الفصل الأول
نشأة الفلسفة الحديثة
حين بدأتْ نظرة العصور الوسطى إلى العالم في الاختفاء خلال القرن الرابع عشر، أخذت
تظهر
بالتدريج قُوًى جديدة عمِلَت على تشكيل العالم الحديث كما نعرفه اليوم. فمِن الوجهة
الاجتماعية، أصبح البناء الإقطاعي للمجتمع الوسيط غير مُستقر نتيجةً لظهور طبقةٍ قوية
من
التجَّار الذين تحالفوا مع الحُكام ضدَّ مُلاك الأرض الخارجين عن كل سلطة. ومن الوجهة
السياسية، فقَدَ النبلاء قدرًا من حصانتِهم عندما ظهرت أسلحة هجومية أفضل، جعلت من
المُستحيل عليهم الصمود في قلاعهم التقليدية. فإذا كانت عصِيُّ الفلاحين وفئوسهم عاجزة
عن
اقتحام أسوار القلعة، فإنَّ البارود قادر على ذلك.
وهناك أربع حركاتٍ كُبرى تُحدد مَعالم فترة الانتقال التي امتدَّت من وقت بدء تراجُع
العصور الوسطى حتى القفزة الكُبرى إلى الأمام في القرن السابع عشر.
أولى هذه الحركات هي النهضة الإيطالية في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر. فعلى
الرغم من
أنَّ دانتي كان لا يزال مُتأثرًا بعُمقٍ بطرق التفكير السائدة في العصور الوسطى، فإنه
قدَّم
باللغة الشعبية تلك الأداة التي جعلت الكلِمة المكتوبة مُتاحةً للإنسان العادي غير المُلمِّ
باللغة اللاتينية. وبظهور كتاب مثل بوكاشيو
Boccaccio
وبترارك
Petrarch حدثت عَودة إلى المُثل العليا
الدُّنيوية. وقد عاد الاهتمام بثقافة القدماء الدنيوية. وظهر ذلك جليًّا في جميع الفنون
والعلوم، وكان يُمثِّل خروجًا على التراث الكنسي السائد في العصور الوسطى، فبينما كانت
الاهتمامات اللاهوتية تسُود الجوَّ العام في العصور الوسطى، أصبح مُفكرو عصر النهضة أكثر
اهتمامًا بالإنسان. ومن هذه الحقيقة استمدَّت الحركة الثقافية الجديدة اسمَها، وهو
«النزعة الإنسانية»
Humanism،
١ التي كانت ثاني العوامل الكبرى الجديدة المُؤثرة في هذه الفترة. وبينما أثَّرت
النهضة ككلٍّ تأثيرًا مباشرًا في النظرة العامَّة إلى الحياة، فإنَّ الحركة الإنسانية
اقتصر
مجال تأثيرها على المُفكرين والباحثين. ولم تقترِن بالنهضة الإيطالية حركة بعثٍ دائمة
للوحدة الوطنية، بل كانت البلاد مُقسَّمة إلى أقاليم صغيرة يشمل كلٌّ منها دولة-مدينة،
وكانت الفوضى هي السائدة. وسيطرت على إيطاليا أسرة هابسبرج التي كان ينتمي إليها ملوك
النمسا وإسبانيا، ولم تُصبح بلدًا ذا سيادة إلا في أواسط القرن التاسع عشر. غير أنَّ
حركة
النهضة كان لها تأثيرها القوي، وانتقلت تدريجيًّا نحو الشمال إلى ألمانيا وفرنسا والأراضي
الواطئة، فظهر في هذه البلاد باحثون إنسانيُّون عظام، بعد مرور حوالي قرنٍ على ظهور أسلافهم
الإيطاليِّين.
وفي ألمانيا كانت الحركة الإنسانية مُعاصرةً للإصلاح الدِّيني الذي أتى به لُوثر،
وهو
العامل الثالث من بَين العوامل الكبرى التي أزالت عالم العصور الوسطى، والواقع أنَّ الكنيسة
كانت في داخلها تعترِف منذ وقتٍ ما بضرورة حدوث شكلٍ من أشكال الإصلاح. كما انتقد المفكرون
الإنسانيون المُمارسات السيئة التي كانت تتفشَّى في حكومة الكنيسة، غير أنَّ قبضة البابوات
الطمُوحين والمُتعطشين إلى الذهب كانت أقوى من هؤلاء جميعًا. وعندما ظهرت حركة الإصلاح
الدِّيني بالفعل عارضتْها روما وأدانتها بقسوة. وهكذا فإنَّ حركة الإصلاح، التي كان يمكن
أن
تُستوعَب بوصفها حركةً جديدة داخل نطاق الكنيسة العالمية، اضطُرَّت إلى الانعزال، وتطوَّرت
بحيث أصبحتْ تتألف من عددٍ من الكنائس البروتستانتية القومية. وحين بدأت الكنيسة
الكاثوليكية تُصلح نفسها أخيرًا، كان أوان رأْبِ الصدع الديني قد فات. ومنذ ذلك الحين
ظلَّت
المسيحية الغربية مُنقسمة على نفسها. وتَدين المذاهب الإصلاحية للحركة الإنسانية بفكرة
«كهانة الجميع» Universal Priesthood، أي أنَّ كل
إنسانٍ على اتصال مباشر بالله، وليس المسيح في حاجةٍ إلى قُسُس وُسَطاء.
