فيض الخاطر
أنفق صباه وأول شبابه تلميذًا وطالبًا كما أنفقناهما جميعًا، ولكنه ذهب إلى الكُتَّاب فجلس على الحصير، وشارك في حياة الكُتَّاب كلها، إلا ما كان من غمس الأيدي إلى المرافق في ماجور الفول النابت، وفي ماجور المخلل؛ فقد كان الكُتَّاب قريبًا من داره، وكان يتغدَّى مع أسرته. ثم تحوَّل عن الكُتَّاب إلى المدرسة المدنية، فشارك في حياتها المنظَّمة المتأثرة بتقليد الفرنجة عصرًا، ثم تحول إلى الأزهر الشريف، فعاد إلى الحياة المحافِظة الخالصة التي تأثرت بها أسرته تأثُّرًا شديدًا؛ فقد كان أبوه من علماء الأزهر. ثم اتصل بمدرسة القضاء، فانتقل من المحافظة الخالصة التي كان يلطفها تأثير الشيخ محمد عبده، إلى محافظة معتدلة كان ينظمها ويشرف عليها عاطف بركات في مدرسة القضاء.
ثم خرج من هذه المدرسة، وجعل يبحث عن نفسه فلا يهتدي إليها، أو لا يكاد يهتدي إليها، وجعل أصدقاؤه والمتَّصلون به يبحثون عن نفسه أيضًا فلا يهتدون إليها أو لا يكادون يهتدون إليها. بحث عن نفسه بين الفقهاء الذين يفرغون للفقه تنفيذًا وتطبيقًا؛ فكان معلمًا، وكان قاضيًا شرعيًّا. وبحث عن نفسه بين الفلاسفة الذين ينظرون ويقرءون ويفلسفون ما ينظرون وما يقرءون، فحاول الترجمة في الفلسفة، والكتابة في الأخلاق، ولكنه لم يَرْضَ عن نفسه فقيهًا ولا قاضيًا ولا مفلسِفًا، وما أظن أن أصدقاءه والمتَّصلين به قد رضوا عنه في هذه الأطوار كلها؛ فقد كانوا يرونه أرفع منها منزلةً، وأبعد أمدًا، وأوسع أُفُقًا. على أنهم اهتدوا إلى ناحية مشرقة من نواحيه حين ألَّفوا لجنتهم هذه التي ملأت الدنيا علمًا وأدبًا وكلامًا وكتبًا، والتي لم يَكْفِها ذلك كله، حتى أرادت أن تشُقَّ على الناس بهذه الصحيفة التي تفرضها عليهم كل أسبوع؛ فاختاروه رئيسًا للجنتهم هذه، وجعلوا يجدِّدون انتخابه لرياسة هذه اللجنة كل عام منذ أُنشِئَت إلى الآن، وقد نَيَّفَ عمرها على العشرين، وأحسبها قد بلغت عيدها الفضي — كما يقول الفرنجة — أو كادت تبلغه؛ فقد عرف منه أصدقاؤه إذًا جِدًّا وحزمًا، وصدقًا وإخلاصًا، ونصحًا للمتَّصلين به والعاملين معه؛ فآثروه بخير ما يؤثِر به الصديق الصديق من الحب والثقة. ولكنهم ظلوا حائرين في أمره، كما كان هو حائرًا في أمر نفسه، لا يعرفون أين يضعونه: أيضعونه بين القضاة؟ أيضعونه بين المفلسفين؟ وأذكر أني رأيته منذ اثني عشر عامًا أو نحو ذلك، فإذا هو ضيق بكل شيء، منصرف عن كل شيء، يريد أن يفرغ من نفسه لشيء يشغله عنها وعن الناس، ويشعره بأن لحياته خطرًا وأثرًا.
