نحو النور
أما قصة الأستاذ إبراهيم المصري «نحو النور» فقد حيَّرتني حقًّا حين قرأتها، وما زالتْ تحيِّرني إلى الآن؛ فأنا مُعجَب بهذا الجهد الثقيل الطويل الذي بذله الأستاذ في تصوُّر هذه القصة وتصويرها، ولكني أعترف بأني لم أفهم هذا الجهد، ولم أنتهِ إلى غايته التي قصد إليها الكاتب الأديب. هو يحدثنا في عنفوان قصته بأنها مرحلة من حياة عبقري، ولكنه لا يُثبِت لنا في وضوح أن بطله عبقري حقًّا، وإنما يحدِّثنا بأنه رجل ممتاز مجدِّد شجاع على التجديد، مدفوع إليه دفعًا، مُصِرٌّ عليه إصرارًا، قد آمَن به قوم قليلون، فلم يكادوا يخلصون له، وكفرت به كثرة الناس، ولكن عبقريته على ذلك غامضة غير بينة المدى، ولا واضحة الحدود؛ فهو مجدِّد ولكن في ماذا؟! في العلم؟ في الأدب؟ في الفن؟ في السياسة؟ في الاجتماع؟ في كل هذا أو في غير شيء من هذا كله؟ يحدِّثنا الأستاذ إبراهيم المصري عن مقالات يكتبها هذا العبقري، ولكنه لا يكاد يحدِّثنا عن موضوع هذه المقالات، بل هو يُنطق لنا هذا العبقري بكلام كثير، ولكنه مختلط أشد الاختلاط، فيه آراء قد أُرسِلت إرسالًا، وأحكام قد أُطلِقت إطلاقًا، وقضايا هي أشبه بأحاديث المحمومين، وقد لا يكون هذا غريبًا؛ فالعبقرية طور من أطوار الحمى، أو فن من فنون الجنون، ولكنها حمى نافعة، وجنون مفيد، أما حمَّى صاحبنا «محسن» وجنونه، فلا أعرف أن فيهما نفعًا ولا فائدة؛ لأنهما في حاجة شديدة جدًّا إلى الوضوح والتحديد.
وأشخاص القصة كلهم يخالفون المألوف؛ فالعبقري البطل متهوس أو كالمتهوس، وأخوه محمود مريض، وأي مرض؟ مسلول، مضطرب العقل، قد أخذته الهستيريا حتى دفعت به إلى محاولة الفسوق أولًا، ثم إلى الغيرة المنكرة ثانيًا، ثم إلى تحطيم نفس أخيه العبقري ثالثًا، ثم إلى الانتحار بعد هذا كله. أما زينب فصورة شائعة من النساء، ولكنها مضطربة أشد الاضطراب، قد دُفِعت إلى الإثم حتى أسرفت فيه، تحب «رأفت» حبًّا آثمًا، وتلعب بمحمود أخي زوجها لعبًا مجرمًا، ولا تخلو مع ذلك من حبٍّ لزوجها. وأما نجيَّة فآية الآيات وأعجب العجب، حريصة كل الحرص على الحرية، تحب هذا العبقري حبًّا يبلغ الفتنة، ولكنها تأتمر به مع أخيها، وفِيمَ تأتمر؟ وعَلَامَ تعين أخاها؟ على أن يخون هذا العبقري في امرأته خيانةً لا حَظَّ لها من ذوق ولا ظرف ولا احتياط، والأخوان يتحدثان في هذه الأشياء كما يتحدثان في الجو والمطر، واختلاف الفصول. ليصدِّقني الأستاذ إبراهيم المصري، فلستُ أدري في أي بيئة من البيئات المصرية ذهب يلتمس أشخاصه هؤلاء.
وقد غلا الأستاذ في جمع الآثام وتكديس الآلام، حتى جعل الجو في قصته خانقًا مهلكًا، ليس إلى احتماله من سبيل. وإذا كانت شهرزاد عسيرة التمثيل في مصر، فإن «نحو النور» يسيرة التمثيل كل اليسر، تُمثَّل عند الأستاذ يوسف وهبي فتظفر من الفوز والتصفيق بأعظم الحظوظ، فأما ظفرها برضا الفن والأدب، وملاءمة المنطق والحق، والقرب من الحياة الواقعة، فهذا شيء آخَر.
ولأَدَعْ كل هذا ولأقف مع الأستاذ إبراهيم المصري وقفةً كنتُ أود لو استطعت أن أتجنبها؛ فهل يعلم الأستاذ أني تجاوزت له في القصة عمَّا يألفه الكتَّاب المحدثون من بعض التهاون في اللغة والنحو والمزاح مع سيبويه والخليل، ولكني أحصيت عليه بعد هذا التجاوز نيفًا وستين غلطة ليس إلى الصبر عليها من سبيل، أكثرها يمس النحو، والنحو الذي لا يجوز الخطأ فيه؛ فَنُونُ الرفعِ تُلحَق بالفعل الماضي، ولعلها تُلحَق بفعل الأمر أيضًا، وخبر «إن» يُنصَب، وخبر «كان» يُرفَع، والأفعال يصيبها عبث لا حدَّ له، و«لمَّا» الظرفية تدخل على أن مع الفعل المضارع في غير تحفُّظ ولا اقتصاد. هذا خطر، خطر حقًّا! فالأستاذ إبراهيم المصري كاتب معروف يقرؤه الناس ويحبونه، وقد يتأثره الشباب، ويجدُّون في تقليده؛ فأي شر وأي نكر حين يقلِّده الشباب في هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يُقبَل من صغار التلاميذ. اللهم اشهدْ على أني أنبِّه كتَّابنا وشعراءنا المُحْدَثين أو الذين يسمون أنفسهم محدثين، إلى أنهم يعرِّضون اللغة العربية لخطر لم تتعرض له منذ بدأ هذا العصر الحديث. اللهم اشهدْ على أني أدعوهم مخلصًا إلى أن يتخذوا لهم معلمين يقوِّمون ألسنتهم، ويثقِّفون أقلامهم، ويعصمونهم من مثل هذا الخطأ الذي لا يليق.