أما التطوُّر الهام الرابع فقد نشأ مباشرةً عن إحياء الدراسات التجريبية وهو الإحياء
الذي
استهلَّتْه حركة النقد عند أوكام
Occam. وخلال القرنين
التاليين حدَث تقدُّم هائل في ميادين علمية مُتعددة، من أهمِّها إعادة اكتشاف
٢ نظام مركزية الشمس على يدِ كبرنيكوس، وقد طبع الكتاب الذي عرَض فيه هذا الكشف
عام ١٥٤٣م. ومنذ القرن السابع عشر، أحرزَتِ العلوم الفيزيائية والرياضية تقدُّمًا سريعًا،
واستطاعت عن طريق تطويرها الهائل للتكنولوجيا أن تضمَن السيادة للغرب. والواقع أنَّ التراث
العلمي، إلى جانب ما يُضفيه من مكاسب مادية، هو ذاته من أكبر العوامل المُشجعة على الفكر
المُستقل. وفي كلِّ مكانٍ امتدَّت إليه الحضارة الغربية، كانت مُثلها العُليا السياسية
تأتي
في أعقاب توسُّعها المادي.
٣
ولقد كانت النظرة العامَّة التي تولَّدت عن نمو البحث العلمي هي في أساسها نظرة
اليونانيين وقد بُعثت من جديد؛ فممارسة العلم هي إنقاذٌ للمظاهر (أي تفسير للظواهر).
ولقد
كانت السلطة التي يكتسبها التراث العلمي مختلفة كلَّ الاختلاف عن تلك الأحكام القطعيَّة
التي كانت الكنيسة في العصور الوسطى تُحاول عن طريقها أن تفرِض سيطرتَها على الناس. صحيح
أن
الجماعة ذات التكوين المُتدرِّج، التي تعيش وفقًا لمجموعةٍ جامدة من المُعتقدات، يمكنها
إلى
حدٍّ بعيد أن تتكلم بصوتٍ واحد في جميع المسائل التي تختلف فيها آراء الباحثين العلميين.
ويتصوَّر البعض أنَّ هذا الإجماع الموحَّد الاتجاه علامة على التفوُّق، وإن لم يكن أحد
من
أصحاب هذا الرأي قد أوضح السبب الذي يُوجِب ذلك. وليس من شكٍّ في أنَّ هذا الإجماع قد
يُضفي
على أنصاره شعورًا بالقوَّة، غير أنَّ هذا لا يؤدِّي على الإطلاق إلى جعْل موقفهم أصح،
مثلما أنَّ القضية لا تُصبح أصدَقَ لمجرَّد كونها تُعلَن بصوتٍ أعلى. فالشيء الوحيد الذي
يتعيَّن على البحث العلمي احترامه هو قوانين اللغة العقلية الشاملة أو بتعبير سقراط،
الجدل
(الديالكتيك).
على أنَّ النجاح الباهر للعلم في تطبيقاته التكنولوجية قد جلب خطرًا من نوعٍ آخر؛
إذ أصبح
الكثيرون يعتقدون أنه لا يكاد يُوجد شيء يعجز الإنسان عن تحقيقه لو وُجِّهت إليه جهوده
ومُورست بالطريقة المناسبة. والواقع أنَّ الكشوف الكبرى في التكنولوجيا الحديثة تعتمد
على
تضافُر عقولٍ وأيدٍ كثيرة، ولا بدَّ أن يبدو لأولئك الذين يأخذون على عاتقهم البدء في
مشاريع جديدة، أنَّ قُدراتهم لا حدود لها، غير أنهم يُغفلون هنا حقيقةً هامة، هي أنَّ
هذه
المشاريع كلها تقتضي جهدًا إنسانيًّا، وينبغي أن تخدُم أهدافًا إنسانية. وفي هذه الناحية
بالذات نجد عالَمنا المعاصر يحمل في طيَّاته تهديدًا يتجاوز كافة حدود الاعتدال.
أما في الميدان الفلسفي، فإنَّ التركيز على الإنسان يُضفي مَيلًا داخليًّا إلى النظر
التأمُّلي، وهذا يُولِّد وجهة نظر تتعارض كليةً مع تلك التي تستلهمها فلسفات القوة؛ إذ
يُصبح الإنسان في هذه الحالة ناقدًا لقدراته وملَكاته الخاصة، ويتعرَّض كل شيء للتساؤل
والتحدي، فيما عدا بعض التجارب الشخصية المباشرة. وتؤدي هذه النظرة الذاتية إلى شكلٍ
مُتطرف
من أشكال الشكِّ هو في ذاته شيء لا يقلُّ مبالغةً وتكلفًا عن المَيل إلى تجاهل الفرد
كلية.
وهكذا تظهر بوضوح ضرورة البحث عن حلٍّ وسط.
وينبغي أن نلاحظ أنَّ فترة الانتقال التي نتحدَّث عنها تتميَّز بتطوُّرَين لهما أهمية
خاصة. أولهما اختراع المطبعة التي تستخدِم حروفًا منفصلة يمكن تحريكها، ويرجع هذا الاختراع
إلى القرن الخامس عشر، بقدْر ما يتعلق الأمر بالغرب على أية حال؛ ذلك لأنَّ الصينيين
كانوا
قد استخدَموا هذه الطريقة قبل خمسة قرون، ولكنها لم تكن معروفة في أوروبا. وبظهور الطباعة
اتسع نطاق تداول الأفكار الجديدة إلى حدٍّ هائل، وهذا هو الذي ساعد في النهاية على هدم
السلطات القديمة. ذلك لأنَّ توافُر الكتاب المُقدس مطبوعًا بين أيدي الناس، ومترجمًا
إلى
لغاتٍ محلية، قد أفسد على الكنيسة ادِّعاءها الوصاية على أمور العقيدة. أما عن المعرفة
بوجهٍ عام، فإنَّ هذه الأسباب ذاتها قد عجَّلت بالعودة إلى العلمانية. ولم يقتصر تأثير
الطباعة على نشر نظرياتٍ سياسية جديدة كانت ناقدةً للنظام القديم، بل إنه أتاح لعلماء
الحركة الإنسانية أيضًا أن ينشروا طبعاتٍ لمؤلفات القدماء. وهذا بدَوره شجَّع على التعمُّق
في دراسة المصادر الكلاسيكية، وأدَّى إلى رفع مستوى التعليم بوجهٍ عام.
