براكسا، أو مشكلة الحكم
قصة صغيرة جدًّا، قصيرة جدًّا لا تتجاوز فصلًا من فصول الصحف والمجلات إلا قليلًا، ولكنها مع ذلك تحتاج إلى كلام كثير، وأخشى إن جاريت حاجتها إلى الكلام أن يكون النقد مساويًا للقصة في الطول، ولكني مع ذلك سأجتهد في الإيجاز رفقًا بالقارئ، ورفقًا بالكاتب، واحترامًا للتقليد الذي يريد أن يكون الأستاذ توفيق الحكيم قد نشر كتابًا، وأن أكون أنا قد نقدته في مقال لا في كتاب.
وقصة الأستاذ توفيق الحكيم لها قصة كما يقال منذ أعوام، فهي لم تهبط على الكاتب من سماء الوحي الأدبي الخالص، ولم يفض بها في نفسه ينبوع الابتكار الفني الصرف، ولم يسعَ بها إليه أبولون أو هرميس أو غيرهما من هؤلاء الآلهة الذين يحبون الفن والأدب، ويسعون به إلى الكتَّاب والشعراء، فيلقونه في روعهم إلقاءً، ويُكرِهون ألسنتهم على أن تنطلق به كلامًا، وأقلامهم على أن تجري به كتابةً، وإنما نشأت هذه القصة في حجرة من حجرات الاستقبال، وأُثِير موضوعُها في حديث من هذه الأحاديث الأدبية التي يتنازعها المثقفون إذا ضمهم مجلس من المجالس، أو ندى من الأندية، وربما كانت محنة الأستاذ توفيق الحكيم، التي لم ينسها القرَّاء بعدُ، هي التي أثارت هذا الحديث. فإن كل شيء يمس حرية الرأي من قريب أو بعيد قد تسكت عنه الصحف في هذه الأيام، ويعرض عنه الذين يجب عليهم أن يُقبِلوا عليه في هذه الظروف القاسية، ولكن للأدباء والمثقفين قلوبًا تشعر، وعقولًا تفكر، وضمائر تألم، ونفوسًا تريد على أقل تقديرٍ أن تأبى الضيم، وإن لم تستطع أن تجهر بهذا الإباء، والعقل ممتحن في هذه الأيام، وممتحن في كثير من أقطار الأرض؛ وسنرى كيف يخرج من هذه المحنة، فإن لم نَرَ نحن ذلك فسيراه أبناؤنا أو أحفادنا في يوم قريب أو بعيد.
كانت محنة الأستاذ توفيق الحكيم إذًا هي التي أثارت هذا الحديث حول حرية الرأي، وحول ما كان القدماء يستمتعون به منها، وحول المقارنة بين حرية الديمقراطية الأثينية القديمة في القرنين الخامس والرابع قبل المسيح، والديمقراطية المصرية الحديثة في القرن العشرين، وتحدَّث المثقفون الذين تنازعوا هذا الموضوع عن عبث أرستوفان بالديمقراطية منذ أربعة وعشرين قرنًا، وعن ظفره بتلهية الديمقراطية على حساب الديمقراطية! وبتسلية الأثينيين، وبإضحاك الممثلين لسلطان الشعب على حساب سلطان الشعب، وبهذه الحرية السمحة التي عرفها القدماء قبل أن يبلغ العقل من الرقي هذا الطور العظيم الذي بلغه في هذا العصر.
وقد ذكر المثقفون فيما ذكروا قصصًا مضحكةً خالدةً لأرستوفان، من بينها قصة مجلس النساء، أو جماعة النساء، التي مثلت في أوائل القرن الرابع قبل المسيح، حين كانت الديمقراطية الأثينية شديدة التحرج، شديدة الضيق بخصومها ومعارضيها من الفلاسفة والساسة.
فلم يستقبلها الأثينيون إلا بالضحك والإعجاب، وهذه السماحة التي تلائم طبيعة الديمقراطية، والتي قد تفارقها أحيانًا فتسوق الديمقراطية الموت إلى سقراط، وتضطر أفلاطون إلى الهجرة.
