صرعى الحضارة
سيبين التاريخ لهذا الجيل أو للأجيال المقبلة عن الأسباب البعيدة التي قضت على الفرنسيين هذه الهزيمة المنكرة، وعلى جيشهم العظيم هذا الاندحار الغريب. فالناس مضطرون إلى أن يصدقوا ما لم يكونوا يستطيعون تصديقه منذ شهر واحد، وهو أن جيش فرنسا العظيم قد اندحر، وأن بناء فرنسا الشاهق قد انهار، ومن ذا الذي يستطيع أن يجادل في ذلك بعد أن أذعن قواد البر والبحر والجو لسلطان المنتصر، وتلقوا منه شروط الهدنة، وتركوه يحتل بجنده نصف أرض الوطن، وقبلوا أن ينزلوا له عما بقي لهم من عدة، وأن يجردوا له أسطولهم من سلاحه، وأن يقبلوا منه حتى فرض الرقابة على الراديو الفرنسي!
من ذا الذي يستطيع أن يجادل في أن هذا كله إن صور شيئًا فإنما يصور الهزيمة المنكرة والاندحار الغريب؟! ومع ذلك فإن عقول الناس — مهما يدركها الذهول، ومهما تملك عليها الحوادث أمرها — لا تزال قادرة على التفكير، وعلى أن تميز الخطأ من الصواب، والحق من الباطل، إلى حد ما، وهي تعلم حق العلم أن فرنسا قد خسرت موقعتين عظيمتين، ولكنها تعلم مع ذلك أنها حين طلبت الهدنة لم تكن قد فقدت كل مقدرتها على المقاومة وكل طاقتها للدفاع؛ فلها إمبراطورية ضخمة لم تمس، ولها جيش عظيم في الشرق لم يجرب قوته، وجيش عظيم آخر في أفريقيا الشمالية لم يبلِ من الحرب حلوًا ولا مرًّا، وأسطول هو الأسطول الثاني بين أساطيل أوروبا لم يفقد من قوته قليلًا ولا كثيرًا، وجيش في الألب همت إيطاليا بمهاجمته، ولكنها لم تكد تفعل حتى طلبت إليها الهدنة، ورغب إليها قواد فرنسا في الموادعة، ولها بعد هذا كله أسطول في الجو كان يبلي في نصر الجيش المنهزم بلاء حسنًا.
لها هذا كله، وربما كان لها أكثر من هذا كله، ومع ذلك طلبت الهدنة، وأذعنت لشروط المنتصر في أسابيع. هزيمة منكرة من ناحية، وقدرة على المقاومة والدفاع من ناحية أخرى. هذان أمران لا سبيل إلى الشك فيهما، ولكن لا سبيل إلى تفسيرهما والملاءمة بينهما إلا حين يبين التاريخ لهذا الجيل أو للأجيال المقبلة عن الأسباب البعيدة التي قضت على فرنسا أن تقف هذا الموقف المتناقض الغريب.
وأكبر الظن أن التاريخ حين يبين لنا عن هذه الأسباب سيعلمنا كيف نسمي هذا الموقف الفرنسي؛ أنسميه موقف الهزيمة، أم نسميه موقف الثورة؟ فإن في حياة فرنسا الآن كما نعرفها معرفةً ناقصةً جدًّا من غير شك مظاهر الهزيمة والثورة جميعًا؛ فيها مظاهر الهزيمة التي تتجلى في إلقاء السلاح والمضي في الإذعان للظافر إلى أبعد حد عرفه تاريخها الطويل؛ فليس من اليسير على فرنسا أن تقبل مراقبة الراديو، وليس من اليسير على فرنسا أن تقبل تسليم اللاجئين، وأن تقبله لا من ألمانيا الظافرة وحدها، بل من إيطاليا التي لم تنزل بها شرًّا ولم تمسسها بسوء.
وفيها مظاهر الثورة؛ فرئيس الوزراء الذي طلب هذه الهدنة وقبل شروطها القاسية قائد عظيم، قد قهر الألمان وانتصر عليهم منذ أقل من ربع قرن، يعينه قائد عظيم آخر قد أبلى في الحرب الماضية أحسن البلاء وأعظمه حظًّا من المجد. وقد دعتهما الحكومة الفرنسية السابقة للإشراف على أمور الحرب، وهي واثقة كل الثقة والشعب واثق معها كل الثقة بأنهما سيقودان فرنسا إلى النصر المؤزر والفوز العظيم، وما هي إلا أن يشرفا على أمور الحرب حتى تتظاهر الحوادث فتدفعهما إلى إلقاء السلاح.
وليس هذا كل شيء؛ فهما لا يلقيان السلاح إلا بعد أن تستقيل الوزارة التي ألقت إليهما بمقاليد الحرب، والتي كانت تريد أن تمضي بالحرب إلى أقصى غاياتها. فإذا استقالت هذه الوزارة التي استعانت بهما واعتمدت عليهما لم تخلفها وزارة سياسية، وإنما خلفتها وزارة عسكرية، ورئيسها الماريشال بيتان، ومن وزرائها قائد الجيش وأمير البحر، ولا تكاد هذه الوزارة الجديدة تنهض بأعباء الحكم، حتى تطلب الهدنة وتأمر بالتسليم. وها نحن أولاء نسمع أخبارًا غامضةً ولكن لها معناها؛ فقد يقال لنا إن هذه الحكومة الفرنسية التي أمضت الهدنة وألقت السلاح وضمت إليها سياسيًّا معروفًا بميله إلى إيطاليا، تريد أن تغير نظام الحكم في فرنسا، وأن تمس الدستور الفرنسي بألوان من الإصلاح لا نعرفها الآن، ولكنا نكاد نقطع بأنها ستحد من سلطان الديمقراطية، وستنحو بالحكم نحوًا إلا يكن ديكتاتوريًّا خالصًا، فسيكون ملائمًا للنظم الديكتاتورية القائمة عند المنتصرين.