ولعلَّ من المُفيد أن نُشير إلى أن اختراع الطباعة لن يكون نعمةً مؤكدة ما لم تصحَبْه
ضمانات لحرية المناقشة؛ ذلك لأن الزَّيف يمكن طبعه بنفس السهولة التي تُطبع بها الحقيقة،
ويمكن أن ينتشر بنفس القدْر مِن اليُسر. ولن يفيد الإنسان كثيرًا من القدرةِ على القراءة
لو
كان من المُحتَّم عليه أن يقبل المادة المطروحة أمامه بلا مُناقشة. فالتداوُل الواسع
للكلمة
المطبوعة لا يساعد على تقدُّم البحث العلمي إلا حيث تتوافر حرية الكلام والنقد. وبغَير
هذه
الحرية يكون الأفضل لنا أن نظلَّ أُمِيِّين. ولقد أصبحت هذه المشكلة أشدَّ حدَّةً في
أيامنا
هذه لأن الطباعة لم تعُد هي الوسيط القوي الوحيد للاتصال والإعلام الجماهيري. فمنذ اختراع
اللاسلكي والتليفزيون ازدادتْ أهمية ممارسة هذه اليقَظة الدائمة التي بدُونها تبدأ الحرية
بأعمِّ معانيها في الاختفاء.
وبانتشار المعلومات على نطاقٍ أوسع، بدأ الناس يكوِّنون فكرةً أصحَّ عن الأرض التي
يعيشون
عليها، وقد تحقَّق ذلك عن طريق سلسلة من رحلات الاستكشاف فتحَتْ مجالاتٍ جديدة لاندفاع
الغرب وجهوده التوسُّعية. وكان ما أتاح تحقيق هذه الكشوف المُعاصرة، التحسينات الفنية
في
صناعة السفن والمِلاحة، وكذلك العودة إلى علم الفلك القديم. فحتى القرن الخامس عشر لم
تكن
السُّفن تُغامر بالابتعاد عن الخطوط الساحلية للمُحيط الأطلسي، وذلك لأسبابٍ منها أنه
لم
يكن هناك جدوى من ذلك، ولكنَّ السبب الأهم هو أنه لم يكن من المأمون المغامرة بدخول مناطق
لم تكُن فيها أيَّةُ مَعالم تُوجِّه الملاح. ومن هنا فإنَّ استخدام البوصلة فتح آفاق
البحار
البعيدة، ومنذ ذلك الحين أصبح في استطاعة المُستكشفِين عبور المحيطات بحثًا عن أراضٍ
وطرق
بحرية جديدة.
لقد كان العالم بالنسبة لإنسان العصور الوسطى حيزًا ساكنًا، مُتناهيًا، مُحكم التنظيم؛
فلكلِّ شيء فيه وظيفته المُقدرة؛ بدءًا من النجوم التي ينبغي أن تسير في فلكِها، حتى
الإنسان الذي يتعيَّن عليه أن يعيش مُلتزمًا المركز الاجتماعي الذي وُلِد فيه. غير أنَّ
عصر
النهضة قد زعزع بِجُرأة أركان هذه الصورة الهادئة المُسالمة.
وظهر اتِّجاهان مُتعارضان كانت نتيجتُهما تكوين نظرةٍ جديدة إلى العالم. فمن جهة،
أصبحت
هناك ثقة أكبر بقُدرة الإنسان وسَعةِ حيلته، بحيث أصبح الإنسان يحتلُّ الآن المكانة
الرئيسية على المسرح. ولكن في الوقت ذاته أصبح مركز الإنسان في الكون أقلَّ سيطرة، لأن
المكان اللانهائي بدأ يُمارس تأثيره في خيال الفلاسفة، وتظهر بوادر هذه الآراء في كتابات
الكردينال الألماني نيكولاس كوزانوس Nicolas Cusanus
(١٤٠١–١٤٦٤م)، وفي القرن التالي أُدمِجت هذه الآراء في النظام الكبرنيكي.
وبالمِثل حدثت عودة إلى الرأي القديم لفيثاغورس وأفلاطون، وهو الرأي القائل إنَّ
العالم
مبني على أساس نموذج رياضي. كل هذه التأمُّلات قلبَتِ النظام القائم للأشياء رأسًا على
عقب،
وهدمت السلطات القديمة الراسخة في الميدانَين الكنَسي والعلماني. وقد حاولت الكنيسة تطويق
انتشار البِدَع الجديدة، ولكن دون نجاحٍ كبير. ومع ذلك يحسُن بنا أن نذكر أن محاكم التفتيش
استطاعت حتى عام ١٦٠٠م، أن تُدِين جوردانو
برونو Giordano Bruno وتحكُم عليه بالموت حرقًا. وهكذا عاد كهنة النظام القائم إلى ارتكاب
ما كانوا يقترفونه في أحيانٍ كثيرة من قبل؛ إذ دفعهم خوفهم من الفتنة إلى إصدار حُكم
وحشي
على من يجرؤ على أن يكون مختلفًا. غير أنَّ هذا الحكم ذاته كشف عن مدى ضَعف الموقف الذي
كان
يُفترَض أنه يدعمه. أما في الميدان السياسي فقد بدأت مفاهيم جديدة للسلطة تتطوَّر
تدريجيًّا، وأخذ يضيق بالتدريج نطاق سلطة الحكَّام الوراثيين.
