الفصل الثامن
رأت بثينة وأمين أن لا بد لهما من الإكثار من زيارة المنحل، وقد انتصف شهر يونية، وانضم إليهما فريد، وقد تشجع واستثيرت رغبته، فكان ثلاثتهم صحبة منسجمة للدرس والائتناس. فكانوا يتبادلون الملاحظات والأسئلة والأجوبة في زياراتهم اليومية للمنحل حتى صار فريد وبثينة توأمين في الخبرة والمعرفة، وكان فريد وشقيقته صفية عونًا لأمين وبثينة في إجراء عملية الفرز الأولى وقد بكرا لها، وزاد من أنسهما أن أحضرت بثينة معها شقيقتها الصغرى نادية، وفي أصيل اليوم السابق هيأ أمين الخلايا المراد فرزها بوضع جهاز خاص لفرز النحل من العاسلات في فتحة الغطاء الداخلي الذي أحله ما بين العاسلات وغرفة التربية، مفسرًا بأنه متى جاء الصباح فسيهبط النحل جميعه من العاسلات، وستتاح لهم فرصة فرز أقراصها دون أي عناء أو مضايقة للنحل أو لهم.
وفي صباح اليوم التالي حضر الجميع مبكرين، واتفقوا على أن تتولى الآنسات الثلاث عملية الفرز داخل الغرفة المخصصة له، وأن يقوم أمين وفريد بنقل أقراص العسل إلى غرفة الفرز، ثم إرجاعها إلى الخلايا بعد إتمام فرزها، وبدأوا متعاونين بغسل حجرة الفرز، ثم بغسل الفرازين والفناطيس المعدة لتلقي العسل المفروز فيها والمواعين المخصصة لوقوع الأغطية الشمعية من أقراص العسل عليها عند كشطها، وكذلك أدوات الفرز والغرف الصغيرة من سكاكين وشوك ومغارف ونحوها، ولكن أمين رأى قبل البدء لعملية الفرز أن يوجه إلى الجميع ملاحظات عامة للاسترشاد بها وبيانًا عن أسباب تصرفاته فقال: إذا كنت أتعبتكم بهذا الغسل الشامل لغرفة الفرز ومحتوياتها قبل إجراء عملية الفرز كما سأتعبكم بمثله بعد الفراغ منها، فلا ريب أنكم تقدرون مثلي السبب الموجب لهذه العناية، وهو أننا نتناول مادة غذائية سلمتها إلينا النحل نقية فوجب علينا أن نحافظ على نقائها، ولو بيدي لما اكتفيت باستبدال الخلايا الطينية القذرة، بل لوضعت قانونًا لهجين المناحل أسوة بمعامل الألبان وجميع المصانع المنتجة للمواد الغذائية، ولا يعفينا من ذلك أن عسل النحل بطبيعته مادة غير صالحة لنمو الجراثيم الممرضة فيها مثل جراثيم التيفود والديسنطاريا وما إليها، وأحب قبل أن نبدأ العمل أن أوجه نظركم إلى بضعة اعتبارات هامة: فأولها أن استعمال مصرف النحل ينبغي أن يقترن بسرعة الكشف عن العاسلات؛ إذ لو حدث خلل في هذا الجهاز — على بساطته — فستكون النتيجة حبس النحل في العاسلات، وسيقضي عليها حتمًا إذا اشتد الحر كما ستصاب الأقراص بتلف، ولذلك وُضعت المصارف في أماكنها من الأغطية الداخلية في خمس وعشرين خلية، أمسِ عصرًا، استعدادًا لعملية الفرز هذا الصباح، واكتفيت بهذا العدد لفرز اليوم؛ لأني قدرت أن في ذلك ما يشغل وقتنا وأوعيتنا أو يزيد، فإن فرز خمسمائة قرص تحوي زهاء خمسة وعشرين قنطارًا من العسل ليس أمرًا هينًا، وقد اتفقت مع مساعدي على