مصر في مرآتي
نعم، كتاب آخر عن مصر قد كُتِبَ في اللغة الفرنسية كذلك الكتاب الذي حدثتك عنه منذ أسابيع، والذي أذاعه القاضي الفرنسي شارل بويش باريرا.
ولكن كتاب اليوم لم ينشئه أجنبي طارئ ولا أجنبي مقيم، وإنما كتبته آنسة مصرية، وكتبته في اللغة الفرنسية؛ لأنها أملك لهذه اللغة، وأقدر على التصرُّف بها، وعلى أن تصور فيها ما يجول في نفسها من الخواطر، وما يثور في قلبها من العواطف، وما يعنُّ لعقلها من الآراء. وهي في تصريف هذه اللغة بارعة كل البراعة، موفَّقة كل التوفيق. تقرأ كتابها من أوله إلى آخره، فلا يخطر لك أن الذي كتبه أجنبي أو أن التي كتبته أجنبية عن هذه اللغة، ولا يعرض لك الشك في أن الكتاب فرنسي اللغة لأنه فرنسي المؤلِّف.
وأنت مع ذلك تعلم حق العلم أن الكاتبة مصرية، نشأت في الإسكندرية، وأقامت فيها وما زالت تقيم، ولكنها اتخذت لغة الفرنسيين راضيةً أو غير راضية مرآة لحِسِّها وشعورها، ولعقلها وقلبها، وأداةً للكتابة وأداةً للحديث أيضًا. فهي مصرية الوطن، مصرية الشعور، ولكنها فرنسية اللغة، فرنسية التصوير والتفكير، وأمثالها في مصر غير قليلين، منهم الرجال ومنهم النساء، وكلهم يتقن الفرنسية كل الإتقان، وكلهم يكتب فيها النثر الرائع أو ينظم فيها الشعر البديع. ولست أدري أخيرٌ هذا أم هو شر، بل أنا أدري أنه خير من بعض الجهات. فهؤلاء المصريون الذين يتحدثون عن أنفسهم وعن بلادهم في لغة أجنبية تراجمة أمناء عن شعور مصر وحسها، وعن آمال مصر وأمانيها، ورسل صادقون يتحدثون إلى الأجانب بما يضطرب في نفوس المصريين من عاطفة، وبما يسمو إليه المصريون من المُثُل العليا؛ وبما يطمع فيه المصريون من الكرامة وارتفاع القدر وعلو الشأن. وهم بذلك محسنون إلى بلادهم، سفراء موفَّقون فيما يتكلفون من سفارة.
ولكن في هذا بعض الشر، أو قُلْ بعض الحرمان، أو قُلْ حرمانًا كثيرًا؛ فهؤلاء الكُتَّاب والشعراء الذين يكتبون، وينظمون في لغة أجنبية لهم في أكثر الأحيان حظوظ حسنة من البراعة والذكاء، ولهم قلوب ذكية وعقول خصبة ومَلَكات فنية قوية. وهم حين يكتبون أو ينظمون في لغة أجنبية يصرفون ثمرات هذه الجهود التي يبذلونها عن مواطنيهم من المصريين والشرقيين الذين لا يحسنون اللغات الأجنبية، ويصرفون هذه الثمرات عن اللغة العربية نفسها، ويختصون بها قومًا لعلهم لا يحتاجون إليها، ولغات مهما يكن أمرها فهي إلى أن تشكو الكظَّة وضخامة الثروة أجدر منها بأن تشكو الفقر والإعدام.
فالمصريون والشرقيون في حاجة إلى أن تُتَرْجَمَ لهم آثارُ الأجانب، وهم لا يظفرون من هذه الترجمة بشيء، فكيف بهم إذا احتاجوا إلى أن تترجم لهم آثار المصريين، ثم لم يظفروا من هذه الترجمة بشيء؟! واللغة العربية نفسها في حاجة إلى أن تُنقل إليها آداب اللغات الأخرى، فكيف بها إذا صُرِفَتْ عنها آداب أبنائها؟! وليس جناح ذلك على هؤلاء الكُتَّاب والشعراء، وإنما جُناح ذلك على الدولة التي لم تحسن حماية اللغة العربية ولا حياطتها ولا صيانتها من أن يفلت منها بعض أبنائها، والتي لم تحسن القيام على تعليم هذه اللغة؛ بل لم تحسن القيام على التعليم كله لتكفل اختلاف المصريين جميعًا إلى المدارس الوطنية، وتخرَّج المصريين جميعًا من المدارس المصرية، بحيث إذا أتيح لأحدهم أن يُتْقِنَ لغةً أجنبيةً، ويتخذها أداةً للتعيير في الكتابة والحديث، لم يكن ذلك نتيجة قصور عن اصطناع اللغة العربية، بل كان مظهرًا من مظاهر الترف العقلي، ولونًا من ألوان التفنُّن المباح.