والأمر لا يقف عن هذا الحد، ولكنا نرى أجزاء الإمبراطورية الفرنسية تتردد ترددًا ظاهرًا جدًّا بين الإذعان للحكومة التي طلبت الهدنة وقبلتها، والعصيان لهذه الحكومة والمضي في الحرب إلى جانب بريطانيا العظمى، حتى يبلغ الكتاب أجله. ثم نرى الفرنسيين المنبثين في أقطار الأرض يأبون الهدنة وينكرونها، ويعلنون أنهم يريدون أن يمضوا في الحرب إلى غايتها. ثم يفتر هذا الإباء ويخف هذا الإنكار، ويتردد الفرنسيون بين الإذعان والإباء، ويقوم قائد فرنسي ممتاز من أعضاء الحكومة السابقة، فيعلن العصيان ويدعو إلى الثورة، ويجند جيشًا يعمل مع بريطانيا العظمى غير حافل بأمر رؤسائه ولا مستجيب لما وجهوا إليه من دعاء. علام يدل هذا كله؟ على أننا نجهل من أمر فرنسا أكثر مما نعلم، وعلى أن للحياة الفرنسية في هذه الأيام مظهرين متناقضين: أحدهما مظهر الهزيمة، والآخر مظهر الثورة، ومظهر الثورة هذا ليس مقصورًا على الذين يأبون السلم الذليلة ويريدون الحرب الشريفة من أتباع الجنرال دي جول، بل هو واضح جدًّا عند الذين طلبوا الهدنة وألقوا السلاح، وأخذوا يعملون لتغيير الدستور.
فأنت ترى أن أمام التاريخ مشكلات عسيرة جدًّا، يجب أن يحلها، وأن يكشف عن حقيقة الأمر فيها لهذا الجيل وللأجيال التي تليه.
وقد حاول الماريشال بيتان في بعض أحاديثه أن يبين عن الأسباب القريبة للهزيمة والثورة أيضًا، فقال كلامًا يحسن أن نقف عنده وقفةً ما، فلعله أن يضيء لنا وجه الحق في هذه المشكلة المعضلة التي تخضع لها حياة الفرنسيين، وسترى إذا فكرت معي فيما قاله الماريشال بيتان أن فرنسا المنهزمة الثائرة مريضة، وأن مرضها ليس إلا الحضارة، والحضارة التي بلغت طورًا ربما لم يكن الفرنسيون قادرين على أن يبلغوه، أو على أن يحتملوا نتائجه وآثاره.
أسباب الهزيمة في رأي الماريشال بيتان ثلاثة: قلة الولد، وقلة الأداة، وقلة الحليف، وما من شك في أن عدد الفرنسيين أقل من عدد الألمان، وفي أن الجنود الفرنسيين كانوا يبلغون ثلث الجنود الألمان أو أكثر من الثلث قليلًا، ولكن لماذا قل عدد الفرنسيين حتى اضطرتهم قلة العدد إلى الهزيمة؟ السبب يسير جدًّا يعرفه الناس جميعًا، ويردده الناس جميعًا، وتشكو منه فرنسا منذ عهد بعيد، دون أن تجد له دواء، وهو أن الفرنسي قد تحضَّر وأمعن في الحضارة، حتى امتلأ بنفسه، وحتى أصبح الفرد كل شيء، يؤثر نفسه بكل شيء: يؤثرها بأعظم حظ ممكن من اللذة، ويجنبها أعظم حظ ممكن من الألم، ولا يقبل أن تدخل الدولة في شأنه ولا أن تعرض لأمره، ولا أن تنظم من حياته الخاصة ما تعوَّد أن يستقل بتنظيمه. فإذا ألحت عليه الدولة في أن يستكثر من الولد لم يحفل بهذا الإلحاح ولم يهتم له، وإنما يعرض عنه ويلقاه ساخرًا من الدولة ومن أمرها، ثم محصيًا لتكاليف الحياة ومشقاتها، وما تفرضه كثرة الولد على الأسرة من أعباء ثقال مختلفة، منها ما يمس الوقت، ومنها ما يمس الجهد، ومنها ما يمس الفراغ للذات الحياة المادية والعقلية أيضًا.
وكانت الحرب الماضية مغريةً لفرنسا بالإقلال من الولد؛ لأن الفرنسيين كرهوا أن يلدوا للحرب، وكانت الحرب الماضية مغريةً لألمانيا بالإكثار من الولد؛ لأن الألمانيين كرهوا أن يقلوا فيذلوا.
وكذلك مضت فرنسا مع الحضارة إلى أقصى غاياتها، فنعمت بها واستمتعت بنتائجها، وأبت ألمانيا أن تستجيب للحضارة، وآثرت أن تستجيب للغريزة الفردية وللغريزة الاجتماعية، وكانت النتيجة ما سجله الماريشال بيتان.
وليس من شك في أن فرنسا كانت أقل أداة حرب من ألمانيا، ولكن لماذا قلَّت أداة الحرب في فرنسا؟ لأن الفرنسي تحضَّر وأمعن في الحضارة، واستجاب لداعي العقل الفردي أكثر مما استجاب لداعي العقل الاجتماعي إن كان هناك عقل اجتماعي؛ فقد رأى الفرنسي أن الحياة لم تمنح للناس ليبذلوها في الجهود المضنية التي تنتهي إلى الفناء، وإنما منحت للناس لتكون عليهم نعمة، ليستمتعوا بلذاتها، وليتجنبوا آلامها. فأما الأغنياء والقادرون فأخذوا من اللذات بما أطاقوا وبأكثر مما أطاقوا، وأما الفقراء والعاجزون فطالبوا بالمساواة الاجتماعية، وظفروا منها بحظ عظيم؛ فقلت ساعات العمل، وارتفعت أجور العمال، وتقرر مبدأ الراحة المأجورة. ومضت فرنسا من الإنصاف الاجتماعي إلى أمد بعيد حقًّا، واستطاع الفرنسي في الأعوام الأخيرة أن يرى نفسه بحق أعظم الأوروبيين حظًّا من الحضارة، وأدنى الأوروبيين إلى تحقيق العدل الاجتماعي. وفي أثناء ذلك كان الفرد الألماني والإيطالي والروسي يفنى في الجماعة فناءً تامًّا، لا يوجد لنفسه، وإنما يوجد للدولة، لا ينعم بالحياة لأن من حقه أن ينعم بالحياة، وإنما يحيا لأن من حق الدولة أن يكون لها أفراد أحياء، يعملون لها ويفنون فيها أثناء السلم، ويموتون في سبيلها أثناء الحرب.
