مع أدبائنا المعاصرين
يقال إن التفكير ظاهرة اجتماعية لا فردية، بمعنى أن الفرد لا يفكر ولا يقدِّر ولا يروِّي إلا من حيث هو عضو من أعضاء الجماعة التي يعيش فيها، والتي يستحضرها في نفسه استحضارًا ملحوظًا أو غير ملحوظ حين يفكر أو يقدر أو يروي. ولولا أنه يلحظ أمثاله ونظراءه الذين سيظهرون على خواطره وآرائه لَما فكَّر ولا قدر ولا روَّى. ومعنى ذلك أن هذا الإنسان الفرد الذي ينشأ في جزيرة نائية مقطوعة الصلة بحياة الناس، أو يضطر إليها قبل أن يتم نضجه العقلي فيعيش فيها مفكرًا ومروِّيًا متدبرًا، ثم يستكشف حقائق الأشياء وأصول التفكير والمنطق، هذا الإنسان صورة من صور الأساطير لم يوجد ولم يُعرف، وليس من اليسير أن يُوجَد أو يُعرف. ويقال إن مصدر هذا أن التفكير أثرٌ من آثار اللغة، ومظهر من مظاهرها، لا سبيل إلى أن يوجد بدونها؛ لأن الخواطر والآراء مهما تكن لا تستطيع أن تخطر للنفس أو تُلابِسَها أو تستقر فيها إلا إذا اتخذت لها من الألفاظ صورًا وأزياء تمنحها الوجود، وتمكِّنها من الخطور على البال، والاستقرار في الضمير والخضوع لما تخضع له الخواطر في النفس المفكرة من التواصل والتقاطع، ومن التقارب والتباعد، ومن الائتلاف والافتراق.
يقال هذا ويقال أكثر من هذا، ولست أدري — وما يعنيني أن أدري — أحقٌّ هذا أم باطل، وخطأ هذا أم صواب! وإنما الشيء الذي يظهر أنه لا يقبل الشك ولا يحتمل الجدال، هو أن الإنتاج الأدبي ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تكون إلا في الجماعة التي تسمع الأثر الأدبي أو تقرؤه فتتأثر به، راضيةً عنه أو ساخطةً عليه، معجبةً به أو زاهدةً فيه، وإذا جاز أن يوجد الفرد الذي يفكر لنفسه ويستكشف لنفسه حقائق الأشياء وأصول التفكير والمنطق، فما أظن من الجائز أن يوجد الفرد الذي يصوِّر خواطره وآراءه في الألفاظ التي تُنطق أو تُكتب وتُسمع أو تقرأ، وهو لا يريد بهذا التصوير إلا نفسه، ولا يوجد هذا التعبير إلا إليها.
وقد يخيل إلى الأديب ذي الشخصية القوية الممتازة الذي يغلو في الامتياز حتى يشذ عن معاصريه أنه لا يكتب للناس ولا ينتج لهم؛ لأنه واثق أو كالواثق بأن الناس لن يفهموا عنه، ولن يسمعوا له؛ فهو إنما يكتب ليرضي نفسه بإظهار ما يكتب وإعلان ما يُسِرُّ. ولكن هذا الأديب إن وجد — وما أكثر ما يوجد — إنما يخدع نفسه عن حقيقة الأمر، فلولا أنه يريد أن يُظهِر الناس على ما يفكر ويقدِّر في يوم من الأيام لما صوَّره تفكيره وتقديره في الألفاظ والعبارات، ولما أودعه الصحف وأسَرَّه إلى الأوراق.
