سلمى وقريتها
ليختصم أنصار الجديد وأنصار القديم ما وسعتهم الخصومة، وما وجدوا من أنفسهم قوةً على احتمال أثقالها، والمضي فيما تحتاج إليه من الجهاد؛ فإن الزمن يمضي في سبيله برغم خصامهم وصلحهم، وهو لا يمضي وحده، ولكنه يدفع أمامه قومًا منا، ويجرُّ وراءه قومًا آخرين، وهو منتهٍ بأولئك وهؤلاء إلى حيث يريد هو من التغيير والتطور والتجديد، لا إلى حيث يريدون هم من الوقوف والجمود والإسراف في المحافظة على القديم كل القديم.
ولقد خطر لي هذا بعد أن فرغت من قراءة ما ينشره أصدقاؤنا في «الرسالة» حول التجديد وأنصاره، وحول المحافظة وأصحابها، وقد فرغت أيضًا من قراءة طائفة من هذه الكتب الكثيرة التي أظهرتها الشهور الأخيرة، والتي تجتمع أمامي، وتزداد من يوم إلى يوم، وتلح عليَّ في أن أفرغ لها، وأجلس إليها، وأنظر فيها، فأنصرف بها عمَّا يحيط بي من ظروف الحياة التي أعمل فيها كل يوم.
نعم! فكرت في هذا، وقد فرغت من قراءة بعض هذه الكتب، فإذا نحن نختصم في الجديد والقديم، ونسرف في الخصومة، ونغلو في التفسير والتأويل، على حين يدفعنا الزمان في طريق التجديد دفعًا لا سبيل إلى الإفلات من قوته، ولكني وقفت عند ظاهرة لعلها تستحق أن يقف عندها النقَّاد والمفكرون، وهي هذا الشكل العقلي الفني الذي تأخذه الصلة بين الشرق والغرب في هذه الأيام؛ فقد كنا منذ حين نتأثر بالغرب، ونسعى إليه، ونقتبس منه، ونريد أن ننقله إلينا إنْ صحَّ هذا التعبير، وكان السعي يُفني شخصيتنا أو يكاد يفنيها، فإذا نحن غربِيُّون في تفكيرنا وتعبيرنا وحياة عقولنا وقلوبنا، وإذا حظوظنا تختلف من هذه الغربِيَّة قوةً وضعفًا؛ منَّا مَن يحسن التقليد ومَن يسيئه، وكان ضعف شخصيتنا هذا يبغِّضنا إلى المحافظين من أهل الشرق ويزهِّدهم فينا، وكان يثير في نفوس المجددين من أهل الغرب حبًّا لنا يشوبه العطف والإشفاق، وكنا نضيق ببغض أولئك وحب هؤلاء، ونتمنى لو نقف من أولئك وهؤلاء موقفًا طبيعيًّا لا حرج فيه، ولا تكلف، ولا ضيق.
كذلك كانت حال كتَّابنا وشعرائنا في هذا العصر الحديث حين كانوا يريدون التجديد أو يذهبون إليه، ولكن الأمر تغيَّر في هذه الأيام، فقويت شخصية الكتَّاب والشعراء حتى آمنَتْ بنفسها وآمَنَ بها الناس من حولها في الشرق والغرب جميعًا، وأصبح كتَّابنا وشعراؤنا ينشئون النثر، ويقرضون الشعر، فلا يَزْوَرُّ عنهم كثير من المثقفين حقًّا في الشرق، ولا يرفق بهم أهل الغرب، وإنما يحبهم أولئك فيقرءونهم ويخلصون لهم النصح والنقد والتشجيع، ويقدِّرهم هؤلاء فيدرسونهم ويقيسون الآماد التي قطعوها في سبيل التجديد والاتصال بالحضارة الغربية، والتمكين لهذه الحضارة في بلاد الشرق، دون أن تفنى شخصياتهم أو يصيبها الضعف والفتور.
وأغرب من هذا الذي تراه حين تقرأ ما يكتبه «جيب» و«كمفمير» وغيرهما عن كتَّابنا وشعرائنا. إنك تلاحظ في هذه الأيام أن من أهل الشرق مَن يتمثلون الغرب حتى كأنهم من أهله، فيتحدثون إليه بلغته ويفكرون كما يفكر، ويشعرون كما يشعر، ويشاركونه بهذا في إنتاجه الأدبي الخالص، ويُصدرون كُتُبهم حيث يصدر الغرب نفسه كُتُبه في لندرة أو باريس، وإذا هذه الكتب تصل إلينا من عواصم الغرب فنتلقاها كما كنا نتلقى الكتب الغربية من قبلُ، وتتناولها صحفنا بما تتناول به كتب الغرب من نقد وتقريظ. وترى بعض أهل الشرق يتمثلون الغرب ويسيغونه ويهضمونه إنْ صحَّ هذا التعبير، ويذيبونه في أنفسهم، ويغلبون شخصيتهم عليه، ويغذُّون قوميتهم به، ثم يتحدثون إلينا بلغتنا مهذَّبة، ويفكرون معنا بطرائق تفكيرنا مصفاة، قد أضيفت إلى ثروتنا ثروة أخرى، فأخصبت وآتت ثمرًا نحبه ونستعذبه، ونستزيد منه فنلح في الاستزادة.