ثم ذكر هؤلاء المثقفون ما يكون في الحديث من إقبال طائفة من الكتَّاب على تجويد التمثيل القديم، وما يبلغون في ذلك من توفيق رائع، كالذي بلغه موريس دونيه، وجيرودو، وجان كوكتو، حين جدَّدوا بعض القصص اليونانية المحزنة أو المضحكة، وقال قائل منهم: ما يمنعنا أن نحاول في أدبنا العربي بعض ما يحاول الأوروبيون في آدابهم الأوروبية؟ ورضي السامعون عن هذا الاقتراح، ورسموا أو كادوا يرسمون له برنامجًا واضحًا، وتفرَّق المجلس، والتأَمَ بعد أسبوع، وأُعِيد الحديث، وتقدَّم رسم البرنامج، وتفرَّق المجلس مرةً أخرى، والتأَمَ بعد ذلك، ولكن الأستاذ توفيق الحكيم انقطع عنه وقتًا، ثم عاد إليه ذات يوم ومعه هذه القصة مطبوعة، وعنوانها كما رأيت: «براكسا، أو مشكلة الحكم».
فَلْنحمد لمحنة الأستاذ توفيق الحكيم هذه اليسيرة، فضلَها على الأستاذ وعلى قرَّائه، وعلى الأدب العربي الحديث الذي أخذ يتصل بالتمثيل اليوناني المضحك هذا النحو الخصب القيم من الاتصال، وَلْنتمنَّ على الله أن يزيد هذا الاتصال ويقويه، وأن يكثر أمثال هذه القصة دون أن تدعو إلى ذلك محنةٌ يسيرةٌ أو عسيرةٌ للأستاذ أو لغيره في حرية الرأي، وإن كان كل شيء يدل على أن حرية الرأي لم تأمن بعد شر الامتحان، وعلى أن هذا الامتحان مهما يكن مؤلمًا ثقيلًا، فهو ينتج خيرًا؛ لأنه يدفع الأديب إلى التفكير، ثم إلى التعبير، ثم إلى النشر، والظاهر أن الأديب مخلوق تستقيم أموره على الشقاء والألم، أكثر مما تستقيم على السعادة واللذة.
فَلْنقف إذًا عند هذه القصة الصغيرة، بل لنقف قبل ذلك عند أصلها اليوناني. فقد طلب إلينا الأستاذ توفيق الحكيم أن نقرأ قصة أرستوفان قبل أن نقرأ قصته، وقد عدت إلى قصة أرستوفان بعد طول عهدي بها، ثم قرأت قصة الأستاذ توفيق الحكيم، فحمدت للأستاذ تواضعه واعتداله، وإيثاره القصد، واعترافه بأنه لا يستطيع أن يقيس قامته إلى قامة أرستوفان، وهو صادق في هذا كل الصدق، موفَّق فيه إلى الحق كل التوفيق، فإن قامة أرستوفان لا تقاس إليها قامة أخرى، إلا أن نستثني بعض الممتازين الذين لا تستطيع الإنسانية أن تبلغ بهم أصابع اليد الواحدة.
أراد أرستوفان أن يسخر من الديمقراطية والفلسفة معًا في قصته هذه، وأن يُضحِك الأثينيين من أحب الأشياء إليهم، وآثرها عندهم من الفلسفة والسياسة، فهجم بقصته هذه الصغيرة على موضوع خطير حقًّا، سخر من أفلاطون وجمهوريته في هذه القصة، كما سخر من سقراط في قصة السحاب، وسخر من النظم الديمقراطية القائمة، وأظهر للشعب الأثيني أن ما يقترحه الفلاسفة من النظم السياسية ليس خيرًا من النظام الديمقراطي، ولعله أن يكون شرًّا منه، بل هو شر منه، ما في ذلك شك.
