تاج البنفسج
لم يُتَحْ لي أن أتشرف بلقاء السيدة «جوزيه صيقلي» إلا مرتين اثنتين، تحدثت في أولاهما خمس دقائق لا أكثر، ثم أقبل وزير التقاليد فانقطع الحديث، وصافحتها في المرة الثانية فأهديتُ إليها تحيتي وتلقيت منها تحيتها، ثم أقبل بعض الزائرين فانقطع الحديث، وما أظن أن تبادل التحية بيننا قد استغرق أكثر من دقيقة واحدة، وإذًا فأنا أعجز الناس عن أن أصفها أو أصور حديثها، فضلًا عن أن أصف نفسها، أو أصور مزاجها الفني، أو أشخِّص للقارئ هذه الطبيعة التي يُعنى بها الناقدون حين يكتبون عن الأدباء.
فالسيدة جوزيه صيقلي أديبة بارعة، ما في ذلك من شك، يعرف ذلك مَن تحدَّث إليها فأطال الحديث، ومَن استمع إليها فأطال الاستماع، ويعرف ذلك مَن قرأ فصولها الأدبية التي تكتبها في نظام كل أسبوع في جريدة «الريفورم»، ومع أني لم أتحدث إليها ولم أستمع لها، ولم أقرأ كثيرًا من فصولها الأدبية، فقد يُخيَّل إليَّ أني قادر على أن أصف مزاجها الفني، وأصور طبيعتها الأدبية تصويرًا مقاربًا كل المقاربة إن لم يكن دقيقًا كل الدقة، لا لشيء إلا لأني قرأتُ منذ أيام هذا الكتاب الصغير الذي جعلتُ اسمَه عنوانًا لهذا الفصل.
وربما كان هذا العنوان نفسه كافيًا لإعطاء صورةً دقيقةً، وإن كانت موجزةً كل الإيجاز، لهذه الطبيعة الأدبية التي أمْلَتْ فصولَ هذا الكتاب على قلم السيدة جوزيه صيقلي؛ فتاج البنفسج لفظ عذب في العربية، وهو في الفرنسية أشد عذوبةً، وهو في اللغتين يثير أمام القارئ صورةً أقل ما تُوصَف به أنها شعر كلها، ولكنه شعر متخير لا يأتي عفوًا، ولا يصدر عن الإلهام الذي لا جهد فيه، ولا يصدر عن جهد يسير وعمل سهل، ولا يمكن أن يكون نتيجةً لمد اليد إلى كبار الأزهار وضخامها، حتى إذا اجتمعت منها طائفة نُسِّق منها تاج جميل، إنما هو في حاجة إلى أناة وروية، وعناية وتفكُّر، وحسن اختيار وحسن تنسيق وحسن ملاءمة، ويكفي أن تنظر إلى هذه الزهرة الجميلة الحلوة الدقيقة التي تبعث من حولها أَرَجًا حلوًا مثلها، دقيقًا مثلها، نفَّاذًا إلى أعماق النفس في حلاوته ودقته، يكفي أن تنظر إلى هذه الزهرة الدقيقة الجميلة، لتقدِّر إلى أي حظٍّ من العناية والرعاية والحب والعطف والتلطف تحتاج لتقطفها ولتقطف أخواتها، ولتجمع بعضها إلى بعض، ولتلائم بين بعضها وبعض، ولتكوِّن منها ومن أخواتها الدِّقَاق الحِسَان العِذَاب تاجًا جميلًا دقيقًا حلوًا من البنفسج. هذا العنوان نفسه يعطي صورةً من المزاج الفني للسيدة جوزيه صيقلي؛ فهو مزاجُ أديبةٍ مترفة ممعنة في الترف، لا يرضيها الفن اليسير القريب، ولا تقنعها المطامع السهلة الدانية، ولا ترضى عن الفن حتى يكلفها الجهد والعناء، وحتى يخرج من هذا الجهد والعناء خلَّابًا جميلًا محبَّبًا إلى النفوس والقلوب، وهو مزاج أديبة لا ترضى من الفن بهذه الروعة الرائعة الغليظة التي تبهر وتسحر وتخلب قبل أن تنفذ إلى النفوس، وتصل إلى أعماق القلوب، وإنما هي تستأنى في التماس الفن، وتسعى إليه سعي المترف الذي يتذوق على مهل، والذي يكره السرعة والتعجل، فإذا انتهت من الجمال الفني إلى ما تريد بعد الجهد والأناة، لم تلتهمه التهامًا، ولم تزدرده ازدرادًا، وإنما تأنَّتْ في تذوقه وإساغته كما تأنَّت في طلبه والسعي إليه. ثم إذا أرادتْ تصوير ما أحسَّتْ، وهمَّتْ أن ترد إلى الناس من جمال الفن ما جنت، لم تسرع ولم تتعجل، وإنما تأنَّتْ في الإنتاج كما تأنَّتْ في الطلب، وكما تأنَّت في التذوق، وهي لا تريد أن تسحر قرَّاءها في سرعة، ولا أن تبهرهم في عجل، ولا أن تخطَفَ نفوسَهم خطفًا، وإنما تؤثر أن تسعى إلى نفوسهم سعيًا هيِّنًا، وأن تمسها مسًّا رفيقًا، فإذا فعلَتْ فقد ملك فنُّها النفوسَ، واستأثر أدبها بالقلوب.
