مقدمة المترجم
في تصديرنا للجزء الأول من هذا الكتاب، حرصنا على أن نُشير إلى موقف برتراند رَسْل من مشكلة ارتباط الفلسفة بالحضارة الغربية، وهو الارتباط الذي يؤكده عنوان الكتاب ذاته. وسوف يرى القارئ، في خاتمة هذا الكتاب أنَّ المؤلف يعود إلى تأكيد هذا المعنى ذاته ويُبرزه في الصفحات الأخيرة من كتابه. فهو يُقدم سببَين رئيسيَّين لاقتصاره في الكتاب على معالجة حكمة الغرب، وعدم إفساحه مجالًا «لما يُطلق عليه عادة اسم حكمة الشرق»: الأول هو أنَّ العالَمَين، الغربي والشرقي، قد سارا في طريقَين مُنفصلين بحيث تطوَّر كلٌّ منهما بمعزل عن الأخر. والثاني هو أن تطوُّر الفلسفة في الغرب قد اتسم بِسِمة فريدة، هي أنه سار في طريقه منذ أيام اليونانيين، مُرتبطًا بالعلم، وكان هذا الارتباط هو الذي أضفى على الحضارة الغربية ذلك الطابع الذي يميزها عن «تأمُّلات العقل الشرقي».
هذان التعليلان يُثيران اعتراضاتٍ لا أول لها ولا آخر، ولو أطلق المرء لفِكره العنان لاحتاجت مناقشته لهذا الموضوع إلى دراسة كاملة. ولكن، حسبنا أن نورد بعض الملاحظات على آراء رَسْل هذه؛ كيما نُحفِّز ذهن القارئ إلى مزيدٍ من التفكير في هذا الموضوع الهام.
إنَّ القول بأن الحضارتين الشرقية والغربية قد نمَتْ كل منهما في اتجاهٍ مُستقل من اتجاهات التطور، لا يمكن قبوله إلا بكثير من التحفظات. فمن الجائز أن هذا الحكم يصدُق على حضارات الشرق الأقصى، كالهندية والصينية، ولكنه لا يسري بالقطع على حضارة الشرق الأوسط. فقد كان التداخُل بين هذه الحضارة والحضارة الغربية وثيقًا على مرِّ التاريخ، حتى لَيمكن القول أن مسار التطور في هذه الحالة إنما كان سلسلةً طويلة من حالات التأثير والتأثُّر، ومن التفاعل الذي يجعل من المُستحيل رسْم خطوطٍ قاطعة تفصل بين اتجاهات النموِّ في كلتا الحالتَين. ويكفينا في هذا الصدد أن نشير إلى تلك الحقائق التي أصبحت معروفة عن تأثُّر اليونانيين القُدامى بالحضارات الشرقية القديمة، ثُم تأثير الحضارة اليونانية ذاتها، علمًا وفلسفة، في عالم الإسلام، وأخيرًا، ذلك الدور الفعَّال الذي مارسته الثقافة العربية في إرساء القواعد الأولى للنهضة وهدْم عالم العصور الوسطى في أوروبا.
وهكذا يَستحيل القول بوجود مَسارين مُنفصِلين كلَّ الانفصال حين نتحدَّث عن نموِّ الحضارة الأوروبية في علاقته بنموِّ حضارات الشرق الأوسط. وإذا تذكَّرنا أن المسيحية التي تمثل إحدى الدعامات الرئيسية لحضارة الغرب، إن لم تكن هي محورها الأساسي، هي ذاتها عقيدة نشأت ونمَتْ واكتسبت سِماتها المميزة في تُربةٍ شرقية، وارتبطت تاريخيًّا بعقائد الشرق القديمة أوثق الارتباط — عندئذٍ يتَّضِح لنا أنَّ الحُكم الذي أصدره رَسْل لا يمكن أن يُقبَل على عِلَّاته. ولا سبيل إلى فَهم موقف رَسْل في هذا الموضوع إلا على أساس أنه أسقط حضارات الشرق الأوسط من حسابه، ولم يكن في ذِهنه إلَّا حضارات الشرق الأقصى، أو أنه كان يعتقد أنَّ التفاعُل بين الغرب وبين الحضارات الشرقية كان تأثيرُه من الضآلة بحيث لا يجوز الاعتداد به — وفي كلتا الحالتين لا نعتقد أنه كان على صواب.
