السلطان الكامل
لا أريد أن أكتب فصلًا من فصول التاريخ عمن لُقِّب بهذا اللقب من ملوكنا القدماء، وإنما أريد أن أتحدث عن كتاب ظهر بهذا العنوان منذ حين للكاتب الفرنسي العظيم جان جيرودو.
ولا شك في أن الكاتب الفرنسي قد استعار عنوان كتابه من أصحاب السياسة؛ لكثرة ما طلبت الوزارات الفرنسية والوزارة القائمة خاصة إلى البرلمان الفرنسي أن يمنحها السلطان الكامل الذي يمكِّنها من إصدار مراسيم لها قوة القانون في غيبة البرلمان، مراعاة لحال فرنسا في الأحوال الخطيرة التي كانت تحيط بها وبكثير من أقطار الأرض قبل أن تصبح الحرب أمرًا واقعًا.
وكان الفرنسيون يختلفون أشد الاختلاف في أمر هذا السلطان الكامل، يرى بعضهم أن الخير في منحه للوزارة؛ تعجُّلًا لإصلاح الأمر وتقويم المعوج، والاستعداد للأخطار الداهمة، دون تقيد بالمناقشات البرلمانية التي قد تقصر وقد تطول، وقد تنحرف وقد تستقيم، والتي تؤخر الإصلاح في أوقات لا تحتمل تأخير الإصلاح. وكان بعضهم الآخر يرى أن حقوق الديمقراطية يجب أن تكون فوق كل شيء من جهة، وأن الوزارة قد تغلو في الاستمتاع بهذا السلطان الكامل إن أُهدي إليها، وكان الفرنسيون يصطنعون في هذا الموضوع جدالًا شديدًا متصلًا مختلفةً ألوانه، فيه الجد وفيه الهزل، وفيه الدعابة المرة والفكاهة الحلوة.
ولعل من هذه الفكاهة، أو من تلك الدعابة، اصطناع الكاتب جان جيرودو لهذا العنوان؛ فهو لم يعرِض في كتابه لهذا الموضوع الذي يختلف الفرنسيون فيه من قريب أو من بعيد، وإنما أَعرَض أو كاد يُعرض عن الوزارة والبرلمان، وعن السلطان الكامل المطلق، والسلطان الناقص المحدود، وعُنِيَ بشيء آخر له خطره العظيم في نفوس الفرنسيين. وآية ذلك أن الكتاب قد ظهر منذ أشهر قليلة ما أظنها بلغت الأربعة، وأن الطبعة التي قرأتها منه هي الطبعة الثالثة عشرة، والموضوع الذي عني به الكاتب في كتابه هذا هو الإصلاح الاجتماعي، وإذا كان قد اختار له هذا العنوان، فهو لم يختره إلا في شيء من العبث والمجاز، إن صح التعبير؛ فهو يريد أن يصور أقصى ما تستطيع فرنسا أن تحققه لنفسها وللعالم من الخير إذا أخذت أمورها بالعزم، وفهمت ما يجب عليها لنفسها وللعالم فهمًا صحيحًا.
وأظن أن الترجمة الدقيقة لعنوان الكتاب، الترجمة التي تؤدي ما أراد إليه المؤلف حين استعار من أصحاب السياسة كلمتهم هذه الشائعة عابثًا قاسيًا في عبثه، إنما هو القدرة الكاملة، قدرة فرنسا على الخير لنفسها ولغيرها من الشعوب.
أراد باستعارة هذا العنوان من أصحاب السياسة أن يقول لهم وللذين تابعوهم فيما هم فيه من جدل: إن جدالهم هذا سخيف فارغ لا طائل تحته ولا غناء فيه، فلن يصلح فرنسا أن يتسع سلطان الوزارة أو يضيق، ولن يصلح فرنسا أن تمتد رقابة البرلمان حتى تحيط بكل شيء، أو أن تتقاصر حتى لا تحيط بشيء؛ لأن رجال السياسة يذهبون في طريق أقل ما توصف به أنها معاكسة للطريق التي يجب أن تُسلك حين يراد الإصلاح. فرجال السياسة يصطنعون مهنتهم، ويعيشون من اصطناع هذه المهنة، وهي إضاعة الوقت والجهد والمال فيما لا يمس ما يحتاج الوطن إليه من إصلاح شئونه على اختلاف ما تتصل به هذه الشئون من مرافق الحياة.
فالكتاب كما ترى منذ الآن، وكما سترى بعد حين نقدٌ عنيف لاذع للحياة السياسية الفرنسية من جهات مختلفة، والظريف الذي يستحق أن نفكر فيه هو أن جان جيرودو موظف من موظفي الحكومة الفرنسية. كان حين أصدر هذا الكتاب موظفًا في وزارة الخارجية، فلما دنت أخطار الحرب كُلِّف الإشراف على إدارة المطبوعات، وانتقل إلى رياسة مجلس الوزراء.