نعم! إثم ذلك على الدولة؛ لأنها أهملت التعليم، فاضطرت كثيرًا من الأسر إلى أن تصرف بناتها وأبناءها عن المدارس الوطنية إلى المدارس الأجنبية، وإذا هم يجهلون أو يكادون يجهلون اللغة العربية، وإذا هم يكتبون وينظمون في لغات أجنبية، وإذا هم يعيشون بمعزل من مواطنيهم فيما يمس الشعور والتفكير. وكلما صادفنا بين هؤلاء الكتاب والشعراء كاتبًا بارعًا أو شاعرًا مُجِيدًا كان لومنا للدولة أشد، وسخطنا على إهمالها أعظم؛ لأننا نقدر حرمان اللغة العربية ما لهذا الكاتب أو الشاعر من البراعة والإجادة والإتقان.
ولكني لم أكتب هذا الفصل لأحزن أو أثير الحزن، ولا لألوم أو أدعو إلى اللوم؛ فقد يكون لهذا كله موضع آخر، وإنما أنا أكتب لأهنئ الآنسة «جان أرقش» بكتابها الممتع البديع، وإن كنت لا أستطيع أن أعصم نفسي من الأسف ومن الأسف الشديد؛ لأن كثرة المصريين لا يستطيعون أن يستمتعوا مثلي بقراءة هذا الكتاب، وتذوق ما فيه من هذه الصور الفنية الرائعة حقًّا، وإنما يتاح هذا المتاع لقليل جدًّا من المصريين الذين يحسنون الفرنسية، وكثير جدًّا من الأجانب. فالكتاب قيم بأدق معاني هذه الكلمة، وهو ممتع بأوسع معاني هذا اللفظ، والصور المصرية التي يشتمل عليها خليقة — كالصور المصرية التي اشتمل عليها كتاب القاضي بويش — بالإكبار والإعجاب حقًّا.
وكأن كِلَا الكاتبين متمم لصاحبه، أو كأن القاضي بويش متمم لكتاب الآنسة جان أرقش؛ فقد ظهر كتاب الآنسة أولًا، وظهر الكتاب الآخر بعده. أو قل إن الكاتبين حلقتان من سلسلة خليقة أن تطول وتتَّصل؛ فالآنسة جان أرقش تصوِّر الإسكندرية وما حولها، والقاضي بويش يصور القاهرة وما حولها. وفي مصر مدن أخرى غير هاتين المدينتين، وفي مصر مناظر أخرى غير هذه المناظر؛ فهل نستطيع أن نأمل أن يظهر بين المصريين أو بين الأجانب المقيمين في مصر من تتاح له مرآة صافية نقية صادقة كمرآة الآنسة جان أرقش، أو القاضي بويش لنرى فيها ما لا نراه في هذين الكتابين من مدن الأقاليم ومناظر الريف، ولنقرأ مثل ما نقرأ في هذين الكتابين من هذه الأحاديث القصار الساحرة التي تحدِّثنا عما نعلم وكأنها تحدثنا عما لا نعلم، والتي تصور لنا حياتنا المألوفة وكأنها تصور لنا ما لم نألف من الحياة؟
كثير مِنَّا يألف الحدائق، ويكثر الإلمام بها والوقوف عند ما يزينها من الزهر والشجر وألوان النبات، ويُعجَب ببعض ذلك أو بكل ذلك إعجابًا متفاوتًا، ويتحدَّث بهذا الإعجاب حين يلقى أصحابه أو حين يكتب فصلًا أو كتابًا. ولكن الآنسة جان أرقش وحدها هي التي تستطيع أن تحدثنا هذا الحديث الجميل الذي ابتدأت به كتابها عن «بنت القنصل» و«فتيان الليل». وأنت تعرف فيما أظن أن هذين الاسمين يطلقهما البستانيون على بعض هذا النبات الذي تزدان به الحدائق، والذي يخرج من الزهر ما يروق المترفين، ولكن الذي لا تعلمه هو أن فتيان الليل ينتهزون سكون الليل وهدوء الطبيعة ونوم الناس وغيبة البستاني؛ ليَسْمَوْا إلى ابنة القنصل سُمُوَّ حباب الماء حالًا على حال، كما يقول امرؤ القيس؛ ليسعَوا إليها متنكرين مستخفين كما كان يسعى عمر بن أبي ربيعة إلى صاحبته ليلة ذي دوران بعد أن استيقن أن رفاقه قد ناموا، وأن