بهذا كله يوحي عنوان هذا الكتاب، وبهذا كله أوحى إليَّ عنوان هذا الكتاب، ولكني رجل متردد موسوس في الأدب، إنْ صحَّ هذا التعبير، لا أستسلم للنظرة العاجلة، ولا أومن للانفعال السريع، ولا أعتمد على التأثر الأول، ولا يخدعني جمال العنوان، وإنما أبحث عمَّا وراءه، وأبحث مع شيء من سوء الظن غير قليل. وهل يمتاز الناقد بشيء كما يمتاز بسوء الظن! وهل تصدِّق الناقدَ الذي يستحق هذا الاسم إنْ زعم لكَ أنه يقرأ ما يقرأ من الآثار مُحسِنًا بها الظن مصطنعًا فيها التفاؤل؟ كلا! الناقد سيئ الظن قبل كل شيء، وسوء الظن غير سوء النية. فأنا أقرأ ما أقرأ ونيتي حسنة كل الحسن، خالصة كل الخلوص، وظني سيئ أشد السوء. أقرأ وأنا أتهم الكاتب الذي أقرأ له، وأخافه على نفسي، وأشفق أن يخدعني وأن يسحرني بصناعته، وأحرص الحرص كله على أن أحتفظ بكل ما أستطيع أن أحتفظ به من اليقظة؛ لأراقب ما سيتركه الكاتب في نفسي من الآثار، ولأحلِّل هذه الآثار، وأردَّها إلى أصولها، وأصدر في حكمي عليها عن شعور صادق، وروية غير غافلة.
فقد ارتبتُ إذًا بهذا العنوان، وسلَّحتُ نفسي بالحذر وسوء الظن قبل أن أمضي في قراءة الكتاب، ولم أكد أقرأ المقدمة التي كتبها الأستاذ «فيلدلفوس» مدير المتحف الوطني في أثينا، حتى ابتسمت ابتسامةً لا تصوِّر الرضا، وإنما تصوِّر شيئًا من الشك والارتياب؛ فقد رأيت الأستاذ في مقدمته مفتونًا بجمال الكتاب، تدفعه فتنته إلى أن يسخر في غير رفق بأعمال العلماء والباحثين الذين تناولوا بلاد اليونان بالبحث والدرس؛ لأن هذه الأعمال جافية لا تثير في النفس شعرًا ولا جمالًا، على حين يثير هذا الكتاب الشعر كله، والجمال كله.
