رد على الدولة
والدولة هنا هي صديقي توفيق الحكيم، وقد يثير هذا الكلام في نفسك شيئًا من العجب، ولكن ما حيلتي والفن سلطان كما يقولون؟ وأين يكون الفن إذا لم يكن عند صديقنا توفيق؟ قد امتزج بلحمه ودمه، وسيطر على حياته كلها حتى جعله رجلًا غريب الأطوار بين الرجال، وكاتبًا فذًّا شاذًّا بين الكتَّاب.
(تغدى صديقنا توفيق الحكيم ذات يوم وكان القيظ شديدًا، والحر مُهلِكًا، فلما فرغ من الغداء شرب القهوة، ولما فرغ من شرب القهوة بسط ورقًا أمامه، واعتقل — كما يقول البارودي رحمه الله — قلمًا في يده، وأرسل نفسه في عالم الأحلام والأوهام، وأرسل يده تجري على القرطاس بما تملي عليها هذه النفس الحالمة الواهمة.)
وكذلك يفعل أصحاب الفن، يحلمون، ويتوهمون، ثم يكتبون، ثم يذيعون، فإذا نحن نقرأ من أحلامهم وأوهامهم آيات من سحر البيان، ولو أن صديقنا توفيق الحكيم كان رجلًا مثلك ومثلي من عباد الله الذين لا حظ لهم من فن، أو الذين لا يواتيهم الفن إلا بمقدار، لما دفع نفسه إلى الكتابة، عقب فراغه من الطعام وشرب القهوة، والحر مهلك والقيظ شديد، وإنما شأن مثلك ومثلي إذا فرغ من الطعام وشرب القهوة، والحر مهلك والقيظ شديد، وإنما شأن مثلك ومثلي إذا فرغ من الطعام وشرب القهوة أن يأوي إلى مضجعه ليستريح، وألا يأخذ للفن من وقته إلا ساعة الراحة وفراغ البال، والراحة هنا لا تتأتى لمن تعترك في جوفه ألوان الطعام، ولا تبلغ القهوة أن تهدئ ما بينها من الخصام، ولكن صديقنا صاحب فن لا يطرق على الفن بابه، وإنما يقتحم الفن عليه حياته اقتحامًا، ولعله لو خُيِّرَ لاختار الراحة والنوم، ولكن أنَّى له الاختيار وقد سلَّط الفن عليه شياطينه أو آلهته، فهم يسخِّرونه لأهوائهم آناء الليل وأطراف النهار. ولا تظن أني أعبث بتوفيق، فهو أحب إليَّ وآثر عندي من أن أتخذه موضوعًا للعبث، وما أكثر الذين يصلحون موضوعًا للعبث بيننا، لو أنني أحب العبث بالناس! ولكن صديقي توفيق هو الذي عبث بنفسه؛ فهو الذي أنبأنا بأنه تغدى وشرب القهوة، ثم أخذ يكتب، وبأنه يشك في قيمة ما كان يكتبه في هذه الساعة التي لا تحسن فيها الكتابة، وكان توفيق قبل أن يتغدى ويشرب القهوة ويأخذ في الكتابة، قد قرأ فصلًا يسيرًا نشرته لي مجلة المصور، وكان هذا الفصل لم يعجبه، ولستُ أدري أهيَّأ معدته للطعام أم صدَّها عنه، ولكن الذي ينبئنا به توفيق، هو أنه لم يكد يفرغ من طعامه وقهوته حتى هجم على هذا الفصل وأشبعه نقدًا وردًّا وتفنيدًا، وأكبر الظن أنه لم يكد يفرغ من كتابة هذا النقد والرد والتفنيد حتى أرسله إلى المصور، وتعجَّل إرساله ليخلص منه وليستريح من معاودة النظر فيه؛ فصديقنا توفيق كغيره من أصحاب الفن لا يستطيع أن يستريح مما كتب إلا إذا أخرجه عن سلطانه ودفعه إلى الناس، وإلا فهو مضطر إلى أن يعيد النظر فيه، فيغيِّر ويبدِّل، وينقص ويزيد، وكم أنا آسف لأنه تعجَّل بإرسال فصله إلى المصور، ولم يراجعه بعد أن استقر في جوفه غداؤه وقهوته، وبعد أن ذهبت عنه سكرة الهضم والصيف؛ إذًا لغيَّرَ وبدَّل، ولحذف وأضاف، ولأرسل إلى المصور فصلًا آخَر يقول فيه غير ما قال، ويؤيد كل ما قلتُ أنا، لا يتحفظ في ذلك ولا يحتاط، ولكن للفن على أصحابه جنايات أيسرها ما أصاب صديقنا في هذا الفصل الذي أريد أن أردَّ عليه.
