أهل الكهف
أما قصة «أهل الكهف» فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي العصري وحده، بل أقول في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفُّظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطًا به مبتهجًا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول إن فنًّا جديدًا قد نشأ فيه وأُضِيف إليه، وإن بابًا جديدًا قد فُتِح للكتَّاب، وأصبحوا قادرين على أن يلجوه، وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنَّا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن!
نعم، هذه القصة حادث ذو خطر يؤرِّخ في الأدب العربي عصرًا جديدًا، ولستُ أزعم أنها قد حقَّقت كل ما أريد للقصة التمثيلية في أدبنا العربي، ولستُ أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر، ولكني على ذلك لا أتردد في أن أقول إنها أول قصة وُضِعت في الأدب العربي، ويمكن أن تُسمَّى قصةً تمثيليةً حقًّا، ويمكن أن يقال إنها أغنت الأدب العربي، وأضافت ثروة لم تكن له، ويمكن أن يقال إنها قد رفعت من شأن الأدب العربي، وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة، ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرءونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة. بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقَّاد الأجانب يستطيعون أن يقرءوها إنْ تُرجِمتْ لهم، فسيجدون فيها لذةً قويةً، وسيجدون فيها متاعًا خصبًا، وسيثنون عليها ثناءً عذبًا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتَّاب الأوروبيين.
أهذه القصة مصرية؟ أهذه القصة أوروبية؟ … ليست مصرية خالصةً، ولا أوروبيةً خالصةً، ولكنها مزاج معتدل من الروح المصري العذب والروح الأوروبي القوي، وقد يكون من العسير على غير الفنيين أن يفرِّقوا بين هذين الروحين اللذين تأتلف منهما القصة.
ولكن الذين لهم مشاركة قوية في الأدب العربي والأجنبي يستطيعون أن يتميزوا هذين الروحين حين يجدون في القصة سهولة النفس وعذوبتها، وحين يشعرون بهذا العبث الخفيف الذي يضطرهم إلى الوقوف من حين إلى حين وهم يقرءون، وحين يجدون ألفاظًا وجُمَلًا تصوِّر النفس المصرية الآن كما صوَّرتها في أزمان مختلفة منذ كان للمصريين أدب عربي، ثم حين يجدون هذا التفكير العميق الخصب الدقيق الذي يُلح في التعمق ويغلو في الدقة، ويأبى أن يترك حقيقةً من الحقائق عرضةً للشك أو هدفًا للغموض، إلا أن يكون الكاتب قد تعمَّد ذلك وأراده، وأبى أن يرسل نفسه فيه على سجيتها مراعاةً لبعض الظروف.
كل هذا يمكِّن النقَّاد من أن يتبينوا في هذه القصة روحًا مصريًّا ظريفًا وروحًا أوروبيًّا قويًّا، وَلْنقف وقفةً قصيرةً عند موضوع القصة وشكلها.
فأما موضوع القصة فلم يخترعه الكاتب، وإنما استكشفه، وفرق ظاهر بين الاختراع في الأدب والاستكشاف، ولعل الاستكشاف أن يكون أصعب في كثير من الأحيان من الاختراع، وهو في قصتنا هذه صعب عسير، موضوع القصة موجود في القرآن الكريم، وهو قبل أن يوجد في القرآن كان معروفًا في القصص المسيحية التي لها حظ من التقديس، ويكفي أن تعلم أنه حديث أهل الكهف الذين أشفقوا من اضطهاد ملك رومي للمسيحيين، ففروا بدينهم من هذا الملك الظالم، وأووا إلى الكهف، فناموا فيه ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، ثم بعثهم الله عز وجل، فأنكروا الناسَ، وأنكرهم الناسُ، فعادوا إلى كهفهم، وفيه قبضهم الله إليه.
وأنت تعلم أن هذه القصة قد قصَّهَا الله في القرآن في آيات كريمة هي أعذب وأسمى ما نعرف من آيات البيان العربي، وأنت تعلم أن من العسير أن تستغل مثل هذه القصة في أدبنا العربي، الذي لم يتعود في العصر الحديث أن يستغل الكتب الدينية استغلالًا فنيًّا، كما تعوَّدَ الأوروبيون أن يلتمسوا في الكتب المقدسة موضوعات للقصص والشعر والتمثيل والنحت والنقش والتصوير والموسيقى. فإذا استطاع الأستاذ توفيق الحكيم أن يلتمس موضوع قصته في القرآن أو في قصةٍ فصَّلها القرآن، وأن ينشئ في هذا الموضوع أثرًا فنيًّا بديعًا، كان خليقًا أن يُهَنَّأ بشجاعته وبراعته معًا.