أمَّا التعليل الثاني فربَّما كان يُثير مزيدًا من الإشكالات. فمن الصحيح بالطبع، أن جذور الفلسفة والعلم كانت في العصر اليوناني واحدة، وأنَّ البدايات الأولى لتاريخ الفلسفة، في ذلك العصر، كانت هي ذاتها البدايات الأولى لتاريخ العلم. ولكن هذا الارتباط لم يدُم طويلًا. فقد سكت صوت العِلم طوال الجزء الأكبر من العصور الوسطى الأوروبية، وتحوَّل اهتمام الفلسفة إلى المسائل اللاهوتية. وحين استعاد الفكر الأوروبي حيوِيَّته في مطلع العصر الحديث، افترق طريقا الفلسفة والعلم. وكل من درس مقررًا مُبسطًا في تاريخ الفلسفة والعلم يعلم أن العلوم، بعد أن كانت مندمجةً في الفلسفة في العصور القديمة، أخذت تستقلُّ عنها، الواحد منها تلوَ الآخر، منذ بداية العصر الحديث؛ بحيث لم يعُد القول بأن «الفلسفة أم العلوم» يعني أنَّ الفلسفة أمٌّ تُقدِّم الرعاية المُستمرة للعلوم، بقدر ما أصبح يعني أنها أمٌّ بالمعنى التاريخي، أي «أصل»، وأن أبناء الفلسفة قد استقلوا عنها، وأصبحت لهم حياتهم المستقلة، وتجاوزوها بمراحل، تمامًا كما يحدُث بين الأبناء وأمهاتهم في الحياة الواقعية.
ولكن، هل تعني ملاحظتنا هذه أنَّ الفلسفة الغربية قطعت صِلتَها بالعلوم نهائيًّا منذ مطلع العصر الحديث؟ لا شكَّ أن الأمر يختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فمُعظم الفلسفات الحديثة الكبرى في الغرب لا تُفهم إلا في ضوء موقف مُعين اتخذته من العلم، تستوي في ذلك فلسفة بيكن وديكارت واسبينوزا وليبنتس وكانْت، وحتى هيجل وهوسرل. ولكن من الواجب أن نُفرِّق بين هذا النوع من الارتباط بالعلم، وبين شكل الارتباط الذي كان قائمًا في العصر اليوناني. ففي المرحلة اليونانية كانت بدايات العلم وبدايات الفلسفة واحدة، وكان الإنتاج الفلسفي هو ذاته إسهام في إنتاج العلم. أما في العصر الحديث، حين أصبحت للعلوم مناهجها وموضوعاتها الخاصة، فقد أصبح دَور الفلسفة إما مُمهِّدًا للعلم وإما لاحقًا له، ولكنه لا يسير معه على طريقٍ واحد، ولا يستهدف معه غايةً واحدة. قد تُحاول الفلسفة «تأسيس» العلم، وقد تُحاول جمع نتائجه في نظرةٍ شاملة إلى الكون، ولكنها لا تدَّعي في أية حالةٍ أنها «تصنع» العلم. إنها قد تتولَّى مهمة التمهيد له، أو التعليق عليه، ولكنها لا تزعُم أبدًا أنها تشاركه في سعيِه التدريجي الدءوب من أجل كشف قوانين الطبيعية.
وهكذا فإنَّ الحكم العام الذي أصدره رَسْل عن ارتباط الفلسفة الغربية بالذات، منذ نشأتها، بالعلم، ينبغي أن يُفهم في ضوء أبعادٍ أعقَدَ بكثيرٍ من الصيغة المُبسطة التي استخدمها المؤلف.