فأعجبْ لهذه الحرية التي أتاحت لموظف من الموظفين أن ينقد النظام السياسي لبلاده نقدًا صريحًا إلى أبعد آماد الصراحة، حرًّا إلى أوسع حدود الحرية، لم يُعْفِ الحكومة ولا البرلمان ولا المجالس البلدية ولا الجمهور ولا المصارف، ولا سلطة من السلطات، ولا هيئة من الهيئات التي تشرف على تنظيم الحياة الفرنسية عن قرب أو بعد، ولكن أعجب أيضًا؛ لأنه آثر في هذا النقد أقصى ما يستطيع الكاتب أن يؤثره من النزاهة وطهارة الضمير، والارتفاع عن الصغائر، ونسيان نفسه ومصلحته الخاصة، وتجنُّب التعرض لوزارة بعينها، أو حزب بعينه، أو فريق بعينه من الذين يمثلون وطنه في مجلسي البرلمان.
نقد الحكومة الفرنسية من حيث هي حكومة، ونقد البرلمان الفرنسي من حيث هو برلمان، فأرضى الناس جميعًا، ولم يغضب أحدًا، ولم يجد من حكومته ولا من وزيره أذًى ولا شططًا.
وأعجب لشيء آخر، هو أن جان جيرودو كاتب أديب، قد برع القصص الروائي، وبرع في القصص التمثيلي، وظفر في الأدب الفرنسي بمكانة ممتازة لا حاجة إلى التعريف بها، وهو في قصصه الروائي أو التمثيلي شاعر بارع ممتاز، وإن كان يصطنع النثر دون النظم، وهذا كله لم يمنعه من أن يخرج هذا الكتاب حين أحس الحاجة إلى إخراج هذا الكتاب، وحين أحس القدرة على إخراج هذا الكتاب. فهو إذًا لا يقيم في برج من العاج لينزل على قرائه ونظَّارته قَصصه الروائي الرائع، وآياته التمثيلية البارعة، ولكنه يعيش مع الناس، ومع أوساط الناس، ومع من هم أدنى طبقة من أوساط الناس؛ يمشي بينهم في الطرق، ويجوب معهم أحياء باريس، ولا سيما هذه الأحياء الفقيرة البائسة، حتى إذا أراد أن يصور حاجات هذه الطبقات إلى المعونة والإصلاح، بل إلى الإغاثة والإنقاذ، كان بارعًا كل البراعة في هذا التصوير.
ثم أعجب آخر الأمر للفكرة التي أقام عليها كتابه، والتي تلائم كل الملاءمة فيما أعتقد حياتنا المصرية الخاصة، بحيث نستطيع أن نقول: إن هذا الكتاب من أنفع الكتب وأمتعها وأقومها للذين يتولون الإصلاح الاجتماعي في مصر منذ أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية في مصر، ويجب أن أعترف أن وزارة الشئون الاجتماعية المصرية، هي التي دفعتني إلى قراءة هذا الكتاب الذي شُغلت عن قراءته بأدب جيرودو، حتى إذا عدت إلى القاهرة وسمعت أحاديث الوزارة الناشئة، وما تهتم به وما تفكر فيه وما تقوله وما يقال عنها؛ فرغت لهذا الكتاب فقرأته في جلستين اثنتين لأنه قصير. وأزمعت أن أكتب عنه، لا لأحلله ولا لأفصل القول فيه، ولكن لأشير إشارةً مجملةً، ولألفت إليه وزارتنا الجديدة الناشئة؛ فقد يبصِّرها ببعض الأمر، وقد يرسم لها بعض الخطط، وقد يجنبها كثيرًا من الخطأ، وقد يعصمها من كثير من الزلل، وقد يصرفها إلى العمل المفيد، وقد يرغِّبها عن الأقوال العامة الغامضة التي امتلأت بها الصحف منذ أعوام وأعوام، حتى حفظناها عن ظهر قلب، وحتى أصبح الطلاب والتلاميذ يشقون بها على أساتذتهم ومعلميهم، حين يملئون بها ما يكتبون من موضوعات الإنشاء.
