إلى صديقي أحمد أمين
أخي العزيز
قرأت فصلك الأخير الذي تناولت فيه النقد فصوَّرت ما رأيت من ضعفه، والتمست له العلل والأسباب. وما أكثر ما يمكن أن يتصل بينك وبيني من الجدل لو أنني وقفت عند هذه القضايا التي أرسلتها إرسالًا، وحكمت بها على النقد قبل عشرين سنة، وعلى النقد الآن، وعلى الأدب قبل عشرين سنة، وعلى الأدب الآن! ولكن الفصل فصل صيف، لا يسمح بالجدل الطويل والحوار المُتَّصِل؛ لأننا مشغولون عن هذا وذاك بما تعلم من أعمالنا اليومية الثقيلة التي يقتضيها آخر النشاط الدراسي، وأول هذه الأيام التي يفرغ فيها كُلٌّ مِنَّا لنفسه ودرسه وراحته وراحة من يتصلون به، فلن أجادلك في أكثر هذه القضايا التي لا أكاد أقبل رأيك فيها. ولو أني أرسلت نفسي على سجيتها لما جادلتك في شيء ممَّا ألممت به في هذا الفصل، ولقرأته كما أقرأ كثيرًا ممَّا تكتب مستمتعًا دائمًا، عارفًا أحيانًا، ومنكرًا أحيانًا، ومتحدثًا إليك بما أعرف من آرائك وما أنكر.
نعم، لو أني أرسلت نفسي على سَجِيَّتِها لاكتفيت بما كان بينك وبيني من حديث أول أمس، ولكني مدفوع هذه المرة إلى أن أتجاوز السجية، وأخرج على العادة المألوفة، وأرد بعض الأمر إلى نصابه؛ لأنك تجاوزت فيه ما ينبغي من الإنصاف. وأنا أبرأ إليك من الغرور، وأربأ بك عن الجور، وما أشك في أن أمثالي من الكتاب الذين عرضت بهم أو عرضت لهم في فصلك القيم يبرءون إليك مثلي من الغرور، ويربَئون بك مثلي عن الجور، ويرون مثلي أنك عرضت لقضية النقد ولقضيتهم هم في النقد عرضًا سريعًا، حظ اللباقة فيه أعظم من حظ التثبُّت والتدبر والأناة.
وأظنك قد عرفت الآن القضية التي أريد أن أجادلك فيها، والمذهب الذي أوَد لو أصرفك عنه. فأنت ترى أن جماعة النُّقَّاد الذين كانت إليهم قيادة الرأي الأدبي، أو قيادة الحياة العقلية منذ حين، قد اصطنعوا الشجاعة أوَّل أمرهم، وآثروا الصراحة أو كانت الصراحة لهم خُلُقًا، فكتبوا كما كانوا يرون، وأخذوا بحظوظهم الطبيعية من الحرية، لم يحفلوا بالجمهور، ولم يخافوا الرأي العام، ولم يحسبوا لمقاومة المحافظين حسابًا. ونشأ عن شجاعتهم تلك، وعن صراحتهم هذه، أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطًا لم تألفه مصر، فكان الصراع العنيف بين القديم والجديد، وكان الخصام الشديد بين الحرية والرجعية، وأُلِّفَت الكتب ونُشِرَت المقالات وأُذِيعَت الفصول، وانتفع الأدب بهذا كله واستفاد النقد. وكل هذا صحيح عندي لا شك فيه، ولكنك ترى بعد ذلك أن هؤلاء الكتاب قد أُوذُوا في مناصبهم وفي أنفسهم وفي سمعتهم وفي أرزاقهم، فلم يثبتوا للأذى، ولم يمضوا في المقاومة، ولم يُعِنْهم أتباعهم وأولياؤهم على الثبات، وإنما عطفوا عليهم عطفًا أفلاطونيًّا لا يشبه ما يجده أمثالهم في أوروبا من الأتباع والأولياء، فلانوا ودانوا، وجاروا وداروا، وآثروا العافية ومضوا مع الجمهور إلى حيث أراد الجمهور، ونشأ الجيل الجديد فاقتدى بإخوته الكبار وسار سيرتهم، وأصبح النقد مصانعةً ومتابعةً، وأصبح الأدب تملُّقًا وتقليدًا.