ابتسمت لهذه المقدمة ابتسامة الشاك المرتاب؛ لأني صديق لأعمال العلماء الباحثين عن بلاد اليونان، ولأني أقرؤها وأُمعن في قراءتها فلا أجد فيها جفاءً ولا غلظةً ولا نُبُوًّا عن الشعر والفن؛ لأن بلاد اليونان القدماء لا يمكن أن تثير شيئًا غير الشعر والجمال، مهما يكن الذين يتناولونها من العلماء والباحثين، أو من الأدباء وأصحاب الفن. ومهما يكن من شيء فقد استقبلتُ هذا الكتاب سيئ الظن به، سيئ الاستعداد له، ولكني لم أستبق سوءَ الظن ولم أستبق سوءَ الاستعداد. لماذا؟ لأن الكاتبة — كما قلتُ آنفًا — ليست من الأدباء المتسرعين الذين يكتفون بمد اليد وقطف الزهرة، وإنما هي من أصحاب المهل والأناة، وحسن التخير والانتقاء، ولخصلة أخرى لم أذكرها، ولكنها خليقة بالعناية؛ لأنها تكمل الصورة الأدبية لهذه الكتابة، وهي أنها متواضعة لا تريد أن تقهرك ولا أن تبهرك، ولا أن تفرض نفسها عليك فرضًا، ولا أن تلقي إليك أثرها الفني على أنه أجمل الآثار وأخلقها بالعناية وأجدرها بالبقاء، وعلى أنه الكلمة الأخيرة التي لا كلام بعدها لمتكلم، والقول الفصل الذي لا مقال بعده لقائل، وإنما هي إنسان مترف مرهف الذوق والحس والشعور، يتلقَّى الجمال فيتأثر به، ويذوقه ويسيغه ويتمثله، ثم يردُّه إلى الناس في دعة وهدوء وشيء من التردد والاستحياء، كأنه يشفق من أن يُظهِر نفسه، وكأنه يود لو استطاع أن يحتفظ بما أحس من جمال وفن فلم يُظهِر عليه أحدًا، ولكن الأديب مُكرَه على أن يعلن ما يحس، ويكتب ما يجد.
أعجبني هذا التواضع، وأعجبني هذا الحياء الذي يتردد في هذه الفصول فيملؤها عذوبة ويحببها إلى النفس، وقرأت هذا الكتاب بعد ذلك وأنا أشعر بأني لا أقرأ لخصم من الخصوم، وإنما أقرأ لصديق من الأصدقاء؛ فالناقد خصم للكاتب دائمًا، وتشتد الخصومة بينه وبين الكاتب حين يكون الكاتب مؤمنًا بفنِّه مسرفًا في هذا الإيمان، جادًّا في أن يفرض نفسه وأثره على قرَّائه وناقديه، فإذا كان الكاتب متواضعًا معتدل المزاج عذب النفس، كسب ناقده شيئًا فشيئًا، ومحا هذه الخصومة محوًا، ويُخيَّل إليَّ أن السيدة جوزيه صيقلي من هؤلاء الكتاب الذين يكسبون في سهولة ويسر صداقة الناقدين.
قرأت هذه الفصول فأعجبتني، ولكنها لم تخرجني عن طوري، ولم تدفعني إلى هذا الرضا العنيف، وإنما أعجبتني في هدوء وأرضتني رضًا غير ثائر، أعجبتني هذا الإعجاب الذي يلذ للنفس لذةً وادعةً متصلةً دون أن يصرفها عما تزاول من الأمر. وما الذي أعجبني من هذه الفصول؟ أعجبني منها موضوعها قبل كل شيء؛ فهي أحاديث عن بلاد اليونان، وأنا مشغوف بكل ما يتصل ببلاد اليونان؛ لأن حبي لهذه البلاد لا ينقضي، ولأن إعجابي بها لا حدَّ له، ولأن وفائي لها هو وفاء الابن البكر للأم الكريمة الرءوم. وكل إنسان مثقف في هذه الأرض فهو ابن لهذه البلاد الخالدة، سواء أرضي ذلك أم لم يرضه.