الحضور قبل الغروب في سيارة من شركة النقل الأهلية لنقل فناطيس العسل، كما اتفقت مع شريكتي العزيزة الآنسة بثينة على تولي تصفيته ثم تعبئته فيما بعد، وتعهدت بأن لا أغالطها في نصيبها الحق جزاء تعبها بعد تسويق العسل والحصول على ثمنه، والآن أعلن تعهدي لكم أيضًا بأن لا أغالطكم، وسيكون لكم نصيبكم أيضًا من هذا النضار السائل تحت أقدامكم وفي متناول أيديكم، بل أخشى أن تسخطوا عليه؛ لأنكم لن تتموا عملية الفرز إلا وتجدوا هذا النضار السائل منثورًا ومفروشًا أينما سرتم ولاصقًا بأجسامكم … فضحك الجميع، وقالت صفية: إنهم مكتفون «برائحته» … وقال فريد: بل إنه متطلع إلى فكرة المشي على بساط العسل … فقال أمين: لا تعجب لهذه الملاحظة، فبالرغم من كل حيطة لا أدري كيف يتسرب العسل إلى أرضية غرفة الفرز وإلى جوانبها وإلى كل من فيها وإلى كل محتوياتها، ولذلك فإني أخصص لمن يعملون في فرز العسل طاقيات أو قبعات بيضاء خاصة، وكذلك أردية خارجية بيضاء، محاولة لصيانة العسل من التلوث ومحاولة لصيانة الفارزين من أن يعسلوا … وبهذه المناسبة تحضرني أسطورة «الطريق الذهبي» أي المفروش بالذهب، فهي ووصف الطريق العسلي سيان في الخيال والحقيقة … وتجيء سيرة الطريق الذهبي في قصص شتى للأطفال حتى رآه الكبار رأي العين في غينيا الجديدة، وقد رصف العمال بين أحراجها ميلين من طريق جديد فلما جفت الأرض وجدوا الطريق يتألق برَّاقًا في أشعة الشمس وقد حوت الحجارة التي يستعملوها في رصف هذه المسافة الصغيرة منه ما قدر بخمسة وأربعين ألف أوقية من الذهب يبلغ ثمنها مليونًا من الدولارات …! وهكذا تجيء سيرة العسل المفروش في الطرق المزهرة في كتب الأطفال الخيالية، وكيف تخطر عليه الحوريات، وكلما سارت عليه زاد حلاوة فتوزعه ذات اليمين وذات اليسار، وكلما لمسته استحال إلى حلوى مبلورة هي أمنية الأطفال … وسنرى اليوم العسل تحت أقدام الآنسات.
فقاطعته بثينة قائلة: أراك قد عدت إلى استرسالك القديم يا أمين، ولن ينفعنا ظرفك ومؤانستك إذا ضاع الوقت فإننا لم نبدأ بأي عمل بعد، ولم تتعد في ملاحظاتك أولاها …
فقال أمين: صدقتِ يا عزيزتي، فأنتِ أدرى الجميع بعيوبي، وأنتِ جديرة بوقفي عند حدي … إن ثاني الاعتبارات التي أريد توجيه أنظاركم إليها يا ضيوفي الأعزاء: هو أن الاستغناء عن مصرف النحل والاكتفاء بنفض الأقراص واحدًا بعد آخر سواء بهزها أو بواسطة مسحها بفرشاة ناعمة طويلة الشعر ليس معناه المشقة والعطلة فحسب، بل تعريض الطائفة كذلك إلى اضطراب شديد نتيجة هذا العمل، وقد يكون من عواقبه فقدان الملكة، وعلى الأخص إذا أضاف النحال إلى هذا الخطأ خطأ آخر وهو إجراء الفرز بعد انقطاع الرحيق حينما تنزع النحل إلى السرقة بعضها من بعض فتهجم النحل الغريبة على ملكة الطائفة وتقتلها وتضايق المشتغلين في غرفة الفرز مهما أحكموا قفلها واحتاطوا