وهذا أيها الأخ العزيز، هو الذي أخالفك فيه أشد الخلاف، وأنكره عليك أعظم الإنكار، يدفعني إلى ذلك أمران؛ أحدهما: أن رأيك بعيد كل البعد عن أن يصور الحق، والثاني: أن رأيك يمسني، وأؤكد لك أنه يُحفِظني كل الإحفاظ، ويؤذيني كل الإيذاء، ولعله يحفظني ويؤذيني أكثر مما أحفظَني وآذاني كلُّ ما لقيت من ألوان المشقة والإعنات. فهل من الحق أن هؤلاء الكُتَّاب الذين تشير إليهم قد أدركهم الضعف والوهن، فمالَئوا الجمهور، وصانَعوا السلطان، وآثروا العافية في أنفسهم وأموالهم ومناصبهم؟ ومتى كان هذا؟ أحين عصفت العواصف بمصر فأفسدت أمرها السياسي والعقلي، وألغت نظامها الحر إلغاءً، وفرضت عليها نظامًا آخر مصنوعًا أُلغِيَت فيه كرامة الأفراد والجماعات، وتجاوز العبث فيه بالحرية كل حَدٍّ معقول؟ تعالَ أيها الأخ العزيز نبحث معًا عن هؤلاء الكُتَّابِ أين كانوا في ذلك الوقت؟ وماذا صنعوا؟ وإلى أي حَدٍّ جارَوْا ودارَوْا وآثروا العافية؟ لست في حاجة إلى أن أسميهم، فأنت تعرفهم كما يعرفهم الناس جميعًا. لم يكن لأكثرهم منصب في الدولة، ولعلي كنت من بينهم الوحيد الذي كان يشغل منصبًا من المناصب، فلما عصفت العاصفة أُقْصِيتُ عن هذا المنصب فأدركت الزملاء ووقفت معهم حيث كانوا يقفون، ومضينا جميعًا إلى حيث كان يجب أن نمضي، واحتملنا جميعًا ما كان ينبغي أن نحتمل من الأثقال.
فكنا أيها الأخ العزيز، ألسنة الساسة، وسيوف القادة، والسفراء بينهم وبين الشعب، وكنا سياطًا في أيدي الشعب يمزق بها جلود الظالمين تمزيقًا. وكنت ترى وكان غيرك يرى آثارنا في الظلم والظالمين، وبلاءنا في مقاومة العدوان والمعتدين، وحفاظنا لهذا الشعب الذي لم يكن له قوة إلا قوتنا يومئذٍ، وكنتم تعجبون مِنَّا بذلك، وتحمدونه لنا، وتؤيدوننا فيه. وكنتم تقومون على الشاطئ وتروننا ونحن نغالب الأمواج، ونقاوم العواصف، نظهر عليها حينًا وتظهر علينا أحيانًا، فكان بعض الناس يُصَفِّقُ لنا إذا خلا إلى نفسه لا إذا رآه الناس، ويعطف علينا إذا لم يحس السلطان منه هذا العطف. ولست أزعم أني قد استأثرت بهذا الفضل، فقد كان نصيبي منه أقل من نصيب كثير من الزملاء. لم أدخل السجن وقد دخله منهم من دخله. أترى أن مواقفنا تلك كانت مواقف المنهزمين؟ أترى أنَّا شُغِلنا عن النقد الأدبي بأنفسنا وأموالنا، وإيثارنا للعافية، ومجاراتنا للسلطان؟ أم ترى أنَّا شُغِلنا عن النقد الأدبي بالدفاع عن قوم لم يكونوا يدافعون عن أنفسهم؛ لأنهم لم يحسنوا هذا الدفاع، أو لم يقدروا عليه، أو لم يريدوا أن يتورطوا فيه؟ أليس أول ما يجب على المؤرِّخ الأدبي وعلى المؤرخ بوجه عام أن يكون منصفًا! أترى من الإنصاف أن تزعم أن الذين حفظوا للشعب المصري مظهر مقاومته للظلم، وأدَّوْا إليه رسالة ساسته وقادته، وأدَّوْا إلى ساسته وقادته ما كان يضطرب في نفسه من الآمال والأماني، وما كان يثور في قلبه من العواطف، كانوا منهزمين يدارون ويجارون ويؤثِرُون العافية؟