وأعجبني من هذه الفصول حديثها عن بلاد اليونان نفسه؛ لأنه يصور هذه البلاد تصويرًا لستُ أدري أقريب هو أم بعيد، ولكنه تصوير يلائم ما حفظَتْه نفسي من هذه القراءات الطويلة المتصلة التي أنفقت فيها أعوامًا حول بلاد اليونان. فبلاد اليونان موسيقى، بل هي الصورة العليا للموسيقى، قوامها التلاؤم والانسجام بين الأشياء التي تختلف في أنفسها، وحديث السيدة جوزيه صيقلي عن هذه البلاد موسيقي هو أيضًا؛ لأنه يلائم بين أشياء تختلف في أنفسها فيحسن الملاءمة ويحقِّق الانسجام. فالسيدة جوزيه صيقلي لا تتحدث عن قديم اليونان وحده، ولا تتحدث عن جديد اليونان وحده، ولا تتصور لليونان قديمًا وجديدًا تكون بينهما الفرقة والاختلاف، وإنما تتحدث عن اليونان الحية الخالدة الجميلة جمالًا حيًّا خالدًا متصلًا. فالطبيعة اليونانية حية الآن كما كانت حية أيام اليونان القدماء، يجري فيها نفس النشاط الذي كان يجري فيها منذ خمسة وعشرين قرنًا، وآلهة اليونان على اختلافهم في الطبقة والمنزلة والعمل والنشاط لم يموتوا بعدُ، ولكنهم ما يزالون أحياء في هذه البلاد التي أنشأتهم، قد أصاب معابدهم وتماثيلهم ما أصابها من ريب الزمان وعادية الخطوب، ولكنهم على ذلك ما يزالون أحياء في هذه الطبيعة اليونانية الخالدة؛ لأنهم قوامها ومزاجها وصورتها، ولأن آثارهم التي جار عليها الدهر ليست إلا مظاهر قد تتغير قليلًا أو كثيرًا دون أن يتغير الجوهر، ودون أن يسوءها أو يشوهها ما يصيبها من التغير والاضطراب.
وأعجبني من هذه الفصول ما تصوِّر من هذا الحس القوي الدقيق الذي يبعث في الأشياء حياةً ونشاطًا، فإذا هي تتحرك وإن كانت ساكنةً، وتتكلم وإن كانت صامتةً، وتشكو وتبتهج وإن كانت لا تعلن شكاة ولا ابتهاجًا. أعجبني هذا التمثال الحزين في سذاجة وهدوء وحسرة فيها طفولة وادعة، كأن عاديًا قاسيًا قد عدا على صاحبته فغصب لُعْبَتها العزيزة، أو كأن حبًّا عقيمًا محرومًا يعذِّب قلبها البريء. أعجبني تصوير «الأكروبوليس» حين تقدم النهار ودنا الأصيل، واختلفت عليه ألوان الضوء، فأنشأت منه ومن مظاهر الطبيعة التي تحيط به من قريب أو بعيد صورًا لا أقول إنها رائعة، ولكنها فتَّانة ساحرة مستأثرة بالقلوب والنفوس، مثيرة للحب والعطف، وهذا الجمال الموسيقي الذي لا يعرف ضعفًا ولا فتورًا ولا انحلالًا. أعجبني تصوير «دلف» وما خلعت عليها الطبيعة والتاريخ من جمال وجلال وسذاجة حلوة. ثم أعجبني في فصول الكتاب كله هذه الملاءمة الحسنة بين القديم والحديث، بين السلف والخلف، بين التاريخ الذي كُتِب والتاريخ الذي يكتب.
وهل أقول أعجبني الأسلوب الأدبي في الكتاب؟ وهل أقول أعجبني صفاء اللغة ونقاؤها، وتخيُّر اللفظ الفرنسي على أجمل وجه وأدقه وأصفاه، وأقدره على تصوير الحس الدقيق والذوق المرهف، والنفاذ إلى القلوب في غير محاولة ولا جهد؟ ولِمَ لا أقول ذلك وأنا لا أعدو الحق إن قلته! نعم، أعجبني هذا كله، وأحسست مع هذا الإعجاب بشيء غير قليل من الألم والحزن؛ لأنني لا أعرف شيئًا كُتِب عن بلاد اليونان في لغتنا العربية يشبه هذا الكتاب الصغير الجميل، ومع ذلك فالصلة بيننا وبين هذه البلاد في جميع العصور التاريخية خليقة أن تدفعنا إليها، وأن تحملنا على العناية بها والكتابة عنها، ومع ذلك فما أكثر الذين يزورون بلاد اليونان منا في هذه الأيام!
ما بال هذه البلاد تلهم الأوروبيين أجمل ما تنطق به الألسنة وتجري به الأقلام، ولا تلهمنا نحن شيئًا؟ أَلِأنها مُعْرِضة عنَّا تضن بوحيها علينا؟ أم لأن قلوبنا مغلقة ونفوسنا جامدة، وفي أسماعنا وعيوننا ما يحول بيننا وبين إحساس الجمال، وتذوق الفن، والاستماع لوحيهما الخالد؟!