وليس من شك في أن فرنسا قد كانت قليلة الحليف في هذه الحرب بالقياس إلى الحرب الماضية؛ فقد كان معها في الحرب الماضية إيطاليا وأمريكا، وقد خذلتها أمريكا في هذه الحرب، وخاصمتها إيطاليا، وكان معها في الحرب الماضية روسيا إلى حد ما؛ ولكن روسيا خذلتها في هذه الحرب منذ أولها، وقد انضم إلى فرنسا في هذه الحرب حلفاء كثيرون، ولكنهم انضموا إليها بعد فوات الوقت، انضموا إليها لتعينهم لا ليعينوها، ومنهم من طلب إليها المعونة فلما قدَّمتها إليهم خذلوها وأسلموها للعدو كما فعل ملك بلجيكا. فقد كان كثير من حلفاء فرنسا في هذه الحرب أعباء عليها لا أعوانًا لها، ولكن لماذا قلَّ حلفاء فرنسا في هذه الحرب؟ لأن فرنسا تحضَّرت، وأمعنت في الحضارة، وآثرت نفسها بالعافية واللذة ونعيم الحياة أثناء السلم، فلم تؤمن الأمم الصغيرة بقوتها، ولم تعتمد على نصرتها، فآثرت نفسها بالعزلة وانتظرت من الحياد أمنًا فلم تلق منه إلا شرًّا.
وأي شيء أبلغ في تصوير عجز فرنسا عن إذاعة الثقة في نفوس الأمم الصغيرة من أنها ضمنت استقلال تشكوسلوفاكيا ثم تركتها نهبًا لهتلر! ثم ضمنت استقلال اليونان ورومانيا، ثم هي لا تستطيع أن تصنع لليونان ورومانيا شيئًا! ومن قبل ذلك حالفت بولندا، ثم لم تستطع أن تغني عنها من ألمانيا وروسيا شيئًا!
وكذلك أمعنت فرنسا في الحضارة حتى انتهت إلى مثل ما انتهت إليه «أثينا» في آخر القرن الخامس قبل المسيح، حين هزمتها «أسبرتا» أشنع الهزيمة وأشدها نكرًا، وجعلت تجرِّد أسطولها من سلاحه، وتدك حصونها على صوت المزمار، على حين كان سقراط يطوف بفلسفته الرائعة في الشوارع، ويخلب العقول بحواره البديع في الملاعب الرياضية، وأصاب فرنسا ما أصاب أثينا أثناء القرن الرابع قبل المسيح، حين هزمها المقدونيون شر الهزيمة، على حين كان فلاسفتها وخطباؤها وممثلوها يخلبون العقول ويبهرون الألباب بروائع الأدب والفلسفة والفن.
ومن الحق أن فرنسا في هذه الأعوام الأخيرة كانت أعظم البلاد الأوروبية حظًّا من الحياة العقلية الرائعة، والحياة الفنية الممتازة، والحياة المادية المترفة، فلما جدَّ الجد واصطدمت الحضارة العقلية الخالصة بالحضارة المادية الخالصة كانت النتيجة ما سجَّله الماريشال بيتان.
وللحقائق الواقعة الموقوتة خطرها، ولكن لها آثارها ونتائجها؛ فقد انهزمت أثينا أمام أسبرتا وأمام فيليب وأمام الإسكندر، ولكن أثينا كانت أعظم للناس نفعًا وأبقى فيهم ذكرًا من أسبرتا ومن فيليب ومن الإسكندر، ومما لا شك فيه أن الناس يذكرون أسبرتا وفيليب والإسكندر، ولكنهم يذكرون هذه الأسماء، ثم لا يزيدون على ذلك شيئًا؛ فإذا ذكروا أثينا فإنهم لا يكتفون بذكرها، ولكنهم يجدون عندها غذاء العقول والأرواح والقلوب. ماذا أقول! بل هم يجدون عندها مادة هاتين الحضارتين: حضارة العقل وحضارة الجسم.
وبعد؛ فقد قُهرت فرنسا وثارت، وليست هذه أول مرة قُهرت فيها فرنسا وثارت، ولكن التاريخ قد علمنا أن فرنسا نافعة للعالم حين تنتصر وحين تنهزم وحين تهدأ وحين تثور. والشيء الذي لا أشك ولا يمكن أن أشك فيه هو أن فرنسا التي أدهشت العالم بانتصارها وانهزامها وهدوئها وثورتها، لم تفرغ من إدهاش العالم، وستدهشه وستنفعه، وسيسرع العالم الذي هزم فرنسا الآن إلى معونتها وتأييدها؛ لأن العالم لا يستطيع أن يستغني عن فرنسا كما قال وزير خارجيتها منذ أيام.
تبعة المفكرين
يظهر أن الحوادث الواقعة التي تستبق في سرعة مدهشة، وفي وضوح نسبي كما يقال، ستغني هذا الجيل عن كثير جدًّا من جهود المؤرخين في التأويل والتعليل وفي الفلسفة والتحليل؛ فالأمور في هذا العصر الحديث تجري على قوانين واضحة وأصول بينة؛ وربما كان الظاهر منها أكثر من المستور، والجلي منها أكثر من الغامض الخفي، ومهما يكن من شيء فلن يتعب الذين سيحاولون فهم الموقف الفرنسي في هذه الأيام، كما تعب وكما سيتعب الذين حاولوا وما زالوا يحاولون فهم المواقف الفرنسية في الحرب الماضية وفي الحروب التي سبقتها.
ذلك أن حياة الفرنسيين بعد الحرب الماضية كانت واضحةً جليةً، وكانت أحداثها الكبرى تصدر عن الشعب أكثر مما تصدر عن الحكومة، وعن أحزابها الكبرى أكثر مما تصدر عن أفراد قليلين، وليس معنى هذا أن كل شيء واضح في الكارثة الفرنسية الواقعة، ولكن الوضوح فيها أكثر من الغموض، والجلاء فيها أعظم من اللبس والالتواء.
