الإنجليز في بلادهم
إذا كُتِبَ تاريخ الحياة المصرية التي نحياها بعد أعوام طوال أو قصار فأكبر الظن أن المؤرخين سيعرضون للدكتور حافظ عفيفي (باشا) وسيسجلون في أمره شيئين متناقضين فيما يسجلون من الأشياء حول هذا الرجل الذكي اللبِق الرشيق. سيسجلون أن كثرة المعاصرين له لم تحب سفارته عن مصر في لندرة؛ لأنها كانت في ظل صدقي باشا، ولأنها أعانت نظام صدقي باشا إلى حَدٍّ بعيد سيفصِّله المؤرخون حينئذٍ، ولأنها بهذه المعونة مدَّت آماد الاستبداد لهذا الطاغية، وأخَّرت استرداد الشعب لحقه، ورجوعه إلى حريته.
ولكنهم سيسجلون بعد ذلك لهذا الرجل الذكي اللَّبِق الرشيق الموفَّق أن سفارته لم تكن شرًّا كلها، وإنما كان فيها خير كثير. ومن الجائز جدًّا أنهم قد يستكشفون خيرًا سياسيًّا لا يعرفه الناس الآن، وقد يعرفه المؤرخون في يوم من الأيام. ولكن من المحقق أنهم سيسجلون خيرًا من نوع آخر لا يتصل بسفارة وزيرنا الداهية كما تسميه الصحف الهازلة، وإنما يتصل بحياته في بلاد الإنجليز، وبهذه الثمرة الحلوة النافعة الباقية التي عاد بها من هذه البلاد، وأهداها إلى قومه في هذه الأيام، كأنه يريد — أو كأن الظروف تريد، أو كأن توفيقه يريد — أن تكون هذه الثمرة الباقية كفَّارة عمَّا يظن أنه قد أساء به إلى كثير من مواطنيه.
وهذه الثمرة التي تبقى وحدها من جهود الدكتور حافظ عفيفي باشا أثناء سفارته عن قومه في بلاد الإنجليز هي هذا الكتاب العظيم الذي أخرجه في هذا الأسبوع، والذي تفضَّل بإهدائه إليَّ أمس، والذي لم أقرأ منه إلى الآن إلا قليلًا. ولكني لا أتردد في أن أقول إنه سيبقى وسيبقى بقاءً طويلًا، وسيسجل اسم صاحبه بين كبار الكُتَّاب الذين سيكون لهم في الحياة العقلية والسياسية لهذا البلد أثر عظيم.
ويكفي أن نذكر أن الذين يؤرِّخون للثورة الفرنسية لا يستطيعون أن يهملوا تأثير الرسائل الإنجليزية التي كتبها «فولتير» أثناء شبابه بعد أن أقام في بلاد الإنجليز أعوامًا تكاد تبلغ الأعوام التي أقامها الدكتور حافظ عفيفي (باشا) في هذه البلاد، ولا يستطيعون أن يُهملوا أثر هذه الفصول التي كتبها مونتسكيو عن الإنجليز في كتاب روح القوانين، ولا يستطيعون أن يهملوا أثر هذه العلاقات المتَّصلة المنظمة الخصبة بين الفلاسفة الفرنسيين في القرن الثامن عشر وبين بلاد الإنجليز عامة وكُتَّاب الإنجليز وأدبائهم خاصةً.
ولست أريد أن أقرن الدكتور حافظ عفيفي (باشا) إلى فولتير أو مونتسكيو أو غيرهما من الفلاسفة الفرنسيين في القرن الثامن عشر؛ فليس الدكتور حافظ عفيفي فيلسوفًا ولا كاتبًا، وما أظنه؛ بل أنا واثق بأنه لا يرى في نفسه أنه فيلسوف أو كاتب، وإنما هو رجل من رجال السياسة المصريين خصب الذهن، واسع العقل، نافذ البصيرة، قوي الحس، دقيق الملاحظة، عظيم الاطِّلاع، أقام في بلاد الإنجليز أعوامًا فرأى وسمع وتأثَّر واقتنع، ثم رأى أن في تسجيل ما لاحظ نفعًا لقومه، فألف هذا الكتاب وأذاعه في الناس.