على أن الانقسام الذي أحدثتْه حركة الإصلاح الديني لم يكن تطوُّرًا مُفيدًا في كافة
جوانبه. فربما اعتقد المرء أنَّ ظهور مذاهب دينية مُتعدِّدة قد يقنع الناس أخيرًا بأنَّ
الإله الواحد يمكن أن يُعبَد بطرقٍ عديدة مُتباينة، وهذا بالفعل هو الرأي الذي كان قد
دعا
إليه كوزانوس Cusanus قبل ظهور حركة الإصلاح الديني، ولكن
الذي حدث بالفعل هو أنَّ أذهان الناس المُتديِّنين عندئذٍ لم تستخلص هذه النتيجة
الواضحة.
وبطبيعة الحال فإنَّ النهضة الأوروبية لم تبدأ بوصفها يقظة مفاجئة من ماضٍ كانت فيه
معرفة
القدماء راقدةً في سُبات عميق؛ بل لقد رأينا أنَّ بعض آثار التراث القديم ظلَّت باقيةً
طوال
العصور الوسطى. فالتاريخ، ببساطة، لا يتجزَّأ بخطوط تقسيم حادَّة من هذا النوع. ومع ذلك
فإنَّ مثل هذه التميُّزات تكون مفيدة إذا عُولجت بعناية. وعلى ذلك، فإذا كان من المشروع
التحدُّث عن عصر نهضة إيطالي، فإنَّ هذا يعني وجود بعض الاختلافات الواضحة بين الماضي
السائد في العصور الوسطى وبين العصر الحديث؛ فهناك مثلًا تضادٌّ واضح بين مؤلَّفات
المدرسيِّين الكنسية والمؤلفات العلمانية المكتوبة باللغات القومية، التي بدأت تظهر في
القرن الرابع عشر. والواقع أنَّ هذا الإحياء الأدبي قد سبق الحركة الإنسانية التي بُعِثت
فيها معرفة المصادر الكلاسيكية من جديد. ولقد كانت المؤلفات الجديدة تستخدِم لغاتِ الشعوب
أداةً للتوصيل، وبذلك أصبح الإقبال عليها أوسع بكثيرٍ من الإقبال على كتابات أهل العلم،
الذين احتفظوا باللاتينية بوصفِها وسيلتَهم للتعبير.
وهكذا ففي الفترة التي نتحدَّث عنها أخذ الناس يتحرَّرون من قيود نظرة العصور الوسطى
في
كافة الميادين. وكانت المصادر التي استُلهِمَتْ أولًا، هي الاهتمامات الدنيوية التي تزايدَت
في ذلك العصر، وبعد ذلك أصبحت تكمُن في نظرةٍ إلى الماضي القديم أضفَتْ عليه صبغةً مثالية.
وبطبيعة الحال فإنَّ تصوُّر العصور القديمة الذي تكوَّن في ذلك الوقت قد شوَّهته إلى
حدٍّ
ما حماسة جيلٍ أعاد اكتشاف الاستمرارية في تاريخه. وظلت هذه الرؤية الأقرب إلى الرومانتيكية
سائدةً حتى القرن التاسع عشر. ولا جدال في أنَّ ما لدَينا الآن من معرفة بهذه الأمور
أفضل
بكثيرٍ ممَّا كان لدى فناني عصر النهضة وكُتَّابه.
ولقد أصبحت لحركة النهضة في إيطاليا — وهي البلد الذي كانت فيه آثار الحضارة القديمة
تُقدِّم رموزًا ملموسةً للعصور الماضية — ركيزة أقوى ممَّا أصبح لها فيما بعدُ في البلاد
الواقعة شمال الألب. كانت إيطاليا عندئذٍ مُنقسمة من الوجهة السياسية، على نحوٍ يُشبه
إلى
حدٍّ بعيد ما كان موجودًا في اليونان القديمة؛ ففي شمال إيطاليا كانت تُوجد عدَّة مُدن
يؤلِّف كلٌّ منها دولة، وفي الوسط كانت منطقة حُكم البابا، وفي الجنوب مملكة نابولي وصقلية،
وكانت أقوى مدن الشمال هي ميلانو والبندقية وفلورنسة، وكانت هناك نزاعات دائمة بين دويلات،
فضلًا عن صراعات بين الفئات المُتنافسة داخل كل مدينة. وعلى الرغم من أنَّ المؤامرات
الفردية وتبادُل الأخذ بالثأر كانت تتمُّ ببراعةٍ وقسوة هائلة، فإنَّ البلد ككلٍّ لم
يلحَق
به ضرر كبير؛ إذ كان النُّبلاء وحُكَّام المدن يُحارب بعضهم بعضًا بمساعدة مُرتزقة
مُحترِفين كان هدفهم هو المحافظة على حياتهم. على أنَّ حالة الاسترخاء هذه قد طرأ عليها
تغيُّرٌ حاسم عندما أصبحت إيطاليا ميدانًا للمعارك بين ملك فرنسا والإمبراطور. ومع ذلك
فإنَّ إيطاليا كانت مُنقسمة على نفسها إلى الحدِّ الذي حال بينها وبين ضمِّ صفوفها من
أجل
مواجهة الغزو الخارجي، وهكذا ظلَّت البلاد مُنقسمة، خاضعة إلى حدٍّ بعيد للسيطرة الأجنبية.