وأول جناية للفن على توفيق في هذا الفصل أنه عبث به حقًّا، فخُيِّل إليه أنه الدولة، وأطلق لسانه بهذا الكلام، وأقنعه بأنه قد ملك سلطان الدولة أسبوعًا كاملًا، فهو يستطيع أن يسمع مني، ويمنحني أو يمنعني ما أرفع من المطالب والحاجات، وكنَّا نعلم أن لويس الرابع عشر هو الذي كان يمزج الدولة بنفسه، ويمزج نفسه بالدولة، ويقول أنا الدولة، ولعله كان يقول والدولة أنا، كما أن شوقي — رحمه الله — ينطق كليوباترا بهذا الشطر الذي ذاع وشاع: أنا أنطونيو وأنطونيو أنا! كنَّا نعلم ذلك فأصبحنا نعلم الآن أن الأدباء أيضًا يستطيعون أن يقولوا إنهم الدولة وإن الدولة هم، مع هذا الفرق اليسير، وهو أن لويس الرابع عشر وأمثاله من الملوك إذا قالوا إنهم الدولة لم يبعدوا ولم يسرفوا؛ لأن لهم من السلطان ومن حق الأمر والنهي والمنح والمنع، ما يجعل قولهم هذا مقارِبًا.
فأما الأدباء فأصحاب وَهْم وخيال، يقولون في الصباح وينسون في المساء، أو يحلمون في الليل ويعلمون في النهار أنهم كانوا واهمين، وما دام صديقنا توفيق قد أصبح دولةً وحده — وقد كدت أملي أنه أصبح أمة وحده — فلا بأس بأن نقبل منه ونرفع إليه آمالنا وأمانينا، وكل ما نتمناه هو أن يبلغنا هذه الآمال والأماني قبل أن ينقضي الأسبوع الذي فرضه لنفسه، والذي سيملك فيه زمام الأمر والنهي. والغريب أنه يسألني عما أريد، ولو أنه قرأ الفصل الذي كتبته قراءةَ ناظرٍ فيه، معنيٍّ به، لعرف أني أريد من الدولة التي هي هو كما يقول سيبويه، أو التي هي إياه كما يقول الكسائي، شيئين اثنين لا أكثر. أريد من الدولة التي هي توفيق، ومن توفيق الذي هو الدولة، أن تمنح شبابنا ثقافةً أدبيةً تمثيليةً واسعةً متينةً، تظهرهم على آيات التمثيل القديمة والحديثة، وعلى تاريخ التمثيل القديم والحديث، وتعلمهم كيف يحبون هذه الآيات، ويعجبون بها، ويذوقونها ويحيطون بأسرارها، إحاطة الواثق الذي لا يخفى عليه شيء، فإن هذه الثقافة إن ظفر بها الشباب دفعتهم إلى المحاكاة والتقليد، ثم لم تلبث أن تدفعهم إلى الابتكار والاختراع، وإذا هم ينتجون في التمثيل آثارًا قيِّمة حقًّا.
