ساعة …
ساعة قضيتها أمس مع جماعة من المثقفين الممتازين في هذا البلد، ذادت عني النوم حتى تقدم الليل، ودفعتني إلى مذاهب من التفكير والتروية، لا أريد أن أصورها في هذا الحديث؛ لأنها مختلفة شديدة الاختلاف، متناقضة شديدة التناقض، ولأن تصويرها يحتاج إلى عهد لا يحتمله حديث قصير تنشره مجلة أسبوعية لا تكاد تُنْشَر حتى تُطوى، ولا يكاد يُقرأ ما فيها حتى يُنسى.
ولكن هذه الساعة ذكَّرتني فيما ذكرتني كتبًا ثلاثةً قرأتها في هذين العامين الأخيرين، وأكبر الظن أن هذه الساعة ستضطرني إلى أن أعيد قراءة هذه الكتب؛ لأن فيها تسليةً وتغريةً، ولأنها تقوي النفوس وتعصمها من الخور العقلي الذي تتعرض له في هذه الأيام.
أما أول هذه الكتب: فقد ألفه الكاتب الفرنسي الفيلسوف جوليان بندا، وسماه: «خيانة المثقفين». وأما الثاني: فقد نشره الأديب الفرنسي العظيم جورج دي هامل، وسماه: «الدفاع عن الأدب». وأما الثالث: فقد أذاعه في هذا الصيف الكاتب الفرنسي المشهور جورج برنانوس، وسماه: «نحن الفرنسيين»، وموضوعات هذه الكتب مختلفة في ظاهر الأمر كما ترى من عنواناتها، ولكنها متفقة في حقيقة الأمر كما سترى من التحليل اليسير الذي سأعرضه عليك في هذا الحديث، لما بقي منها في نفسي. وما أقلَّ ما يبقى في نفوسنا من الكتب التي نقرؤها في هذه الأيام؛ التي طغت فيها علينا أحداث الحياة الداخلية والخارجية، فأنستنا أو كادت تنسينا كل شيء، وشغلتنا أو كادت تشغلنا عن كل شيء، وجعلت من الجهاد المحمود أن يأخذ الرجل منا نفسه بالقراءة بين حين وحين، والتفكير فيما يقرأ من وقت إلى وقت!
وهذه الكتب الثلاثة تصور نواحٍ مختلفة من هذه الأزمنة العنيفة التي أصابت المثقفين في أخلاقهم وفي إنتاجهم وفي موقفهم من المشكلات الدقيقة؛ التي أخذت تعرض بعد الحرب الماضية لحياة الأفراد والجماعات. فما عسى أن يكون موقف الرجل المثقف الممتاز الذي عُني بحياة العقل والقلب، وفرغ لها ووقف عليها جهده كله، أو خلاصة هذا الجهد؟ ما عسى أن يكون موقف هذا الرجل المثقف من مشكلات الحياة حين تعرض للناس في سياستهم وفي نظمهم الاجتماعية؟ أيجهل هذه المشكلات كل الجهل، ويُعرض عنها كل الإعراض، ويفرغ الفراغ كله لما يُسِّرَ له، وتوفر عليه من ألوان البحث والتفكير؟ أيضرب بين نفسه وبين الحياة والأحياء حجابًا صفيقًا كثيفًا، لا يرى من دونه شيئًا، ولا يسمع من دونه شيئًا، ولا يحس من دونه شيئًا، وإنما تنقطع الأسباب بينه وبين نظرائه، لا يعرفهم ولا يعرفونه؛ لأن حياته العقلية العليا قد استغرقت نشاطه واستأثرت بجهوده، فلم يبقَ منه للناس قليل ولا كثير؟