ثم اتصل بالجامعة وفرغ لها، ونهض بتكاليفها، وما هي إلا أشهر حتى أخذ يَلمح نفسه من بعيد، كما يلمح المسافر في الصحراء عَلَمًا من هذه الأعلام التي تهدي الناس، وتعصمهم من الجور عن قصد السبيل، وجعل يدنو من نفسه قليلًا، وكلما دنا منها شيئًا ظهرت له واضحةً مشرقةً، حتى إذا كان منها غير بعيد أخذه شيء من الذهول، مصدره الرضى والأمن والطمأنينة، بعد السخط والخوف والقلق، فكان أشبه شيء بأولئك اليونان الذين لَقُوا ما لَقُوا، وشَقُوا ما شَقُوا، في سفرهم البعيد ورحلتهم الشاقة إلى بلاد الفرس، وفي عودتهم منها، حتى إذا استيأسوا من الأمن، وأشرفوا على المكروه، بدا لهم البحر، فعاد إليهم الأمل، وامتلأت قلوبهم رجاءً، وصاحوا في صوت رجل واحد: البحر! البحر! وكان بحر صاحبنا الأدب العربي، وكانت الصيحة الأولى لصاحبنا «فجر الإسلام»، وما هي إلا أن يبلغ الساحل ويندفع في هذا البحر الذي انتهى إليه، حتى يعرف نفسه حَقَّ المعرفة، ويصاحبها مصاحبة العالم بها، المستقصي لأسرارها، البصير بدخائلها، المستغل لكنوزها.
وإذا هو يظهر ما أظهر من «ضحى الإسلام» ويخرج من خرج من الشباب، وينشر ما نشر من الفصول والمقالات، ويؤلِّف ما ألَّف من الكتب في صميم الأدب، أو على هامشه؛ وإذا أصدقاؤه يهتدون إلى نفسه أيضًا، فيرضون ويطمئنون، ثم يقبلون على ما جعل يقدم إليهم من ثمرات فينعمون ويستمتعون، وإذا هذه النفس التي كانت غامضةً حتى على صاحبها تظهر وتبهر وتشرق، حتى يعرفها القريب والبعيد، وحتى تنشر من صوتها الهادئ المشرق رداءً رقيقًا شفافًا، ولكن فيه حرارة تبعث الحياة. وإذا هذا الرداء يغمر الشرق العربي كله، ثم يتجاوزه إلى الشرق الإسلامي، ثم تمتد أطراف منه حتى تبلغ الغرب المسيحي فتعجب وتروق. والظريف أني كنت أسأله اليوم عن نفسه: أيعرفها؟ فإذا هو لا يعرف منها شيئًا، أو لا يعلم أنه يعرف منها شيئًا. هو يعرف نفسه ولا يعرفها؛ يعرفها معرفة لا شعورية، يضبطها ويملكها ويستغلها ويصرف أمورها كما يريد، أو كما يسر لتصريفها، فإذا سألته عن ذلك لم يعرف منه شيئًا، أو لم يُحسِن أن يصور لك منه شيئًا. وأظن أني قد وصلت الآن إلى الصورة الدقيقة التي تمثل صديقنا أحمد أمين.
فهو رجل قد جمع هاتين الخَصلتين المحببتين إلى النفوس: خصلة الذكاء النافذ البعيد العميق، وخصلة البساطة الهادئة الظريفة التي تثير الابتسام على شفتيك، وقد تدفعك — أحيانًا — إلى أن تُغرِق في الضحك إغراقًا. ضَعْه أمام مسألة من مسائل العلم الأدبي، أو أمام مشكلة من مشكلات الحياة العلمية، وثِقْ بأنك سترى رجلًا نافذ البصيرة صادق الرأي، نافذًا من المشكلات إلى أعماقها، ثم تَحَدَّثْ إليه عن نفسه، أو تحدث إليه في أيسر حياته اليومية، في ذهابه إلى الجامعة، وعودته إلى داره، في ذهابه إلى لجنة النشر، وزيارته لأصدقائه؛ فسترى منه طرائف الأعاجيب، سترى منه ألوان السهو وفنون النسيان، والإقدام على ما كان يحب أن ينصرف عنه، والانصراف عمَّا كان يحب أن يُقدِم عليه، والتنبُّه لذلك كله بعد وقوعه، واختلاط الأمر عليه بعد أن يتنبه لما تورَّط فيه.
وهناك صورة أخرى دقيقة لصديقنا أحمد أمين، تأتَلِف من متناقضين، وأنا أعلم أن الناس قد زعموا منذ فكروا أن النقائض لا تجتمع، ولكنها تجتمع في صديقنا أحمد أمين، ولن يعدم الفلاسفة تعليلًا لاجتماع النقائض هذه؛ فهم قادرون على كل تعليل.