وقد كنت في الأسبوع الماضي مترددًا متحفظًا في تصوير الكارثة الفرنسية، أصفها بالهزيمة، وأصفها بالثورة، وأترك للتاريخ تجلية الحق في ذلك، ولكن ذلك الفصل الذي كتبته في الأسبوع الماضي، وفي مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي، لم يكد يظهر في الثقافة، بل لم يكد يرسل إلى الثقافة، حتى جاءت الأنباء من هنا وهناك، تكشف عن بعض ما كان غامضًا، وتجلي بعض ما كان مستورًا. فلم يبق الآن شك، ولا سبيل إلى الشك، أن فرنسا ثائرة. ولم يبق الآن شك في أن عناية فرنسا المنهزمة بتنظيم الثورة أشد من عنايتها بتدارك أعقاب الهزيمة. ثم لم يبق الآن شك في أن هناك إلى جانب الثورة الرسمية في أرض الوطن الفرنسي ثورة أخرى في أرض الغربة ليست أقل منها حدةً وعنفًا.
لم تمضِ أسابيع على إذعان فرنسا للمنتصر، حتى أخذ الماريشال بيتان وأعوانه يغيرون الدستور، وينحرفون به عن الديمقراطية انحرافًا ظاهرًا جدًّا، وينحرفون به إلى نظام الدكتاتورية، كما يرى في ألمانيا وإيطاليا. فنحن نسمع كلامًا عن التمثيل النقابي، وعن الحد من سلطة البرلمان، والبسط في سلطان الحكومة، وضمان الاستقرار والثبات لهذه الحكومة، بالتقليل من خطر المسئولية الوزارية، ونحن نسمع كلامًا عن تنظيم الأسرة، وعن تنظيم العمل، وعن محاولة تحقيق العدل الاجتماعي على نحو جديد، وعن محاولة توجيه الشعب الفرنسي إلى الزراعة وصرفه عن الصناعة؛ لأن في الزراعة اطمئنانًا إلى الأرض وفراغًا لها، وانصرافًا إلى استثمارها عن التفكير في السياسة، وعن المطالبة بالحرية — وبحرية الأحزاب خاصةً — وعلى المطالبة بالمساواة الاجتماعية، وعن احتلال المصانع، وإفساد أدوات العمل؛ لأن في الزراعة انصرافًا إلى هذا الكد الهادئ العنيف، الذي يتعب الجسم ويريح العقل، ولأن الصناعة هي مصدر الثورات الاجتماعية التي اضطربت لها أوروبا في القرن الماضي وفي هذا القرن أشد الاضطراب.
وليس من المحقق أن الفرنسيين الثائرين يريدون أن يصرفوا مواطنيهم عن الصناعة خضوعًا للمنتصر وسعيًا إلى تموينه كما يقول القائلون؛ ولكن من المحقق أن المنتصر يرضيه أن تنصرف فرنسا عن الصناعة ليستأثر هو بها، ويرضيه أن تنصرف فرنسا إلى الزراعة ليجد فيما تنتجه الأرض الفرنسية بعض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب، وليس المهم أن ينجح الثائرون الفرنسيون في تحقيق أغراضهم هذه أو يخفقوا، ولكن المهم أنهم قد وضعوا لأنفسهم هذا البرنامج، وسعوا إلى تحقيقه، بل أسرعوا إلى تحقيقه، وكل هذا قد عرفناه في أيام قليلة، وعرفنا منه أن الحكومة المنهزمة في فرنسا ليست منهزمةً فحسب، ولكنها منهزمة ثائرة، وبقي أن نعرف أكانت الهزيمة مصدرًا للثورة، أم كانت الثورة مصدرًا للهزيمة؟
ولكن هناك ملاحظة أخرى يحسن أن نسجلها قبل أن نقف عند تحقيق الصلة بين الهزيمة والثورة في فرنسا، وقد أشرت في الفصل السابق إلى أن لفرنسا إمبراطورية ضخمةً لم تمس، وجيشًا في الشرق الأدنى لم يجرب قوته، وجيشًا آخر في أفريقيا الشمالية لم يذق مرارة الحرب، وأسطولًا عظيمًا لم يلق من أحد كيدًا، وقد كان الظاهر الجلي بعد انهزام الماريشال بيتان أن الإمبراطورية لا تريد إلقاء السلاح، وأن جيش الشرق لا يريد أن يستسلم، وأن جيش أفريقيا الشمالية لا يريد أن يكف عن القتال، وأن الأسطول لا يريد أن يجرَّد من سلاحه قبل أن يجرب هذا السلاح، ولكن أيامًا تمضي وإذا الإمبراطورية مطيعة لسلطان الماريشال بيتان، وإذا الجيشان يؤثران العافية، وإذا الأسطول يأبى على حلفاء فرنسا ما يقبله من أعداء فرنسا. فما تأويل هذا كله؟
تأويله يسير جدًّا فيما أعتقد، وهو أن أحزاب اليمين أو خصوم الديمقراطية يؤثرون كل شيء على أن تفلت منهم هذه الفرصة التي تتيح لهم دفن الجمهورية الثالثة وإقامة نظامهم الجديد، وهم بالطبع لا يعلنون أنهم يريدون أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه كما قال بعض وزرائنا السابقين، وإن كان كل شيء يدل على أنهم يضيعون ما يمكن تضييعه؛ فهم قد أضاعوا الأسطول وقد كانوا يستطيعون إنقاذه لو استجابوا ما دعتهم إليه حليفتهم السابقة، وهم سيضيعون من غير شك أجزاء من إمبراطوريتهم، ولعلهم أن يضيعوا خير أجزاء هذه الإمبراطورية، ولعلهم كانوا يستطيعون لو قاوموا أن يحتفظوا بهذه الإمبراطورية.
ولكن هذه المحنة قد أظهرت — كما أظهرت المحن السابقة في فرنسا — أن شهوة السياسة الحزبية أقوى من فكرة الوطنية، وأن الثائرين إذا ثاروا لم يحفلوا بشيء في سبيل ثورتهم، ولم يردهم عن هذه الثورة خطر مهما يكن. والمهم هو أن أعراض الثورة في فرنسا أظهر جدًّا من أعراض الهزيمة، وأن جماعة من القادة والساسة الفرنسيين قد انتهزوا فرصة الحرب وانهزام فرنسا في موقعتين من مواقعها، ليثوروا بوطنهم، ويحولوا سياسته الداخلية والخارجية تحويلًا تامًّا.
