الفصل الرابع
كانت بثينة تحاور أمينًا ذلك الحوار بدافع من أنوثتها دون وعي لتزيده تعلقًا بصحبتها، حينما هي في الوقت ذاته تأبى بعقلها الواعي الحياة الزوجية؛ لأن شخصيتها القوية أو أنانيتها تجانب المسئوليات الزوجية والخضوع لأي رجل، وهي لو أنصفت نشأته وخلقه وثقافته لقدرت أنه لا يمكن أن ينظر إلى شريكة حياته إلا نظرة سمحة مكرمة، وأن معاملته إياها وهي زوجة لا يمكن أن تقل إعزازًا لها عن معاملته إياها وهي صديقة حبيبة. فليس الزواج في نظر أمثاله إلا ارتباطًا معينًا. لكن الأساس العاطفي واحد — ألا وهو الحب الصادق، ولكنها كانت طوع عواملها الوجدانية الدفينة قبل تأملها وتفكيرها؛ بل دون تأملها وتفكيرها … وكان أمين — وهو لا يعاشرها — يعدها في قرارة نفسه زوجته الوحيدة الدائمة ويهبها كل أحلامه وعواطفه، ويعلق عليها آماله المستقبلة وإن لم يجرؤ على التعبير عنها أمامها من جديد.
•••
دفع بثينة إعجابها بأمين وإخلاصها له وتقديرها لرسالته النافعة إلى تنظيم مطالعتها عن النحل فقرأت في تلك الليلة طرفًا صالحًا من أوليات النحالة استعدادًا لزيارتها التالية، وقد أحست في نفسها بأن من الواجب عليها أن تجاري أمينًا في جهوده الطيبة — وإن لاحت شاقة عليها ما دام يريد لها الأنس والخير، وما دام يريد لأبناء وطنه الإصلاح والسعادة، وساهم في التأثير عليها تشيعها للحركة النسائية التي تأبى الاعتراف بعجز المرأة عن مجاراة الرجل في جميع الميادين.
فلما صحبته إلى المنحل هذه المرة لم تكن تلبس كبنات جنسها بل صحبته مترجلة، وقد عقدت العزم على العمل في جلد يرضي كبرياءها ويرضي نشاطه الذي لا يكل، وما كادا يدخلان من باب المنحل حتى حام حولهما عدد من النحل ولكن دون أن تمسهما بسوء … وكادت بثينة تبدي تخوفها ولكنها ضبطت نفسها فلم تخنها شجاعتها، واكتفت بالسؤال: ما بال النحل يا أمين قلقة حولنا؟
– لا قلق يساورها يا عزيزتي، وإنما هي فرحة مرحبة بك.
– ولكن النحل معروفة بكدها وتعرف قيمة العمل والوقت، فكيف ترتضي ترك الحقول وإضاعة وقتها سدى؟
– وكيف تُتهم بتضييع وقتها سدى وهي تتهافت على رؤيتك يا نور عيني؟!
– إذًا أنت تشاركها في إضاعة وقتك ووقتي أيضًا بمثل هذا الكلام.
– هذا الكلام؟ ألم تطالبي يا مهجتي بأزاهير الحب وألحانه على الدوام؟
– لا يا أمين، سأكتفي بتموينك إياي دون محاباة.
– كأنما أنا جاحد حق الجمال.
– لقد نجحت ونجحت نحلك في إشعاري بقيمة الوقت.
وبقيت هذه النحلات الشاردة تطوف بهما فقال أمين: أرأيتِ كيف تلحف في دعوتنا إلى فتح خلاياها؟ … لا تضحكي فأنا لم أفهم لغتها.
– لم أقرأ أن للنحل لغة تخاطب بينها وبين الآدميين.
– لو كنتِ قرأت يا بثينتي مؤلفات النحالة في القرن الماضي لكنتِ وجدت فيها بعض العجب من هذا القبيل! … فلقد كان يدعي بعض النحالين الخياليين القدرة والسلطان على النحل إلى درجة تنظيمها في عرض عسكري على المنضدة أمام الناظرين المشدوهين، أما العلم الحديث فليست له هذه السيطرة التهريجية على النحل، ولكن له السلطان المنظم النافع الذي يزيد من رفاهية النحل وقوتها ويكسب النحال ثروة من جهده وجهدها.
– ومع ذلك فهذه نحلاتك لا تريد أن تتركنا نستريح أو نتكاسل فهلم بنا إلى العمل.
– يسرني أن تكوني الآن الحافزة لي.
– والمديرة للمنحل؟
– ولم لا؟ لن يمر الموسم إلا وأنت صاحبة السلطان عليه فوق سلطانك علي.
كانت بثينة في البداية تحتاط ضد لسع النحل بلبس قفاز من الجلد، فأخذ أمين يوضح لها أن لبس القفاز غير جدير بأي نحال فنان فضلًا عن نحالة رشيقة مثلها؛ لأنه يعطل المرء عن العمليات الدقيقة، كما أنه غالبًا يستثير النحل نظرًا لكراهيتها رائحة الجلد، وفوق هذا فلا موجب له ما دامت النحل الشائعة في المنحل غير شرسة، وما دام النحال رفيقًا في معاملته لها، وأخيرًا ليس لسع النحل في اعتدال ضارًّا بالإنسان بل هو مفيد في الوقاية من بعض الإصابات الروماتزمية وفي علاجها، حتى إن تحاضير منوعة من سِمه أصبحت في متناول الأطباء للحقن تحت الجلد وللدهان في هيئة مراهم فوق المفاصل المريضة، ومهما يكن من شيء فمتى اعتاد المرء لسع النحل اكتسب مناعة ولم يصبه ورم محسوس، وإن كان الورم على أي حال وقتيًّا وسليم العاقبة.
