الفصل التاسع
مرت الأسابيع سراعًا، ولكنها مرت حافلة عامرة، وقد انتظم ثلاثتهم — أمين وبثينة وفريد — في الحضور إلى المنحل، دون أن يفوتهم التردد أيضًا على المناحل الأخرى، وتخلى أمين عن أنانيته وحبه الاستمتاع وحده بصحبة بثينة رغبة منه في استفادتها علمًا وتمرينًا وإنتاجًا، فكان يعرفها إلى أصدقائه النحالين المتعلمين، وكان يعطيها كل الفرص المتاحة للمشاهدة والخبرة، وأجاز أحلامها فهيأ لها فرصة في أثناء فيض عسل القطن والخضر لتربية الملكات صناعيًّا مختارًا يرقات طائفة كرنيولية ممتازة، فكانت فرحة بثينة عظيمة بنجاحها، وتردد الطلبة على المنحل فتهيأت منهم حلقات للدرس، وكانت بثينة وفريد يتبادلان معًا إرشاد المبتدئين طورًا تحت إشراف أمين وتارة مستقلين، وكان أمين في تدريبهما يجهد كأنه يسابق الزمن، كأنما يريد أن يلقنهما في أسابيع ما يستأهل شهورًا من الدرس، وأن يمرنهما على تلك المعرفة تمرينًا قويًّا جبارًا، والمثل يقول: «حيثما وُجدت الرغبة وُجدت الوسيلة» وقد كانت الرغبة قوية في المعرفة والتمرن عند بثينة وفريد، فكانا متجاوبين مع أستاذهما تجاوبًا تامًّا، وكانت حماستهما لا تحد. درس أمين معهما شتى الأزهار التي يهواها النحل، وكثيرًا ما كان يصحبهما إلى الحقول وإلى شاطئ الترعة وإلى حوافي الجداول لجمع الأزهار ثم يدرسونها معًا — في مكتبه وعلى الأخص الأعشاب الآبدة منها — مستعينين بما لديه من مراجع علمية عن النباتات العسلية، ولم يفته معهما فحص نماذج من العسل ميكروسكوبيًّا بعد ترسيب محتوياته من الطلع؛ للاستدلال منها على مصادره ومعرفة صنفه، وهكذا كان ينتقل بهما من النظريات إلى العمليات ومن العمليات إلى الفحص العلمي الخالص وإن كانت له قيمته التطبيقية.
ودرس معهما بصفة خاصة كيفية ضبط الانثيال في المنحل (وإن كان وقت الترويح إليه محصورًا في مدة معينة تختلف باختلاف كل منطقة، وإن عمها إجمالًا جانب من فصل الربيع) وكيف يمكن عمل نول صناعي، أي تقليدًا للطبيعة، وذلك بأخذ أقراص الحضنة بما عليها من نحل من الطائفة النزاعة إلى الانثيال المصرة على بناء بيوت الملكات وتربيتها ونقلها إلى خلية جديدة في مكان آخر مع بيت ملكة جيد النضج، على أن يترك في الخلية الأصلية قرص من الحضنة المختومة، وتنزع البيوت الأخرى إذا لم توجد حاجة إليها أو تستعمل في خلايا أخرى تحتاج إليها إما بسبب يُتم طوائفها وإما استبدالًا لملكاتها المسنة أو العاجزة، وإما لتأليف نويات جديدة، وهكذا لا يبقى في الخلية الأصلية سوى أقراص العسل والطلع والملكة وبعض النحل الصبية والمتوسطة العمر وجمهرة النحل، وفي المعتاد يكفي هذا لتثبيط روح الانثيال التي يعدها أمين من أخطر ما يسيء إلى المناحل الخارجية أي المناحل الريفية البعيدة عن المنحل المركزي، أي عن مكان الإدارة.
كذلك أراهما كيف يمكن عمل ثلاث طوائف من طائفتين مستعينًا بأقراص من الحضنة وبيت ملكة من إحداهما وبالنحل من الطائفة الأخرى حيث يضع الخلية الجديدة محلها، كما أراهما عمليات شتى على هذا النحو وغيره بالإكثار متى توفر النحل وبيوت الملكات والملكات، وإنما كان يشترط لنجاح كل ذلك أولًا: مواتاة الظروف بالنسبة للجو والرحيق، وثانيًا: استغلال رغبة النحل ذاتها في التكاثر، فكان يأبى تقسيم أي طائفة لا تنزع إلى بناء بيوت ملكات إلا إذا كانت في متناوله ملكات جديدة مخصبة، وكان مع ذلك الجو والرحيق يسبب ما يطرأ من ظهور «أمهات كاذبة» أي «عاملات بياضة»، وهذه وإن لم تكن مألوفة بهذه الصورة في هجين النحل الكرنيولي الإيطالي إلا أنها كثيرًا ما تظهر في هجين النحل الشرقي والأفريقي متى أحست الطائفة بفقد ملكتها، فتكون هذه «العاملات البياضة» مبعث متاعب عديدة.