وكذلك يتصل الشرق بالغرب اتصالًا عقليًّا وفنيًّا بعد أن كان الاتصال بينهما ماديًّا تقليديًّا، وكذلك نتقدم في التجديد خطوات واسعة قيمة مغنية حقًّا، فنضيف إلى ثروة الغرب كما يضيف الغرب إلى ثروتنا.
وأنا أريد أن أتحدث إليك الآن عن كتابين يمثِّلان هذه الحال التي وصفتها من الاتصال المتكافئ الكريم بين الشرق والغرب. فأما أحد هذين الكتابين فقصة كُتِبت بالفرنسية، وأما الآخَر فقصة كُتِبت بالعربية، أول الكتابين قصص خالص، والآخَر قصص تمثيلي. أول الكتابين لسيدة لبنانية هي السيدة إمي خير، والآخَر لكاتب مصري هو الأستاذ توفيق الحكيم.
أما كتاب مدام خير فهو: «سلمى وقريتها»، سمعنا عنه منذ أكثر من عام، وتحدَّثَتْ إلينا صاحبته بخلاصته، وقرأَتْ علينا بعض فصوله في محاضرةٍ ألقتها مدام خير منذ عام في قاعة من قاعات الكونتننتال، حيث يجتمع أصدقاء الثقافة الفرنسية في يوم الجمعة من كل أسبوع أثناء الشتاء، وكنا قد أحببنا ما سمعنا من هذا الكتاب ومن الحديث عنه، ومنينا أنفسنا ساعات لذيذة نقضيها معه بعد أن يتم طبعه، ويعود إلينا من باريس في ثوبه الفرنسي الجديد، ولكني شديد الاحتياط، أسيء الظن بنفسي ورأيي، ولا أطمئن إلى هذه الأحكام العجلى، ولستُ أخفي أني أسأت الظن بما أحسست من رضًا عن هذا الكتاب في العام الماضي، وأشفقت أن يكون مصدر هذا الرضا براعة مدام خير في المحاضرة، وحظها من حسن الإلقاء، وقدَّرت أن الخير أن أنتظر حتى يصل إليَّ الكتاب فأقرأه بعيدًا من صاحبته، ومن صوتها العذب وحديثها الجميل.
ووصل إليَّ هذا الكتاب منذ أسابيع، فخلوتُ إليه ساعات، ولستُ أخفي أني رضيت عنه رضًا كثيرًا، وأُعجِبتُ بفصول منه إعجابًا عظيمًا، ووقفت عند فصول أخرى وقفةَ مَن يشعر بشيء من الرضا لا إسراف فيه.
موضوع الكتاب ظاهر من عنوانه؛ فهو قصة فتاة لبنانية، وتصوير للقرية التي عاشت وماتت فيها، والمؤلفة تنبئنا بأن كتابها صورة فتوغرافية لسلمى وقريتها، وقد يكون هذا حقًّا بل هو حق، وهو في الوقت نفسه مصدر فضل الكتاب، ومصدر شيء مما يلاحظ عليه، وكم كنتُ أود لو أن هذا الكتاب لم يكن صورةً فتوغرافيةً، بل كان صورةً فحسب، صورةً من عمل الإنسان لا من عمل الآلة الفتوغرافية، صورةً تظهر فيها شخصية الكاتبة ظهورًا واضحًا نأنس إليه ونستعين به على إساغة هذه الحقائق التي يشتمل عليها الكتاب، ولكن القصة كانت كما أرادت مدام خير صورةً فتوغرافيةً؛ فامتازت بالصدق، وامتازت بالدقة، وفقدت شيئًا كثيرًا من الحياة والتأثير.