بقي أن نعرف مكان الشعب من هذه الثورة، ورأيه فيها، واستعداده لها، ونفوره منها؛ وهذا ما ستنبئنا به الأيام أو الأسابيع أو الشهور المقبلة، ولكن هناك أشياء تعيننا إلى حد بعيد على التكهن بموقف الشعب من هذه الثورة؛ وهذه الأشياء يعرفها الذين اتصلوا بالشعب الفرنسي من قريب كما اتصلت به في هذه الأعوام الأخيرة، والذين قرءوا آثار المفكرين الفرنسيين وأمعنوا في قراءتها كما أمعنت فيها منذ استطعت أن أقرأ اللغة الفرنسية وأفهم عن كتابها، ولن أتحدث من هذه الأشياء في هذا الفصل إلا عن شيء واحد، هو تبعة المفكرين الفرنسيين في كل ما أصاب فرنسا من شر الهزيمة والثورة جميعًا.
فقد كان الفرنسيون يفخرون — وكان من حقهم أن يفخروا — بأنهم قد انتهوا من حرية الرأي إلى ما لم ينته إليه شعب من شعوب الأرض، ظفروا بحرية الرأي بالقياس إلى الدولة، فكانوا يقولون ما يشاءون، ويعملون ما يشاءون؛ وكانت الدولة لا تستطيع أن تتعرض لقائل مهما يقل، ولا تستطيع أن تتعرض لعامل مهما يعمل، إلا أن يحاول إفساد الأمن أو قلب النظام، وظفروا بالحرية أمام الشعب؛ فكان الرأي العام في فرنسا سمحًا إلى أبعد حدود السماحة، لا يسأل قائلًا عن قوله ولا عاملًا عن عمله، وإنما يرضى عما يحب ويسخط على ما يكره، دون أن يؤثر ذلك في حرية القائلين والعاملين. ونشأ عن هذه الحرية رقي رائع لحركة العقل، ففكر الناس كما أرادوا، وقال الناس كما فكروا، وعمل الناس كما قالوا. والفرنسي في العصر الحديث كالأثيني في التاريخ القديم، مشغوف بالسياسة كثير التفكير فيها؛ ومن هنا كثرت الأحزاب السياسية في فرنسا كثرةً لم تعرفها البلاد الأوروبية الأخرى، والفرنسي كما يحب الحرية يحب العدل الاجتماعي وما ينتج عنه من المساواة بين الأفراد؛ ولعله لم يعش منذ القرن الثامن عشر لفكرة كما عاش لفكرة الحرية والعدل الاجتماعي؛ ومن هنا كثر التطرف في الآراء السياسية والاجتماعية، وظهرت أعراض الاشتراكية والشيوعية في فرنسا قبل أن يظهر كارل ماركس ولينين. والفرنسي مؤمن بشخصيته، وبشخصيته العقلية خاصةً، وهو ساخط أبدًا، يسخط جادًّا ويسخط هازلًا، ولن ترى فرنسيًّا راضيًا مهما يكن حظه من النعمة؛ ولن ترى فرنسيًّا مطمئنًا مهما يكن حظ فرنسا من الأمن والاستقرار.
والفرنسي متهاون متواكل، لا تظهر قوته ومضاؤه إلا حين تدهمه الكوارث وتفجئه الخطوب، وقد انتصر الفرنسيون في الحرب الماضية، فخيل إليهم أنهم قتلوا الحرب ودفنوها، وأنها لن تُبعَث من مرقدها. وكتب كورتلين يقول: «إنه يغفر للحرب الماضية ذنوبها؛ لأنها آخر حرب ستعرفها الإنسانية.»
اطمأن الفرنسيون إذًا إلى النصر وإلى الثروة والسيادة والنعيم، وجعل المحاربون القدماء يحاولون أن يستمتعوا بثمرات الانتصار، فوفق إلى ذلك أقلهم، وحرم ذلك أكثرهم، فبطر الموفقون وسخط المحرومون، وجعل الكُتاب يصورون بطر هؤلاء وسخط هؤلاء. فأما الذين صوروا البطر فقد بغَّضوا الحرب إلى الناس؛ لأنها تضيع على الأغنياء غناهم وعلى الناعمين نعمتهم، وأما الذين صوروا السخط فقد بغضوا الحرب إلى الناس؛ لأنها لم تغن عن المحاربين شيئًا، وإنما خيبت آمالهم وآذتهم في أنفسهم وأموالهم، ثم انتهت بهم إلى نصر ليس خيرًا من الهزيمة.
وكُتاب آخرون نظروا إلى الأمور في أنفسها، وبغضوا الحرب إلى الناس؛ لأنها عدو الحضارة ومصدر الموت والفناء والدمار. وبينما كان الفرنسيون في هذه الألوان من الخلاف، لا يتفقون إلا على بغض الحرب، وإن اختلفوا في أسباب هذا البغض، ظهرت المذاهب السياسية الجديدة في إيطاليا وألمانيا، واشتد الصراع بين سياسة الحكم الإيطالية والألمانية والروسية، ولم يكن بد للفرنسيين من أن ينقسموا في أمر هذه السياسة شيعًا وأحزابًا، ومن أن يجادلوا فيها، كما تعودوا أن يجادلوا، أحرارًا مسرفين في الحرية، والشعب الفرنسي مثقف يعيش مع المفكرين الممتازين من كُتابه، يقرأ لهم، ويشايع بعضهم، ويخاصم بعضهم الآخر؛ فكان اختلاف الكُتاب الفرنسيين في نظام الحكم وفي العدل الاجتماعي مصدرًا لاختلاف الشعب الفرنسي فيها، ولم تأتِ سنة ١٩٣٦ حتى كان هذا الخلاف قد بلغ أقصاه، وانتهى إلى نتائجه السياسية والاجتماعية الأولى، حتى كانت الجبهة الشعبية، وكان الإصلاح الاجتماعي العنيف الذي كان إلى الثورة أقرب منه إلى أي شيء آخر.