ودرس أمين معهما علامات السرقة، سرقة النحل من بعض، وكيفية تحاشي ذلك بعدم فتح الخلايا في أثناء النهار عندما ينضب الرحيق بالحقول، وبتحاشي عرض أية مادة سكرية في المنحل إبان فترة الجدب، وبالامتناع عن أية تغذية إلا قبيل المساء وعلى وجه السرعة وعند الضرورة فقط حتى لا تنتبه النحل الطائرة إلى هذه العملية، فتهاجم الطوائف المغذاة حتى ولو كان لدى طوائفها هي الغذاء الكافي بل نفس التغذية الصناعية.
وعودهما الاستماع إلى أصوات النحل المختلفة، وتبين الفروق بينها — من صوت الملكة التي تنادي طائفتها للانثيال، إلى صوت النحل الصبية التي تطير لأول مرة راقصة مرحة مستمهلة أمام باب الخلية دارسة معالمها وجيرتها قبل أن تجازف بالابتعاد عنها، إلى صوت النحل اليتيمة المستكينة، إلى صوت النحل الخائفة، إلى صوت النحل القانعة الراضية، إلى صوت النحل الغاضبة، إلى صوت النحل السارقة، إلى صوت الذكور المتميزة الطنين في أثناء طيرانها، وكان يبين لهما فائدة هذه المعرفة من الوجهة العملية، ووقعت مرة حادثة سرقة لنواة فعمل على وقف السرقة بنقل النواة من محلها مؤقتًا وبدهن بابها بمحلول الكربوليك فلم يجدِ ذلك نفعًا، وأخيرًا ضمها إلى طائفة صغيرة لم تعجبه ملكتها فقتلها واضعًا جريدة مبسوطة فوق غرفة التربية وقد ثقبها ثقوبًا متعدة بمسمار صغير واضعًا أقراص النواة بنحلها في الدور الأعلى، ثم قافلًا الخلية بعد ذلك حتى يتيح للنحل فرصة قرض الجريدة في مواضع الثقوب، ثم الاختلاط بعضها ببعض دون نزاع بعد أن تتوحد رائحتها، وقد أوضح لهما أن هذه هي الطريقة المثلى للتوحيد (أي الضم)، وأن الواجب اللجوء إليها كلما وجدت طوائف يتيمة أو نويات ضعيفة ولم تسمح الظروف — كما قد يحدث في الخريف عند نهاية الموسم — بتربية ملكات جديدة، وبالحصول على ملكات مخصبة جيدة؛ إذ لا فائدة من محاولة تشتية نحل ضعيفة الطوائف وتعريضها لعبث الجو البارد الممطر بها ولمهاجمة الأعداء لها.
وتناول معهما مسألة تدريج العسل وإعداده في حالة جذابة للسوق وكيفية خزنه، ولم يفُته قبل التشتية، وبعد انتهاء آخر فرز من التعاون معهما على تغذية الطوائف بعض التغذية السريعة؛ إذ كان قد صرح أن ما في الحقول من خضر وذرة كافٍ إلى حدٍ بعيد بموافاة النحل بحاجتها من الغذاء حتى شهر مارس «المقبل» حين تشتد حاجة النحل إلى زيادة الغذاء بسبب التوسع في تربية الحضنة.
وكان مما ذكره عن تدريج العسل أنه من الوجهة التجارية تحسن بنا دراسة ذوق الجمهور الذي نبيع له أعسالنا، فإذا كان شديد الانقسام بعضه يحب العسل الأبيض، وبعضه يؤثر العسل الأصفر، وغيرهما يؤثر العسل القاتم؛ فمن المصلحة حينئذ فرز هذه الأعسال على حدة وتدريجها، وتعيين أثمان خاصة لكل منها حسب المقدار الميسور من الفرز ومزاياه؛ إذ من المعقول مثلًا أن يكون عسل الأشجار العَطِر الرائحة — ولو أنه قاتم اللون — أغلى ثمنًا من عسل القطن، وعلى الأخص بعد أن أثبت التحليل الكيميائي وجود الحديد في العسل القاتم مما يجعله ملائمًا للأطفال، أما إذا كان الجمهور لا يهمه هذا الاختلاف اللوني، ويعني على الأكثر بطعم العسل، فمن الحكمة مزج الأعسال وضبط لون قياس لها يعرف به إنتاج المنحل إلى جانب اسمه ووسمه.