فموضوع القصة إذًا شرقي، عرفته أحاديث المسيحيين وفصَّلَه القرآن الكريم، ولم يعرفه الأوروبيون إلا من هذه الطريق، ومؤلفنا إذًا كغيره من المؤلفين الأوروبيين الذين يلتمسون الموضوعات لقصصهم التمثيلية أحيانًا في التوراة والإنجيل، ولكن مؤلفنا كغيره أيضًا من المؤلفين الأوروبيين لم يَحْكِ حكايةً ما عرفته أحاديث المسيحيين وما جاء في القرآن، وإنما بعث في أهل الكهف حياةً أخرى فيها قوة، وفيها خصب، وفيها فلسفة تمكِّنها من الاتصال بالحياة الإنسانية العامة على اختلاف العصور والبيئات من أنحاء غير الناحية التي عُني بها القرآن، وعنيت بها الأحاديث المسيحية. وهو يُدخِل في هذه الحياة عناصر جديدة لم تُدخِلها القصة القديمة، أهمها عنصران: عنصر الفلسفة، وعنصر الحب.
فالفرق عظيم جدًّا بين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم القرآن، وكما تصورهم أحاديث المسيحية الشرقية في سذاجة لا حدَّ لها ووداعة لا حدَّ لها، وإيمان لا حدَّ له ولا غبارَ عليه، وبين هؤلاء الأشخاص كما يصوِّرهم الأستاذ توفيق الحكيم، وقد تعقَّدت حياتهم فتعقَّدت عقولهم أيضًا، ففقد اثنان منهم هذه السذاجة المطلقة، والوداعة المطلقة، والإيمان المطلق، ولم يحتفظ بهذه الخصال منهم إلا شخص واحد، هو يمليخا الراعي، وبهذا النحو من التصوير الجديد لهؤلاء الأشخاص استطاع الكاتب أن يجعلهم أبطال قصة تمثيلية حديثة، ولو قد احتفظ الكاتب لهم بخصالهم الأولى لما استطاع أن يتجاوز بهم أبطال قصص الأسرار التي كانت تُمثَّل في القرون الوسطى أمام الكنائس، فالكاتب مستكشف لقصته في ظاهر الأمر، ولكنه مخترع لها في الحقيقة، قد خلق أشخاصها خلقًا جديدًا، وأدار بينهم من الحوار الفلسفي ما لم يكن يخطر لأحد منا على بال.
وقد يكون من العسير أن تحقق الفلسفة التي أراد الكاتب أن ينتهي إليها، ولكن هذا العسر نفسه مَزِيَّة من مزايا الكاتب، وفضيلة من فضائله؛ فهو ليس متعصبًا، ولا متأثرًا بالهوى، وهو لا يريد أن يفرض عليك رأيًا بعينه أو مذهبًا بعينه من مذاهب الفلسفة، وإنما يريد أن يثير في نفسك التفكير في طائفة من الآراء والمذاهب، وهو دقيق متواضع لا يحب أن يعلن رأيه في صراحةٍ مخافةَ أن يتابعه ضعاف الناس في غير بحث ولا تفكير، فهو يكتفي إذًا بأن ينبِّهك إلى طائفة من المسائل يحسن أن تفكر فيها وأن تلتمس لها الحل، لعلك تظفر به أو تنتهي إليه. ما الزمن؟ ما البعث؟ ما الصلة بين الإنسان والزمن؟ ما الصلة بين الحي والأحياء؟ بأي المَلَكتين يستطيع الناس أن يحيوا، وأن ينتجوا في الحياة؟ بهذه المَلَكة التي نسمِّيها القلب والتي بها نحب ونبغض، أم بهذه المَلَكة التي نسمِّيها العقل والتي بها نفكِّر ونحلِّل ونلائم بين الأشياء؟
كل هذه المسائل خليقة أن تفكر فيها، وأن تقف عندها فتطيل الوقوف، والكاتب يثيرها في نفسك، ويصطنع لذلك فنًّا بديعًا نادرًا، فيه قوة مؤثرة وفيه رفق شديد. ليس هو معلمًا ولا أستاذًا، ولكنه صديق يتحدث معك ويسايرك، ويلفتك إلى ما قد تمر به دون أن تقف عنده أو تنظر إليه. لا أعرف كاتبًا عربيًّا كان حسن السيرة مع قرَّائه كالأستاذ توفيق الحكيم؛ فقد أكبرهم حقًّا، وأرشدهم حقًّا، ونفعهم في غير إذلالٍ ولا تيهٍ ولا كبرياء.