ولقد كان النصر حليف آل هابسبورج في الصراعات المُتكررة بين فرنسا والإمبراطورية. وظلَّت
نابولي وصقلية إسبانية، على حين أنَّ الأراضي الواقعة تحت سيطرة البابا ظلَّت تتمتَّع
باستقلالٍ يُحرَمُه الآخرون. وأصبحَت ميلانو — وهي معقلٌ حصين لجماعة الجويلف Guelf — تابعة لأسرة هابسبورج الإسبانية عام ١٥٣٥م. وكان
لأهل البندقية مركز خاص إلى حدٍّ ما؛ وذلك لأسبابٍ منها أنهم لم يُعانوا أيةَ هزيمة على
أيدي البرابرة، ومنها ارتباطاتهم البيزنطية. وكانوا قد اكتسبوا قوةً وثراء عن طريق الحروب
الصليبية، وبعد أن هزموا منافسيهم في جنوا، سيطروا على التجارة في كافَّة أرجاء البحر
المتوسط، وعندما استولى الأتراك العُثمانيون على القسطنطينية عام ١٤٥٣م، بدأت البندقية
تتدهور، وكان ممَّا عجَّل بذلك كشْف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند واكتشاف العالم
الجديد.
ولقد كانت مدينة فلورنسة هي أهم مدينة حملتْ لواء حركة النهضة. فلم يسبق لأية مدينة،
باستثناء أثينا، أن أنجبتْ مِثل هذه الكوكبة اللامعة من الفنَّانين والمُفكرين؛ إذ كان
دانتي وميكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم كثيرون من أهل فلورنسة، وكذلك كان جاليليو
فيما
بعد. وبعد فترة أدَّت مشاكل فلورنسة الداخلية، التي كانت سببًا في نفي دانتي، إلى استيلاء
آل مديتشي Medici على الحكم، وظلت أسرة التجَّار النُّبلاء
هذه تحكم المدينة طوال ما يربو على ثلاثة قرون منذ عام ١٤٠٠م، باستثناء فتراتٍ مُتقطعة
قصيرة.
أما بالنسبة إلى البابوية فكان لعصْر النهضة تأثير
مزدوَج. فمن جهةٍ أبدى البابوات اهتمامًا مُستنيرًا بالجهود العلمية لباحثي الحركة
الإنسانية وأصبحوا من كبار رُعاة الفنون. وعلى الرغم من أنَّ ادِّعاءات البابوية المُتعلقة
بالسلطة الزمنية كانت مُستمَدَّة من منحة قسطنطين المُزيفة، فهان البابا نيكولاس الخامس
(١٤٤٧–١٤٥٥م) كان شديد الإعجاب بلرونتسو
فالا Lorenzo Valla، الذي كشف التزوير وكان يعتنق آراء أخرى غير مألوفة. وهكذا عُيِّن
هذا الأديب المُدقق أمينًا لمكتب البابا على الرغم من آرائه الخارجة عن إطار الكنيسة.
على
أنَّ هذا التخفيف من معايير الإيمان أدَّى إلى ظهور اهتماماتٍ دنيوية أفقدت البابوية
قدرًا
كبيرًا من تأثيرها الرُّوحي. وكانت الحياة الشخصية لرجالٍ مثل البابا إسكندر السادس
(١٤٩٢–١٥٠٣م) بعيدة عن تلك التقوى المُتوقَّعة من مُمثل الرب على الأرض. وفضلًا عن ذلك
فإن
الأطماع الدنيوية لبابوات القرن السادس عشر قد استنزفت مبالغ كبيرة جُلبت من الخارج.
كل هذا
أدى إلى سخطٍ واستياءٍ بلغ ذُروته في حركة الإصلاح الديني.
وفي الفلسفة، يمكن القول بأنَّ حركة النهضة الإيطالية لم تأتِ، عمومًا، بأعمالٍ كبرى،
فقد
كانت تلك فترة إعادة كشف للمنابع، لا تأمُّلٍ فلسفيٍّ واسع النطاق، وأدت إعادة دراسة
أفلاطون، بوجهٍ خاص، إلى تحدي النزعة الأرسطية السائدة في المدارس. وشهدت فلورنسة في
عهد
كوزيمودي مديتشي افتتاح أكاديمية فلورنسة في أوائل القرن الخامس عشر، وكان هذا المعهد
منحازًا لأفلاطون على خلاف الجامعات القائمة. ويمكن القول بوجهٍ عام إنَّ جهود الباحثين
الإنسانيين قد مهَّدت الطريق للتطوُّرات الفلسفية الكبرى التي حدثت في القرن السابع
عشر.
وعلى الرغم من أنَّ حركة النهضة قد حرَّرت الناس من جمود الكنيسة وتصلُّب معتقداتها،
فإنها لم تُنقذهم من مختلف ضروب الخرافة القديمة. فقد اكتسب التنجيم، الذي كانت الكنيسة
تُحاربه دائمًا، شعبيةً واسعة وانتقلت عدواه من الجهلة إلى المتعلمين أيضًا، أمَّا السحر
فكان الاعتقاد به واسعا بدَوره، وأُحرِقَ مئات من الأبرياء ذوي الأطوار الغريبة وهم أحياء
بتُهمة ممارسة السحر. وبطبيعة الحال فإنَّ اصطياد السحرة.
٤ ليس أمرًا مجهولًا حتى في أيامنا هذه، وإن لم يعُد الأسلوب المُتَّبع هو حرق
الضحية. وقد اقترن ربط التعصُّب والجمود الفكري الموروث عن العصور الوسطى بضَياع هيبة
معايير السلوك وقواعده السائدة. وكان هذا، بالإضافة إلى أسباب أخرى، هو الذي حال دون
اكتساب
إيطاليا شكلًا من أشكال التكامُل القومي في وجه الأخطار الأجنبية الآتية من الشمال. فقد
كان
العصر حافلًا بالمؤتمرات النادرة والغشِّ المُتبادل، ووصل ارتقاء ذلك الفنِّ الرفيع،
فنِّ
التخلص من المُنافسين والأعداء، إلى مستوًى لا نظيرَ له من اكتمال الصنعة. وفي مثل هذا
الجوِّ من الخداع وانعدام الثقة يستحيل أن يتولَّد أي شكل قابل للاستمرار من أشكال التعاون
السياسي.