ذلك شيء لا سبيل إليه؛ فأيسر التفكير في حياة الفرد مهما يكن نشاطه في هذا العصر الحديث، يدلك على أن كلمة أرسطاطاليس لم تزل تدل على معناها، وعلى أن الإنسان ما زال مدنيًّا بالطبع، فهو محتاج إلى الناس، والناس محتاجون إليه، وهو متضامن مع الناس، والناس متضامنون معه؛ وإذًا فلا سبيل إلى أن يقطع الرجل المثقف الممتاز ما بينه وبين الناس من صلة، وإنما هو مضطر إلى أن يعيش معهم، وإلى أن يشاركهم فيما يلم بهم من خير أو شر، وما يعرض لحياتهم من عرف أو نكر؛ وإذًا فما عسى أن يكون موقفه من هذه الأحداث التي تعرض لمواطنيه، ولشركائه في الإنسانية عامةً؟ أيقف منها موقف الذي يسمع ويرى ويحس ويشعر، ولكنه مع ذلك يلتزم الحيدة، فلا يصلح خطأً إن وقع، ولا يدفع شرًّا إن ألمَّ، ولا يشجع على خير إن عرض، ولا ينبه إلى ما قد تدل عليه النُّذُر من الأحداث التي قد تقع إذا لم ينبَّهوا إليها فتجر عليهم شرًّا عظيمًا؟ ولكن موقف الحيدة هذا غير ملائم لطبيعة الأشياء؛ فما دمت مضطرًّا إلى التضامن الاجتماعي بحكم الفطرة، أو بحكم الظروف، أو بحكم الفطرة والظروف معًا، فأنت مضطر إلى نتائج هذا التضامن، وأنت مضطر إلى أن تجد ما يجده الفرد العامل في جماعة من الجماعات من الرضا والسخط، ومن الفرح والحزن، ومن اللذة والألم. ثم أنت مضطر إلى أن تندفع إلى العمل الذي يقتضيه هذا الذي تجده، فتعلن الرضا وتدعو إلى أسبابه، وتعلن السخط وتقاوم ما يقتضيه، وإذًا فما عسى أن يكون موقفك من هذه الأحداث المختلفة حين تلم بالبيئة التي تعيش فيها، أو حين تلم ببيئة معاصرة لك في وطن قريب منك أو بعيد عنك؟ وكيف السبيل إلى أن تلائم بين فراغك للحياة العقلية العليا، وبين مشاركتك في أعراض الحياة العادية ومنافعها ومضارِّها العاجلة، وما تستتبعه من المقاومة أو النشاط؟
هذه مسألة كثر التفكير فيها واشتد حولها الجدال، لا لأنها محتاجة إلى أن تحل، فقد حلت نفسها أو حلتها الظروف، ولكن لأن هذه الحلول التي فرضتها الظروف تحتاج إلى كثير من البحث، وتقتضي كثيرًا من الجدال. أما أنها حلَّت نفسها أو حلتها الظروف فذلك شيء واضح؛ فعلماء هذا العصر وأدباؤه وفلاسفته ورجال الفن فيه يحيون كما يحيا غيرهم من الناس، ويشاركون في النشاط العام، يؤيدون هذا المذهب السياسي أو ذاك، ويظاهرون هذا الحزب الاجتماعي أو ذاك، ويصطنعون في هذه المظاهرة وذلك التأييد ما يصطنعه غيرهم من الناس، فهم يؤلفون الكتب، وينشرون الرسائل، ويذيعون المقالات، وهم يشتركون في الانتخابات فيصوتون للأحزاب السياسية والاجتماعية التي تلائم ميولهم وآراءهم وأمزجتهم وأهواءهم. وقلما تجد واحدًا من هؤلاء الناس قد اعتزل الخصومات السياسية والاجتماعية، فلم يكوِّن فيها رأيًا، ولم يُظهر فيها هوًى، ولم يتخذ لنفسه منها موقفًا معينًا معروفًا.