خصومه قد هجعوا، وأن الرعيان قد روَّحوا، وأن القمر الضئيل قد غاب، وأن المصابيح المضطربة قد أُطفِئَت، هنالك سعى ابن أبي ربيعة إلى صاحبته، وفي مثل هذا الوقت سعى فتيان الليل إلى بنت القنصل؛ فكان بينهم وبينها غزل، وكان بينها وبينهم مداعبة تشهد بها هذه الشرفة الجميلة. وقد رأتها الآنسة جان أرقش، ولكنها أمينة على السر، حفيظة على غيب المحبين، ليست عاذلةً ولا تحب العذل، وليست واشيةً ولا تحب الوشاية. وآية ذلك أنها أبت أن تقص هذا الحديث على البستاني الذي رأته يزين جرَّة من الجرار بمختلف الألوان من أوراق الزهر، وسألته عن اسم هذا النبات وذاك النبات فأنبأها باسميهما، واكتفت هي منه بهذا النبأ. وماذا تريد أكثر من أن تعرف اسم العاشقين؟ هي كأخت صاحبة ابن أبي ربيعة، لا تريد أن تفشي سرًّا ولا أن تبوح بحبٍّ، وآية ذلك أنها حين أرادت أن تصور لنا ما كان من الغرام الليلي بين فتيان الليل وبنت القنصل صورته لنا بالفرنسية التي لا يقرؤها كثير من المصريين، ولا يقرؤها البستانيون على كل حال. فبنات القنصل وفتيان الليل آمنون يستطيعون أن يلتقوا إذا هدأت الطبيعة وسكن الكون ونام الرقباء، لا يخشون بأسًا، ولكن من يدري! لعلي أنا قد أذعت الحب المكنون، وبُحْتُ بالسر المكتوم حين تحدثت عنه في هذه اللغة التي يفهمها المصريون جميعًا، والتي يفهمها البستانيون أيضًا. فأنا أستغفر الله من هذه الوشاية، وأنا أتوسل إلى البستانيين إن قرءوا هذا الحديث ألا يسوءوا إلى بنات القنصل وفتيان الليل، وألا يرقبوهم، ولا ينغِّصوا عليهم حبهم البريء إذا كان الليل. وأي شر يخافه الناس من أن يَسْمُوَ فتيان الليل إلى بنات القنصل؟!
والآنسة جان أرقش تحب الحدائق وتكلف بالزهر، وهي من أجل ذلك تُجِيد وصف الحدائق والزهر؛ وهي لا تكتفي بإجادة الوصف، ولا تكتفي بالحب من بعيد، ولكنها تحب الزهر هذا الحب الذي يغريها بالملك والاستيلاء. وانظر إليها وقد ذهبت إلى حديقة من الحدائق العامة، فأعجبها هذا الورد الكثير الجميل الرائع القائم على أغصانه يذيع في الحديقة سحرًا وروعةً وجمالًا، وإذا هي تنظر وتعجب وتستمتع، ثم تشتاق ثم تكلف، ثم تسعى إلى البستاني المنصرف إلى عمله فتسأله وردةً من هذا الورد، وردةً لم تمسسها يد البائع، وردةً ليست مباحةً للناس جميعًا، وردةً تكون لها هي من دون الناس، ولكن البستاني يأبى عليها ويأبى؛ لأن هذا الزهر لم ينبت ليستمتع به فرد من الناس دون فرد، وإنما نبت لتجمل به الحياة للناس كافةً. هي أثِرةٌ والبستاني يعلِّمها الإيثار. أتراها تعلمت؟ لا أدري! ولكن الذي لا شك فيه هو أنها همت أن ترشو معين البستاني ليمنحها وردةً من هذا الورد، ثم عدلت عن هذه الرشوة؛ لأنها لم تكن تريد وردةً تُشترى بالمال، وإنما كانت تريد وردةً تؤخذ ولا تباع. قد يكون بستانيها هذا حكيمًا نزيهًا مؤثِرًا للجماعة على الفرد، ولكنه من غير شك لم يَرَ ثوبها الجميل، ولا ذيلها الرشيق، ولا وجهها الذي كانت تظهر فيه الرغبةُ فتزيده حسنًا إلى حسن، ولو أنه رأى لكان له فيما أظن شأن آخر. فمن الذي يستطيع أن يبخل بوردة — ولو كانت من ورد الحديقة العامة — على آنسة تطلبها في هذا الإلحاح الجميل؟!