ولكن لنفرِض جدلًا أنَّ قضية رَسْل هذه صحيحة على إطلاقها، وأنَّ الفلسفة الغربية تميَّزت عن غيرها من الفلسفات بارتباطها الوثيق بالعلم منذ نشأتها الأولى (على حين أنَّ الحكمة الشرقية — كما يُفهَم ضمنًا — كانت تفكيرًا في مسائل أخلاقية أو دينية فحسب)، فما الذي يدلُّ عليه هذا الحكم. إنَّ أقصى ما يُستنتج منه هو أن الفلسفة في الغرب قد اختارت لنفسها طريقًا مُعينًا، مُرتبطًا بالعلم، ولكن هذا لا يمنع على الإطلاق من تصوُّر فلسفاتٍ أخرى تسير في طُرق مُغايرة، ترتبط فيها بالأخلاق أو الدين أو السياسة أو المجتمع. إننا نستطيع أن نُسلم، مع رَسْل، بأنَّ الفلسفة الغربية انفردت، دون غيرها، بارتباطها بالعلم منذ البداية، ولكن النتيجة التي يُخلَص إليها من ذلك، وهيَ أنَّ هذه هي الفلسفة الوحيدة الجديرة بالاهتمام، لا تلزَم عن هذه المقدمة على الإطلاق. فالفلسفة الغربية قد «اختارت» طريق الارتباط بالعلم، وهو طريق لا ينبغي أن يكون مُلزمًا لكافَّة الفلسفات الأخرى. وحين يتَّخذ رَسْل من هذا الاختيار مقياسًا عامًّا يحكُم به على بقيَّة الفلسفات، فهو في الواقع يُحاسِب الفلسفات الأخرى على أُسُس لا شأنَ لها بها، ويبدأ باتخاذ وجهة نظر الفلسفة الغربية ثم يَعيب على الآخرين عدم تحقيقهم لوجهة النظر هذه! وليس من الصعب أن يلمَح المرء ها هنا مظهرًا من مظاهر تمركز الفكر الأوروبي حول ذاته، وعجزِه عن إدراك العالم من منظورٍ غير منظوره الخاص.
إنَّ الهدَف من هذا الحديث كله ليس توجيه النقد بقدر ما هو إيضاح حدود الموضوعية في الفكر الفلسفي. فقد تبيَّن منذ وقتٍ طويل أنَّ المؤرِّخ لا يستطيع أن يكون موضوعيًّا، أو يقِف إزاء الأحداث التي يعرضها مَوقفًا مُحايدًا لا شأن لأفكاره وتوجُّهاته وميوله الخاصة به. ولكن الفيلسوف كان يرى نفسه على الدَّوام مُختلفًا عن المؤرخ؛ إذ إنَّ الحقيقة المُنزَّهة، الخالصة، التي تسمو على كافة العوامل الذاتية، هي هدفه المُعلن دائمًا. ومع ذلك فإن الفيلسوف إنسان، ومن ثم فهو لا يستطيع أن ينسلخ كليةً عن حضارته، وعن بيئته، وعن بلده، وعن تربيته.
وإذا كنَّا قد رأيْنا في كتاب رَسْل هذا ما يدل على أنه يحمل قدرًا، على الأقل، من تحيُّزات الحضارة الغربية كلها، ففي استطاعتنا أن نجد في كتابه أمثلةً لتحيُّزاتٍ أخرى أضيَق نطاقًا. فهو يُضفي على الاتجاهات الفلسفية في بلاده — إنجلترا — أهميةً ربما بدَتْ مُبالغًا فيها بالنسبة إلى من تكوَّنت لدَيه نظرة مُتوازنة إلى تاريخ الفلسفة. ويكفي دليلًا على ذلك أن نرجع إلى العرْض المُفصل الذي قدَّمه مذهب المَنفعة، والمقدِّمات التي مهَّدت له، والمُمثلين الرئيسيين له — وهو عرْضٌ شغَل حجمًا لا تُبرِّره مكانة هذا المذهب في التاريخ العام للفلسفة. ومع ذلك ينبغي أن نقول، إحقاقًا للحق، إنَّ هذه سِمة يشترِك فيها مُعظم مؤرِّخي الفلسفة من الأوروبيِّين: فالمؤرخ الفرنسي يعالج بالتفصيل شخصياتٍ فرنسية ثانوية الأهمية، على حساب شخصيَّاتٍ أهمَّ منها بكثير في الفلسفات الأخرى. وقل مثل هذا عن الألماني والإيطالي، والإسباني … إلخ. وهكذا يبدو التحيُّز أمرًا لا مفرَّ منه في نفس الميدان الذي ظهر أصلًا ليُعلِّم الناس كيف يتحرَّرون من التحيُّز!