وهذا الحل الذي اقتضته طبيعة الأشياء أو فرضته ظروف الحياة هو الذي يحتاج إلى البحث والتفكير، وإلى أن نتبين ملاءمته أو مباينته لما ينبغي للمثقف الممتاز من خلق، وما تفرض عليه ثقافته الممتازة من واجب، وما تحظر عليه هذه الثقافة الممتازة من الأمور. ذلك أن المثقف الممتاز ليس مسئولًا عن نفسه وحدها كغيره من أوساط الناس وعامتهم، بل ربما كانت تبعته بإزاء نفسه تأتي في المنزلة الثالثة؛ فأما التبعة التي تأتي في المنزلة الأولى فهي تبعته بإزاء ثقافته: بإزاء علمه إن كان عالمًا، وأدبه إن كان أديبًا، وفلسفته إن كان فيلسوفًا، وفنه إن كان من رجال الفن. بإزاء عقله قبل كل شيء وبعد كل شيء، فما ينبغي أن يبتذل العقل في سبيل الأعراض الزائلة، والمنافع العاجلة، والظروف الطارئة، وهذه الألوان التي تختلف على حياة الناس فتُرضي حينًا، وتُسخط أحيانًا، وترفع حينًا، وتضع أحيانًا، بل يجب أن يكون العقل مرتفعًا دائمًا عن صغائر الحياة، محتفظًا دائمًا بمكانته الممتازة، لا يصغر ولا يتضاءل، ولا يتعرض لما تقتضيه الحياة العاملة في بعض الأحيان من ضروب الذلة والهوان.
وليس المثقف مسئولًا عن عقله فحسب، بل هو مسئول عن نتائج هذا العقل وعن آثاره في معاصريه من جهة، وفي الأجيال المقبلة من جهة أخرى. فالمثقف الممتاز أستاذ، سواء أشغل منصب التعليم أو لم يشغله، ومن الحق على الأستاذ لتلاميذه أن يكون لهم مثلًا صالحًا وقدوةً حسنةً، وأن يعصم لهم نفسه من الضعف الذي يفسد رأيهم في العقل، ويشككهم فيه، ويدفعهم أن ينظروا إليه كما ينظرون إلى مصادر الإنتاج المختلفة، كالتجارة والزراعة والصناعة، على أنه شيء قابل للبيع والشراء والأخذ والعطاء، وعلى أنه يصلح موضوعًا للمساومة التي مهما تكن شريفةً نقيةً فإنها لا تليق بالحق ولا بالعقل الذي يلتمس الحق ويبحث عنه. ثم هو آخر الأمر مسئول عن نفسه؛ فقد ينبغي للرجل الكريم ألا يأتي من الأمر ما يستخذي منه أمام نفسه إذا خلا إليها، وألا يشارك فيما لا يطمئن ضميره الخالص إلى المشاركة فيه.
وجملة القول أن المثقف الممتاز خليق أن يحتفظ لنفسه بالحرية المطلقة التي لا تشوبها شائبة، وبالكرامة النقية التي لا يكدِّرها مكدر، وهو بعد ذلك — أو بحكم ذلك — خليق أن يصطنع مع الناس صراحةً واضحةً جليةً لا يشوبها لبس ولا غموض. فكما أنه محتاج إلى هذه الحرية وإلى هذه الكرامة ليستكشف قانونًا من قوانين العلم. أو لينتج لونًا من ألوان الأدب، أو ليستنبط أصلًا من أصول الفلسفة، أو ليخرج ضربًا من ضروب الفن، وكما أنه محتاج إلى الصراحة المطلقة ليعلن إلى الناس ما وفِّق له من ذلك، فهو محتاج إلى الحرية والكرامة والصراحة في كل ما يشارك الناس فيه من ألوان النشاط، ولا عليه أن ينكره الناس أو يضيقوا به، ولا عليه أن يمقته السلطان أو يسخط عليه، لا يخاف سخط الناس ولا مقت السلطان فيما يتصل بعمله وأدبه أو بفلسفته وفنه.