وأنت تمضي في الكتاب كله متنقلًا من صورة إلى صورة، ومن قصة إلى قصة، واجدًا في كل ما تقرأ هذا الروح الحلو الظريف الذي صورته لك فيما لخصت من هاتين القصتين. ستجد هذه الدعابة المرحة أحيانًا الهادئة أحيانًا التي تثير الابتسام دائمًا. وستجد بين وقت ووقت حزنًا خفيًّا لا يريد أن يظهر، ولا أن يعلن نفسه، وإنما هو يشير إلى نفسه إشارةً ويلمح بها تلميحًا. وسترى على كل حال صورًا دقيقةً كل الدقة، صادقةً كل الصدق، لكثير من حياة الإسكندرية على اختلاف الفصول. انظر إلى هذه الصورة الجميلة التي تعرض علينا فيها هذه العرَّافة التي تسعى على ساحل البحر، وعلى رأسها سفطها الفارغ إلا من ودَعاتها القليلة، والتي لا تكاد تدعوها حتى تُقبِل عليك مسرعةً، ثم تجلس إليك، ثم تخط في الرمل خطوطًا، وإذا هي تتحدث إليك بما كان وما هو كائن وما سيكون، وإذا الآنسة تتردد في دعائها ثم تنصرف عنه؛ لأنها لا تريد ولا تحب أن تُرفع لها أستار الغيب.
وانظر إلى هذه الصورة الأخرى صورة أبناء (البك) وقد خرجوا مع خادمهم في الشتاء يلعبون على ساحل البحر، فأما أصغرهم فقد لزم كتفي الخادم لا يفارقهما، وكلهم يأكلون ما تفرَّق بينهم من الخس، ثم هم يعبثون بأيديهم في الرمل عبث الفارغ الجاهل الذي لا يحسن بناء القلاع والقصور، كما يفعل صبيان الفرنج، وابن البستاني من حولهم فرح مرح يجري كالشيطان هنا وهناك، وقد وضع ذيله في فمه.
وانظر إلى عربة القصب تسعى في الشارع، وقد استقر بائع القصب من فوق قصبه، والعربة تسعى تجر في الأرض أطراف القصب، والبائع يستمتع ببعض ما يبيع فيمص بعض هذا القصب، وقد انقضى النهار أو كاد، وأرسل الليل طلائعه إلى الأرض، فكان بائع القصب فلاحًا يداعب المزمار بشفتيه.
وانظر إلى هذه الصور الكثيرة التي تصور أحياء الرمل في الليل، وتصور أحياء الرمل في النهار، تصورها حين يداعبها ضوء القمر، وحين تلح عليها أشعة الشمس. وانظر إلى هذه الصورة التي تراها في الأحياء الوطنية كل يوم، صورة العرس الفقير تنقل فيه أمتعة الزوجين ظاهرةً للناس معروضةً عليهم مختلفةً أشد الاختلاف، فيها الوسائد، وفيها الآنية، وفيها ما شئت من الصغير والكبير، وكل ذلك يسعى على صوت الموسيقى، وابتهاج أهل العروسين. ومن دون ذلك كله فتاة تتهيأ للعرس بين أترابها في الحمام يُهَيِّئْنَهَا، ويحدثنها أحاديث كلها سرور، وكلها مع ذلك معروف كالمعروف.