قالت بثينة: ولكني قرأت عن حالة وفاة نتيجة للسع النحل.
– لا يا أستاذتي! هذا نتيجة لفرط الحساسية قِبل لسع النحل، وهذه حالة شاذة نادرة جدًّا، ومن ثمة وجبت معرفة استعداد المرء للعمل في النحالة وتأثره بلسع النحل قبل إقدامه على اقتناء الخلايا والنحل لنفسه، ويجب في كل منحل يرتاده الزوار أن توجد حقن الأدرنالين والكلسيوم لمواجهة الطوارئ.
– إني لا أعني هذا يا أمين، وأحسب أني أخطأت في التعبير. حالة الوفاة التي أشرت إليها نشأت على ما أذكر نتيجة لسع عدد كبير من النحل، وقد أصابت فلاحًا فمات في يومه اختناقًا كما نفقت بقرته.
– توجد ضروب من النحل شرسة بفطرتها كالنحل التونسي والنحل القبرصي وبعض سلالات النحل المصري متى كانت طوائفها قوية، وكلا الضربين الأولين لا وجود لهما الآن في مصر، فأغلب ظني أن ما وقع هو أن فلاحًا تعرض لثول من النحل متجمع أو عبث بإحدى الخلايا المعمورة فأصابه وأصاب بقرته القريبة منه شر الجزاء … وعلى كل حال أرجو يا عزيزتي ألا تتصوري أني أتعمد أن أهون عليك لسع النحل دون تدبر لأعرضك للسوء فأنت أعز علي من نفسي.
وقد استجابت بثينة لمشورته فتخلت عن قفازها، وهكذا اكتسبت الثقة بالنفس ورشاقة الحركة في عملها، وما أشد كراهية النحل لخشونة المعاملة وللجفوة في حركات النحال حينما يفتح الخلية ويتناول الأقراص.
راحت تطوف بانتظام مع أمين بطوائف المنحل، وقد قسما فحصها على ثلاثة أيام، وساعدته بثينة بمطالعتها المنزلية وبروحها الجدية المتوثبة للعمل على الفحص المُجدي السريع، فكان يشرح لها ما يستحق الشرح في أثناء العمل ولكن دون إسراف، وقد عودها على كيفية الفتح المنظم، ولقنها كيف أنه لا يجوز للنحال أن يفتح أية خلية مأهولة بالنحل إلا إذا كان له سلفًا غرض معين من هذا الفتح. أما الكشف عن النحل لشهوة الكشف فإضاعة للوقت وإساءة للنحل.
وما كان أبهج من منظر بثينة وقد تشجعت على العمل؛ إذ جاء الجو مسعفًا وهدوء النحل مُعِينًا ودخول الرحيق في الخلايا مطمئنًا، وصارت هي الأستاذة النحالة وأمين يساعدها. عرفت كيف تدخن في اعتدال عند باب الخلية، وبعد انتظار برهة (ثلاث دقائق أو نحو ذلك) ترفع الغطاء الخارجي وتضعه على الأرض مقلوبًا ومجاورًا للخلية، ثم الغطاء الداخلي وتقيمه إلى جانب الخلية، ثم ترفع العاسلة إن كانت موجودة بأقراصها وتضعها فوق الغطاء الخارجي، ثم تأخذ في فحص الأقراص في غرفة التربية.
كانت تبدأ — كما علَّمها أمين — بفحص الأقراص في أحد جانبي الخلية، وهي الأقراص التي اعتادت النحل أن تختزن فيها العسل ودقيق الأزهار، مخصصة الأقراص التي في الوسط لوضع البيض، ومن هذه الأقراص يتألف العش كما ينعتها النحالون، وكانت تُخرج هذه الأقراص واحدًا واحدًا، وبعد تدبر وإمعان وتأكد من خلوها من الحضنة — أي خلفة النحل — كانت تضعها قائمة خارج الخلية مستندة إلى حائطها الجانبي أو الخلفي بعيدة عن طيران النحل وغير معترضة لعمل أمين أو لعملها، ولما كان فيض العسل قد بدأ والجو الدافئ مستمرًّا فقد علمها أن تنقل الأقراص العسلية التي في غرفة التربية إلى العاسلة، أي غرفة الغسل، لتشجع النحل على الصعود إليها، وتنقل محلها الأقراص الفارغة التي في العاسلة، وبذلك تشجع الملكة على البيض وتوسع العش، وكان للملكة هذه ولرعاياها حديث طويل بينهما قبل أن تنهمك بثينة هذا الانهماك في الإجراءات العملية لإنتاج العسل.
كان حديثًا خلابًا ساحرًا سحرها أي سحر، فإن كل وصف قرأته لم يكن ليقارن بما شاهدته بعينيها ولمسته بيديها وأحسته بنفسها من مظاهر هذه الحشرة الجميلة وتكوينها وتصرفاتها حتى كانت بثينة تقف الوقفات الطويلة مع أمين دون كلال أو ملل، وكادت تنسى أو تهمل طعامها وشرابها وقد أصيبت بما يسميه الهواة «حُمى النحل»، وليس هذا فحسب، فقد اكتشفت نفسها — كما يقال — وأحست بشخصية جديدة وبعالم جديد، وشعرت بأنها أضاعت أعوامًا من حياتها في قشور حسبتها لب الجمال وروح الطبيعة، في حين أنها كانت في الواقع غير ممتزجة بها وبعيدة عن صميمها … وها هي ذي الآن مندمجة فيها أي اندماج حتى لتكاد تحس في تحمسها أنها من أسرة النحل، وأنها عاملة من العاملات …
– لا، بل أنت أغلى ملكاتي يا بثينة.