وأظرفُ من هذا أن الأديب الممتاز قد لا يكتفي بتصوير خواطره وآرائه في الألفاظ والعبارات، وإيداعها الصحف والأوراق، ولكنه يُرسِلُها إلى المطبعة، فإذا خرجت من المطبعة نسخًا كثيرةً فرَّقَها على المكتبات لتذيعها في الناس. ولعله أن يشارك في إرسالها إلى الصحف، ولعله أن يرسلها إلى النُّقَّاد؛ ليقرءوها، ولينقدوها، وليحكموا عليها، وليعلنوا إلى الناس ما يكون لهم فيها من رأي، ولعله أن يغضب إذا لم يجِد لخواطره وآرائه صدًى فيما تكتبه الصحف وفيما يتحدث به الناس. وهو مع ذلك يؤكد لنفسه — وللناس — أنه لم يقصد بما كتب وبما أذاع إلى الجمهور، وإنما جاشت في نفسه خواطر فلم يَرَ من إظهارها بُدًّا، وخطرت له آراء فلم يجِد عن إذاعتها منصرفًا.
وأظرف من هذا كله أن الأديب قد يجد على النقاد إن أهملوا كتابه أو أعرضوا عنه، وقد يتهمهم بالحسد ويَصِمُهم بالغيرة، وقد يعتب على هذا الناقد أو ذاك من أصدقائه؛ لأنه لم يُنوِّه بكتابه في الصحف، ولم يختصَّه بفصل أو بقطعة من فصل من هذه الفصول التي يذيعها في كل أسبوع.
كل ذلك وهو لم يكتب للناس وإنما كتب لنفسه، ولم يفكِّر للناس وإنما فكر لنفسه، ولا يخطر للأديب أنه إذا أراد إرضاء نفسه فليس في حاجة إلى الكتابة، وليس في حاجة إلى أن يتحدث إلى الناس؛ لأنه في هذا المعنى أو ذاك، ووقوفه عند هذا الرأي أو ذاك، إنما حسبه أن يفكر فيما يشاء وكيف يشاء؛ ليرضى إن أراد الرضى، وليسخط إن أراد السخط، وليذوق كل ما يعقبه التفكير والشعور والحس من اللذات والآلام.
هذا خداع من الأديب لنفسه حينًا وللناس أحيانًا، والحق الذي لا شك فيه أن الأديب أجدر الناس بأن يكون هذا الحيوان الاجتماعي الذي تحدَّث عنه الفيلسوف القديم، فهو لا يعيش إلا بالناس ولا يعيش إلا للناس. منهم يستمدُّ خواطره وآراءه، وإليهم يوجِّه خواطره وآراءه. يُنتج إن غذوا حسه وشعوره وعقله بالظواهر والحوادث والواقعات، وينعم إن أحس أنهم يسيغون ما يقدم إليهم من غذاء. وهو مفلس إن عاش في بيئة لا تغذو الحس والشعور والعقل، وهو مبتئس إن عاش في بيئة لا تستمتع ولا تظهر له أنها تستمتع بما يقدِّم إليها من ثمرات.
وفي الصلة بين الأديب وقرائه، أو قُلْ بين الأديب المنتج والجمهور المستهلك — كما يقول أصحاب الاقتصاد — شيء من الدعابة والعبث، وشيء من الدل والتيه، يتيح للأديب أن يغضب حين لا يكون للغضب موضع، وأن يرضى حين لا تدعو الدواعي إلى الرضى، ويتيح للجمهور أن يشتط في الطلب، وأن يتجنى فيُلِحَّ في التجني، وأن يقصر حين تحسُن العناية، وأن يُعنَى حين يحسُن الإهمال، وأمور الإنتاج والاستهلاك في الأدب جارية على هذا منذ أقدم العصور، ويظهر أنها ستجري على هذا ما دام في الناس أدباء ينتجون، وقراء يستهلكون.