وتلخيص القصة يسير جدًّا، فقد ائتمر النساء الأثينيات بأن يتخذن أزياء الرجال، ويشهدن مجلس الشعب، ويبلغن كثرته المطلقة، ويقررن نقل السلطان من الرجال إلى النساء، وتمَّ لهن ذلك، فقلبن نظام الحكم وأقمن الشيوعية — كما كان يتصورها أفلاطون — مقام الديمقراطية، وأشرفن على تنفيذ هذا النظام الشيوعي، فما هي إلا أن يمضي وقت قصير حتى يفسد الأمر في أثينا فسادًا لا سبيل إلى وصفه، فسادًا يتناول السياسة والأخلاق والنظام الاجتماعي والحياة المادية نفسها، ويقلب الأوضاع قلبًا أقل ما يوصف به أنه يدفع إلى الإغراق في ضحك متصل. ويجب أن تعلم أن أرستوفان ليس من أصدقاء الديمقراطية المخلصين، وهو إلى الأرستقراطية المعتدلة أقرب منه إلى أي شيء آخَر، ولكن المهم أن الشاعر اليوناني العظيم قد دفع الشعب الأثيني إلى هذا الضحك الغليظ العريض، فلم يمنعه ذلك من أن يعالج موضوعًا على هذا الخطر الذي تراه، وأن يعالجه على نحوٍ جميلٍ رائعٍ حقًّا، ولا بد من أن أضيف إلى هذا كله أن الشاعر اليوناني العظيم قد كان يصطنع في أدبه المضحك حريةً في اللفظ والمعنى والخيال، لا تحتملها أذواقنا ولا أخلاقنا ولا نُظُمنا الاجتماعية، وكثير جدًّا من قصصه لا يمكن أن تُقرَأ جهرًا، وإنما تقرؤها العين ويقرؤها الفرد، وليس من اليسير أن يشترك في قراءتها الأفراد. هذا كله يصور صعوبة العمل الذي أقدم عليه الأستاذ توفيق الحكيم، فهو قبل كل شيء ممنوع بحكم حياتنا الجديدة، وبحكم أذواقنا وأخلاقنا من أن يصطنع الحرية اللفظية والفنية التي اصطنعها الشاعر اليوناني، وهو بعد هذا ممنوع بحكم نظامنا الاجتماعي والقانوني من أن يتعرض للشيوعية أو ما يشبهها، فهو مقيَّد في حريته العقلية، وهو مقيَّد في حريته الفنية، فإذا أضفتَ هذا إلى بُعْد الآماد بين أرستوفان وبين الأستاذ توفيق الحكيم، عرفت أنه قد كان من المستحيل لا أن يقيس الأستاذ توفيق الحكيم قامته إلى قامة أرستوفان، فذلك شيء مفروغ منه؛ بل أن يقيس قصته إلى قصة أرستوفان، فإن الأدب المقيَّد لا يقاس إلى الأدب الحر. وأنت توافقني على أن الكاتب النابغة، أو الشاعر النابغة لا يستطيع أن يذعن للقيد، أريد القيد الذي يمس العقل والفن، وإنْ أُكرِهَ على أن يذعن للقيود والأغلال التي تمس الأيدي والأرجل والأعناق …!
أما قصة الأستاذ توفيق الحكيم فقد ذهبت مذهب القصة اليونانية، واحتفظت حتى ببعض ألفاظها التي يمكن الاحتفاظ بها، وهي على كل حال قد جرت في أثينا، وأجراها الأشخاص الأثينيون الذين أجرَوا قصة أرستوفان، فقد ائتمر النساء بقلب نظام الحكم فقلبنه، وقامت براكسا جورًا مقام رئيس الدولة، وهنا يظهر الفرق الهائل بين القصتين؛ فأما صاحبة الأستاذ توفيق الحكيم، فقد أدركها الاضطراب الذي يدرك رؤساء الحكومات الحزبية في مصر؛ كثر عليها الطلب، وعجزت عن تخفيض المطالب، ودُفِعَتْ إلى أن تَعِدَ بما لا تستطيع، وإلى أن تتورط في المتناقضات، ولكنها امرأة جميلة، وفي نفسها ضعف لقائد الجيش، وقائد الجيش فتى جميل، فيقوم الحب والجمال بإتمام القصة؛ يُقبِل قائد الجيش ليتحدث إلى رئيسة الدولة في تدبير حرب داهمة، ولكنه يخلو إليها بهذه الحجة، ويحتجبان حتى عن الفيلسوف الناصح الساخر، وحتى عن الزوج، ولا يعلم سر هذا الاحتجاب إلا كاتمة السر، ومَن يدري؟ لعل القوم جميعًا يعلمونه، فقد علمناه نحن أيضًا.