ومن جهةٍ أخرى فإنَّ أحكام رَسْل على الفلاسفة قد تأثَّرت في بعض الأحيان باهتماماته الرياضية — وهي ملاحظةٌ سبقَ أن أبدَيناها في تقديمنا للجزء الأول من هذا الكتاب، حيث أشرْنا إلى تقليله من شأن أرسطو لأنه لم يُبدِ اهتمامًا كافيًا بالرياضيات. وفي هذا الجزء من كتابه نراه يتتبَّع، بتوسُّعٍ زائد، تطوُّر الاتجاهات الرياضية في الفلسفة، ولكنَّ الأهمَّ من ذلك أنه ينتقِص من قدْر بعض الفلاسفة لا لشيءٍ إلا لأنهم لم يكونوا في الوقت ذاته يُدركون الأهمية الخاصَّة للرياضيات. وأبرز مثَل على ذلك حُكمه على الفيلسوف الكبير فرانسس بيكن؛ إذ لا يكاد رَسْل يجد في منهج بيكن الاستقرائي، الذي كان في عصره جديدًا، أي عنصر إيجابي، ويشعُر المرء بأن رَسْل ينتقد بيكن من خلال قراءةٍ لاحقة لأفكاره، لا على أساس فَهم وتقدير للحظة التاريخية التي كان يُمثلها بيكن. وهكذا فإن رَسْل لم يلتفِت على الإطلاق إلى الصراع المرير الذي كان بيكن يخُوضه ضدَّ أنصار الفكر التأمُّلي الاستنباطي، ممَّن يستدلُّون على قوانين الطبيعة من كُتب الأقدَمين، ولا يبذلون أدنى جهدٍ لمُتابعة خصائصها وملاحظتها بأنفسهم — أي إنه لم يلتفِت إلى أهمية الإنجاز الذي حقَّقه بيكن في عصرٍ كانَت فيه الروح المدرسية التقليدية لا تزال مُسيطرة على الأوساط العلمية؛ أعني الدعوة إلى منهجٍ جديدٍ للعلم، مُستمدٍّ من الاتصال المباشر بالطبيعة لا بالكتب، وإلى غايةٍ جديدة للعلم، هي تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة وإخضاعها لأهدافه، بدلًا من الاكتفاء بالوقوف موقفَ المُتفرج المُتأمِّل إزاءها. ولا شكَّ أن الكثيرين من دارسي الفلسفة سيتردَّدون كثيرًا قبل أن يوافِقوا رَسْل على انحيازه الواضح إلى فلسفة هبز، التي رآها أكثر أهميةً بكثيرٍ من فلسفة بيكن، لمُجرَّد أن الأول قد أبدى اهتمامًا أكبر بالرياضيات.
على أنَّنا، بعد أن نبَّهنا إلى بعض جوانب التحيُّز في العرض الذي قدَّمه رَسْل للفلسفة الحديثة والمعاصرة، ينبغي أن نذكُر له جوانب أخرى كان فيها أكثر موضوعيةً وأوسع أفقًا ممَّا قد يتوقَّعه المرء من فيلسوفٍ إنجليزي عاش في عصره.
ذلك لأنَّ الحَربَين العالمِيَّتين اللتَين خاضتْهما إنجلترا ضدَّ ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين، وما ترتَّب عليهما من تضحياتٍ بشرية وخسائر مادية هائلة، قد تركت في نفوس عددٍ كبير من الإنجليز، حتى لو كانوا من أهل الفلسفة، نفورًا شديدًا من الفكر الألماني، ولا سيما تجاه أولئك الذين قِيل عنهم إنهم شجَّعوا الروح العسكرية الألمانية وتغنَّوا بأمجاد الدولة والعنصر الجرماني. وهكذا كان هناك جيل كامل من المُشتغلين بالفلسفة في إنجلترا، بل في الثقافة الأنجلوسكسونية بوجهٍ عام، يتحامل على هيجل على أساس أن تمجيده للدولة البروسية كان أصلًا من أصول النزعة العدوانية الألمانية، ويُهاجم نيتشه بعنفٍ بناء على تفسيرٍ خاص (غير موضوعي في الغالب) لمفاهيم الحرب والصراع وإرادة القوة لديه؛ ذلك لأنَّ المرارة التي أحسَّ بها الإنسان البريطاني العادي إزاء أعدائه الألمان، قد انعكست على كتابات المُشتغلين بالفلسفة في الفترة التي نتحدَّث عنها بوضوحٍ كامل.