وهنا ظهرت المقاومة، واشتد رد الفعل كما يقولون، وانتقل الأمر من صراع عقلي إلى صراع عملي: قوم يريدون أن يظفروا بالعدل، وقوم يريدون أن يحتفظوا بما في أيديهم. وشُغِل الفرنسيون بهذا كله عن حقائق السياسة الخارجية، ووضع الفرنسيون أصابعهم في آذانهم، وأبوا أن يسمعوا ما كان سفراؤهم يرسلون إليهم من النذير، وليس أصدق من تصوير حال الفرنسيين هذه من موقفهم في الثورة الإسبانية؛ فقد تطوع بعضهم لنصر الجمهورية، وتطوع بعضهم لنصر الثورة، وحارب الفرنسي الفرنسي، وسعى الفرنسي للفرنسي، وانتصر بعض الفرنسيين على بعضهم الآخر.
وأقبلت هذه الحرب متثاقلةً متباطئةً، تدنو حينًا وتنأى حينًا، وتقرب يومًا وتبعد يومًا، حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وأصبحت الحرب أمرًا واقعًا، صادفت شعبًا لم يكن يفكر في الحرب ولا يريدها، وإنما كان يفكر في الثورة ويتهيأ لها، وكانت أحزاب اليمين قد استطاعت أن تبلوَ من الحكم شيئًا، فأبعدت الاشتراكيين والشيوعيين، وحولت دلادييه عن حلفائه، وجعلت تنقض أصول الإصلاح الاجتماعي قليلًا قليلًا. فلما أعلنت الحرب صرَّح الشر بين هذه الأحزاب وبين الشيوعيين، وجعل يتهيأ ليكون صريحًا بينها وبين الاشتراكيين: ثم كان ما كان مما لست أذكره؛ لأنك تعلمه حق العلم.
فأنت ترى أولًا أن كل شيء في فرنسا كان يهيئ لثورة عنيفة، يصطدم فيها طلاب العدل الاجتماعي بأصحاب رأس المال، وأنت ترى ثانيًا أن الحرب قد أعانت أصحاب رأس المال على تحقيق ثورتهم، وأنت ترى آخر الأمر أن المفكرين من كُتاب فرنسا وفلاسفتها وقادة الرأي فيها هو المسئولون عن هذا؛ لأنهم أجمعوا على شيئين: تبغيض الحرب إلى الناس من جهة، وتحبيب الثورة إلى الناس من جهة أخرى. فأما تبغيض الحرب إلى الناس فقد صرفهم عن الاستعداد لها، وأما تحبيب الثورة إلى الناس فقد جعل بعض الفرنسيين لبعض عدوًّا. وقد قرأت منذ أعوام كتابًا ضخمًا يدرس أثر مدرسة المعلمين العليا في السياسة الفرنسية، ويبين أنه أثر منكر، وصاحب هذا الكتاب من أحزاب اليمين بالطبع، وهو يعيب على مدرسة المعلمين أنها أخرجت لفرنسا دعاة الديمقراطية والاشتراكية في الجمهورية الثالثة؛ فهي قد أخرجت جوريس وبلوم وﻫبريو وبان ليفيه ودلادييه، وكان الناس يقولون: إن الجمهورية التي انهزمت في إسبانيا كانت جمهورية الأساتذة والمعلمين. فهل نفهم من هذا أن رجال التفكير والثقافة قد هموا بأمر ثم عجزوا عنه، وقد آن لهم أن يُرَدوا إلى كتبهم ودروسهم، وأن يصرفوا عن السياسة صرفًا؟ مسألة فيها نظر! وأرجو أن أوفق للحديث عنها في مقال آخر.
بين الثقافة والسياسة
إلى أي حد أثر المفكرون والمثقفون في الحياة السياسية الفرنسية؟ وإلى أي حد يمكن أن يُسألوا عن هذه الكارثة التي انهار لها بناء الجمهورية الثالثة؟
سؤال يحتاج الجواب عنه إلى كثير من التفكير، وإلى كثير من الإنصاف بنوع خاص.
وقد ينبغي أن ينظر إلى هذه المسألة من ناحيتين مختلفتين: إحداهما الناحية التي ينظر منها خصوم الجمهورية الثالثة، والتي نظر منها مؤلف الكتاب الذي أشرت إليه في الحديث الماضي عن مدرسة المعلمين العليا وأثرها في السياسة الفرنسية؛ وهي ناحية اشتغال العلماء والمثقفين بالسياسة العاملة، ونهوضهم بأعباء الحكم، ونجاحهم أو إخفاقهم فيما حاولوا من تدبير أمور فرنسا.
وليس من شك في أن مدرسة المعلمين العليا قد كان لها أثر ممتاز في حياة الجمهورية الثالثة، وليس من شك أيضًا في أن غيرها من معاهد التعليم وكليات الجامعة الفرنسية قد شاركت في قيادة السياسة الفرنسية واحتمال تبعاتها، ويمكن أن تقسم هذه التبعات في شيء من الإجمال بين مدرسة المعلمين العليا وكلية الحقوق؛ فأكثر الساسة الفرنسيين أثناء الجمهورية الثالثة قد تخرجوا في هذا المعهد أو ذاك، وإن كان حظ مدرسة المعلمين العليا أظهر من حظ كلية الحقوق إلى حد ما، فمدرسة المعلمين العليا قد أخرجت زعماء الاشتراكية والديمقراطية؛ فهي قد أخرجت جوريس وبلوم، وهي قد أخرجت وﻫبريو وبان ليفيه ودلادييه، وهي قد أخرجت غير هؤلاء من الذين ألَّفوا الوزارات أو شاركوا فيها، ومن الذين قادوا الأحزاب ونهضوا بزعامة الشعب، ويمكن أن يقال إن فرنسا مدينة بديمقراطيتها واشتراكيتها وشيوعيتها لمدرسة المعلمين وكلية الآداب، ومدينة بشيء من هذا لكلية العلوم أيضًا، ويمكن أن يقال في شيء من الإجمال أيضًا إن فرنسا مدينة بمحافظتها الجمهورية وبديمقراطيتها المعتدلة لكلية الحقوق ومدرسة العلوم السياسية.