هذه الصورة الدقيقة الثانية تأتلف من الهدوء الهادئ، ومن الثروة الثائرة؛ فأحمد أمين هادئ قد عرف بذلك حتى ضُرِبَتْ به الأمثال فيه، وهو ثائر قد عرف بذلك حتى أشفق الذين يحبونه منه وأشفقوا عليه. فهم يحذرون فيما يكون بينهم وبينه من صلة أن يؤذوه فيدفعه ذلك إلى الثورة، وهم يُشفقون عليه إن غضب؛ لأنهم لا يعرفون أحدًا يتأثر بالغضب كما يتأثر به.
وستقول إني قد أطنبت وأسهبت، وبسطت في المقدمة، ولم أبلغ كتاب «فيض الخاطر» بعد، ولكن ترفَّقْ أيها القارئ الكريم؛ فإن كتاب «فيض الخاطر» ليس إلا خلاصةً طريفةً عذبةً ممتعةً لهاتين الصورتين، ولهذه المتناقضات التي تؤلف هاتين الصورتين. في هذا الكتاب ذكاء أحمد أمين وبساطته، وفي هذا الكتاب هدوء أحمد أمين وثورته، ولك أن تقرأ الكتاب من أوله إلى آخره، وأن تعرض ما فيه من الفصول والمقالات على هذه الخصال الأربع، فستجدها ممثلةً فيه أصدق تمثيل وأقواه. تراها تتمثل جملة وتتمثل تفاريق، تراه في فصل واحد ذكيًّا بسيطًا، وهادئًا ثائرًا، وتراه في فصل آخر وقد غلبت خصلة أو خصلتان من هذه الخصال على ما كتب، فظهر الذكاء والهدوء، وظهرت البساطة والثورة. وتستطيع أن تلائم بين هذه الخصال كما أحببت جمعًا وتفريقًا، وحذفًا وإثباتًا، فلن يُفلِت منها فصل من فصول الكتاب.
وفي هذا الكتاب ستون وثلاثمائة صفحة، وفيه أربعة وسبعون فصلًا، وقد قسم لي أحمد أمين من صحف الثقافة قدرًا معينًا لا ينبغي أن أعدوه، فلا تنتظر مني أن أفصِّل لك القول في الكتاب تفصيلًا، وما أدري أي الأمرين خير لأحمد أمين نفسه: هذا الإيجاز الذي أُضطر إليه اضطرارًا، فأخفي من محاسنه وعيوبه ما كان في إظهاره بعض النفع، أم هذا الإطناب الذي أطمع فيه ولا أظفر به، والذي كان يتيح لي أن أُظهِر صديقنا على بعض أشكال نفسه، فأرضيه حينًا، وقد أسخطه حينًا آخر. ولكني مع ذلك مضطر إلى أن أقِف عند مواضع قليلة من هذا الكتاب؛ لأبيِّن ما وصفت من هذه المتناقضات التي يتألَّف منها صديقنا أحمد أمين.
وأول ما أقِف عنده بالطبع هو مقدمة الكتاب، لا لأنها أول ما أقرأ من الكتاب؛ فقد قرأته كله مجتمعًا ومتفرقًا، ولكن لأنها تدعو إلى الوقوف. فأحمد أمين ينبئنا بأنه نشر هذه الفصول لأنها قطع من نفسه يحرص عليها حرصه على الحياة، ويجتهد في تسجيلها إجابةً لغريزة حب البقاء. والظريف الذي لا أشك فيه أنه قد كتب هذا الكلام صادقًا حين كتبه، ولكنه صِدق مصدره الاقتناع والاندفاع، لا الهدوء والروية، وأنا أعرف أن من الأدباء من يرون آثارهم الأدبية قطعًا من نفوسهم يجهرون بذلك ويردِّدونه، ولكنهم إذا سئلوا عنه لم يحقِّقوه، وإذا امتحنوا فيه لم يثبتوا عليه. فما عسى أن تكون قطع النفس هذه؟ وهل من الحق أن الكاتب — وإن كان أحمد أمين — يحرص على آثاره حرصه على الحياة؟ وهل لو امتحن صديقنا في ذلك يثبت للامتحان، ويحرص على هذه المقالات حرصه على الحياة، ويدافع عنها كما يدافع عن حياته، ويتأذَّى لما يصيبه فيها كما يتأذى لما يصيبه في حياته؟ كلا، إنما هو كلام أدباء لا أكثر ولا أقل، وإلا فويل لأصدقائه إذا نقدوه في هذه الفصول، واشتدوا عليه في النقد، وألحُّوا عليه في التحليل والتعليل والتأويل، إنهم إذًا يؤذونه في حياته، ويشرحون نفسه تشريح الحقيقة، لا تشريح المجاز، وهم أرفق به وأشد له حبًّا من ذلك. أفتراه إنما قال لهم هذا ليصرفهم عن نقد هذه الفصول، ويرغبهم عمَّا قد ينالونها من التشريح والتحليل؟ كلا، فأنا أعرفه رحب الصدر سَمْح الخلق، محتملًا للنقد، ولكنه أديب أَحَبَّ أثرًا من آثاره، وعبَّر عن هذا الحب فغلا كما يغلو الأدباء، وخرج عمَّا هو معروف به من الأناة والرزانة والهدوء.