ضد دخولها إليهم لسرقة العسل. أما ثالث الاعتبارات: فهو أني أتحاشى فرز الأقراص غير المختومة، ولذلك لا أتعجل الفرز بل أنتظر حتى تغطيها النحل بطبقة من الشمع إيذانًا بنضوج ما فيها من العسل، وحينئذ لا خوف على هذا العسل من الاختمار بعد فرزه؛ لأن كثافته وتركيز السكر فيه ستحول دون نشاط جراثيم الاختمار، وهأنذا لم أتلهف على الفرز المبكر حبًّا في اكتساب السوق ولو بعسل ناضج قابل للاختمار، ولم أتباطأ أكثر مما ينبغي حتى ينقطع الرحيق وتضايقنا النحل السارقة، وكثيرًا ما يحدث في هذه المنطقة ما بين منتصف يونية ومنتصف يوليه أن يشح الرحيق، وذلك قبل تزهير القطن أو الخضر تزهيرًا كافيًّا، وفي مقدمتها البامية التي تعتبر من الوجهة النباتية من فصيلة القطن وتدر مثله رحيقًا وفيرًا مدة طويلة تعد بالأسابيع، ولكن الغالب في هذا العام بسبب تأخير فيض البرسيم نتيجة تأخر الربيع أن لا تنشأ فترة الجدب المعتادة، وأن يلاحق فيض العسل من الخضر والقطن — على قلة المزروع منه في هذه المنطقة في زمن الجدب — فيض البرسيم، وقد اعتاد النحالون في مثل منطقتنا هذه في فترة الجدب أن يبتعدوا ما أمكن في أثناءها عن فتح الخلايا إلا لضرورة قصوى، وعن عمل النويات، وعن إدخال الملكات وما إلى ذلك من عمليات لا نتيجة لها غالبًا إلا الفشل بسبب شيوع النحل السارقة، وجسها النبض عند أبواب الخلايا، واستعدادها لمهاجمة أية طائفة يتيمة كسيرة الجناح أو أية نواة ضعيفة، وإن نجاح إدخال الملكات ليساعد عليه أن يكون في أثناء فيض الرحيق أو في أثناء تغذية صناعية سخية بشراب سكري أو بعسل مخفف بالماء حتى تشغل النحلة بهذه التغذية عن التربص للملكة الجديدة، وهو مبدأ سيكولوجي له اعتباره في الحشرات والحيوانات كما له اعتباره في عقلية الإنسان، ولعلكم تذكرون خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي في المسجد الجامع بالكوفة حين ولي العراق، وكان متلثمًا بعمامة خز حمراء كما نتلثم نحن بهذه الأقنعة فقد قال منذرًا فيما قال: « … أو لأدعن لكل رجل منكم شغلًا في جسده!» أي عقابًا جسديًّا يشغلون به عن مناوأته، ومبدأنا واحد، ولكنا لا نشغل النحل في هذه الحالة بالعقاب بل بالثواب، وهو ما يفعله كثير من قادة الشعوب فيشغلونها بمسائل صغيرة تثير اهتمامها حينما تكون عنايتهم موجهة إلى مسألة كبرى تعنيهم وحدهم، ومسألة المسائل للنحال في تلك الحالة هي التوفيق في إدخال الملكة وسلامتها وتلاحظون …
فقاطعته بثينة قائلة: لا يا أمين، يظهر أنك تريد تقليد شيشرون … دعنا بالله من التاريخ والاجتماع، ولنؤجل إكمال محاضرتك اللذيذة الممتعة إلى جلسة سمر في بيتي أو إلى فرصة أخرى، فإن الوقت يضحك منها ويهرب معجلًا، وقد مضت علينا ساعة في غسل وحديث ولم ننجز شيئًا بعد من عمل اليوم، مع أنك أنذرتنا بوجوب إنجازه …
– سمعًا وطاعة يا مولاتي.