وكرر أمين التنويه بأهمية التعبئة الحسنة، وإن كانت وحدها لا تكفي لرواج العسل، وإذا خدع بها بعض المشترين أولًا فسرعان ما يكشف عيب العسل وغشه فينصرف الجمهور عنه، ومن أبرز هذه العيوب الواضحة: بيع عسل الكوارات باسم عسل ناتج من خلايا فرنجية حديثة. أو بيع عسل مغشوش مخلوط بشراب الجلوكوز كأنه عسل نحل نقي، ولكن ليس معنى اغترار أي نحال بإنتاجه النظيف الجيد أن يهمل تعبئته الحسنة أو يقصر الدعاية له، ولعل أفضل الأوعية من وجهة الدعاية هي الأوعية الزجاجية البلورية، وقد برعت أمريكا في صناعتها بأشكال وأحجام شتى، وبعضها في هيئة مرجونة النحل، وقد رسم شكل النحل بارزًا عند بابها، فمن هذه الزجاجات يلوح العسل جذابًا للناظرين ويراودهم لشرائه، ولو أن لعلب الورق المشمع وللصفائح مزاياها إما من جهة الرخص وإما من جهة المتانة والقابلية للتصدير متى لحُمت أغطيتها، وكلتاهما مما يمكن وضع اسم المنحل وعنوانه مع تصوير النحل والأزهار وما إلى ذلك عليها في صورة جذابة.
وأشار أمين إلى أنه من مصلحة النحال أن يبيع إلى جانب العسل المفروز بعض العسل الشمعي أو على الأقل يعرضه في متاجر بيع العسل كإعلان له، ولو أن إنتاج العسل الشمعي وعلى الأخص في هيئة القطاعات — وهي العلب الصغيرة المُعدة لإنتاج رطل من العسل الشمعي في كل منها — يحتاج أولًا إلى طوائف بالغة القوة، وثانيًا: إلى مناطق عظيمة السخاء غزيرة الفيض بالرحيق، وثالثًا: إلى جهات غير شديدة الحرارة حتى لا تأبى النحل الاكتظاظ في عاسلات القطاعات.
وانتهز أمين نجاح الفرزين فنوَّه من جديد بالأقراص الصناعية التي كان امتلاؤها بالعسل قرة للعيون، والتي كانت تسمح لمتانتها بالفرز السريع دون أي خشية عليها من التلف، في حين أن عددًا من الأقراص الشمعية — وعلى الأخص الأقراص الجديدة — ما كان يستطاع فرزها فرزًا كاملًا، وتعرض بعضها للتلف.
كذلك نوَّه أمين في دروسه بالانتفاع بمنتجات المنحل الانتفاع الأوفى، وبالإكثار منها؛ إذ لا يجب أن تقتصر العناية على تسويق العسل والشمع فحسب، وذكر أن في أمريكا توجد شركات تعني بصناعة خل العسل باعتباره ألطف طعمًا وأصلح نفعًا من الخل التجاري المعتاد، وحتى خل المولت (أي الخل المصنوع من الشعير المنبت أو شعير الجعة)، وثمة شركات تعني بصناعة المشروبات الروحية لا يفوتها صنع التبغ أو خمر العسل، وهو من المشروبات الروحية النقية الفاخرة.
ولو وُجدت جمعية تعاونية مركزية تعني بالتوسع في منتجات المناحل وفي تسويقها في محلاتها الخاصة لوجدت مجالًا فسيحًا لعملها، ولنشأت فيها أقسام مختلفة لكل منها اختصاصه ومحاله في التحضير والبيع، فعدا صناعة الخل والمخللات من خضر وفواكه توجد صناعة التبغ، وصناعة المشروبات كالليموناده وأمزجة العسل باللبن والشيكولاتة وصنوف الكوكتيل، ثم صناعة الفواكه المحفوظة بالعسل، فضلًا عن الكعكة والهلام ومخاليط الزينة وغيرها من صنوف المأكولات المتعددة التي يجملها العسل، ثم صناعة المربيات العسلية، وصناعة صابون العسل، والدهانات الطبية، والورنيش الذي تُطلى به الأثاثات والأرضية الخشبية للغرف … وغير ذلك من التحاضير التي لا حصر لها.