مهلًا أيها الصديق! فقد يُفهَم من الشعوب قصر الذاكرة، ولكنه لا يفهم من خاصة الناس وقادة الرأي وحَفَظَة التاريخ. والغريب أن رأيك هذا في إخوانك الكُتَّاب يظهر أنه قد أعجبك حتى ألهاك عن حقائق ما كان ينبغي أن تلهو عنها. فهؤلاء الكتاب المنهزمون في رأيك لم تشغلهم هذه السياسة العنيفة المنكرة عن الأدب ولا عن النقد. وإنك لتعلم أنهم جميعًا كانوا يخاصمون في السياسة وجه النهار، ثم يفرغون لأدبهم آخره، وكلهم قد أنتج في الأدب أثناء المحنة، وفي الأدب الخالص الذي لا يتصل بالسياسة ولا يمت إليها بسبب، ومنهم من اتخذ السجن وسيلةً إلى هذا الإنتاج، ومنهم من لم تصرفه ظلمة الحياة العامة وشدة الحياة الخاصة عن أن يجول في عالم الفن جولات، ثم يعود منه ومعه زهرات في الشعر أو في النثر يُهديها إليكم لتهلوا بها وتستمتعوا بشذاها، وتستعينوا بذلك على المُضِيِّ في أعمالكم الهادئة المطمئنة.
مهلًا أيها الصديق! فقد يخيل إليَّ أن هؤلاء الكتاب أنفسهم لم يهملوا النقد نفسه في ذلك الوقت، ولم يقصروا في العناية به. وإذا لم تكذبني الذاكرة فإنهم قد نقدوك أنت وتناولوا كتبك بما ينبغي لها من العناية والدرس. وإذا لم تكذبني الذاكرة فقد كانوا يفرضون على أنفسهم برغم السياسة وأثقالها وأهوالها، وبرغم الحياة الشاقة التي كانوا يحيونها، والتي عرفت منها شيئًا وغابت عنك منها أشياء، كانوا يفرضون على أنفسهم أن يقرءوا ما يظهر من الكتب والدواوين، وأن يقولوا رأيهم فيه. كانوا يفرضون على أنفسهم صفحةً أدبيةً في الأسبوع يفرغون لها اليوم أو أكثر من اليوم، ويعرضون فيها للنقد كما تحبه وترضاه. ولست أدري كيف نسيت أن المقالات التي كانوا يذيعونها في النقد أثناء هذه الأعوام الأخيرة قد كانت تثير من الخصومات شيئًا كثيرًا، منه ما يثور بينهم هم، ومنه ما يثور بينهم وبين الأدباء الناشئين، ولعلك لم تنسَ بعدُ أن خصومةً ثارت بيني وبين هيكل حول ثورة الأدب، وأخرى بيني وبين العقاد حول اللاتينية والسكسونية، وثالثة بيني وبين العقاد حول ديوان من دواوينه. فأنت ترى أن إخوانك لم يقصروا ولم يفتروا، ولم يسالم بعضهم بعضًا، ولم يأمن بعضهم شَرَّ بعض. ولعلك لم تنسَ أني قد اتخذت «الراديو» في بعض الأحيان وسيلةً من وسائل النقد، فكنت أشتد حينًا على الكتاب الذين استمرت مريرتهم وتم لهم النضج، وأرِقُّ حينًا آخر للكتاب الذين لم تستقِم لهم الأمور بعدُ. وأنا أفهم أن تطالبنا بالمزيد، وألا تكتفي منا بما نعطي؛ فنحن نطالب أنفسنا بالمزيد، ولا نكتفي من أنفسنا بما ننتج، ولكن هذا شيء ووصفنا بالمداراة والمجاراة وإيثار العافية شيء آخر.
وبعد، فليس السبيل على الذين أدَّوا واجبهم الأدبي كما استطاعوا، وما زالوا يؤدونه كما يستطيعون برغم ما يملأ حياتهم من الهموم، وما يعترض طريقهم من الشوك، وإنما السبيل على الذين يُتاح لهم الهدوء، ويستمتعون بالبال الرخيِّ والحياة المستقيمة المطمئنَّة ثم لا ينقدون لأنهم لا يقرءون، أو لا ينقدون لأنهم يقرءون ويشفقون إن أعلنوا آراءهم أن يتنكَّر لهم الناس، وأن يسلقهم أصحاب الكتب بألسنة حِدَاد.