والدولة التي هي توفيق، أو توفيق الذي هو الدولة، قادرة — إن شاء الله — على أن تمنح شبابنا هذه الثقافة، فتأمر قبل أن ينقضي الأسبوع بدرس الأدب التمثيلي خاصةً والأدب الأجنبي عامةً في مدارسنا كلها، منذ يبدأ التعليم الثانوي إلى أن ينتهي أيضًا، وتأمر بإعادة المعهد الذي كانت وزارة المعارف قد أنشأته للتمثيل، فألغاه وزير التقاليد حين ألقت إليه الظروف مقاليد هذه الوزارة البائسة التعسة، وأنا أؤكد للدولة التي هي توفيق، ولتوفيق الذي هو الدولة، أن هذه الخطوة التي نطلبها إلى السلطان في مصر كفيلة بإنشاء ذوق تمثيلي عام، هو وحده الشرط الذي لا بد منه ليوجد الملعب واللاعبون، وليوجد التمثيل والكتَّاب الممثلون.
والأمر الثاني الذي أطلبه إلى الدولة التي هي توفيق، وإلى توفيق الذي هو الدولة، هو أن تتفضل فتبيح لأدبائنا — ومنهم توفيق نفسه — هذه الحرية التي لا بد منها لكل أديب يستطيع الإنتاج والإجادة فيه، هذه الحرية التي تمكِّنهم من أن يطرقوا موضعات لا يستطيعون أن يطرقوها، ويعلنوا آراء لا يستطيعون أن يعلنوها، ويقولوا كلامًا لا يستطيعون أن يقولوه، فإذا تفضَّلَتْ علينا الدولة، أو إذا تفضَّلَ علينا توفيق بما نريد من الحرية والثقافة، فأنا زعيم بوجود التمثيل عندنا، بل بوجود فنون الأدب كلها، بل بوجود الفنون الجميلة كلها عندنا على أكمل وجه وأحسنه وأرقاه.
وأريد الآن أن أدع الدولة التي هي توفيق، وأن أتحدَّث إلى توفيق الذي ليس دولةً ولا شيئًا يشبه الدولة، وإنما هو رجل أديب وصاحب فن ليس غير، أريد أن أتحدَّث إليه لأنكر عليه رأيًا رآه على عجل، وأسْرَعَ في إذاعته في غير احتياط، مع أنه حذر محتاط عادةً، فالأديب توفيق لا يتحرج من أن يعلن أن وجود الملعب شرط لازم لوجود التمثيل أستغفر الله؛ بل شرط لازم لوجود الكتَّاب الممثلين، وأغرب من هذا أنه يستدل بالتاريخ، وأنا أرجع معه إلى التاريخ، فلا أرى مما قال شيئًا، فالتمثيل قد نشأ عند اليونان قبل أن ينشأ الملعب بزمن طويل؛ نشأ عن هذا الفن الشعري الذي كان يتغنى فيه الدوريون بما حدث لآلهتهم وأبطالهم، وما زال يتطور شيئًا فشيئًا حتى قوي أمره، وعظم شأنه، وأصبح فنًّا ممتازًا، والغريب أنه كان بدويًّا يتنقل به أصحابه بين القرى يحملون أدواته على شيء يشبه عربات النقل، فإذا انتهوا إلى هذه القرية وضعوا أثقالهم، وعرضوا ما عندهم على الناس، ثم احتملوا وانتقلوا إلى قرية أخرى، وكان الشاعر ينشئ القصة ويمثِّلها. ولم يُوزَّع العمل بين الممثلين والمنتجين إلا في أواسط القرن الخامس قبل المسيح، والشاعر الممثِّل هو الذي أنشأ ملعب التمثيل، أنشأه بدويًّا متنقلًا، ثم أنشأه حضريًّا مستقرًّا، ثم كفَّ عن التمثيل بعد أن كثر أشخاص القصة، وعظم أمر التمثيل، واختصت به طبقة من الناس. وقد سمعت أن شكسبير كان يمثِّل قصصه ويُشرِف على تمثيلها، وما زال بين الكتَّاب إلى الآن مَن يضعون القصة ويشتركون في تمثيلها، وما زال بين الممثلين مَن ينشئون القصة، لأن فنهم يلهمهم إياها. فليس صحيحًا بحال من الأحوال ما أملته الأحلام بعد الغداء والقهوة على صديقنا توفيق، من أن الملعب هو الذي ينشئ التمثيل والممثلين، والصحيح الذي لا شك فيه هو أن التمثيل قد أنشأ الملعب، والملعب اليوناني نفسه أثر من آثار إيسكولوس، هو الذي حضره، وأقره في أثينا بعد أن كان تسبيبس يتنقل به بين قرى إتيكا.