هذا الشاعر — أو هذا الكاتب — ساخط على الجمهور، أو متنكر له، أو متبرِّم به؛ يوسعه لومًا وتأنيبًا، ويُلِحُّ عليه بالتوبيخ والتقريع، ويتمنى أن تنقطع بينه وبينه الصلة، ويَوَدُّ لو تبتر بينه وبينه الأسباب، والجمهور مع ذلك راضٍ عنه، رفيق به، متحبب إليه، يرى فيما يُوَجَّه إليه من اللوم والتأنيب نصحًا ورشدًا، ويجد فيما يسوق إليه من التوبيخ والتقريع لذة ومتاعًا، ويلقي سخطه العنيف بالابتسام الحلو الرقيق! وهذا الشاعر أو الكاتب يتلطف الجمهور ويترضاه، ويسرف في هذا التلطُّف له وابتغاء الوسائل إلى قلبه، ولكن الجمهور لا يحفل به، ولا يلتفت إليه، ولا يقف عند ما يُهدَى إليه من هذه الأزهار النضرة التي تتملق أحب الغرائز إليه، وآثرها عنده.
ومن هنا يكون بين الأدباء من يلائم عصره ومن لا يلائمه، ومن يفهم في عصره، ومن لا يفهم إلا بعد عصره بقرون، ومن هنا يكون بين الأدباء من يُتاح له المجد السريع، ويكون منهم من يُتاح له المجد البطيء. ومن هنا يكون بين الأدباء من يفسد المجد عليه أمرَه وفنه، ويكون بينهم من يتاح له القصد في ذلك، فلا يبطره الفوز، ولا يوئسه الإخفاق، وإنما يسلك بين ذلك سبيلًا وسطًا، فيلتمس لذته ومتعته في فَنِّهِ وفي آثاره، أكثر مما يلتمس لذته ومتعته في رضى الناس عنه، وإعجابهم به، وتهالكهم عليه.
والمهم أن الأديب مهما يكن أمره، كائن اجتماعي لا يستطيع أن ينفرد، ولا أن يستقل بحياته الأدبية، ولا يستقيم له أمر إلا إذا اشتدت الصلة بينه وبين الناس، فكان صدًى لحياتهم، وكانوا صدًى لإنتاجه، وكان مرآةً لما يذيع فيهم من رأي وخاطر، وما يغذوهم به من هذه الآثار الأدبية على اختلاف ألوانها.
وهو في حاجة إلى أن يشعر بهذه الصلة، وإلى أن يراها قويةً متينةً، مترددةً بينه وبينهم، كما يتردَّد الرسول بين المحبين. ذلك يدفعه إلى العمل، وينشطه للإنتاج، ويغذو نفسه بالمعاني، ويثير فيها الخواطر والآراء، ويشيع في لغته القوة والحدة والنشاط، ويلائم بين هذه اللغة وبين قلوب الذين يقرءونه ويسيغونه على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم في جمهور الناس، ومن هنا ينشأ لون من الأدب هو الذي يحقق الصلة بين المنتج والمستهلك، ويحققها على أتم وجه وأقواه وأنفعه؛ لأنه يقوم مقام الرسول بين هذين العاشقين اللذين يختصمان حينًا، ويأتلفان حينًا آخرَ، وهما الأديب والجمهور. وهذا اللون الجديد من الأدب هو النقد الذي يُبلغ إلى الناس رسالة الأديب فيدعوهم إليها ويرغبهم فيها، أو يصرفهم عنها ويزهدهم فيها، والذي يبلغ الأديب صدى رسالته في نفوس الناس، وحسن استعدادهم لها أو شدة ازورارهم عنها، أو فتورهم بالقياس إليها. ولعله أن يبين للأديب أسباب إقبال الناس عليه وإعراضهم عنه. ولعله أن ينصح للأديب بما يزيد إقبال الناس عليه إن كانوا مقبلين، ويخفف إعراضهم عنه إن كانوا معرضين، فهو الرسول الحكيم الذي نصح القدماء باتِّخاذه لذوي الحاجات. هو حكيم بالقياس إلى الجمهور؛ لأنه يدل الناس على ما يحسُن أن يقرءوا، وعلى ما يحسن أن يفهموا ممَّا يقرءون، وهو رسول بالقياس إلى الأديب؛ لأنه يبين للأديب مواقع فنه من الناس، وقد يَدُلُّهُ على الخطأ إن وقع فيه ليتجنَّبه، وعلى الصواب إن وفق إليه ليتزيد منه، وقد يدله على التقصير الفني ليتقيه، وعلى الإجادة الفنية ليبتغيها فيما يستأنف من الآثار.