وتاريخ المثقفين الممتازين حافل بالذين ضحوا بالراحة والأمن والحياة في سبيل الرأي بل في سبيل العقل؛ فما ينبغي أن تنقطع هذه السلسلة، بل ينبغي أن تتصل، وأن يكون الاستعداد للتضحية والتعرض لها والإقبال عليها هو الذي يكف الجماعة عن إيذاء المثقف الحر، ويردع السلطان عن اضطهاد العقل، حين يشعر الناس ويشعر السلطان بأن الإيذاء والاضطهاد لا يغيران من حرية العقل ولا يُبْلِغان المؤذين والمضطهدين شيئًا. هذا هو المثل الأعلى للمثقف الممتاز، فهل احتفظ به المثقفون الممتازون في هذا العصر الحديث، أم هل أضاعوه كله أو بعضه؟ هل احتفظ العقل الممتاز بحريته المطلقة وكرامته النقية وصراحته التامة أمام المشكلات التي عرضت للأوروبيين في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ أليس بين المثقفين الممتازين من داهنوا في السياسة، وصانعوا في الاقتصاد، وشاركوا في الظلم الاجتماعي؟! أليس بينهم من غرتهم المنافع العاجلة، وأغرتهم المصالح القريبة، فصانعوا ولم يكن من حقهم أن يصانعوا، وسكتوا وكان الحق عليهم أن يتكلموا؟!
هذا هو الموضوع الذي عالجه جوليان بندا في الكتاب الأول من هذه الكتب الثلاثة، وهو كما ترى يصور ناحية من نواحي الأزمة التي تخضع لها الحياة العقلية في هذا العصر الحديث.
أما الكتاب الثاني: فقد عرض لناحية أخرى من نواحي هذه الأزمة العقلية؛ فقد كثر القراء في هذا العصر بمقتضى انتشار التعليم، وأصبحت أمم عظيمة قارئة كلها، رجالها ونساؤها، شبابها وشيبها، بل صبيتها أيضًا، وكل هذه الطبقات القارئة في حاجة إلى الغذاء العقلي اليومي، ولكنها مختلفة متفاوتة في ما بينها: فمنها الطبقات ذات الثقافة العميقة الواسعة، ومنها الطبقات ذات الثقافة المتوسطة، ومنها الطبقات ذات الثقافة اليسيرة جدًّا، وكل أولئك يريدون أن يقرءوا، وكل أولئك يشترون ما يقرءون، وواضح جدًّا أن أصحاب الثقافة العميقة الواسعة قلة لا تذكر بالقياس إلى أوساط الناس ودهمائهم؛ فالذين يكتبون لهذه القلة أجدر ألا يصيبوا من الربح شيئًا يقاس إلى ما يصيبه الذين يكتبون لأوساط الناس ودهمائهم.
إذًا فهناك أزمة خطيرة يتعرض لها الكتاب الجيد المتقن الذي يصور الثقافة العالية الممتازة، والذي يحتاج صاحبه إلى أن يبذل فيه الجهد العنيف، والوقت الطويل، والتفكير العميق. وإذًا فلن يقبل الطابعون والناشرون على هذه الكتب الممتازة في أنفسها؛ لأنها لا تضمن لهم ربحًا، وقد تجر عليهم، بل من المحقق أنها ستجر عليهم خسارةً عظيمةً، والأمر لا يقف عند هذا الحد؛ فالناس في حاجة إلى القراءة، ولكنهم في حاجة إلى القراءة السريعة اليسيرة السهلة؛ لأن الحياة الحديثة تقتضي السرعة والسهولة واليسر، والصحف والمجلات تقدم إلى الناس ما يريدون وأكثر مما يريدون، فما حاجتهم إلى الكتاب الجيد أو الرديء! بل الأمر أشد خطرًا من هذا. فهذا الراديو الذي احتل البيوت كلها، والأندية كلها، والميادين كلها، والذي يصحبك في القطار، ويصحبك في السفينة، ويصحبك في السيارة؛ هذا الراديو يغنيك عن القراءة: عن قراءة الكتب لأنه يحدثك في الأدب والعلم والفن، وعن قراءة الصحف لأنه يحمل إليك الأنباء على اختلافها، وعن كل قراءة لأنه يستطيع أن يشغلك ما دمت يقظان، وأن يشغلك دون أن يشغلك، وإنما هو مفتاح يُدار فينصبُّ عليك الكلام أو الغناء أو الموسيقى، ثم يُدار فيقطع عنك هذا كله، ولا بأس أن تدعه يصيح بما يشاء، وأن تمضي أنت فيما تشاء، تفرغ له إن أحببت، وتُعرض عنه إذا أردت. فما حاجتك إلى القراءة التي تقيد نظرك وعقلك، وتشغلك بنفسها عن كل شيء!
