَّمت مادَّةً أغنى ولجأت إلى شيء من التراجُع في الزمن لتحكم على الوقائع والناس. والمجلة تجمع بين الجريدة والكتاب، وهي كما يدل معنى لفظها الاشتقاقي تسعى أو تحاول أن تسعى إلى أن تستجلي — أي توضِّح — حقبة من العالم، وهي قد تظهر مرةً كلَّ خمسة عشر يومًا، وأحيانًا مرة واحدة في كلِّ شهر، ولها على الحوادث اليومية نوع من الرقابة، وهي تصفِّي تلك الحوادث، أو على الأصح ترفع من قِيمتها إذ يمرُّ ما يعلو تفاصيلها من غبارٍ بمُنْخُلها، فيختفي ولا يبقى منها إلَّا ما يصلح لأن يكون غذاءً لتكوين النفوس الحريصة على ذاتيَّتها. فالمجلة الحقيقية يجب أن تحمل أثرًا لكلِّ ما يحدث في العالم من أمور هامَّة؛ إذ من واجبها أن تعلِّق على الكتب، وأن تذكر الحوادث، وأن تحكم على أعمال الرجال وتُظهِر أخلاقهم. والمجلَّة التي تستحق هذا الاسم جديرة بأن تقدِّم — علاوة على ما سبق — تآليف جديدة قادرة على أن تعكسَ الروح الخالدة في مغامرتها اليومية؛ إذ يجب أن تكون عالمًا صغيرًا ترتسم فيه عناصر العالم وتُفصَّل تبعًا لدرجة عِظَمِها وأهميتها الحقيقية.»
«ومثل هذه المطبوعات تشاطر الكِتَاب حياته؛ لأنها تأخذ مظهره لا مظهر الجريدة، وهي لا تموت فورًا إذ تسير إلى إحدى رفوف مكاتبنا وتستقر به حيث تبقى — كالكتاب — تحت تصرُّفنا، وكثيرًا ما نرجع إليها فتجيب على أسئلتنا، وتُذكِّرنا بما كانت عليه في هذه السنة — أو ذلك الفصل — أعمالُ الناس ومؤلَّفاتهم وأفكارهم وطرق إحساسهم أو تعبيرهم.»
«فللمجلات مكان وسط بين الكتب والجرائد، وهي لازمةٌ لحفظ التوازن العقلي في تلك البلاد التي تُعتبَر اليوم مسئولة عن كنز حضارتنا، ولقد مضى الزمن الذي كانت تتألَّف فيه كلَّ ستة أشهر جماعة من الكتَّاب لإصدار مجلة أدبية، وإن كان بعضٌ من القرَّاء الشبان لا يزالون حتى اليوم يفعلون ذلك على نحو مصغَّر وبثمنٍ قاسٍ من التضحيات، فالورق غالي الثمن، والطبع غالٍ، وإقبال الجمهور ضعيف، وانتباهه تجذبه آلافٌ من الرسائل وتستلبه، فحياة المجلة لا تتطلَّب مالًا فحسب، بل كثيرًا من الجهد وبخاصةٍ من الإيمان والحب، كما تتطلَّب تجرُّدًا تامًّا عن الحرص على المنفعة المادية.»
«ولن يغيبَ عن بعضِ مَن يلاحظون العالم الحديث أن يستنتجوا أنَّ العالم بلا ريب في سبيل التطوُّر، وأنَّه لم يَعُد للمجلات إلَّا أن تختفي، ولكني ما زلت أعتقد أنه لو تمَّ ذلك لكانت فيه كارثة؛ فالمجلات تمثِّل نوعًا من النشاط العقلي يلوح لي أنه ألزم ما يكون لي في هذا العصر المُضطرِب. فهناك من مجهودات الروح المستمرَّة النشاط، والتفكير الدائم الخَلْق، والدراسة النشطة، ما لا يستطيع أن يظهر إلَّا بفضل أحدث المجلات الأدبية؛ فالكتاب ضخم بطيء والجريدة موجزة عابرة، وهناك مجال — لمعالجة الحوادث والرجال والكتب ونقدها — يتطلَّب المجلة التي هي الرسول الطبيعي للروح اليقظة وللفكر الذي لا يريد أن يتخلَّى عن رسالته، فاختفاء مجلة أدبيَّة في الوقت الحاضر يُعَد كارثةً على التفكير المهدَّد في نشاطه، وفي وسائل إذاعته.»