لست أريد أن أقرنه إلى فلاسفة الفرنسيين وكتابهم في القرن الثامن عشر، وإنَّما أقرر في غير تردُّد أن كتابه هذا لن يكون أقل أثرًا في حياة المصريين من رسائل فولتير أو فصول مونتسكيو أو آثار غيرهما من الفلاسفة والكتاب. وقد أراد الله لهذه الأمة الإنجليزية فيما أراد لها من الخير الكثير أن تكون معلمةً للشعوب ومؤدِّبةً للأمم بآداب الحياة السياسية الحرة، وبآداب الديمقراطية الصالحة التي تُحقِّق أرقى ما يطمع الإنسان في تحقيقه من المُثُل السياسية العليا، وهو التوازن المعتدل الصحيح بين فكرتين لم تستطيعا أن تتَّفقا، ولا أن تتكافآ، ولا أن تعيشا بسلام في أمة من الأمم التي عرفت هذه الديمقراطية في العصر القديم أو في العصر الحديث، وهما فكرة الفردية، وفكرة القومية.
فقد ابتدع اليونان الديمقراطية ابتداعًا لأول مرة في تاريخ الإنسان، ولكنهم عجزوا أقبح العجز عن أن يلائموا بين هاتين الفكرتين؛ فذهبت ديمقراطيتهم عبثًا، وجرت عليهم شرًّا كثيرًا، وانتهت بسلطانهم السياسي إلى الفناء، كانوا فرديين لا يستطيع أحدهم أن ينسى نفسه مهما تكن الظروف، فكانت فكرة القومية عندهم تأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، ولم يكن زعيمهم السياسي يتحرَّج من أن يُؤثِر منفعته الخاصة على المنفعة القومية العامة، ويتورط بحكم هذه الأثَرة في أقبح الآثام. وحاول الرومان أن يأخذوا عن اليونان نُظُمهم السياسية، وديمقراطيتهم المعتدلة أو المتطرفة، ولكنهم لم يفلحوا كما لم يفلح أساتذتهم؛ لأن فكرة الفردية عندهم كانت ضعيفة أشد الضعف، لا تقدر على مقاومة فكرة القومية، وإنما تفنى فيها فناءً سريعًا. فإذا ظهر الفرد القويُّ الممتاز، فهو فذٌّ متفوِّق لا يلبث أن يصبح طاغيةً أو قيصرًا من القياصرة المستبدين.
والصراع قوي عنيف متصل بين الفردية والقومية في الشعوب الأوروبية الحديثة، وهذا الصراع نفسه هو مصدر ما تلقاه الديمقراطية الحديثة من شَرٍّ بعد الحرب الكبرى؛ فإذا تعقَّد بصراع آخر بين القومية والاشتراكية الدولية كما نسميها خطأً، كان شره أعظم وخطره على الديمقراطية أشد.
أما الإنجليز فقد استطاعوا منذ عهد بعيد جدًّا أن يلائموا أحسن ملاءمة وأصحها وأدقَّها بين حقوق الفرد وواجباته وحقوق الوطن وواجباته. فالفرد الإنجليزي شخصية مستقلة أحسن استقلال، وواضحة لا تفنى في الجماعة، ولا تنزل لها عن مقوِّماتها، ولكنها في الوقت نفسه تعرف حق الجماعة وتؤدِّيه إليها على أكمل وجه وأدقه وأحسنه نفعًا وأكثره إنتاجًا. ومن أجل هذا مضت الديمقراطية الإنجليزية في طريقها إلى أمامٍ هادئةً معتدلةً مرتقيةً دائمًا، لم تتعرَّض ولا ينتظر أن تتعرض في أكبر الظن لما تتعرض له الديمقراطيات الأخرى من طغيان الفرد أو من طغيان الجماعة. والاشتراكية كما فهمها الإنجليز، وكما قبلوها، وكما صوروها فيما يكتبون ويعملون لا تُفسد ديمقراطيتهم، ولا تعرضها لخطر من هذه الأخطار التي تتعرض لها الديمقراطية الأوروبية.