والمسألة الخطيرة حقًّا هي أن نعرف هل أخفقت الجمهورية الثالثة؟ وهل كان إخفاقها نتيجة لنهوض هؤلاء الأعلام من رجال الثقافة بأعباء الحكم؟
أما أن الجمهورية الثالثة أخفقت فذلك شيء لا أستطيع أن أقره ولا أن أطمئن إليه؛ ويكفي أن نعلم أن هذه الجمهورية الثالثة قد أنشأتها الهزيمة، فلم تلبث أن نهضت بالشعب الفرنسي، وردت له مكانته الممتازة في أوروبا، وأنشأت له في ثلاث عشرات من السنين هذه الإمبراطورية الضخمة التي جعلته من أقوى شعوب الأرض وأغناها وأعظمها بأسًا. ثم هي أصلحت من شئونه الداخلية إصلاحًا غريبًا مدهشًا حقًّا، فنشرت فيه العلم إلى أبعد مدى ممكن، وحققت فيه من العدل الاجتماعي شيئًا كثيرًا، ثم أصلحت من شئون الإدارة ما أفسدته الإمبراطورية الثانية. فإذا كان هذا كله خيرًا كما تعارف الناس على أن هذا كله خير فلا يصح أن يقال إن هذه الجمهورية الثالثة قد أخفقت.
ثم هي لم تقف عند هذا، ولكنها دفعت إلى الحرب الماضية أو اندفعت إليها، وكانت أقسى حرب عرفها التاريخ إلى ذلك الوقت، فثبتت لها وانتصرت فيها، وثأرت للشعب الفرنسي من الهزيمة، وردت إليه الألزاس واللورين. فإذا كان هذا كله خيرًا كما تعارف الناس فلا يمكن أن يقال إن هذه الجمهورية قد أخفقت، ولا يمكن أن يقال إذًا إن المثقفين من رجال الأدب والعلم والحقوق قد أخفقوا فيما دبروا من أمرها؛ وإنما الذي يجب أن يقال هو أن هذه الجمهورية قد نجحت نجاحًا باهرًا، وأن قادتها من زعماء الديمقراطية قد وفقوا لخير ما كان يمكن أن يوفقوا له.
ومع ذلك فقد خسرت الجمهورية الثالثة موقعتين خطيرتين في هذه الحرب، وانتهت بها هذه الخسارة إلى التسليم، وقضى هذا التسليم على وجودها، وعرَّض فرنسا لوضع نظام جديد من نظم الحكم قد يكون قريبًا من الديمقراطية، وقد يكون بعيدًا عنها، وقد يكون ملائمًا أو غير ملائم للنظم الدكتاتورية في ألمانيا أو في إيطاليا؛ وهذا كله إخفاق من غير شك.
فمن المسئول عن هذا الإخفاق؟ أهي الجمهورية الثالثة من حيث إنها جمهورية ثالثة؟ أهم المثقفون الذين نهضوا بالأمر فيها من حيث إنهم مثقفون؟
هنا يجب الإنصاف، ويجب الحرص على ألا ترسل الأمور إرسالًا، وعلى ألا نصدر في أحكامنا عن الهوى أو النظر القصير. إن الذي أخفق في هذه الحرب إلى الآن ليست فرنسا وحدها، وليست الديمقراطية وحدها، وإنما أخفقت أوروبا كلها؛ وهي لم تخفق بانهزام فرنسا، وإنما أخفقت بإعلان الحرب، بل أخفقت قبل إعلان الحرب: أخفقت بقيام الدكتاتورية في ألمانيا وفي إيطاليا وفي روسيا، وفي غيرها من البلاد الأوروبية الأخرى؛ أخفقت لسبب يسير قريب، وهو أنها لم تحسن تنظيم السلم بعد أن فرغت من الحرب الماضية، لم تحسن ضبط النفس ولا تحقيق العدل، لم تكن قويةً كل القوة ولم تكن ضعيفةً كل الضعف، لم تكن عادلةً كل العدل، ولم تكن جائرةً كل الجور، وإنما كانت شيئًا بين ذلك، فأقرت سلمًا مختلطةً مشوهةً، بريئةً إلى حدٍّ بعيد من الإنصاف والقصد، مثيرةً إلى حدٍّ بعيد للبغض والحقد، مفسدةً للعلاقات بين الغالب والمغلوب، بل مفسدةً للعلاقات بين المنتصرين أنفسهم. وأي شيء أدل على ذلك من فساد العلاقات بين إيطاليا وحلفائها القدماء، ومن اضطراب الأمر بين فرنسا وإنجلترا في غير موطن من مواطن السياسة قبل إعلان هذه الحرب!
فتبعة الإخفاق إذًا ليست على فرنسا وحدها، ولا على نظام الحكم فيها، ولا على ثقافة رجال الحكم فيها، وإنما هي على أوروبا كلها، وعلى الذين وضعوا معاهدات الصلح، وعلى الذين ساسوا هذا الصلح بعد أن استقرت الأمور. والمهم هو أن نعرف أن الجمهورية الثالثة ورجالها المثقفين من مدرسة المعلمين العليا أو من كلية الحقوق أو من غير هذين المعهدين، لا ينبغي أن يحتملوا وحدهم تبعة الكارثة الفرنسية. على أن هناك الناحية الثانية التي أشرت إليها في أول الحديث، والتي يمكن أن ينظر منها إلى حظ الثقافة والمثقفين فيما أصاب فرنسا من الهول. وهي ناحية الثقافة من حيث هي ثقافة، من حيث هي ترقية للعقل وتوسيع للأفق ومَدٌّ لآماد الفكر الإنساني، من حيث هي مصدر لشعور الفرد بحقه وتقديره لواجبه، ومن حيث هي مصدر لشعور الجماعة بحقها وتقديرها لواجبها وثباتها للخطوب واحتمالها لأثقال الحياة. وهذه الناحية جديرة بالعناية حقًّا؛ فهي وحدها الخطيرة، وهي وحدها ذات الأثر البعيد في حياة الشعوب، وفي قدرتها على البقاء وقوتها للمقاومة واستعدادها للرقي.