ولكن هذا النقد الأدبي لا ينشئ نفسه، ولا يقوم بالرسالة في الهواء بين الأديب وقرائه، وإنما ينشئه إنسان أديب له في أكثر الأحيان ما للأديب المنتج من الخصال المحمودة والمذمومة، مخادع نفسه ومخادع الناس في كثير من الأحيان عن فنه، وعمَّا يقصد إليه بهذا الفن. فما أكثر ما يخيل الناقد إلى نفسه! وما أكثر ما يخيل إلى الناس أنه لا ينقد هذا الكتاب أو ذاك إلا لنفسه، لا رغبةً في النقد وإيثارًا له وإرضاءً لميله الطبيعي إلى أن تستقر أمور الصواب والخطأ، وأمور الإحسان والإساءة الفنية في نصابها! وهو في حقيقة الأمر إنما ينقد لنفسه وللناس كما ينتج الأديب المنشئ لنفسه وللناس، يجد اللذة والمتاع في الإنشاء لنفسه؛ لأنه تخلَّص من عبء ثقيل، ولأنه تأثير في غيره من الناس وتسلُّط عليهم، ولأنه فعل إيجابي إذا أردت الإيجاز، كما يجد اللذة والمتاع في تأثُّر الناس به، وفهمهم عنه، وإكبارهم له، وإيمانهم بما يدعو إليه. وكما يجد اللذة والمتاع أحيانًا في مقاومة الناس له وازورارهم عنه، وتشدُّدهم في الإنكار عليه، وفيما يستتبعه ذلك من أخذ ورَدٍّ، ومن جذب ودفع، ومن جدال وحوار، ومن خصام ومراء أيضًا.
في الناقد الخليق بهذا الوصف مزايا الأديب الخليق بهذا الوصف وعيوبه، لا يكادان يفترقان إلا في أن أحدهما — وهو الأديب — يتَّخذ طبائع الأشياء وحقائقها مادةً لأدبه، وموضوعًا لإنتاجه، على حين يتَّخذ أحدهما الآخر وهو الناقد صور الأشياء ونماذجها — أي الأدب نفسه — مادةً للنقد وموضوعًا. ومع ذلك فليس من المحقق أن الناقد لا يُلِمُّ بطبائع الأشياء وحقائقها، وربما كان المحقق عكس ذلك. فما أكثر ما يحتاج الناقد إلى أن يعالج الموضوع الذي عالجه الأديب؛ ليُبيِّن أو ليَتبيَّن ما عسى أن يكون قد عرض للأديب من صعوبة، وما عسى أن يكون الأديب قد سلك إلى تذليل هذه الصعوبة من طريق، وما عسى أن يكون الأديب قد وُفِّقَ إليه من إجادة أو قد تورَّط فيه من إساءة.
فالناقد آخر الأمر أديب بأدقِّ معاني الكلمة، والنقد آخر الأمر أدب بأصح معاني الكلمة أيضًا، وربما أتيحت للناقد مزايا لا تُتاح للأديب المنشئ، فالناقد مرآة لقرائه كالأديب، والقراء مرآة للناقد كما أنهم مرآة للأديب أيضًا، ولكن الناقد مرآة صافية واضحة جليَّة كأحسن ما يكون الصفاء والوضوح والجلاء، وهذه المرآة تعكس صورة الأديب نفسه كما تعكس صورة القارئ، وكما تعكس صورة الناقد؛ فالصفحة من النقد الخليق بهذا الاسم مجتمع من الصور لهذه النفسيات الثلاث، نفسية المنشئ المؤثِّر، ونفسية القارئ المتأثر، ونفسية الناقد الذي يقضي بينهما بالعدل، ويَزِنُ أمرهما بالقسطاس.