فهذا المكان الممتاز الذي أتيح للإنجليز في حياتهم السياسية جعلهم أساتذةً للشعوب الأخرى، ومثلًا تحتذيها هذه الشعوب حين تطالب بالحريات العامة والخاصة، وحين تنظم هذه الحريات بعد أن تظفر بها، وكل من أوجد الصلة العقلية بين قومه وبين الشعب الإنجليزي فهو نافع لوطنه حقًّا، ناصح له أصدق النصح، مُعِينٌ له على التطوُّر السريع في سبيل فهم الحريات ونَيلِها وتنظيمها.
وقد كان فولتير ومنتسكيو وأمثالهما تراجمةً للإنجليز عند الشعب الفرنسي في القرن الثامن عشر. وكان إدمون ديمولان ترجمانًا للإنجليز عند الشعب الفرنسي في القرن الماضي حين صوَّر لقومه مذاهب الإنجليز في التربية والتعليم. وكان فتحي زغلول — رحمه الله — ترجمانًا للإنجليز عند قومه، ولكنه ترجمان بالواسطة حين ترجم لهم في أوائل القرن كتاب إدمون ديمولان «سر تقدم الإنجليز السكسونيين». أما الدكتور حافظ عفيفي فهو يترجم للإنجليز عند المصريين ترجمة مباشرة دقيقة صادقة فيما يظهر إلى أبعد حَدٍّ ممكن، وهو سواء أراد أو لم يرد، وسواء أراد الإنجليز أم لم يريدوا، وسواء أردنا نحن أم لم نرد، يفتح للشباب المصريين وللثورة طريقًا جديدةً مستقيمةً منتجةً كان ينبغي أن تُفتح منذ عهد بعيد. ولو أنها فُتِحَت منذ عهد بعيد لاجتنبت ثورتنا المصرية شيئًا غير قليل من الاضطراب الذي دفعت إليه، والخطأ الذي تورَّطت فيه.
فنحن قد ثُرنا في طلب الديمقراطية على غير علم دقيق صحيح بأصول الديمقراطية، ولم يوجد فينا فولتير أو مونتسكيو ليترجما لنا عن أساتذة الديمقراطية كما ترجم هذان الفيلسوفان لقومهما قبل الثورة. ولم يوجد لنا حافظ عفيفي يدرِّس الحياة الإنجليزية في بلاد الإنجليز، ثم يعود ويصورها لنا تصويرًا صحيحًا دقيقًا. وما أشك في أنه لو وُجد وأصدر كتابه قبل الثورة المصرية لاتخذت هذه الثورة طريقًا أدنى إلى القصد، وأبعد عن الاعوجاج. ونحن نخطئ أشد الخطأ وأقبحه وأدعاه إلى خيبة الأمل إن ظننا أن الثورة المصرية قد انتهت أو أنها قد قطعت أكثر أشواطها وأجلَّها خطرًا، وإذا كانت الثورة الفرنسية لم تنتهِ بعد، بعد أن مضى عليها قرنٌ ونصف قرن، وبعد أن اعترضها ما اعترضها من الأحداث الداخلية والخارجية الكبرى، فخليق بنا أن نعتقد أن ثورتنا المصرية بعيدة كل البعد عن أن تكون قد انتهت، ولعلها لم تَزِدْ على الابتداء، ولعلها لم تبتدئ بعدُ وما زلنا في مقدماتها الأولى.
فكتاب الدكتور حافظ عفيفي عن الحياة الإنجليزية في بلاد الإنجليز قد تأخر بعض الشيء، ولكنه على كل حال حدثٌ قيِّم قد جاء في وقته المناسب، وسيحدث آثاره الطبيعية غدًا أو بعد غد، كما أحدثت الرسائل الإنجليزية التي كتبها فولتير، والفصول التي كتبها مونتسكيو آثارها عند الفرنسيين.