وأخرى في هذه المقدمة، ليست أقل من هذه ظرفًا، وهي مذهبه الفني؛ فهو من أصحاب المعاني لا من أصحاب الألفاظ، وهو يؤثِر الإيجاز ويكره الإطناب، وهو يؤثِر القصد، ويكره الزينة. وكل هذا حَسَن، وكل هذا يُقبل من الأستاذ حين يقوله؛ لأنه يقوله صادقًا فيه، مؤمنًا به. ولكن دع المقدمة، وامضِ في قراءة الكتاب، فسترى فيه فصولًا تروع بألفاظها أكثر مما تروع بمعانيها، وسترى فيه فصولًا تعجب بإطنابها أكثر مما تعجب بإيجازها، وسترى فيه فصولًا تروق بزينتها أكثر ممَّا تروق بإيثارها للقصد، واكتفائها بلبسة المتفضل. والأستاذ صادق مخلص حين كتب هذه الفصول التي تروع باللفظ لا بالمعنى، وتعجب بالإطناب لا بالإيجاز، وتروق بالزينة لا بالقصد، وهو مناقض لنفسه في هذا المذهب الفني الذي صوَّره وقضى به على نفسه، ولكنه أديب، وليس على الأديب بأس من التناقض؛ فهو لا يتناقض في لحظة واحدة، ولا في حال واحدة، ولا في ظروف بعينها، ولكن ما يكتبه من الآثار يُمَثِّل لحظات مختلفة من حياته، فيظهر مختلفًا متباينًا كما اختلفت هذه اللحظات وتباينت، وإلا فاقرأ «من غير عنوان» صفحة ٢١، وحدِّثْني: أموجز هو أم مطنب؟ أرائع هو بلفظه أم بمعناه؟ قصة المقال يسيرة جدًّا؛ فقد ساء هضم الأستاذ فساء رأيه في الحياة، وحسُن هضم الأستاذ فحسن رأيه في الحياة، وليس في المقال أكثر من هذا، إذا حصلت ما فيه. ولكنه أدَّى هذا المعنى اليسير القريب المألوف، الذي لا يحتاج تصوُّره وأداؤه إلى ذكاء خارق، وإلى علم عميق، أدَّاه في ثلاث صفحات ونصف صفحة من كتابه، فراعك وراقك وأعجب؛ لأنه أطنب وأسهب، وأفتن في اختيار اللفظ، ونقض ما قال من أنه يؤثر الإيجاز على الإطناب، والقصد على الزينة والحلية.