أما برتراند رَسْل، فعلى الرغم من أنه قد عاصر الحربَين العالميتَين واتَّخذ منهما موقفًا واضحًا يدلُّ على وعي سياسي ناضج، فينبغي أن نُسجل له أنه في هذا الكتاب على الأقل، قد تجاوز إلى حدٍّ غير قليل تلك المرارة المُنبعثة عن العداء بين الشعبين. ففي مُعالجته لفلسفة هيجل قدْر غير قليل من التوازُن والاعتدال، صحيح أنه هاجم فلسفته السياسية وسخِر من تمجيده للدولة البروسية، ولكنه كان بوجهٍ عام مُنصفًا لفكر هيجل ومنهجه الجدلي.
وإذا كان قد ندَّد تنديدًا قويًّا بفلسفة هيجل الطبيعية، التي تستنبط الحقائق العلمية عقليًّا، فقد كان في ذلك يسير في اتجاهٍ يُشاركه إيَّاه عدد كبير من الباحثين، حتى من الألمان. وبالمِثل فقد تجاوز رَسْل نظرة كثيرٍ من مُعاصريه الإنجليز إلى نيتشه على أنه واحدٌ من المُبشِّرين بالنازية وحُكم القوة والطغيان، وعالج فلسفته مُعالجة فيها قدْر معقول من الفهم والتعاطف. وينطبق ذلك أيضًا على موقفه من الماركسية، حيث تجنَّب الهجوم المُتشنِّج وتحدَّث، بروح المُفكر الموضوعي، عن جوانب القوَّة والضعف فيها.
وفي مقابل ذلك أبدى رَسْل في هذا الكتاب نضوجًا فكريًّا واضحًا في مَوقفه إزاء الفلسفات التجريبية المنطقية المعاصرة التي كان هو ذاته واحدًا من أهمِّ المُمهِّدين لها. فهو يُفرد في كتابه صفحاتٍ طويلة للدفاع عن فكرة «الفرض» في المنهج العلمي، مخالفًا بذلك التراث التجريبي الذي يميل إلى الالتزام بالشهادة المباشرة للوقائع ويرى في الفرض ضربًا من الخيال غير المأمون. ويَظهر نضوجه بوضوحٍ في امتناعه عن مُسايرة الوضعية المنطقية في هجومها الحادِّ على الميتافيزيقا. فهو ليس من أنصار موقف «تفنيد الميتافيزيقا» على الإطلاق وهو يرفُض استبعاد القضايا الميتافيزيقية بحجَّة أنها قضايا بلا معنًى. ويرى أنَّ الاكتفاء بالقضايا القابلة للتحقيق التجريبي على أنها (إلى جانب قضايا المنطق والرياضة) هي التي تنطوي على معنى هذا الاكتفاء يؤدي إلى وجهة نظر شديدة الضِّيق والقصور؛ ومن هنا هاجم الوضعية المنطقية على هذا الأساس، كما هاجم مدارس التحليل اللغوي بوصفها تعبيرًا عن نظرةٍ محدودة إلى مهمَّة الفلسفة. وعلى العكس من ذلك أكد رَسْل أنَّ الميتافيزيقا قد تكون في بعض الأحيان واحدًا من الطُّرق المُوصِّلة إلى العلم، وأنَّ النظرية العلمية في سعيِها إلى تفسيرٍ كُلي للظواهر تقرُب من الميتافيزيقا وهو موقفٌ يدلُّ على أن فكرَه قد قطع شوطًا بعيدًا في طريق الفهم الواسع الأفق للفلسفة، بعد أن كان في مراحله الأولى أقربَ إلى التعاطف مع تلك الاتجاهات الضَّيقة التي يهاجمها الآن.
ولعلَّ أبلغ تعبيرٍ عن ذلك هو إشارته العميقة في الصفحات الأخيرة من كتابه إلى حقيقة الانقسام الفلسفي الحادِّ الذي يسود الفكر الأوروبي، بين فكرٍ يُسيطر على مُعظم أرجاء القارة من الداخل، وتسودُه فلسفات ترتبط، بشكلٍ أو بآخر، بالتراث المِثالي أو الوجودي أو غيرهما من الاتجاهات المستمرة في تاريخ الفلسفة، وفكر يسُود في البلاد الأنجلوسكسونية، ويرتكز أساسًا على التحليل اللغوي، ويمتنع عن إصدار الأحكام الفلسفية العامَّة ما دامت لا تصمُد أمام هذا التحليل. ولقد كان رَسْل على حقٍّ حين علَّق على هذا الانفصال بقوله إنه وصل إلى حدِّ أنَّ «كل طرفٍ لم يعُد يعتقد بأن ما يقوم به الطرف الآخر يستحقُّ اسم الفلسفة» (ص٣٠١ من الأصل الإنجليزي).