وأهم ما أقدِّر أن هذا الكتاب سيحدث من الآثار في حياتنا المصرية السياسية شيئين ينتهيان في حقيقة الأمر إلى شيء واحد؛ فهو سيزيل — أو بعبارة أصح سيرفع — هذه الأستار الكثاف الصِّفاق التي أُلقِيَت بين الشعب المصري والشعب الإنجليزي. فيمكن المصريين من أن يروا هؤلاء الإنجليز كما يعيشون في بلادهم الإنجليزية لا متكلفين ولا متصنعين ولا متسلحين بهذه الأسلحة التي يتسلح بها الإنجليزي متى عبر البحر إلى القارة، وإلى بلد يستعمره أو يريد أن يكون فيه قويًّا شديد البأس عظيم السلطان. سيمكِّن المصريين من أن يروا الإنجليز كما هم، ومن أن يروا النظم الإنجليزية كما هي، ومن أن يعرفوا الصلة بين الإنجليز وبين نُظُمِهِم السياسية، ومن أن يروا أصدق ديمقراطية عرفها التاريخ وهي تعمل في أرضها الملائمة لها وجوها الملائم لها، وتنتج نتائجها الطبيعية التي جعلت هذا الشعب الإنجليزي أعظم الشعوب حظًّا من الحرية في بلاده، وأقدرها على ظلم البلاد الأخرى الضعيفة، وإخضاعها لبأسه الذي لا حَدَّ له.
وهذه المعرفة ستُمكِّن المصريين من أن يفهموا الإنجليز كما ينبغي أن يُفهَموا، وأن يقدروا طبائعهم وأمزجتهم وأساليبهم في الفهم والحكم على الأشياء، وأساليبهم كذلك في حكم أنفسهم وفي حكم غيرهم. وسيعين هذا كله المصريين على أن يصوغوا علاقتهم بإنجلترا في شكل معقول ملائم لما يريدون، ولما يستطيع الإنجليز أن يريدوا.
وهذا كله هو الذي دعاني إلى أن أقول: إن كتاب الدكتور حافظ عفيفي سينتهي بالمصريين إلى شيئين يرجعان في حقيقة الأمر إلى شيء واحد. فأما أول هذين الشيئين: فهو الوصول إلى تحقيق صِلات المودة والوفاق بيننا وبين الإنجليز إن أرادت الظروف، أو أراد الإنجليز أنفسهم ما لا نريده نحن من الخصومة والخلاف، حتى ينتهي الأمر بينهم وبيننا إلى ما نحب، وإلى ما تريد طبيعة الأشياء من الاعتراف لمصر باستقلالها الصحيح الذي لا شك فيه ولا غبار. فليس أنفع ولا أجدى في تنظيم الخصومة المنتجة بين فردين أو بين شعبين من أن يعرف كلاهما صاحبه معرفةً صحيحةً، ويفهمه فهمًا صادقًا دقيقًا، ومن أجل هذا تحرص الأمم الحيَّة أشد الحرص على أن يعرف بعضها بعضًا، ويفهم بعضهم بعضًا أدق الفهم وأصدقه. وبمقدار ما تصح هذه المعرفة ويصدق هذا الفهم بين الشعوب يتحقق بين الدول الوفاق الخصب كما تتحقق بينها الخصومات ذات الخطر؛ ففهم الإنسان للإنسان شرط أساسي لتحقيق الصداقة، كما أنه شرط أساسي لتحقيق الخصام والفوز في هذا الصراع الذي لا بد منه بين الأفراد والجماعات.
ومن أجل هذا لم يُعْنَ الفرنسيون في وقت من الأوقات بفهم الحياة الألمانية كما عُنُوا بها بعد الحرب التي انهزموا فيها للألمان سنة ١٨٧٠، ولم يُعْنَ الألمان بفهم الحياة الفرنسية في وقت من الأوقات كما عُنُوا بها بعد الحرب الكبرى التي انهزموا فيها للفرنسيين.
ففهمنا للإنجليز كما ينبغي أن نفهمهم هو وسيلتنا الوحيدة إلى الاتفاق مع الإنجليز إن قُدِّرَ لنا هذا الاتفاق، وإلى مخاصمتهم على بصيرة ومقاومتهم عن علم إذا لم يكن بدٌّ من المخاصمة والمقاومة.