وما ظهر الوروار أو آكل النحل حتى كان أمين شديد السخط على عدم التعاون على محاربته، وكيف أن القانون يحميه باعتباره من آكلي الحشرات، مع أن تشريح حوصلته أثبت على أن جل محتوياتها إن لم يكن كلها عبارة عن نحل أو أجزاء من النحل. فهذا الطائر عدو لدود للنحل، وهي تسمع لصوته المنفر المخوف، وتراه يتبعها أفواجًا بل ويكاد يقف في الجو وهو طائر ويلتقط أخواتها غنيمة باردة، وبعضها في شجاعتها تجري وراءه تريد لسعه، ولكن هيهات! وهكذا يعطل الطوائف عن العمل بل قد ينكبها في أعز شيء لديها وهي ملكاتها إذا ما عادت إلى الخلايا للتخصيب، وقد يؤدي ذلك إلى خراب مناحل التربية. فمن الغرابة بعد ذلك أن يحمى مثل هذا الطائر هذه الحماية العمياء، وهناك طيور لاقطة غير الوروار ولكن هذا الطائر الشره كان أشدها خطرًا.
أما سخط أمين على الشفافير فكان أشد من سخطه على الوروار، وقد عد ضررها للنحالة المصرية مقابلًا لضرر الأمراض المعدية للنحل في أوروبا وأمريكا، وكان تألمه منصبًّا على التهاون في محاولة استئصالها أو على الأقل محاربتها كما يحارب الجراد، فكلاهما ضار بالزراعة، والشفافير لا تقضي على المناحل فحسب بل تسيء كذلك إلى محصول الفاكهة، وإن النحالين ليعانون منها كثيرًا ما بين تعطيل النحل وما بين الإنفاق على صيدها في المناحل وما بين حبس الطوائف بالحواجز المعدنية المشابهة لحاجز الملكة مثبتة على أبواب الخلايا، في حين أن التشريع بمسؤولية كل مالك عن تسميم أعشاشها في ملكة مع مراقبة تنفيذ ذلك كفيل باستئصال شأفتها في سنوات قليلة بدل الخسائر الفادحة التي تصيبنا منها عامًا بعد عام.
وأما عن أعداء النحل الأخرى كالفيران والضفادع والسحالي والعناكب والنمل فأمرها هين بالنسبة إلى هذه الشفافير المتوحشة، وقد يعد من أعداء النحل النحال الجاهل والنحل المنحطة. فالنحال الجاهل بسوء تصرفه قادر على إتلاف خير الطوائف وأقواها، والنحل المنحطة إذا استقرت في منحل أفسدت ذكورها تلقيح الملكات العذارى، وبلبلت بطباعها الشاذة النظام الهادئ في المنحل ما بين لسع مفاجئ لا مبرر له وسرقات متعددة وغير ذلك من المتاعب المضايقة، ولذلك يجب على النحال الحصيف أن لا يسمح أبدًا بإقامة مثل هذا النحل في منحله، وكفى شيوع الذكور المصرية وتنقلها الذي لا يُحد ما بين المناحل.
ولما اقترب الشتاء همَّ أمين أن تكون جميع الخلايا مثبتة جيدًا بحواملها في الأرض حتى لا ينال منها عصف الرياح، كما همَّه أن تكون جميع طوائفها قوية، وقد عمل على تحقيق ذلك، ولم يعبأ بما اعتاده سواه من وضع قش الأرز وما إليه في غرفة خالية فوق الغطاء الداخلي؛ بل كان يصرح بأن أفضل غطاء للنحل هو النحل، أي أن الطوائف القوية في غنى عن أي غطاء خارجي، وأن ما يؤذي النحل ليس البرد ما دام في حدود الاعتدال كما هو الحال في مصر، وإنما هي الرطوبة، ولذلك يجب أن يكون سقف الخلية محكمًا لا يسمح بتسرب المطر إلى داخلها.