والحب! هذا الحب أدخله الكاتب في هذه القصة في غير تكلُّف ولا عناء، وفي غير مصادمة للشعور الديني، والذي استطاع الكاتب أن يصوِّره صورتين قويتين، تبلغ إحداهما من القوة حدًّا لا نكاد نجده إلا عند أشد الكتَّاب والشعراء الأوروبيين عنايةً بالعشق وآماله ولذَّاته على اختلافها وتنوعها، وتبلغ الأخرى بالحب قوةً صوفيةً طاهرةً بريئةً من كل شائبة، لا نكاد نجدها إلا عند كبار المتصوفة والقديسين.
أعترف أني معجب ببراعة الكاتب في غير تحفُّظٍ وإلى غير حدٍّ، والحياة الواقعة التي يحياها هؤلاء الناس العاديون الذين لا يتفكرون في أكثر من أعمالهم اليومية، والذين لا يذوقون الفلسفة، ولا يحسنون تصوُّرها والحديث فيها، كيف صوَّرها الكاتب فأتقن تصويرها في شخص الملك، ومَن يحيط به من أهل القصر والمدينة، وهذا الإيمان المختلط الذي يمتاز به قوم يصطنعون العلم، ولكنهم في حقيقة الأمر أنصاف متعلمين، فيهم سذاجة ولكنهم يريدون أن يكونوا فلاسفةً، وفيهم غفلة ولكنهم يريدون أن يكونوا أذكياء، وفيهم حب للحياة وحرص عليها، ولكنهم يريدون أن يظهروا وكأنهم يُؤثِرون الإيمان على الحياة. ما أبرع الأستاذ توفيق الحكيم حين صوَّره في شخص المؤدب غالياس!
أظنك لا تريدني أن ألخِّص لك القصة، فهي مطبوعة تستطيع أن تقرأها، بل يجب أن تقرأها، فما ينبغي لمثقف في الأدب العربي أن يجهل هذا الأثر الأدبي البديع.
ولكن! وما أكثر أسفي لِلَكن هذه! وما أشد ما أحببت ألَّا أحتاج إلى إملائها، ولكن في القصة عيبان: أحدهما يسوءني حقًّا، ومهما ألُمْ فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة، هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورَّط فيه كاتبٌ ما، فضلًا عن كاتبٍ كالأستاذ توفيق الحكيم، قد فتح في الأدب العربي فتحًا جديدًا لا سبيل إلى الشك فيه. أنا أُكبر الأستاذ، وأُكبر قصته، وأُكبر «الرسالة» عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة، ويمس بعضها النحو والصرف، ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل، ولا أتردد في أن أكون قاسيًا عنيفًا، وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يُلغي طبعته هذه الجميلة، وأن يعيد طَبْع القصة مرة أخرى بعد أن يُصلِح ما فيها من الأغلاط، وأنا سعيد بأن أتولَّى عنه هذا الإصلاح إنْ أراد، ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعظه، وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه بين الناس.
أما العيب الثاني فله خطره، ولكنه على ذلك يسير؛ لأن القصة هي الأولى من نوعها، كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه؛ فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب، حتى نسي أن للنظَّارة حقوقًا يجب أن تُراعَى، فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز، وفصَّل في بعض المواضع وكان يجب أن يُجمِل، وتعمَّق في بعض المواضع وكان يجب أن يكتفي بالإشارة، ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظَّارة أن يستمعوا في الملعب لهذه القصة الجميلة جدًّا، الطويلة جدًّا، التي تقصها برسكا على غالياس وهي تودِّعه، وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
هذا العيب عظيم الخطر؛ لأنه يجعل القصة خليقةً أن تُقرَأ لا أن تُمثَّل، وأنا حريص أشد الحرص على أن تُمثَّل هذه القصة، واثق كل الثقة بأن تمثيلها سيضع يد الأستاذ على ما فيها من عيب فني، وسيمكِّنه من اتِّقَاء هذا العيب في قصصه الأخرى، ومن إصلاحه في هذه القصة.
أما بعدُ؛ فإني أرجو مخلصًا أن تُترجَم قصة مدام خير إلى اللغة العربية، وأن تُترجَم قصة الأستاذ توفيق الحكيم إلى اللغة الفرنسية؛ لتؤدي القصتان ما ينبغي أن تؤدياه من تحقيق الصلة الصحيحة المنتجة بين الشرق والغرب.