ومن هنا كان كتاب الدكتور حافظ عفيفي باشا دعايةً حسنةً جدًّا للإنجليز عند المصريين خاصة والشرقيين عامة، وتسليمًا حسنًا جدًّا للمصريين والشرقيين بإزاء الإنجليز. وواضح جدًّا أنه لن يحقِّق هذين الغرضين أحدهما أو كليهما إلا إذا استوفى أعظم حَظٍّ ممكن من الذيوع والانتشار، وقرأه أكبر عدد ممكن من القراء. ومع أني أعترف بأن هذا الكتاب الضخم القيم قد كلَّف صاحبه جهدًا ضخمًا قيمًا ومالًا كثيرًا، وبأنه بعيد كل البعد عن أن يكون غاليًا أو مرتفع الثمن، مع هذا كله فأنا مضطر إلى أن أتمنى أن تنفذ هذه الطبعة الأولى في سرعة، وأن يحتاج طبع الكتاب طبعة شعبية رخيصة تُدْنيه من هذه الطبقات التي لا تستطيع أن تدفع أربعين قرشًا لتشتري كتابًا وإن كان موضوعه الإنجليز في بلادهم، وإن كان مؤلفه الدكتور حافظ عفيفي (باشا) وزير مصر المفوَّض السابق في بلاد الإنجليز.
ولست أضرب إلا مثلًا واحدًا من كتاب الدكتور حافظ عفيفي، بل من مقدمة هذا الكتاب، يصور تصويرًا دقيقًا بعض ما ستُحققه قراءة هذا الكتاب من النفع للمصريين حين تُعينهم على فهم الإنجليزي كما هو، ومعاملته كما ينبغي أن يعامل، وهو هذه النادرة التي يرويها الدكتور حافظ عفيفي عن جماعة الماليين الإنجليز حين أُعلنت الحرب، واضطربت شئون المال، واجتمع نفر منهم يتشاورون ومعهم مندوب من وزارة المالية، فجعلوا يعرضون الاقتراحات في إثر الاقتراحات، والحلول في إثر الحلول، ومندوب وزارة المالية يرفضها أو يبين قصورها، وكان فيهم رجل أجنبي عظيم المكانة مرتفع المقام أدركه اليأس وثقُل عليه فبكى. ونظر القوم فإذا سكرتير مندوب المالية قد أخذ ورقةً، وأخذ يخطط فيها، ورئيسه يُعينه ويصلح له من حين إلى حين، فظنوا أنه يقترح حلًّا صريحًا، وانتظروا صامتين، ثم أُلقيت الورقة على المائدة، ونظروا فإذا الرجل لم يقترح حلًّا، وإنما رسم صورة مضحكةً للعضو الذي أدركه الضعف واضطره إلى البكاء!
فهذا المثل يبيِّن لك أناة الإنجليزي، وسلطانه على نفسه، وضبطه لأعصابه عند الشدة المحرجة، واستعانته بالمرح والدعابة على تفريج الأزمات الحادَّة، وهو في الوقت نفسه يبين لك السر في أن الأمور تتعقد أحيانًا بيننا وبين الإنجليز حتى يدفعنا تعقدها وتحرُّجها إلى الثقة بأن الإنجليز سينتهون إلى أن يتخذوا لأنفسهم قرارًا حاسمًا سريعًا، ثم ننظر فإذا هم هادئون ماضون في شئونهم كأن لم يحدث شيء. وهذا المثل يبيِّن لنا كيف قضى الإنجليز على سياسة العهد البغيض، ثم انتظروا قبل أن يعلنوا رأيهم في ذلك لا أقول أشهرًا بل عامًا بل أكثر من عام. وهذا المثل يبين لنا مقدار الفرق بين الإنجليز وبين الأمم الأوروبية الأخرى في مواجهة الحوادث والمشكلات، ويُعلمنا أن أناة الإنجليز ليست إهمالًا ولا إعراضًا ولا رضًا ولا اطمئنانًا، وإنما هي انتظار للفرصة، وانتهاز لما يلائمهم من الظروف.