وبزعامة بثينة وبإرشاد أمين بعد أن تعاون وفريد على نقل العاسلات تباعًا إلى غرفة الفرز تمكنوا من إنجاز عملهم على أحسن وجه (وإن لم يستطيعوا فرز جميع الأقراص) ومن إعادة الغرف بأقراصها المفروزة إلى الخلايا بعد أن رفعوا الأغطية الداخلية إلى أعلا العاسلات، ونزعوا مصارف النحل منها، واتفقوا على أن يستريحوا يومًا؛ ليكملوا فرز بقية المنحل على دفعتين بمثل ذلك الاستعداد، وقال لهم أمين: إن النحل كفيلة بتنظيف الأقراص المفروزة، وجمع ما عليها من عسل، وإيداعه في بعض عيون القرص، ثم استئناف عملها في الحقول للمحصول الثاني، حتى إذا ما حان شهر أغسطس كان لهم أن يتطلعوا لفرز «القطفة الثانية» من العسل الناتج من القطن والخضر، وهو زيتي اللون وأكثف قوامًا من عسل البرسيم الأبيض ومن عسل الموالح الذي لا يشبهه إلا في اللون، والذي يتيسر في مناطق الدلتا الغنية بأشجار الموالح وعلى الأخص في مديريتي المنوفية والقليوبية، وذكرهم بأن العسل كالأنبذة شتى الألوان والطعوم، فمنه عسل الفول الأبيض الذي اشتهرت به بعض المناطق في الصعيد وعلى الأخص مديرية المنيا، ومنه العسل القاتم الناتج من الأشجار العسلية في جيرة البساتين كبعض أعسال القاهرة والإسكندرية والقناطر الخيرية، ومعظمه من إنتاج المدن التي تكثر فيها الحدائق؛ إذ ليست لنا الغابات الشائعة في أقطار أخرى، وقال: إن العسل المصري على اختلاف صنوفه من أفخر أعسال الدنيا، فهو على أي حال جدير بعنايتنا، وقد علمهم أمين طريقة بسيطة لإعداد الأقراص للفرز، فما كان يلجأ إلى السكين الطويلة الساخنة لإزالة أغطية الأقراص قائلًا إنه لا يرى موجبًا لاستعمال هذه السكين، أو كبديلتها السكين البخارية والسكين الكهربائية، إلا في المناحل الكبرى — وقد سبق له استعمالهما في أمريكا حيث تستعمل أيضًا الفرازات الكهربائية — وحسبه في منحله الصغير هذا (وإن اعتبر منحلًا كبيرًا في مصر) أن يلجأ إلى كشط أغطية الأقراص تجريحًا بالشوكة فقط؛ وسيكفي هذا لخروج العسل من عيون القرص بالقوة الدافعة للفراز حين إدارته، وقد عني أمين من البداية بالتأكد من عدم صعود الملكات إلى العاسلات قبل وضع مصرف النحل ما بينها وبين غرفة التربية، فكانت الخلية التي يجد في دورها الثاني أقراصًا من الحضنة يتركها حتى يفحصها في مرة تالية، ولو أن مصرف النحل كفيل على أي حال بهبوط الملكة مع نحلها، وحدث فعلًا أن فاتته رقعة من الحضنة، في أحد الأقراص العاسلة فبقيت النحل عليها ومعها الملكة فتدارك ذلك، وقال إنه لا يجاري الداعين إلى استعمال «حاجز الملكة» ما بين غرفة التربية والعاسلات؛ لأنه معطل لعمل النحل. والحاجز عبارة عن مسطح من الزنك مساحته السطحية مساحة غرفة الخلية، وهو مثقوب بثقوب تسمح بمرور العاملات، ولا تسمح بمرور الملكة إلا إذا كانت شاذة في صغر حجمها كبعض الملكات المصرية، وهو يوضع فوق غرفة التربية، أي ما بينها وبين العاسلات، وثمة أشكال أخرى من حواجز الملكات بعضها مصنوع من السلك المتين المضفور والخشب، ولكن أمين كان ينفر من هذه المعدات التي تضاعف العمل وتضيع الوقت وتعرقل النحل، ومن أجل ذلك كان يضحك من استعمال مصايد الذكور على أبواب الخلايا، ويجعل شعاره «الوقاية خير من العلاج».
كان ذلك اليوم يومًا من أيام النصر لأمين وبثينة، فعادا مخمورين بحلاوته، كما عاد الجميع في مثل نشوتهما، ولكن كانت لكل منهم آمال خاصة وإن اشتركوا في أحلامهم المجنحة.