وعلى ضوء هذا التحديد نستطيع أن نتبيَّن الدور الخطير الذي يمكن أن تلعبه المجلات، لا في نشر الثقافة فحسب، بل في تسجيل كلِّ إبداع وابتكار وتقدُّمٍ في مجال الثقافة والأدب والفن. والمجلة على هذا التحديد تفْضُل الصحف اليومية كجهاز للثقافة الجادة، ولنشر الوعي والمعرفة بين جماهير الشعب، وإن يكن من المؤكَّد أنها كثيرًا ما تكون أرفع مستوًى وأشقَّ فهمًا من أغلب ما يُنشَر، أو يمكن أن يُنشَر في الصحف اليومية. كما أنَّ المجلة يمكن الاحتفاظ بها والعودة إليها، وهي بحكم مادَّتها لا تفنى ليَومِها كما تفنى الصحف، بل إنَّ الكثير من موادِّها لا يستحيل بمضيِّ الزمن إلى وثائق تاريخية أو مصدر للتاريخ كما يحدث بالنسبة إلى الصحف اليومية، بل تظل تلك المواد حيَّة دائمة التأثير والإفادة كالمادة التي تتضمنها الكتب سواء بسواء، وفي كلِّ هذا ما يوضِّح الأهمية الكبرى التي يجب أن يعلِّقها رجال التربية والتثقيف الشعبي على المجلات الجادَّة النافعة التي وضَعَ ديهامل حدودَها في حديثه السابق، وإن كنا لا نستطيع إلَّا أن نلاحظ أن تقسيم المنهج الصحفي إلى منهج تجاري ومنهج ذي رسالة، قد أخذ يظهر هو الآخر في المجلات، وبخاصةٍ الأسبوعية منها حيث نجد بعضها تافهًا فعلًا لا يحترم قرَّاءه، ولا يحرص على أن يقدِّم لهم شيئًا ذا غَنَاء، وكلُّ همِّه هو تملُّق غرائز الجماهير، وإشباع نهمها إلى الإثارة والفضول الساذج، حتى ولو كان هذا الجمهور لا يزال محتاجًا إلى وصاية تَقِيه شرَّ نفسه.
أمل المستقبل
وإذا كانت الصحف والمجلات تستطيع أن تنفع الشعوب، وأن تضرَّها إلى هذا الحدِّ المخيف، وكانت لا تزال تتعثَّر بين المحاولات المختلفة التي تُبذَل للسيطرة عليها من ناحية الدولة، أو من ناحية الرأسمالية، وكانت أخيرًا لا تزال موزَّعة بين مدرستي الصحافة التي أوضحنا منهجَ كلٍّ منها وأهدافه فيما سبق من قول، فإنَّنا نعتقد أنَّ رُقيَّ الشعوب ومحْوَ أميَّتها ورفع مستواها الثقافي والاجتماعي هو الحلُّ الحاسمُ الذي سيضع حدًّا لحيرة المُفكِّرين في البحث عن حلول للمشاكل الحيوية الخطيرة التي تُثِيرها أوضاع الصحافة ومشاكلها؛ وذلك لأنَّ الشعب الواعي يستطيع أن يفرضَ على صحافته أشد أنواع الرقابة إحكامًا، وذلك بإقباله الواعي على ما يروقه وينفعه منها، وإعراضه عما يسوءه أو يهدر مصالحه الحيوية وحاجاته الثقافية والروحية اليقظة، وعندئذٍ سيُرغِم الشعبُ هذه الصحافة على أن تكونَ في خدمته مهما تكن سطوة المسيطرين عليها أو إمكانياتهم.