ولم أعرض في كل ما كتبت إلى الآن إلا لهذه المنفعة العلمية الظاهرة التي يحققها هذا الكتاب، والتي يستطيع كل إنسان أن يتبينها ويقدِّرها. ولكن هناك منفعة أخرى لا يحسها ولا يقدرها إلا الإخصائيون، ولست منهم، وهي هذه المنفعة العلمية التي تتحقق حين تقرأ كتابًا من كتب العلم أجاد صاحبه وَضْعَه وتأليفه، وأتقن تحقيق ما فيه من المسائل والبحوث. وقد قلت إني لم أقرأ الكتاب كله بعد، وقلت إني لست إخصائيًّا، فما ينبغي لي أن أحكم على هذا الكتاب من ناحيته العلمية، ولكني مع ذلك ألاحظ في المقدار القليل الذي قرأته أشياء أرجو أن أكون أنا المخطئ فيها، وأن يكون الدكتور حافظ عفيفي (باشا) هو المصيب؛ فهو ينبئنا مثلًا بأن طبقة الأشراف الإنجليز شديدة الاتصال بالشعب وبالطبقة الوسطى، لا تأنَف من هذا الاتصال، ولا تتجنَّبه كما يظن الناس، وأنا أريد أن أصدِّق الدكتور حافظ عفيفي (باشا) لأنه لم يقل هذا إلا بعد أن تحرَّاه واستقصاه. ولكنَّ لي حظًّا يسيرًا جدًّا من قراءة بعض الآثار الأدبية الإنجليزية المعاصرة في القصص حينًا وفي التمثيل حينًا آخر، وأظن أن هذه الآثار الأدبية التي كُتِبَتْ وتُكتَب في هذا العصر لا تصوِّر لنا طبقة الأشراف من الإنجليز كما يحب الدكتور حافظ عفيفي أن يصورها لنا دانيةً من الشعب متصلةً به اتصالًا مألوفًا، وإنما تصوِّرها لنا مترفعةً متجافيةً، تكاد تعتقد أن الدم الذي يجري في عروقها غير الدم الذي يجري في عروق أبناء الشعب. وليس بعيدًا ذلك العهد الذي فرغت فيه من قراءة قصة «الأثر» للكاتب الإنجليزي المعروف ميريديث، و«صورة دوريان جري» لأوسكار وايلد، وهاتان القصتان تتركان في نفس القارئ شعورًا واضحًا قويًّا بهذا المعنى الذي صوَّرته لا بالمعنى الذي ينبئنا به الدكتور حافظ عفيفي (باشا).
فليتني أُدرِك أأُصَدِّق هذا الأدب الإنجليزي أم أصدِّق وزيرنا المفوض، أم أن هناك نحوًا من أنحاء التوفيق الممكن بين هذين الرأيين؟!
وملاحظة أخرى قد لا تكون عظيمة الخطر، ولكنها تعرض للقارئ إذا كان من الذين تعوَّدوا البحث العلمي، والنظر في كتب العلماء. فقد أراد الدكتور حافظ عفيفي أن يبين لنا الأسباب الظاهرة التي جعلت من الشعب الإنجليزي شعبًا متفوِّقًا على غيره من الشعوب، فذكر التاريخ الإنجليزي، وذكر الجو الإنجليزي، وذكر الوضع الجغرافي لبلاد الإنجليز، ثم ذكر التربية والتعليم. وواضح جدًّا أن التاريخ الإنجليزي وما عرض فيه من الأحداث شيء عام مبهم غامض شديد الغموض مهما يوضحه الدكتور حافظ عفيفي؛ فالتاريخ الإنجليزي نفسه في حاجة إلى التعليل؛ فلم كان التاريخ الإنجليزي على هذا النحو دون غيره من الأنحاء؟ ولِمَ سلك الشعب الإنجليزي طريقه التاريخية إلى التطوُّر ولم يسلك طريقًا أخرى غيرها؟ والجو الإنجليزي والوضع الجغرافي لبلاد الإنجليز شيء واحد في حقيقة الأمر؛ فلا يمكن أن نتصور لبلاد الإنجليز مع وضعها الجغرافي المعروف جوًّا آخر غير هذا الجو الذي يغمرها. وأكبر الظن أنها لو لم تكن جزرًا تقوم في البحر الذي تقوم فيه، وفي موضعها من كرة الأرض لكان لها جو غير هذا الجو.