وفي ميدان الفلسفة السياسية، أنجبت النهضة الإيطالية شخصيةً بارزة، هي شخصية نيكولو
ماكيافيلي Niccolo Machiavelli (١٤٦٩–١٥٢٧م)، الذي كان
ابنًا لمُحامٍ من فلورنسة. وقد بدأ اشتغاله بالسياسة عام ١٤٩٤م، عندما طردت أسرة مديتشي
من
فلورنسة. في هذا الوقت خضعت المدينة لتأثير سافونارولا Savonarola المُصلح الدُّومنيكاني الذي تصدَّى للرذيلة والفساد
المُنتشرَين في عصره. وقد دفَعه حماسُه الشديد إلى التصادُم مع إسكندر السادس، البابا
الذي
ينتمي إلى أسرة بورجيا، فأُعدِم حرقًا في عام ١٤٩٨م. وكان من الضروري أن تُثير هذه الأحداث
أفكارًا عن طبيعة السلطة والنجاح السياسي. وقد كتب ماكيافيلي فيما بعدُ يقول إنَّ الأنبياء
غير المُسلحين يُخفِقون دائمًا، وضرب مثلًا بساقونارولا. وخلال الوقت الذي ظلَّت فيه
أُسرة
بورجيا مَنفية، كانت فلورنسة جمهورية، وظلَّ ماكيافيلي يحتلُّ منصبًا عامًّا حتى عودة
الأسرة إلى الحُكم في عام ١٥١٢م. ولمَّا كان قد عارض هذه الأسرة طوال الفترة السابقة،
فقد
أصبح بعد عودتِها غير مرغوبٍ فيه. فأُرغِم على اعتزال الحياة العامة، وكرَّس حياته منذ
ذلك
الحين للكتابة في الفلسفة السياسية وما يتَّصل بها من موضوعات. ولم تنجح المحاولة التي
بذلها لاستمالة آل مديتشي مرة أخرى عن طريق إهداء كتابه المشهور «الأمير» إلى لورنتسو
الثاني في عام ١٥١٣م. وقد تُوفِّي ماكيافيلي سنة ١٥٢٧م، وهي السنة التي قام فيها مُرتزقة
الإمبراطور شارل الخامس باجتياح روما ونهبِها.
ولقد كان الكتابان الكبيران اللَّذان ألَّفهما
ماكيافيلي في السياسة هما «الأمير» و«الخطابات Discourses». ويأخذ الأول منهما على عاتقه مهمَّة دراسة الوسائل التي تكتسب بها
القوة الاستبدادية ويتمُّ بها المحافظة عليها، على حين أنَّ الثاني يُقدم دراسة عامة
للسلطة
ومُمارستها في ظلِّ مختلف أنواع الحكم. ولا تنطوي التعاليم التي يُقدمها كتاب «الأمير»
على
أية محاولة لتقديم نصيحة خالصة إلى الحاكم تُبيِّن له كيف يكون حاكمًا فاضلًا. بل إنَّ
الكتاب يعترِف بأنَّ هناك مُمارسات شريرة تؤدِّي إلى اكتساب السلطة السياسية. وكان هذا
هو
السبب في اكتساب لفظ «الماكيافيلي»، معناه الشرير المذموم، ولكن ينبغي القول، إنصافًا
لمكيافيلي، أنه لم يكن يدعو إلى الشر من حيث هو مبدأ. فقد كان ميدان بحثه يقع خارج نطاق
الخير والشر، شأنه في ذلك شأن أبحاث عالم الفيزياء النووية، وكانت الحجَّة التي يعرضها
هي
إنك إذا أردتَ اكتساب السلطة فعليك أن تكون قاسيًا بلا رحمة. أما مسألة ما إذا كان هذا
خيرًا أم شرًّا، فهي مسألة أخرى تمامًا، لا شأن لماكيافيلي بها. وفي استطاعة المرء أن
يَعيب
عليه عدَم إبدائه اهتمامًا كافيًا بهذه المسألة، لكن لا معنى لإدانته بسبب دراسته لسياسة
القوة كما كانت موجودة فعلًا؛ ذلك لأن ما يُقدِّمه كتاب «الأمير» لا يعدو أن يكون تلخيصًا
للمُمارسات التي كانت شائعة في إيطاليا خلال عصر النهضة.
ولقد أُوفِد ماكيافيلي، خلال اشتغاله بالوظائف العامة في خدمة جمهورية فلورنسة، في
عددٍ
من المهام الدبلوماسية المُتنوعة التي أتاحت له فرصةً كبيرة لكي يدرُس عن كثبٍ خفايا
التآمر
السياسي. وقد تعرَّف خلال عمله الدبلوماسي عن قُرب إلى تشيزاري بورجيا Cesar Borgia، ابن إسكندر السادس، الذي لم يكن يقلُّ نذالة عن أبيه.