على أني لا أفهم كيف يوجد الملعب دون أن يكون هناك تمثيل؟ وهو بالضبط هذا الملعب الذي يريده توفيق، وما هو البناء والأدوات؟ فالبناء موجود، والأدوات موجودة، واستحضارها من أوروبا ليس عسيرًا، أمْ هم اللاعبون؟ ولكن لِمَ يوجد اللاعبون إذا لم يوجد ما يلعبون؟ سيقول توفيق فَلْيلعبوا آثار الأوروبيين، وهذا حسن، ولكن بلغني أن في مصر ممثلين يلعبون آثار الأوروبيين، ويلعبون آثار المصريين أيضًا، ولكنهم لم يبلغوا بالتمثيل ما ينبغي له من الرقي؛ لأن الدولة لم تعن بالتمثيل كما عنيت به الدولة دائمًا في غير مصر، ولأن الأدباء لم ينتجوا في التمثيل كما أنتج في التمثيل دائمًا في غير مصر، وإذا كان الملعب هو الذي ينشئ التمثيل، فما الذي ينشئ التصوير؟ أهو المصور أم هي هذه الأدوات التي يستعين بها على فنه؟ وما الذي ينشئ النحت؟ أهو المثَّال أم الحجر الذي تُتَّخَذ منه التماثيل؟ وما الذي أنشأ الموسيقى؟ أهي الأداة أم الموسيقى؟ وما الذي أنشأ الشعر؟ أهو قلب الشاعر الذي أحسَّ وغنَّى، أم لسانه الذي أدَّى عنه هذا الغناء؟ ويل للكتَّاب إذا فرغوا من الغداء وشرب القهوة، ثم أقبلوا على الكتابة قبل أن يهدأ عنهم الهضم، وتسكت عنهم شدة القيظ. نصيحة خالصة أهديها إلى صديقي توفيق، وهي ألَّا يكتب إلا إذا كان مستريحًا فارغ البال. هذه النصيحة أهداها بشر بن المعتمر إلى طلَّاب البيان في القرن الثاني أو الثالث للهجرة، وقد أهدى مثلها بومارشيه إلى الذين يريدون أن يقرءوا قصته «حلاق إشبيلية»، فَلْيتدبر توفيق الأديب وتوفيق الدولة هذه النصيحةَ قبل أن يعرض للكتابة، ثم ليحتفظ توفيق بعادته فلا يذيع بين الناس ما يكتب إلا بعد أن يقرأه، ويُعِيد النظر فيه.
وقوم آخَرون من الكتَّاب ينكرون عليَّ هذا الفصل الذي أنكَرَه عليَّ توفيق، ويلومونني في توفيق نفسه، وهم يرون أني تحدَّثْتُ عن التمثيل العربي وأنا أجهله، ويرون أني أسرفت في مدح توفيق والثناء عليه. فأما أني تحدَّثت عن التمثيل وأنا أجهله، فظلمت قومًا لا ينبغي أن يُظلَموا، فأنا أعوذ بالله من الحديث عن غير علم، وأشهد هؤلاء الكتَّاب على أني سأتناول أدبنا التمثيلي الحديث بالدرس والنقد المنصف، وسيعلمون يومئذٍ أني لم أكتب إلَّا عن قراءة ودراية وعلم.
وأما أني أسرفت في مدح توفيق، فهذا رأي يرونه ولا أراه. وأنا آسف أشد الأسف لأني ما زلت معجبًا بتوفيق، ولأني سأسوء خصومه وحسَّاده بتجديد الثناء عليه والتشجيع له حين أعرض لقصته التمثيلية التي لم أعرض لها بعدُ، وسيكون ذلك قريبًا أقرب ممَّا يظنون. فإلى اللقاء.