وتنتهي قصة الأستاذ توفيق الحكيم انتهاءً رفيقًا مؤلمًا، فقد انتصر حب السلطان على حب الجمال، وانتصر قائد الجيش على رئيسة الدولة؛ سُجِن الفيلسوف أولًا، وسُجِنت معه رئيسة الدولة آخِر الأمر، وقام النظام الديكتاتوري الصريح مقام النظام الديمقراطي، وسُجِنت الحرية بين أربعة جدران.
وقصة الأستاذ توفيق الحكيم لا تدعو إلى الضحك القوي العريض، وإنما تثير الابتسام أحيانًا، وقد تدعو إلى ضحك خفيف فاتر أحيانًا أخرى، بل هي لا تدعو إلى الحزن القوي المؤلم، وإنما تسبغ لونًا شاحبًا على حياة الناس أقل شحوبًا من هذا اللون الذي تسبغه عليها طبيعة الأشياء في هذه الأيام.
فالحرية معرَّضة للخطر في كثير من أقطار الأرض، والنظام الدكتاتوري منتصر في بعض هذه الأقطار، والناس يرون من ذلك ومن آثاره أكثر مما يريهم الأستاذ توفيق الحكيم، وهم يتأثرون بحقائق ذلك في تفكيرهم وسيرتهم، وفي إحساسهم وشعورهم، أكثر مما يتأثرون بقصة الأستاذ توفيق الحكيم، وهم أمام هذه الأحداث الخطيرة التي تحدِّق بهم وتأخذهم من كل وجه، محتاجون إلى إحدى قصتين: فإما قصة عنيفة محزنة دافعة إلى العمل والنشاط، مثيرة للنخوة والشجاعة، ترد عنهم الخوف، وترد عنهم الفرَق، وتدفع إلى المقاومة ليحتفظوا بالحرية أو ليستردوها، وهذه القصة لم يكتبها الأستاذ توفيق الحكيم. وإما قصة قوية، ولكنها قوية في التلهية والتسلية، وتفريج الهم، وإخراج الناس عن أنفسهم، لينسوا بعض ما يحيط بهم من خطر، وبعض ما يسعى إليهم من مكروه، وهذه القصة لم يكتبها الأستاذ توفيق الحكيم، وإنما كتبها أرستوفان، ولكن قصة أرستوفان كُتِبت للأثينيين، لا للشعوب الحديثة، وهي قد تعجب المثقفين من المُحدَثين، ولكنها تنبو عن أذواق الكثرة من الناس، أو تنبو عنها أذواق الكثرة من الناس، وإذًا فما زال الناس في حاجة إلى هذه القصة أو تلك.
فأما قصة الأستاذ توفيق الحكيم فهي لا تُضحِك ولا تُبكِي، وهي لا تسر ولا تحزن، وكل ما تستطيع أن تفعله هو أنها تمكنك من أن تنفق ساعةً هينةً لينةً، تقرأ فيها كلامًا هينًا لينًا، لا يخلو من لذة، ولكنه لا يُحدِث في النفس شيئًا، ولا يدعو النفس إلى تفكير، فضلًا عن أن يدعوها إلى عمل، وهي إلى أن تكون تصويرًا لسخرية الأستاذ توفيق الحكيم من مشكلات الحكم، أقرب منها إلى أي شيء آخَر.
فالأستاذ قد يحب الديمقراطية على أنها مثل أعلى لا يستطيع الناس تحقيقه، فأما الديمقراطية الواقعة فإيمانه بها مشكوك فيه.
والأستاذ قد يحتمل النظام الدكتاتوري، بشرط أن تتحقق في ظله الحرية والعدالة، وليس إلى ذلك من سبيل؛ لأن الحرية والعدالة تناقضان النظام الذي يقوم على سلطان الفرد وتحكمه، وإذًا فالأستاذ يسخر من هذا النظام، كما يسخر من ذاك، وأكبر الظن أنه يؤثر الفراغ لفنِّه، والخير أن يفرغ لهذا الفن. وحسبه على كل حال أنه قد أضاف إلى آثاره القيِّمة أثرًا جديدًا، وصل فيه أسباب أدبنا المصري الحديث بأسباب الكوميديا اليونانية، وليس هذا بالشيء القليل.