وقد خطَّط تشيزاري بورجيا ببراعةٍ وجُرأة هائلة لتأمين مركزه عندما يأتي اليوم الذي يموت
فيه أبوه. فتمَّ التخلص من أخيه، الذي كان يعترض سبيل هذه الطموحات، ومن الناحية العسكرية
ساعد تشيزاري أباه على توسيع المُمتلكات البابوية، وصمَّم فيما بعدُ على الاحتفاظ بهذه
الأقاليم لنفسه. أما بالنسبة إلى الخلافة على منصب البابا، فكان لا بدَّ من عمل كل شيء
حتى
يشغل هذا المنصب واحدٌ من أصدقائه. وقد كشف تشيزاري بورجيا عن براعةٍ منقطعة النظير،
وعن
دهاءٍ ديبلوماسي فائق، في السعي إلى تحقيق هذه الأهداف، فكان تارةً يتظاهر بالصداقة،
وتارة
يُسدِّد ضربة الموت. وبطبيعة الحال فمن المُستحيل سؤال ضحايا هذه الممارسات السياسية
عن
مشاعرهم، ولكن أغلب الظنِّ أنهم لو نظروا إلى الأمر بتجرُّد لأبدَوا إعجابهم ببراعة بورجيا
المؤكدة، فهكذا كان مزاج العصر. وفي النهاية أخفقت خُطَطُه لأنه كان هو ذاته مريضًا عندما
مات أبوه في عام ١٥٠٣م. وكان خليفة أبيه على عرش البابوية هو يوليوس الثاني، الذي كان
عدوًّا لدودا لآل بورجيا. ولو سلَّمنا بالأهداف التي توخَّاها تشيزاري بورجيا لكان من
واجبنا أن نعرف بأنه سعى إليها باقتدار، ومن أجل هذا كال له ماكيافيلي المديح. فهو في
«الأمير» يُثني عليه بوصفه نموذجًا لغَيره ممَّن يطمحون إلى السلطة. ولا شكَّ أن المعايير
العامة السائدة في ذلك العصر هي التي جعلته ينظُر إلى ممارساتٍ كهذه على أنها شيء يمكن
الدفاع عنه. أما في الفترة الواقعة بين القرنَين السابع عشر والتاسع عشر فلم يكن من الممكن،
على وجهِ العموم، التَّغاضي عن مِثل هذه الأساليب المُمعِنة في القسوة، أو لم تكن تُمتَدَح
علنًا على الأقل، ولكنَّ القرن العشرين أنجب مرةً أخرى عددًا من القادة السياسيين المُنتمين
إلى التراث المعروف لدى ماكيافيلي.
ومنذ عام ١٥١٣م حتى عام ١٥٢١م اعتلى العرش البابوي «ليو العاشر» الذي كان ينتمي إلى
أسرة
مديتشي. ولمَّا كان ماكيافيلي يُحاول عندئذٍ استمالة هذه الأسرة، فقد تجنَّب في كتاب
«الأمير» أن يخوض في موضوع السلطة البابوية، مُكتفيًا ببعض العبارات السطحية ذات المسحة
الدينية. ولكنه يتَّخذ في كتاب «الخطابات» موقفًا نقديًّا أقوى تجاه البابوية، ويصطبغ
موقفه
كلُّه هنا بصِبغةٍ أخلاقية أوضح. فهو يبحث في أنماط أصحاب السلطة حسب ترتيب قيمتهم، بادئًا
بمُؤسِّسي العقائد الدينية ومُنتهيًا بالطُّغاة. وقد نظر إلى وظيفة الدين في الدولة نظرةً
برجماتية (عملية). فليس مُهمًّا على الإطلاق أن تكون العقيدة صحيحة أو باطلة، ما دامت
تساعد
على إضفاء قدرٍ من التماسُك الاجتماعي على الدولة. وبالطبع فإنَّ اضطهاد المارِقين أو
أصحاب
البِدَع يُصبح له ما يُبرِّره تمامًا في ظلِّ رأيٍ كهذا. أما الكنيسة فإنه يُهاجمها
لسببَين: الأول هو أن أسلوب الحياة غير الفاضل الذي يَحياه كثيرٌ من قساوستها قد زعزع
الثقة
الشعبية في الدين، والثاني هو أنَّ الاهتمامات الدنيوية والسياسية للبابوية كانت عقَبة
في
وجه الوحدة الوطنية الإيطالية. ولنلاحظ في هذا الصَّدَد أنَّ هذا يتمشَّى تمامًا مع اعترافه
بأن البابوات السياسيين قد تصرَّفوا، في سعيهم إلى تحقيق أهدافهم الخاصة، ببراعةٍ فائقة.
وعلى حين أنَّ كتاب «الأمير» لم يكن له شأن بالغايات، فإنَّ كتاب «الخطابات» كان أحيانًا
يُوليها اهتمامه.
وفيما يتعلق بالمعايير الأخلاقية التقليدية، يُبين كتاب «الأمير» صراحةً أنَّ الحكام
ليسوا مُقيدين بها. فما لم تتطلَّب المصلحة إطاعة القوانين الأخلاقية، فإنَّ في استطاعة
الحاكم أن يخرُج عنها كلها. بل إنَّ من واجبه أن يفعل ذلك في كثيرٍ من الأحيان إذا ما
شاء
أن يظلَّ في السلطة. وعليه في الوقت ذاته أن يبدو في نظر الآخرين فاضلًا. وبفضل هذه
الازدواجية وحدَها يستطيع الحاكم أن يحتفِظ بموقعه.
ويعرض ماكيافيلي في المناقشة العامَّة لكتاب «الخطابات» نظرية الضوابط والتوازُنات.
فلا
بدَّ أن تكون لكافة فئات المجتمع سلطةٌ دستوريةٌ ما حتى تستطيع هذه الفئات أن تُمارس
فيما
بينها قدرًا من الرقابة المتبادلة. وترجع هذه النظرية إلى محاورة «السياسي» عند أفلاطون،
وقد أصبحت لها مكانة بارزة بفضل جون لوك في القرن السابع
عشر، وبفضل مونتسكيو في القرن الثامن عشر. وهكذا فإن ماكيافيلي كان له تأثيره في نظريات
الفلاسفة السياسيين الليبراليين في العصر الحديث، مِثلما كان له تأثيره في ممارسات الحكَّام
المُستبدِّين المُعاصرين. فالكثيرون يُمارسون نظرية الازدواجية إلى المدى الذي تُوصِّلهم
إليه، وإن كانت لها حدودها التي لا تتعدَّاها، والتي لا يبحثها ماكيافيلي.