وللأستاذ أحمد أمين قصة ظريفة؛ فقد خطر له ذات يوم أن الأدب القوي خير من الأدب الضعيف، وأكبر الظن أنه كان قد ضاق ببعض ما يكتُب المحدَثون، وبعض ما قرأ من أدب القدماء؛ فاندفع — وما أكثر ما يندفع الأستاذ أحمد أمين إذا اقتنع — ومَدَّ ظل الضعف على الأدب العربي كله، ووصمَنا في قديمنا وحديثنا وصمةً مؤذيةً حقًّا، لم يتردَّد الكاتب التركي الأديب إسماعيل أدهم في قبولها وتسجيلها في «الرسالة» على أنها حقيقة لا جدال فيها. ولكن هذا الفصل الذي كتبه الأستاذ مندفعًا عجلًا أحفَظَ بعض الآنسات، فكتبت إلى الأستاذ ترميه بأنه لا قلب له، أو بأن له قلبًا ولكنه لا يخفق. ووارحمتاه للأستاذ الصديق القوي العنيف، الذي لا يحب أدب الضعف، وإنما يحب أدب القوة! لقد رمته الآنسة فأصْمَتْه، وإذا هو يكتب فصلًا من أروع فصوله عنوانه «القلب». وإذا هو يصوِّر لنا في هذا الفصل أدبًا قويًّا ضعيفًا، خشنًا ناعمًا، عنيفًا لينًا، مصدر قوته غضب صاحبه لقلبه، ومصدر ضعفه حرص صاحبه على أن يكون له قلب حساس، واستمتاع صاحبه برقة الشعور ودقة الحس، وتأثُّر صاحبه بما يتأثر به الأدباء، فيدفعون إلى الضعف حين يحتاجون إلى الضعف، وإلى القوة حين يحتاجون إلى القوة. وأظرف من هذا كله أن الأستاذ أحمد أمين نفسه لا يؤمن بأن الأدب العربي كله أدب ضعف، وإنما خطر له هذا الخاطر ذات يوم أو ذات لحظة، فسيطر عليه كدأب غيره من الأدباء، فكتب هذا الفصل. وأنت واجد في هذا الكتاب نفسه دفاعه عن الأدب العربي، وإلحاحه بالنقد العنيف على الذين يُعرضون عن هذا الأدب ويزهدون فيه، ويصورونه أو يتصورونه على غير وجهه. والأستاذ صادق في الحالين؛ لأنه أديب يتأثَّر بالخاطر الطارئ والفكرة العارضة، فيكتب وينشر، وما دام أثره الأدبي قطعة من نفسه، وهو يحرص عليه حرصه على الحياة، ويسجِّله إجابةً لغريزة حب البقاء، فهو يثبت كل ما كتب وينشره مجتمِعًا، لا يحفل بما يكون فيه من تناقض أو اختلاف، وليس عليه من ذلك بأس؛ فهو أديب، ونفس الأديب معرَّضة لهذا التناقض وهذا الاختلاف، ومن حق الناس عليه أن يَرَوْا نفسه في جميع أطوارها، وأن يظهروا على ما تضطر إليه من الاضطراب والاختلاف.
وأريد أن أقف مع الأستاذ أحمد أمين عند فكاهة ظريفة في كتابه، وهو هذا المقال الذي أشرت إليه، والذي عنوانه «من غير عنوان»؛ فهل لهذا المقال عنوان؟ أم هو خلو من العنوان؟ فإن تكن الأولى فكيف يكون المقال بغير عنوان؟ وإن تكن الثانية فما موضع هذه الكلمات الثلاث التي نجدها في الفهرس، ونجدها على رأس المقال؟ كيف يتصور الأستاذ مقالًا له عنوان وهو من غير عنوان؟ أما أنا فأتصور هذا تصورًا واضحًا كل الوضوح؛ فهو لون من ألوان التناقض الذي يبيحه الأدباء لأنفسهم، والذي شاع وذاع في هذه الأيام، واصطنعته الصحف السياسية فيما يكون من معارضتها للحكومات القائمة. فتراها تنشر الفصول أو أشباه الفصول بهذا العنوان «من غير تعليق»؛ لأنها ترى في نشر ما تنشر من الأخبار غنى عن الشرح والتفصيل. ولكني أعترف بأن «من غير عنوان» هذه أبرع وأبدع من هذه الكلمة التي ذاعت في الصحف السياسية.