إلى هؤلاء أيها الصديق، تستطيع أن تسوق الحديث، وعلى هؤلاء أيها الصديق، تستطيع أن تصب اللوم صبًّا.
وأخرى لا أريد أن أختم هذا الفصل قبل أن أُلِمَّ بها إلمامًا. أنت تذكر قومًا قد استوَوْا على عرش الأدب، وقد أمن بعضهم بعضًا، وخافهم الناشئون، فأنت إذًا تعيد الخصومة بين من يُسَمَّوْنَ «الشيوخ» ومن يسمون «الشباب» جَذَعةً. وأظنك توافقني على أن التفكير في هذه الخصومة لا يخلو من بعض الحزن.
فقوام هذه الخصومة فيما أعلم أن الأدباء الناشئين ضعاف أثِرون عَجِلون، يُخيَّل إليهم أن النقد يمحوهم من سجل الأدباء محوًا، مع أن النقد يُثبِتُهم فيه إثباتًا. يريدون أن يبلغوا بالجهد ما بلغه أسلافهم بالمطاولة والمحاولة واحتمال الأذى وكثرة القراءة والدرس. ويريدون أن يتم لهم ذلك ما بين طرفة عين وانتباهتها، كما يقول القائل. وفيهم كبرياء لا تخلو من سخف، ومن سخف يذكر بأخلاق الأطفال؛ فهم إن كتبوا رأوا لأنفسهم العصمة، ولم ينتظروا من النقاد إلا ثناءً وحمدًا، فإن أدركهم بعض النقد قالوا: حسد وتكبُّر واضطهاد وأثرة وتثبيط للهمم. وفيهم غرور يخيل إلى كل واحد منهم أنه ممتاز من أترابه جميعًا. ومهما أنسَ فلن أنسى كاتبًا أضاع مودة وصداقةً وحبًّا وعطفًا لا لشيء إلا لأني جمعت بينه وبين كاتب من معاصريه في فصل واحد، وكان ينبغي أن يمتاز في رأيه، وإلا لأني دعوته إلى أن يستزيد من القراءة فعدَّ هذا إسرافًا واعتداءً.
أمام هذا الجيل الرخو من الأدباء الناشئين يضيق الناقد المخلص بالنقد، ويزهد فيه ويصد عنه صدودًا في بعض الأحيان، ولكنه لا يلبث أن يرى حق الأدب عليه، فيستقبل من أمره ما استدبر، ويُثني على قوم وهو يعلم أن ثناءه سيملؤهم غرورًا وسيخرجهم عن أطوارهم، ويعيب قومًا وهو يعلم أن عيبه إياهم سيدفعهم إلى اليأس إن كانوا أخيارًا، وسيدفعهم إلى القحة إن كانوا أشرارًا.
ونحن برغم هذا بل من أجل هذا نمضي في طريقنا، لا نقف كما يظن بعض الناس، ولا نرجع كما تظن أنت أيها الصديق؛ لأنك في أكبر الظن قد لا تتابعنا أحيانًا، وقد تطلب مِنَّا ما نطلب من أنفسنا، وتحول ظروف الحياة بيننا وبينه.
أما بعد، فإني أحب أن أؤكد لك أني أنا خاصةً ما زلت عند رأيك القديم فيَّ، صريحًا إلى أقصى حدود الصراحة، جريئًا إلى أقصى حدود الجراءة، مستعدًّا في هذا العام إلى أن أستأنف ما فعلتُ منذ عشر سنين، وإلى أن أستأنف ما فعلت منذ أربع سنين، وإني لشديد الأسف أن كانت ثقة الأستاذ كراتشكوفسكي بي أقوى وأشد من ثقتك أنت؛ فإنه لم يتردد في مقدمة ترجمته «للأيام» أن يتنبأ بأن ما عرض لي من الخطوب ليس كل شيء، وأنه ينتظر أن يعرض لي مثله، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها فلا تتعجل، فمن يدري؟
وأنا أرجو بعد هذا كله أن تتلقى هذا الفصل بصدر رحب؛ فإني أهديه إليك تحية صديق يضمر لك أصدق الحب وأوفاه.