ولا تنسَ السينما، فأنت واجد فيه متى شئت ما يرضي عينك وأذنك معًا؛ فما حاجتك إلى الكتاب، وما حاجتك إلى الصحف! ولكن هذا الإنتاج الذي تنشره الصحف ويذيعه الراديو والسينما شيء، والإنتاج العالي الممتاز شيء آخر. فإذا أغرق الناس في الاستمتاع بهذا الإنتاج اليسير السريع، ضعفت عقولهم وقلوبهم وملكاتهم، وضعفت شخصياتهم، وأصبح بعضهم مشبهًا لبعض، وأصبحوا وقد صيغوا على صورة واحدة هي التي يصوغهم عليها الراديو أو السينما أو الصحف.
والواقع أن هذه الأدوات الثلاث تجتمع كلها غالبًا في أيد واحدة، وإذًا فليس الخطر على العقل وإنتاجه الممتاز فحسب، ولكنه على الحرية أيضًا وعلى شخصية الأفراد والجماعات في الوقت نفسه. ومن أجل هذا وأشياء أخرى كثيرة غير هذا بعث جورج دي هامل صيحة الخطر المنكر في كتابه هذا الذي سماه: «الدفاع عن الأدب»، وهو بالطبع يريد الدفاع عن الأدب الرفيع الذي لا ينتج في سرعة، ولا يساغ في سرعة، وإنما هو محتاج إلى الأناة والمهل لينتج ويساغ.
أما الكتاب الثالث: فقصته أظرف وأعجب من قصة الكتابين الآخرين. ذلك أن صاحبه قد أبى أن يكون مثقفًا خائنًا، وأبى أن يذعن لمقتضيات الحياة الحديثة، وصمم على أن يحتفظ بشخصيته كاملةً، وعلى أن يفرضها على مواطنيه فرضًا، غير حافل برضاهم إن رضوا، ولا بسخطهم إن سخطوا؛ إنما هو مزمع أن يفكر ويعلن نتيجة تفكيره، وأن يلاحظ ويعلن نتيجة ملاحظاته، والشرط الأول للاحتفاظ بهذه الحرية المطلقة أن يضمن لنفسه استقلالها المادي والمعنوي. فأما الاستقلال المعنوي: فشيء يتصل بإرادته، وهو قادر على أن يوفره لنفسه متى شاء، وأما الاستقلال المادي: فأمره يسير إذا تمثَّل المعنى الذي صوره شاعرنا القديم تصويرًا حسنًا حين قال:
وقد تمثل صاحبنا هذا المعنى تمثلًا حسنًا، فعاش من عمله عيشةً متواضعةً ليس لأحد عليه فيها يد ولا صنيعة، وهاجر من وطنه فلاحظه من بعيد، وأرسل إليه كتبه من بعيد أيضًا. عاش في إسبانيا وفي جزر الباليار خاصة. فلما شهد الثورة الإسبانية أنكر آثارها، فهاجر من إسبانيا، وصور إنكاره هذا في كتاب رائع، ما أظن أن المنتصرين في إسبانيا قد ضاقوا به كل الضيق، ولكنه لم يترك إسبانيا ليستقر في وطنه، بل ليعبر المحيط إلى أمريكا الجنوبية، ومن هناك أرسل كتابه هذا الذي أتحدث عنه.
وهذا الكتاب يصور ما يملأ نفس الكاتب من السخط العنيف على ثلاثة أشياء:
على موقف فرنسا في مؤتمر مونيخ في السنة الماضية؛ لأنه كان موقف خزي وذلة لا يلائم الشرف الفرنسي، ولا يلائم طبيعة الشعب الفرنسي العظيم، ولا يلائم مصلحته القريبة والبعيدة، وإنما يلائم أهواء جماعة من الساسة أصحاب النفوس الضعيفة والنظر القصير.