وواضح جدًّا أني إنما أُعْظِمُ من أمر النقد، وأُكْبِرُ من شأنه، وأرفعه إلى هذه السماء الممتازة التي تُظِلُّ الأدباء والقراء جميعًا؛ لأني أريد أن أنتهز هذه الفرصة السعيدة كما يقال — فرصة إصدار «الثقافة» — لأعرج منها إلى هذه السماء الممتازة، ولأُشرِف منها على الأدباء جميعًا، في فصول من النقد أتناول بها تأثير أولئك وتأثُّر هؤلاء، وما ينبغي لي أن أُقَصِّرَ في ذات نفسي ولا أن أضعها حيث يجب أن توضع من الأدباء والقراء؛ فإن هذا التواضع لم يُصْبِحْ ملائمًا للبدع في هذه الأيام، وإنما ينبغي لي أن أستطيل وأن أتكلَّف الاستطالة، وأن أرتفع وأتكلف الارتفاع؛ لأني لا أُريد أن أُقْبِلَ على الأدباء والقراء مسالمًا ولا موادعًا، وإنما أريد أن أُقْبِلَ عليهم مخاصمًا ومُلِحًّا في الخصام. والله يعلم ما أفعل ذلك حبًّا في الخصام، أو إيثارًا له، أو رغبة في الاستعلاء والكبرياء، وإنما أفعل ذلك تعمُّدًا لإيقاظ قوم نيام، قد طال عليهم النوم حتى كاد يشبه الموت. وهؤلاء القوم النيام هم الأدباء والقراء، أولئك ينتجون وهم نيام، قد أمنوا النقد أو استيأسوا منه، فهم ينتجون في فتور، ويرضون عن أنفسهم أو يسخطون عليها؛ لأنهم قد اطمأنوا إلى أنهم لن يظفروا من الناس بما يدل على الرضى أو يبين عن السخط. وهؤلاء يقرءون وهم نائمون، قد تعوَّدوا أن ينفقوا الوقت بين حين وحين بقراءة هذا الكتاب أو ذاك، لهذا الأديب أو ذاك، لم تَدْعُهُم إلى القراءة رغبة قوية، ولا خصومة عنيفة حول رأي من الآراء أو مذهب من مذاهب الإنشاء، وإنما دعتهم العادة إلى القراءة. دعتهم العادة ودعاهم الفراغ الثقيل أيضًا. فماذا تريد أن يصنع الرجل المثقَّف حين تنبئه الصحف بأن فلانًا قد أخرج كتابًا؟ وماذا تريد أن يصنع حين يتحدث إليه الناس عن هذا الكتاب ويسألونه عن رأيه فيه؟ لا بد من أن يُلِمَّ به إلمامةً يسيرةً قصيرة، ترفع عنه اللوم، وتبرئه من مَذَمَّةِ الجهل، وتتيح له أن يقول إذا سئل: نعم، لقد رأيت هذا الكتاب ونظرت فيه، ولست أرى به بأسًا، أو أنا أرى به بعض البأس. والناس لا ينتظرون منه أكثر من هذا، وهو لا ينتظر منهم إذا سألهم أكثر من هذا أيضًا. وكذلك ينتج الأدباء وهم نيام فكأنهم يحلُمون بالإنتاج، ويقرأ القراء وهم نيام فكأنهم يحلمون بالقراءة!