•••
وهكذا انتهى الموسم على أحسن الأحوال من تعليم وصحبة وإنتاج، فانقطع المتعلمون وانفض السامر، ووزع أمين الهدايا على أصحابه، وخص بثينة بهدية غالية نفيسة، وحسب أن فريدًا قد عاد إلى القاهرة مفاجأة لاستئناف دراسته فإذا به يزوره ويبلغه أنه حول دراسته إلى كلية الطب بجامعة فاروق الأول، فسُرَّ أمين من ذلك؛ لأنه كان يحب فريدًا ويستظرفه ويعجب باستقامته وبتنزهه عن الغرور، ولكن مضت الأيام ولم تتكرر الزيارة، فحسبه في البداية مشغولًا بدراسته ورأى من الواجب أن يسأل عنه، وعلى الأخص؛ لأنه فاتته رؤية بثينة زمنًا، وكان كلما سأل عنها قيل له إنها ما تزال متغيبة في العاصمة …
وذات مرة توجه إلى منزل فريد فإذا بشقيقته صفية تبلغه أنه ذهب إلى السينما مع الآنسة بثينة لمشاهدة عرض رواية (الأرملة الطروب) الغنائية.
فذُهل أمين، وأسقط في يده، ولكنه تمالك نفسه وسأل صفية: حسبت أن الآنسة بثينة ما تزال في القاهرة.
– لا أعرف أنها سافرت بعد، فهي كثيرًا ما تزورنا مع شقيقتها الآنسة نادية، وقد كنا نتحدث عنك أمس فقالت الآنسة بثينة إنك مشغول جدًّا في هذه الأيام.
يا لله! أهذه نهاية الحب؟ أكذا يكون الوفاء؟ أيمكن أن تفكر في شاب صغير مثله لم ينضج بعد؟ ثم ما هذه الزيارات المتواصلة المتبادلة بينها وبين فريد في حين أنها كان تهرب من لقاء أمين؟ وما هذه السينما التي تجمعهما في مشاهدة أوبريت غرامية قائمة على الاستهواء والمجازفة؟ أكان سخيفًا أبله في ابتعاده هو عن الاستهواء والمجازفة؟ … لقد فقد كل شيء، حينما كان يأمل في قرارة نفسه أن تكون فاتحة العام الجديد المقبل فاتحة سعادة جديدة له.
ولبث حائرًا بعد انصرافه تتلاطم هذه الخواطر في ذهنه، وكله لوم لنفسه على تهيئة الفرص لفريد للظفر ببثينة، بينما أطار حظه من يديه غباء وإهمالًا … وبقى زمنًا في غم وكرب لا يدري ماذا يصنع، أيواجه فريدًا ويستوضحه حقيقة ما بينهما، أم يذهب إلى بثينة التي حسبها محبوبته الخالدة؛ ليشكو ويؤنب دون مواربة؟!
وأخيرًا انتهى عزمه على مقابلة فريد في اليوم التالي، فتوجه إليه في الصباح الباكر فإذا به على وشك الخروج من المنزل.
– خيرًا يا أمين؟ صباح الخير!
– جئت لأراك في مسألة هامة وعاجلة يا فريد.
– أهي مسألة تتعلق بأعمالنا؟
– كلا، بل هي مسألة شخصية تعنيك وتعني بثينة أيضًا.
– إني فاهم ما تريد أن تقول، ولكني مضطر إلى سرعة التوجه إلى الكلية، وقد كنت مع بثينة ونادية نتحدث عنكَ أمس، فإن شئت فقابلنا اليوم في منزلها الساعة الخامسة بعد الظهر وستسمع منا الكلمة الحاسمة عما يجول في خاطرك.
وقبل أن يستوعب أمين هذه العبارات الجافة التي كانت تقرع سمعه كالحصى، وقبل أن يفيق من صدقها، كان فريد قد مرق وأسرع إلى الترام فركبه …
ولكن لا فائدة من استمرار القراءة أو من محاولة فهم ما يقرأ، وفي هذا المأزق ذهبت تربيته الأمريكية مع الريح، وما الفائدة من مخادعة نفسه وإيهامها أن حلمه ببثينة ليس متسلطًا عليه، وأنه ليس غايته القصوى؟ وما معنى التظاهر بأن يضع «نكبته» الحاضرة التي لا ريب فيها موضع المساواة مع «انتصاره» الذي كان يحلم به؟ … لا، لا، هذا رياء في رياء، وهذه حكم زائفة تنشد للعبث واللهو، وليس لها الآن أي طعم أو معنى أو وقع في نفسه … وانتزع الورقة من الحائط ومزقها …
•••
وحانت الساعة الخامسة بعد الظهر فكان أمين يطرق منزل بثينة وإذا بها شخصيًّا تستقبله، وكأنه لم يحدث منها أي حادث عكر صفوه وكاد يقضي على نفسيته، ولاحظ أنها تلبس رداء جميلًا ولم يذكر أنه رآها أبهى رونقًا مما رآها في تلك اللحظة. كذلك لاحظ أن شقيقتها نادية في مثل حلتها وقد توافقا، فللأختين مسحة واحدة من الجاذبية، وتمالك أمين نفسه وأخذ يحدثها على انفراد وهو يظهر الثبات والاطمئنان: يا بثينة يا حبيبتي، لقد جئت إليك عاتبًا وغير عاتب، فأنتِ جميلة متوجة، ولك أن تختاري من تشائين من رعاياك، ولكن وعدك القديم ما يزال مصونًا في قلبي يرن في أنحائه.