هذا بالفعل وضعٌ جديد لم تعرفه الفلسفة، طوال تاريخها، إلَّا في القرن العشرين. فلم تعُد المسألة خلافًا بين مدارس فلسفية فحسْب؛ إذ إنَّ هذا الاختلاف كان «رحمة» على الفكر طوال تاريخه. بل إنَّ الظاهرة الجديدة هي عدَم الاعتراف المتبادل بين الطرفَين. ففي أشدِّ أيام الخلاف بين العقليين والتجريبيِّين في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، كان كل فريقٍ يهاجم الآخر ويسعى إلى تفنيده، ولكنه كان يعترِف به. وكان من أبرز الأدلة الواقعية والرمزية أيضًا على هذا التعايُش، أن يعترف فيلسوف ألماني كبير مثل كانْت، كان من رُوَّاد المثالية الألمانية، بأنَّ فيلسوفًا تجريبيًّا كبيرًا، مثل ديفيد هيوم، هو الذي أيقظه من سُباته الفكري القطعي وغير النقدي. كان هناك إذن خلاف حاد، ولكنه كان يدور على أرض الفلسفة، وبين طرفَين يُسلم كلٌّ منهما بأن للآخر موقعًا داخل هذه الأرض. أما اليوم فإن فيلسوف القارة الأوروبية يصِف الفلسفة التحليلية بأنها — على حدِّ تعبير «جان فال» — «ثرثرة تهدف إلى التخلص من الثرثرة.» على حين أن الفيلسوف الإنجليزي أو الأمريكي لا يرى في الميتافيزيقا أو فلسفة الوجود الأوروبية إلا مجموعةً من القضايا الشديدة العمومية، الشديدة التساهُل، التي تنهار أمام أي تحليلٍ لغوي أو منطقي دقيق؛ أي أنها باختصارٍ ليست «فلسفة».
هكذا تنعدِم جسور التفاهُم بين الطرفَين، ويسير كلٌّ منهما في طريقِه غير مُعترِف بالآخر. والمُلفِت للنظر أنَّ هذا الانقسام الحادَّ لا يُعبر عن الانقسام الأيديولوجي بين المُعسكرَين الرأسمالي والاشتراكي، لأنه يدور كله (باستثناءات قليلة) في قلب بلدان المُعسكر الرأسمالي ذاته. فإذا أضفْنا إلى ذلك أنَّ المعسكر الاشتراكي يُقدِّم فلسفته المادية الجدليَّة بطريقةٍ مُستقلة إلى حدٍّ بعيد عن هذَين التيَّارَين (إذا استثنَينا اعترافه بالتأثير التاريخي لِمِثالية هيجل)، تجمَّعَت لدَينا صورة واضحة عن وضْعٍ جديد لم يعرفه تاريخ الفلسفة من قبل.
فهل جاء هذا الانقسام الفلسفي تعبيرًا عن تمزُّق الإنسان المعاصر؟ وهل يجوز لنا أن نُدِين الفلسفة لأنها عجزت عن تحقيق التفاهم بين العقول، برغم ادِّعائها الدائم بأنها هي وحدَها التي تُخاطب عقل الإنسان — أي إنسانٍ — بموضوعيةٍ وتنزُّه؟ هل هذا أقوى مظاهر الإخفاق في الفلسفة، أم هو أعظم مظاهر نجاحها، حين تجد نفسها قادرةً على التعبير بوضوحٍ عن ذلك «الانقطاع» و«اللَّاتفاهُم» الذي يُميز حياتنا المعاصرة؟
تلك أسئلة أترُك للقارئ مهمة التفكير فيها والبحث عن إجابةٍ عنها، ولا شكَّ عندي أنَّ قراءة هذا الكتاب ستكون خيرَ مُعين له على أن يهتدي إلى الإجابة بنفسه، أو على الأقل، ستُحفِّزه على أن يُفكر بمزيدٍ من الوعي، فيُحقق بذلك ما كانت الفلسفة، طوال تاريخها، تطمَح إليه.
أغسطس ١٩٨٣م