الفكرة التي أقام عليها جان جيرودو كتابه هي أن لوطنه في العالم مركزًا ممتازًا، وأن هذا المركز لم يتح لوطنه عفوًا، ولم تكسبه له المصادفات، وإنما جاءه من أن طبيعة الشعب الفرنسي منذ عرف الحياة السياسية أنه لا يستطيع أن يعيش إلا في المقام الأول بين الشعوب؛ فهو مخير بين اثنين، فيجب أن يكون له الصدر أو القبر، كما يقول شاعرنا القديم. فهو لا يستطيع أن يتصور فضلًا عن أن يرضى أن تكون الدولة الفرنسية من دول الطبقة الثانية، وهو قلق أشد القلق مضطرب أشد الاضطراب بائس أشد البؤس إذا أخرته ظروف السياسة عن مكانته الممتازة في الطبقة الأولى بين الدول والشعوب؛ وتاريخه كله يؤيد الخصلة من خصاله أشد التأييد، وإذن فعلى الذين يسوسون هذا الشعب وينهضون بشئون الإصلاح فيه أن يعرفوا هذه الخصلة من خصاله حق المعرفة، وأن يتوخوها في كل ما يدبرون من أمر، وفي كل ما يشرعون من قانون، وفي كل ما يهمون به من إصلاح. والشعب الفرنسي لا يرضيه أن يمتاز في السياسة وحدها، وإنما يريد أن يمتاز في كل شيء، يريد أن تكون حياته الفنية أروع ما يعرف الناس من حياة الفن، ثم يريد أن تكون حياته السياسية ملائمة لهذا كله أحسن الملاءمة، ومصورة لهذا كله أحسن التصوير.
لا يستطيع أن يفرغ لنفسه، وأن يعكف عليها، وأن ينفرد بحياته الخاصة الضيقة، ولكنه ينظر دائمًا إلى غيره، ويريد دائمًا أن يكون سابقًا، ويكره دائمًا أن يكون متخلفًا، وأظن أن أيسر النظر في تاريخ مصر ينتهي بنا إلى أن الشعب المصري منذ عرف الحياة السياسية قد امتاز بهذه الخصلة، بالقياس إلى أمم الشرق القريب.
نلحظ ذلك في حياتنا منذ أقدم عصورنا التاريخية؛ فنحن لم نرضَ قط، ولم نسعد قط، إلا حين كان لنا التفوق في الشرق الأدنى، وحين كنا دعاة الحضارة وأئمتها في هذا الشرق، وحين كانت حياتنا على اختلاف ألوانها مثلًا يحتذى، وقد ردتنا الظروف في كثير من الأحيان عن هذه المنزلة المتفوقة الممتازة، فكنا أشقياء، وكنا مع ذلك مجاهدين، حتى نعود إلى التفوق والامتياز.
فعلى الذين يسوسوننا أن يعرفوا هذه الخصلة من خصال الشعب المصري، وأن يتوخوها في كل ما يدبرون من أمورنا.
وأول ما عُني به جان جيرودو، بل أهم ما عني به من مواطن الضعف الاجتماعي في وطنه، أمر الجنس الفرنسي نفسه، فقد نظر إليه من جهات مختلفة: من جهة ما يسمونه نقص المواليد وكثرة الوفيات وتناقص السكان، ومن جهة ما تدخله المهاجرة إلى فرنسا على هذا الجنس الفرنسي من أسباب الضعف والقوة، ومن أسباب الزيادة والنقص، ومن جهة ما تدخله هذه المهاجرة السهلة من ألوان الفساد الخلقي أحيانًا، ومن ألوان العظمة الخلقية أحيانًا أخرى.
والكاتب يود لو أُنشئت في فرنسا وزارة فنية لا تعنى بالسياسة، وما يكون فيها من شئون السلم والحرب، وإنما تعنى بالشعب الفرنسي، تمكن أفراده من أن يعيشوا عيشة مادية ممتازة، تتيح لهم أن يعمروا بلادهم بالنسل الصالح المتزايد القوي الذي يكفي أن يوجد وأن يتزايد وأن يقوى؛ ليكسب فرنسا من المهابة والعزة ما يرد عنها طمع الطامعين، وما يضمن لها وللعالم سلمًا متصلًا.
وأظن أن أمر الشعب المصري من هذه الناحية يشبه أمر الشعب الفرنسي؛ فقد لا تنقص المواليد في مصر كما تنقص في فرنسا، ولكن عدوان الموت على طفولة مصر وشبابها لا يقاس إلى عدوان الموت على الفرنسيين، ومن المحقق أن مصر مفتوحة لكل طارئ، وأن للمهاجرة إليها آثارًا شنيعة جدًّا في حياتنا المادية والمعنوية والخلقية أيضًا.