ليست القصة غريبة ولا طريفة، وإنما هي شيء مألوف نكاد نقرؤه في كل كتاب — أستغفر الله — نكاد نقرؤه في كتبٍ كثيرةٍ أُلِّفَتْ في القرن الماضي، ونكاد نجده في كل كتاب من كتب الأدب العربي حين يتحدث عن العشاق الذين يضنيهم الحب حتى يسلمهم إلى الموت. فقد أحبت سلمى فتحي من قرية مجاورة لقريتها في شمال لبنان، مرض أبوها، وقامت أمها على تمريضه، وانفردت هي بالذهاب إلى المزرعة، فلقيت فيها هذا الفتى الغني الموسر المثقف بعض الشيء، فمال الفتى إليها ومالت هي إليه، ثم تحدَّثَا، ثم عرف كلٌّ منهما أمر صاحبه، ثم ملأ الحب قلب الفتاة وملك عليها نفسها، ثم برئ الأب من مرضه وانقطع لقاء المحبين، فكانا يختلسان ساعات يلتقيان فيها، ثم ظهر الأب على بعض الأمر، فضرب الفتاة، وذهب يعاتب الفتى ويعرض عليه الزواج، فاعتذر، وأرسله عمه إلى مصر يلتمس فيها الثروة، ويبدِّد فيها حبه على ضفاف النيل، وأصاب الفتاة حزن عميق كان الأمل يخففه حينًا ويضاعفه أحيانًا، ثم كان اليأس. وزوجت الفتاة من شاب كان يَكْلَف بها، فحاولت أن تُخلص له، وجدَّت في ذلك، ولكنها لم تستطع أن تخلص من حبها القديم، فيضعف قلبها وجسمها عن الوفاء بحبها الأول والإخلاص لحب زوجها، فيأخذها مرض ما يزال بها حتى ينقذها من هذه الحياة.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب مبتكَر، ولكن جمال القصة مع ذلك شيء لا سبيل إلى الشك فيه، ومصدره فيما يظهر هذا التصوير الفتوغرافي الذي ينقل إليك قريةً من قرى لبنان وما فيها من حياة نحب سذاجتها ووداعتها، وجمالها الطبيعي الذي لم يفسده التكلف ولم يشوهه الإغراق في الحضارة، والذي يمتزج فيه الإيمان الخالص الحر بالحياة الخالصة الحرة. نعم، أو نحب هذه الحياة التي يملؤها النشاط المنتج في فصل العمل، وتملؤها الراحة الهادئة في فصل السكون، ولعلنا نحب أيضًا هذا النوع من العشق الذي ينبعث من القلب الإنساني في غير تكلف ولا ترف، ولا تأثر بفلسفة العقل وتهالكه على البحث والتحليل والاستقصاء. ثم نحن نحب بعد هذا كله وفوق هذا كله هذه الصور الفتوغرافية لطبيعة لبنان في أشكالها المختلفة؛ لهذه الجبال الشاهقة يكسوها الجليد إذا كان الشتاء، ويزينها الربيع بالشجر المخضر، ولهذه الأودية التي يجاهدها الإنسان جهادًا عنيفًا ليستخرج منها القوت الذي يستعين به على الحياة، وحب اللبنانيين القوي الصادق الساذج لطبيعتهم وجبالهم وأوديتهم، حتى أنهم لَيُفْتَنُون بها فتنةً تجعلهم جميعًا شعراء.
والغريب من أمر هذه القصة أنها ليست صادقةً في تصوير موضوعها وحده، بل هي صادقة في تصوير ناحية من نواحي الكاتبة نفسها، أريد بها ناحية المهارة الفنية؛ ففي أولها شيء من الضعف والبطء واستقصاء اللغة، كأن الكاتبة تجاهِد نفسها بعض الشيء، حتى إذا مضَتْ في القصة مرحلةً أو مرحلتين أصبح قلمها طيعًا، وألقت إليها اللغة الفرنسية أَعِنَّتها واستقاد لها الأسلوب الفرنسي، فانطلقت حرةً سمحةً كأنها قد أتمت التمرين؛ لهذا كان آخِر الكتاب خيرًا من أوله، ولهذا كان من حقنا أن نثق بأن الكتاب الذي ستصدره مدام خير سيكون خيرًا من الذي أصدرته. وإذا لم يكن بدٌّ من أن ألاحظ بعض العيب، فقد آسف لأن شيئًا من التهاون في اللغة لم يبرأ منه الكتاب؛ فقد استُعْمِلَتْ ألفاظ عامية مبتذلة لا ينبغي أن توجد في كتاب أدبي إلا أن تدعو إليها النكتة، ولعل من أوضح الأمثلة ما يوجد في صفحة ٧٢ و١٤٠. وجملة القول أننا مدينون لمدام خير بساعات لذيذة قيِّمة قضيناها مع هذا الكتاب الممتع، ولكن أملنا أكثر جدًّا من رضانا، فَلْنشكر لها جهدها الأول وَلْنهنِّئها به، ولننتظر من جهودها المقبلة خيرًا كثيرًا.