وهذه الصورة التي تعرض علينا حياة ما يسمونه الحريم، وهذه الصورة التي تعرض علينا هذه البائسة وهي تسأل الناس مستقرَّة حينًا متحركةً آخر، وبين يديها أو بين ذراعيها طفلها الصغير الذي تمضي عليه الأعوام والأعوام وهو لا يكبر ولا ينمو، وأمينة هذه ذات الملاءة والبرقع الأسود والقصبة الذهبية على الأنف تسعى في الشارع كأنها الشبح، حتى إذا انتهت إلى المتجر ظهر شخصها وجرت فيها الحياة، وألقت برقعها من وراء رأسها كأنه العلم المنكَّس، وأخذت تساوم في ثوب تشتريه استعدادًا لعُرس، وهي تنظر وتلمس وتشرب القهوة وتحسو الماء المثلوج، وهي راضية فرِحة، حتى إذا جاء وقت المساومة، وعُرض عليها الثمن، ثارت واضطربت، وهمَّت أن تنصرف. ثم تصلح الأمور بينها وبين البائع، وإذا هي تنصرف راضيةً بثوبها الجميل، والبائع يشيعها بهذه الكلمة المألوفة: «مبروك».
وانظر إلى بنات الباشا وقد أقبلن من المدرسة تائهات مغرورات في ثيابهن التي تريد أن تكون حديثة فلا تكاد توفَّق، وهن يأكلن اللب، ويتحدثن فيما سمعن من درس الجغرافيا، ويجررن أقدامهن جرًّا.
ثم انظر إلى هذه الفتاة التي قرأت كثيرًا وسمعت كثيرًا عن سويسرا، فكلفت بها وهامت إليها، ولكنها لم تستطع أن تعبر البحر، فهي تخلق لنفسها سويسرا في الإسكندرية، تخلقها مرة هنا ومرة هناك، تعيش مع الخيال، وتمضي معه إلى آماد بعيدة كل البعد، وتكره أن تفيق من هذه الأحلام أو أن تُرَدَّ إلى الحق. ومتى انتفع الناس بالحق! وهل سعد الناس إلا باتِّباع الخيال! وانظر إلى صورة هذه المرأة التي تحمل الجرَّة على رأسها، وهذه الأخرى التي تملأ صفيحة البترول من القناة.
وانظر إلى قناة المحمودية، وإلى هاتين الحياتين المختلفتين أشد الاختلاف، واللتين تقومان على جانبيها؛ إحداهما مصرية ريفية خالصة، والأخرى أوروبية مختلطة شديدة الاختلاط. إحداهما ساذجة كل السذاجة، والأخرى معقدة كل التعقيد.
هذه الصور وكثير من أمثالها هي التي تعكسها مرآة الآنسة جان أرقش من مناظر الحياة المصرية، وهي — كما ترى — صادقة كلها، جميلة كلها. وكم كنت أحب أن أتحدث إليك عن جمال الكتاب من ناحية لغته وأسلوبه، وما فيه من هذه الموسيقى الهادئة الساحرة التي لا تخلو من مرح يضطرب فيها بين حين وحين. ولكن هل إلى جمال هذه الصور من سبيل إلا اللغة وجمالها، وإلا الأسلوب وروعته، وإلا هذا الفن الأدبي الذي يعرض عليك المناظر المألوفة وكأنها طُرفة من الطُّرَف!
أرأيت إلى هذه الآثار المصرية التي تستكشفها الجامعة في بعض قرى الصعيد، والتي تصور من مصر حياة بعضها مصري خالص، وبعضها مصري متأثر باليونانية إلى حَدٍّ قريب، وبعضها مصري مغرق في اليونانية إغراقًا، هذه الآثار مرآة صادقة لحياة مصر منذ اتصلت بالعالم الخارجي. ويظهر أن مصر ستكون لها في جميع عصورها مرايا من هذا النوع، وكتاب الآنسة جان أرقش من أجمل هذه المرايا وأصفاها.
لتصدِّقني وزارة المعارف، هذه الكتب التي تتحدث عن مصر بالفرنسية والإنجليزية حديثًا صادقًا جميلًا هي أجدر الكتب بعناية الشباب في المدارس الثانوية.