وبعد، فقد كنت أريد أن أشق على الأستاذ، وأن أشتط على كتابه، وأن أُظهِر بعض الأشياء التي لا يكون النقد اللاذع نقدًا لاذعًا بدونها، وأنا بعدُ حريص على أن يكون نقدي لاذعًا في هذه المقالات، ولكني قد بلغت هذا الموضع من مقالي، وإذا أنا قد جاوزت القدر المقسوم لي من «الثقافة». ومع ذلك فهناك شيئان لا أستطيع أن أختم هذا الفصل دون أن أُلِمَّ بهما وأشير إليهما: فأما أوَّلهما فهو أن الأستاذ أحمد أمين يسرف في حبه للمعاني وإعراضه عن جمال اللفظ، وغلوه في أن يكون قريبًا سهلًا، وسائغًا مألوفًا، ومفهومًا من العامة وأوساط الناس، حتى يضطره ذلك إلى أن يصطنع بعض الاستعمالات العامية التي لا حاجة إليها، ولا تدعو النكتة الفنية إلى استعمالها، وإنما هو تعمُّد من الأستاذ وتكلُّف يفسد عليه الجمال الأدبي أحيانًا، ويغري بعض نُقَّاده أن يزعموا أن إنشاءه ليس إنشاءً أدبيًّا، وهو مع ذلك من أحسن ما يكون الإنشاء الأدبي، لو لم يتظرَّف صاحبه — أحيانًا — بهلهلة نسجه، متعمدًا لذلك، متكلِّفًا له، مسرفًا فيه. وما أضرب لذلك إلا مثلًا واحدًا، وهو «قصة الخيار» الذي يقدره الريفي بضخامته، ويقدره المدني بنحافته؛ ويبيعه ذلك بالكوم، ويبيعه هذا بالرطل. هذا كلام لا حاجة إليه، إلا أن يتعمد الأستاذ التظرُّف به والتقرب إلى لغة العامة. وما أكره أن أهبط إلى العامة، بل يجب أن أدنو منهم، ويجب أن أرفعهم إلى حيث يذوقون الأدب الرفيع، هذه هي الديمقراطية الصحيحة، ولكن يجب أن نحتاط أشد الاحتياط، فقد نسيء فهم الديمقراطية الأدبية، فنفسد الأدب ونبتذله. والأستاذ بعد هذا قدوة لقرائه وطلابه والمعجبين به، فليحذر أن يحبب إليهم الإسفاف والابتذال.
هذا أحد الأمرين، والأمر الآخر يتصل ببساطة الأستاذ التي أشرت إليها في أول هذا الفصل، فما أكثر ما يقف الأستاذ عند الأولويات التي لا تخفى على أحد فيبسطها بسطًا ويفصِّلها تفصيلًا، ويطيل فيها كأنه يعالج بعض المشكلات الغامضة. ذلك عيب الأساتذة، قد تعوَّدوا أن يبسطوا لطلابهم أيسر الأمور وأهونها، فهم يلحظون الطلاب حتى حين يكتبون. على أن بساطة الأستاذ لا تقف عند هذا الحد؛ فهو مؤمن بالعلم والقوانين، وأريد قوانين المنطق والطبيعة، إيمانًا لا يخلو من البساطة التي تشبه أو تكاد تشبه البراءة. وانظر إليه يريد إصلاح الذوق وترقيته، كما ينظم تعليم الطبيعة والرياضة والكيمياء. وانظر إليه في كل نقده للحياة الاجتماعية، فهو يأخذ هذه الأمور كلها بالجد، ويعالجها كما يعالج فصلًا من فصول «ضحى الإسلام».
وكيف أستطيع أن أدع الأستاذ الصديق دون أن أثني أجمل الثناء وأخلصه على هذه الفصول الحلوة التي تصوِّر الحياة المصرية تصويرًا رائعًا ساذجًا أخَّاذًا كمقال «سيدنا»؟ بل كيف أدع الأستاذ الصديق دون أن أُعجب أشد الإعجاب بمقاله «سلطة الآباء»، هذا الذي صور فيه تطوُّرنا الاجتماعي أبرع تصوير وأروعه وأسرعه إلى القلوب، وإن كان قد امتاز فيه بأرخص ما يمتاز به الأديب العنيف، من الإسراف والإغراق والجموح، وأظهر حياتنا الحديثة مظلمةً أكثر ممَّا ينبغي، سيئةً أكثر ممَّا هي، وأنا على ذلك أرحم هذا الأب البائس الشقي، وأرثي له من هذا الذل الذي طرأ عليه، بعد أن كان عزيزًا كريمًا.