– وماذا حدث يا أمين حتى تستفز إلى العتاب والشكوى؟ وهل قطعت عهدًا بالزواج منك، أليس من صفات الحياة التغير والتجدد؟ أتنكر أنك أنت ذاتك تغيرت؟
– ماذا حدث يا مهجتي؟ وهل بعد ما جرى حدوث؟ أهذه عقبى تأميلي فيك يا بثينة؟ إني أدع لضميرك أن يعترف بعهدك المقطوع لي وهو عهد الحب والوفاء الصريح، فأين ذهب؟ أما أنا فلن أحول دونك أبدًا، وأنا أعبدك الآن كما كنت في كل وقت، فلا تذلي رجولتي يا بثينة.
– اسمع يا أمين، إن بيني وبين فريد كلمة صريحة ستسمعها الآن، وسأرى كيف تحتملها، ويجب أن يكون معنا بعد لحظة.
فلم تزد كلماتها خاطر أمين إلا بلبلة وهمًّا، وكاد يهم بمغادرة المنزل لولا أن طرق الباب ثم دخل فريد، فإذا به يستقبل أمين هاشًّا باشًّا، ويحتضنه مداعبًا خلافًا لما عهده منه في الصباح، وقبل أن يفيق أمين من ذهوله المجدد فاجأه فريد بقوله: إني أعدك في منزلة الأخ يا أمين، وأومن بأني لم أرَ صديقًا أنبل منك أو أطيب قلبًا وأكرم نفسًا، وقد اعتبرت نفسي وكيلك وتآمرت مع بثينة عليك، فاتفقنا أن يكون زفافك لها في يوم زفافي بنادية، وأن يتم العقد في الساعة السابعة هذا المساء، وبالفعل أرسلنا الدعوات لهذه الحفلة العائلية السعيدة، وها هي ذي السيدة والدتك قد حضرت فعلًا …
ولم يدعه أمين يتم كلامه بل هوى عليه وعلى بثينة يقبلهما تقديرًا ومحبة …
•••
كان العام قد مر على هذا الزواج السعيد، وفي ذكراه الأولى اعترفت بثينة لأمين بتبدل نظراتها العاطفية منذ صحبتهما في المنحل تبدلًا محسوسًا فإن الحياة في حضن الريف وما كانت تراه من أمومة النحل ومن رسالة الطبيعة أثر في نفسها عن وعي وغير وعي، فشعرت بأنه إذا كان لا قيمة للرجل بغير رجولته المكافحة القائدة، فكذلك ليس للمرأة من قيمة بغير أنوثتها التي ترعى الرجل، وإذا كان للرجل أن يدللها ويسعدها إلى جانب حمايتها وهي وظيفته الأولى نحوها، فإن عليها دون أن يسألها أن تلهمه وتؤانسه وتسعده فهذه وظيفتها الأولى نحوه، وهكذا يكون التجاوب السليم والتضافر على الحياة.
تعاونت بثينة وأمين تعاونًا قلبيًّا في كل أعمالهما فذاع صيتهما في النحالة والأدب، ونعما بحياتهما الزوجية الموفقة، ونجحا ماديًّا كما نجحا أدبيًّا، واقتنيا منزلًا ريفيًّا جميلًا زينا حديقته بالخلايا البيضاء الزاهية المأهولة بالنحل الكرنيولي الوديع، وكان المارة يشاهدون أحيانًا سيدة مشرقة في ردائها الأبيض وإلى جانبها طفلها الصغير الجميل وهي تشير بأصبعها إلى باب الخلية وتشرح له … وتوقفت النحل عن الطيران وقد سمعها تقول: «انظر يا سمير إلى هذه النحل فهي أخواتك، وهي التي جمعت بين بابا وماما، فيجب يا حبيبي أن تحبها كما تحبنا …»