والشيء الذي ليس فيه شك ولا يمكن أن يكون فيه شك هو أن أوروبا مدينة برقيها السياسي والاجتماعي والمادي للثقافة وللثقافة وحدها؛ فالثقافة هي التي هَدَت علماء أوروبا إلى استكشاف العالم الحديث، ثم إلى التفكير في تراث القدماء، ثم إلى إصلاح التفكير، ثم إلى تجديد الفلسفة، ثم إلى تغيير قيم الأشياء وتغيير الحكم عليها. والثقافة هي التي هدت أوروبا إلى فلسفة القرن الثامن عشر، وإلى ما أنتجت هذه الفلسفة من الاعتراف بحرية الفرد والجماعة، وبحقوق الإنسان في أمريكا وفي فرنسا. والثقافة هي التي هدت أوروبا وأمريكا إلى الديمقراطية الحديثة، ثم إلى ما نشأ عنها من نظم الحكم الأخرى. فكل ما تمتاز به أوروبا وأمريكا من رقي وتفوق وسيادة على الطبيعة وعلى الأمم الضعيفة إنما هو نتيجة للثقافة وللثقافة وحدها.
وقد كان من الأوليات التي أنتجتها الثقافة في حقول الأوروبيين والأمريكيين: أن العلم حق للناس جميعًا كالطعام والشراب والهواء، وأن من أوجب واجبات الدولة: أن تمكن الناس جميعًا من أن يتعلموا. وقد أصبح هذا أصلًا من أصول الحياة الحديثة ومقومًا من مقوماتها؛ فلم يعرف العالم عصرًا انتشر فيه العلم أو قل انتشرت فيه المعرفة كهذا العصر، ولم يعرف العالم عصرًا كثرت فيه أدوات المعرفة كهذا العصر؛ فالمدارس تنشر التعليم في جميع الطبقات، والمطابع تنشر الكتب لجميع الطبقات، والصحف تذيع المعرفة في جميع الطبقات، والراديو يقدم المعرفة إلى جميع الطبقات. ومعنى ذلك: أن الشعور بالحق والواجب لم يبق مقصورًا كما كان على قلة من الناس، وإنما شاع في كثرة الناس، ومعنى ذلك: أن الطموح إلى العدل الاجتماعي لم يبق مقصورًا على الفلاسفة والمثقفين الممتازين، وإنما شاع بين الناس جميعًا، ولكن معنى ذلك أيضًا أن حظوظ الناس من المعرفة ليست متفقةً ولا مؤتلفةً ولا متقاربةً، وأن تقديرهم للأشياء ليس متشابهًا، وأن مُثُلهم العليا ليست متقاربةً؛ وإذًا فالثقافة التي هدت أوروبا وأمريكا إلى الرقي السياسي والاقتصادي والاجتماعي قد أفسدت الأمر بين الطبقات في أوروبا وأمريكا، والثقافة التي أتاحت التفوق لأوروبا وأمريكا قد عرَّضت أوروبا وأمريكا لما تشقيان به من ألوان الخلاف السياسي العنيف الذي يدعو إلى الحرب بين الأمم، والذي يدعو إلى الصراع بين الطبقات، والذي ينتهي بالعالم إلى حيث نراه الآن. وقد كان حظ فرنسا من خير الثقافة وشرها كحظ غيرها من الأمم الأوروبية أو أعظم من غيرها من الأمم الأوروبية؛ لأنها تفوقت على غيرها من الأمم في الثقافة، فتفوقت على غيرها من الأمم فيما تنتجه الثقافة من الخير والشر. تخلصت من أعقاب الهزيمة بفضل الثقافة، وكونت إمبراطوريتها الضخمة بفضل الثقافة، وحققت ما حققت من الإصلاح والعدل الاجتماعي بفضل الثقافة، وانتصرت في الحرب الماضية بفضل الثقافة، وأخذت تنعم بالسلم التي فرضتها كما ينعم المثقفون المسرفون في الثقافة، وأخذت تحلل وتعلل، وتعمل وتكسل، وتحسن وتسيء، كما يعمل المثقفون المسرفون في الثقافة، فانتهت إلى ما انتهت إليه.
وأي أمة من الأمم تبلغ من الثقافة ما بلغته فرنسا، وتسلك بالثقافة الطريق التي سلكتها فرنسا، منتهية من غير شك إلى مثل ما انتهت إليه فرنسا؛ لا ينقذها من ذلك إلا أن تحدَّ من ثقافتها، وإلا أن تكون هذه الثقافة تكوينًا خاصًّا يلغي آثارها، ويغير نتائجها، ويعلم الناس وكأنه لا يعلمهم، ويهذب الناس وكأنه لا يهذبهم. وآية ذلك: أن ما ظفرت به ألمانيا من التفوق كان ثمنًا لتضييق الثقافة وتحديدها وتشويهها، والحجر على حرية العقل، وما نشأ عن ذلك من إلغاء شعور الفرد بحقه، ثم من إلغاء طموحه إلى الحرية واستمتاعه بها؛ وقل مثل ذلك في إيطاليا، وقل مثله في روسيا أيضًا.
وإذًا فنحن بين طريقين: إما أن نستقبل الثقافة أحرارًا ونقبلها حرة، ونمضي فيها إلى أبعد مدى وأقصى أمد، ونقبل نتائج هذا كله، وهي التفوق مرة والإخفاق مرة أخرى، والنهوض حينًا والعثور آخر، وإما أن نستقبل الثقافة مقيدين، ونقبلها ضيقةً محدودةً، ونصورها كما نشاء نحن لا كما تشاء هي، كما تشاء القلة الطاغية، لا كما تشاء الكثرة الطامحة إلى الحق والعدل والحرية. وإذًا فهو التفوق المادي والغلب الغليظ الخشن الذي لا تَرَف فيه ولا نعمة ولا فن، وإنما هي القوة، والقوة وحدها، والقوة التي إن ظفرت الآن فهي منهزمة غدًا؛ لأن العقل لا سبيل إلى قهره المتصل.
أما أنا فأختار الطريق الأولى، وأقبل أن أتعرض لما تتعرض له الأمم الحرة من ألوان الخير والشر، ومن اختلاف الخطوب؛ فإن الحياة الحرة التي يملؤها الطموح الحر إلى العدل، والاستمتاع الحر بالحق، والابتهاج الحر بنعيم المعرفة، خليقة أن نشتريها بأغلى الأثمان.