ويعنى جان جيرودو عناية مفصلة بحياة المدن الفرنسية، وبحياة القرى من حيث ملاءمة تخطيطها لحاجة الشعب الصحية ولطبيعته ولذوقه ولآماله في الرقي، وأؤكد لك أنك تقرأ ما يكتبه عن باريس، واضطراب العناية بتخطيطها وتاريخها، وصحة أهلها وذوقهم، فيخيل إليك أنك تقرأ فصلًا عن هذا الاختلاط الشنيع الذي أصاب مدينة القاهرة في العصر الحديث. فهذه العمارات التي تقام حيث يريد أصحابها في غير ذوق ولا نظام ولا عناية بصحة المجاورين لها، وهذه الأحياء الأثرية التي تفقد جمالها الفني؛ لأن يد التجديد تعبث بها في غير رحمة ولا ذوق ولا حساب، وهذه الأحياء التي أنشئت خارج المدينة؛ لتكون متنفَّسًا للمدينة يجد فيها الناس هواءً طلقًا نقيًّا، فلم تلبث أن اكتظت بالعمارات الضخمة، وأصبحت كغيرها من أحياء المدينة موطنًا للعلل والأمراض، وفساد الذوق وفتور الهمم أيضًا.
كل هذا وأكثر من هذا يصوره الكاتب بالقياس إلى باريس، ويصف ما ينبغي من الطب له، وكل هذا وأكثر من هذا يستطيع كاتب مصري أن يصوره، ويصف ما ينبغي من الطب له.
وهناك علة اجتماعية يعنَى بها الكاتب الفرنسي، ويكفي أن أشير إليها لتشعر بأنها من عللنا المتوطنة، وهي علة المحاباة في تطبيق القوانين على أفراد الشعب، لا من الناحية القضائية؛ فالناحية القضائية دائمًا بمنجاة من اللوم، بل من الناحية الإدارية. فهؤلاء يتاح لهم أن يقيموا عماراتهم الضخمة حيث لا يتاح لأولئك أن يقيموا منازلهم المتواضعة، وهؤلاء يتاح لهم أن يخالفوا بسياراتهم عن نظم المرور، على حين يؤخذ أولئك بأشد النظم عنفًا وضيقًا، وهنا يحمل جيرودو على أعضاء المجالس البلدية حملةً عنيفةً حقًّا، لا تعدلها إلا حملته على أعضاء البرلمان؛ فهم قوام هذه المحاباة؛ لأنهم يشترون بها أصوات الناخبين، ثم ينغصون على رجال الإدارة والوزارة حياتهم بألوان الإلحاح والرجاء.
وقد مضى جيرودو في نقده لرجال البرلمان إلى حد بعيد، حتى كره أن يستقر البرلمان في العاصمة قريبًا من أصحاب السلطة التنفيذية المركزية، وتمنى أن يستقر البرلمان في مدينة بعيدة صغيرة، يفرغ فيها لعمله التشريعي، ويخضع فيها أعضاؤه لمراقبة الجمهور لهم في حياتهم الخاصة؛ فهم في حاجة إلى هذه المراقبة.
وعلى هذا النحو من النقد الاجتماعي المفصل الدقيق يمضي الكاتب حتى يبلغ حاجته؛ وإذا هو ينتهي إلى أن الأزمة التي تشكو منها فرنسا ليست أزمة التنافس بينها وبين هذه الدولة أو تلك، وليست أزمة الخصومة بين هذا النظام أو ذاك من نظم الحكم، وليست أزمة الاقتصاد الذي ينشأ عن الاضطراب في أعمال المال وفي الإنتاج والاستهلاك، وإنما هي أزمة أعمق من هذا كله وأيسر إصلاحًا من هذا كله؛ هي أزمة عميقة لأنها تمس حياة الشعب في أعمق دخائلها، وهي أزمة يسيرة؛ لأن هذا الشعب قوي خصب صالح للبناء والنماء، ولكن هناك شرطًا لا بد منه لحل هذه الأزمة، وهو ألا يوكل هذا الحل إلى رجال السياسة الذين اتخذوها لأنفسهم مهنة يعيشون بها في الوزارة وفي البرلمان، وإنما يوكل هذا الحل إلى الكفاة الفنيين. وما أكثر حظ فرنسا حتى في هذه الظروف العصيبة من الكفاة الفنيين الذين لا تنتفع بهم فرنسا، فتدعوهم الدول الأخرى في أوروبا وأمريكا إلى حيث ينفعونها، ويكفلون لها التفوق على وطنهم، وإن قلوبهم لتمزقها الحسرات!
ألست ترى أن من النصح لوزارة الشئون الاجتماعية في مصر أن نلفتها إلى هذا الكتاب وأمثاله؟ وما أكثر أمثال هذا الكتاب في غير لغة من لغات الأرض! وقد يخيل إليَّ أن لهذا الكتاب أمثالًا قليلةً، ولكنها موجودة في مصر وفي اللغة العربية نفسها.