والتربية والتعليم لهما أثرهما من غير شك في تفوُّق الإنجليز، كما أن للوضع الجغرافي والجوي أثرهما، وكما أن للأحداث التاريخية أثرها، ولكن من المحقق أن هذه الأسباب وأمثالها أسباب تقريبية تفسر بعض الشيء، ولكنها لا تفسر كل شيء. ولعل الدكتور حافظ عفيفي لم يقصد إلى التحقيق العلمي، وإنما قصد إلى التفسير والتقريب.
وأخرى ثارت في نفسي وأنا أقرأ مقدمة الدكتور حافظ عفيفي؛ فهو ينبئنا بأن الإنجليز لا يحرصون على أن يقلدهم غيرهم، ولا يتكلفون جهدًا، ولا ينفقون مالًا لنشر لغتهم في أقطار الأرض، ولولا الولايات المتحدة الأمريكية لما ظفرت اللغة الإنجليزية بما ظفرت به من الانتشار. وقد يكون هذا صحيحًا، ولكن الذي أشك فيه هو تعليل هذه الظاهرة، ولِمَ يبذل الإنجليز جهدًا أو ينفقون مالًا في نشر لغتهم، والشمس لا تغيب عن أملاكهم، ولهم ما لهم من القوة والبأس؟ فلغتهم تفرض نفسها فرضًا دون أن يتكلفوا الجهد أو ينفقوا المال لنشر لغتهم وثقافتهم في بلد كمصر، وهم يجدون من الحكومات المصرية المختلفة أصدق عونٍ على نشر هذه اللغة دون أن ينفقوا مالًا أو يتكلَّفوا جهدًا، بل هم يفيدون من نشر لغتهم على هذا النحو فائدةً ماديةً لهؤلاء المعلمين الكثيرين الذين ينبثُّون في المدارس، ويفيدون فائدةً معنويةً حين يحتكرون العقل المصري للغتهم احتكارًا، ويصبحون الواسطة الوحيدة بينه وبين الحضارة الحديثة والأدب الحديث، وإلا فما بالهم يغضبون أظهر الغضب، ويضيقون أشد الضيق حين يظهر الميل هنا أو هناك إلى العناية بلغة أوروبية أخرى؟
أظن أن الدكتور حافظ عفيفي يغلو في هذا الموضع أو يخطئ عن حسن قصد. ومهما يكن من شيء فإن هذه الملاحظات لا تغض من قدر الكتاب مهما تكثر وهي قليلة، وقد يجد الإخصائيون في أثناء الكتاب ما يناقشون فيه المؤلف قليلًا أو كثيرًا، ولكن الكتاب سيبقى قيما دائمًا، وسيبقى للدكتور حافظ عفيفي (باشا) أنه الوزير المفوض المصري الأول الذي انتفع بسفارته ونفع بها من الناحية العلمية الأدبية كما يفعل السفراء الممتازون للبلاد الأوروبية الراقية، وسيبقى له أنه قد ضرب المثل لوزرائنا المفوَّضين الآخرين؛ فلو أن كل واحد منهم عُنِيَ بدرس البلد الذي يقيم فيه وتقريبه إلى المصريين لاقتنع المتردِّدون هنا بأن للتمثيل السياسي المصري قيمةً صحيحةً حقًّا، ولغيَّر هؤلاء المترددون — وأنا منهم — رأيهم في أن هذا التمثيل السياسي مظهر يكلف من المال أكثر مما ينبغي. وما رأيك فيما تفيده مصر لو ظفرت عن كل بلد لها فيه مفوضية سياسية بكتاب قَيِّمٍ ممتع ككتاب الدكتور حافظ عفيفي (باشا)؟