ويشمل الحياة الأدبية في مصر فتور مُهلِكٌ أو مدن من الهلاك. ولا بد من أن ينجاب هذا الفتور، ولا بد من أن يُذاد هذا النوم، ولا بد من أن ينشئ الأدباء ويقرأ القراء وهم أيقاظ. والنقد وحده كفيل بإيقاظهم، ولكنه لن يبلغ أسماعهم فيما يظهر إلا إذا رَفع صوته رفعًا عنيفًا، وهَزَّ النائمين هزًّا قويًّا، واضطرهم إلى هذه الحركة المضطربة التي يُضطر إليها النائم المغرق في النوم حين يزعجه الصوت المرتفع أو الهز العنيف، وما من شك في أن النائم الذي يستيقظ وجلًا مضطربًا يمقت موقِظَه أشد المقت. وأنا مستعد والحمد لله لأتلقى مقت النائمين الذين أريد إيقاظهم. بل يظهر أني مستعد لأكثر من هذا؛ فالنائم إذا أفاق وثاب إليه رشده وعادت إليه نفسه كَفَّ عن المقت واللوم في أكثر الأحيان، ورضي عن موقِظه وحمد له عنفه. ولكني مستعد فيما يظهر لتقبُّل اللوم المستمر والمقت المتصل؛ لأني أرى في ذلك تقويةً لهذه الحياة الأدبية التي اشتدت حاجتها في هذه الأيام إلى القوة والنشاط، ولأني أخشى إذا أيقظت النائمين بالعنف، ثم عدت في أمرهم إلى الهدوء والدعة أن يعودوا إلى الراحة، وأن يستحبُّوا النوم. وما أدري ما هذا الجنِّيُّ الذي يلح عليَّ، ويريدني على ألَّا أنام ولا أُنِيم. وقد حاولت أن أستنقذ منه نفسي، وأن أغريه بغيري من النقاد، فلم أبلغ ممَّا أردت شيئًا.
وهذه كتب كثيرة ظهرت منذ أعوام لطائفة من أدبائنا الشيوخ والشباب قد جمعها لي هذا الجني جمعًا، ووضعها بين يديَّ وضعًا، وهو يلح عليَّ في أن أقرأها وفي أن أنقدها، وفي أن أذيع رأيي فيها وحكمي عليها، وفي أن أتعرَّض من أجل ذلك للوم اللائمين وسخط الساخطين! والغريب أن هذا الجنيَّ الماكر أمين ناصح لا يريد أن يخدعني عن نفسي، ولا عن الناس! فهو يزعم لي أن الأدباء سيلقونني بمثل ما أبدؤهم به، أو بِشَرٍّ ممَّا أبدؤهم به. فقد ظهرت لي كتب، وستظهر لي كتب، وأي كتاب يستطيع أن يظفر بالرضى كله؟ وأي كتاب من كتب الناس لا يأتيه النقد من هذا الوجه أو ذاك، وإذًا فسينقد الناس كتبي كما أنقد كتبهم، وسيكيلني الناس بالصاع صاعين، وبالباع باعين، كما قال لي الأستاذ العقاد في بعض رسائله منذ أكثر من عشر سنين، وإذًا فهذا الجِنِّيُّ يصور لي نتيجة هذا النشاط الذي أستأنفه على أنها رَدٌّ ونقد وخصومة وحكومة، واضطراب في الجدل والحوار، ويخيرني بين هذه الحياة العنيفة الخصبة، وبين حياة أخرى هادئة وادعة، ولكنها عقيمة مُجدِبة، لا نقد فيها ولا رد، ولا خصومة فيها ولا حكومة، ولا جدال فيها ولا حوار، وإنما هي حياة الراحة والعافية والخمود. وواضح جدًّا أني أختار الأولى، ومتى رأى الناس أني أختار اليسير ممَّا يعرض لي من الأمور؟
أمر الأدباء وأمري إلى الله، إذًا فلنستأنف حياة النقد والرد التي عرفناها في بعض أوقاتنا، فذُقْنا منها هذه اللَّذَّة المؤلمة، وهذه الحلاوة المُرَّة التي لا يستقيم بدونها مزاج الأديب!
وليكن أول ما نبلو به أنفسنا من ذلك كتاب صديقنا «أحمد أمين» زعيم لجنة التأليف والترجمة والنشر، وزعيم مجلة «الثقافة»؛ فإن أحب شيء إليَّ أن أبدأ بمداعبة أقرب الأدباء إليَّ، وأدناهم مني، وآثرهم عندي.