وعلى حزب الملكيين الفرنسيين؛ فالكاتب ملكي متطرف في حب الملكية، وفي بغض الجمهورية، ولكنه ينكر سياسة حزبه أشد الإنكار؛ لأن هذا الحزب يضلل الشعب الفرنسي من جهة، ويضلل صاحب الحق في العرش الفرنسي من جهة أخرى؛ يصانع في السياسة وما ينبغي للسياسة الملكية أن تصانع أو تداجى، يميل إلى دكتاتورية موسوليني وهتلر؛ لأن الديكتاتورية تخاصم الجمهورية، ولكن الديكتاتورية تخاصم الملكية الصحيحة أيضًا أو الملكية الفرنسية على كل حال.
وعلى الكنيسة الكاثوليكية؛ فصاحبنا متدين إلى أقصى غايات التدين، مؤمن كأقوى ما يكون الإيمان، ولكنه يريد من الكنيسة الكاثوليكية أن تكون صادقةً مخلصةً للدين، لا تصانع في ذلك ولا تداجي؛ وهو يراها قد صانعت المنتصرين في إسبانيا، فشاركت فيما اصطنعوا من عنف، وغمست يدها فيما سفكوا من دم بريء. فهو ينكر عليها ذلك في حرية مطلقة وصراحة لا حد لها، لا يعنيه أن ترضى الكنيسة عنه أو تسخط عليه، كما لا يعنيه أن يعرفه الملكيون أو أن ينكروه، وكما لا يعنيه أن يحبه الساسة الجمهوريون أو يبغضوه؛ وإنما الذي يعنيه شيء واحد، أن يفكر حرًّا، وأن يعلن رأيه حرًّا، وأن يحتمل بعد ذلك تبعات هذا الرأي مهما تكن.
وواضح جدًّا أن مثل هذا الكتاب يلقاه القراء الفرنسيون أحسن لقاء؛ لأنه حر أولًا، ولأنه يهاجم في عنف ما يكره الناس مهاجمته، ولأنه يثير الغيظ والحنق في قلوب كثير من الناس، ولأنه بعد هذا كله قد جلي في أروع صورة أدبية ممكنة.
أرأيت إلى هذه الكتب الثلاثة، وإلى ما تصور من النواحي المختلفة لأزمة الحياة العقلية على اختلاف فروعها! ألست توافقني على أن قراءتها خليقة أن تُسلي عن كثير مما نسمع ونرى في مصر من التقصير في ذات الثقافة العليا، ومن ابتذال العقل الممتاز في سبيل المنافع العاجلة والأغراض الزائلة، وحسن المكانة عند هذا العظيم أو ذاك، وحسن المكانة عند عامة القراء الذين يستطيعون أن يُهدوا إلى من يرضيهم، ويهبط إليهم شهرةً عظيمةً بعيدة الصوت، ولكنها أشبه بهذا اللهب الذي يكفي أن تنفخه ليخمد كأنه لم يكن!
نعم! لقد كان لي من التفكير في هذه الكتب الثلاثة تسلية عن بعض ما سمعت في تلك الساعة التي قضيتها أمس بين جماعة من المثقفين الممتازين، ومع أن كثرة هذه الجماعة كانوا مثلي يؤمنون بالعقل، ويعرفون للأدب الرفيع حقه، فقد ذادت عني هذه الساعة النوم حتى تقدم الليل؛ لأني سمعت فيها صوتًا شاذًّا، وقد صدر هذا الصوت عن آخر من كنت أظن أنه يصدر عنه، ومن أجل هذا أستأذنك — أيها القارئ الكريم — في ألا أسمي صاحب هذا الصوت؛ لأني لا أريد أن أوذيه، وفي أن أهدي إليه مع ذلك هذا المقال.