لقد استغرقت حركة النهضة، التي اكتسحت إيطاليا خلال القرن الخامس عشر، بعض الوقت لكي
تمارس تأثيرها شمال جبال الألب، وقد طرأت على قوى الأحياء بعض التغيُّرات الهامَّة عندما
انتشرت شمالًا، من هذه التغييرات أنَّ النظرة الجديدة ظلَّت في الشمال أمرًا يهمُّ أهل
العلم والمعرفة وحدَهم إلى حدٍّ بعيد، بل إننا لو شئنا الدقَّة لَما كان من حقُّنا أن
نتحدَّث عن نهضةٍ بمعنى البعْث أو الإحياء، إذ لم يكن يُوجَد في الشمال شيءٌ كان موجودًا
من
قبل وأصبح من الممكن الآن أن يُولد من جديد، وعلى حين أنَّ تراث الماضي كان له معنًى
غامضٌ
ما في نظر الناس عامَّة في الجنوب، فإنَّ تأثير روما في الشمال كان مؤقَّتًا أو غير موجود.
وهكذا قاد الحركة الجديدة أهل العلم في المحلِّ الأول، ومن ثم كان الإقبال عليها محدودًا
بقدرٍ ما. ولمَّا كانت هذه الحركة الإنسانية الشمالية لا تستطيع التعبير عن ذاتها بنفس
القوة في الميدان الفنِّي، فقد اتَّخذت في بعض جوانبها طابعًا أكثر جدِّية. وفي النهاية
كان
انفصالها عن سلطة العصور الوسطى أشدَّ حدَّة وأكثر وضوحًا مما حدَث في إيطاليا. وعلى
الرغم
من أن كثيرًا من باحثي الحركة الإنسانية لم يكونوا راضين عن الانشقاق الديني الذي أحدثته
حركة الإصلاح، فقد كان من المُتوقَّع على نحوٍ ما، أن يحدُث ذلك إنْ حدَث في أعقاب حركة
النهضة في الشمال.
ومنذ عصر النهضة أصبحت وظيفة الدين في حياة الناس
مختلفة كل الاختلاف على جانبي جبال الألب. ففي إيطاليا كانت البابوية تُمثل بمعنًى ما
الارتباط المباشر بماضي الإمبراطورية الرومانية. أمَّا عن ممارسة العقيدة ذاتها، فقد
أصبحتْ
أقربَ إلى طابع النظام الرتيب المُتكرِّر، وجزءًا من الحياة العادية يتمُّ أداؤه بنفس
الطريقة غير المُكترثة التي يتمُّ بها الأكل أو الشرب، وحتى اليوم تجِد الممارسة الدينية
في
إيطاليا مَشُوبة بهذا الطابع غير المُتحمِّس، إذا ما قُورنت بنظائرها في البلاد الأخرى.
وهكذا كان هناك سببان جعلا من المُستحيل حدوث انشقاقٍ تامٍّ عن التراث الديني الموجود؛
أولهما هو أن الكنيسة كانت بمعنًى ما جزءًا من المؤسسة، حتى لو كانت البابوية، كما أشار
مكيافيلي، عقبةً في طريق الوحدة الوطنية الإيطالية، وثانيهما هو أن المُعتقدات لم تكن
تُعتنَق بنفس الاقتناع العميق الذي كان يمكن أن يؤدِّي إلى تغيُّراتٍ جذرية إذا اقتضى
الأمر. أما رجال الحركة الإنسانية في الشمال فكان لديهم اهتمام أصيل بالدين وبالإساءات
التي
أصبح يُعاني منها. وهكذا كانوا في كتاباتهم الجدلية مُعادين بشدَّة للممارسات الهابطة
التي
كانت تقوم بها المُستويات العُليا في الكنيسة. ولنُضِفْ إلى ما تقدَّم ذلك الشعور بالعزَّة
الوطنية الذي لم يكن كبار رجال الدين الإيطاليين يعملون حسابه دائمًا. فلم تكن المسألة
مجرَّد حِرص على تلك الأموال التي كانت تُدفع من أجل إعاشة روما وتجميلها، بل كانت أيضًا
مسألة سُخط مباشر على الطريقة المُترفِّعة التي كان الإيطاليون المِرحُون ينظرون بها
إلى
النيوتونيِّين أكثر جدية في الشمال.
كان أعظم شخصيَّات الحركة الإنسانية الشمالية هو إرازموس Erasmus من مدينة روتردام (١٤٦٦–١٥٣٦م). وكان والدا إرازموس قد تُوفِّيا
قبل أن يبلُغ العشرين، فحال ذلك على ما يبدو بينه وبين الالتحاق مباشرةً بالجامعة. وبدلًا
من ذلك أرَسْله الأوصياء عليه إلى مدرسة للرُّهبان، والتحق عندما حان الوقت بدير أوغسطين
في
شتاين Steyn. وقد ولَّدَت هذه التجارب المُبكرة لديه
كراهيةً دائمة للنزعة المدرسية الصارمة الجامدة التي وقع في حبائلها. وفي عام ١٤٩٤م عَيَّنه
أسقُف كامبراي Cambrai سكرتيرًا له، وبذلك ساعده على
التخلص من عُزلة الرَّهبنة في شتاين. وتلتْ ذلك عدة زيارات لباريس، ولكن الجوَّ الفلسفي
في
السربون لم يكن مُشجعًا على اكتساب معرفةٍ جديدة. ذلك لأنَّ الفِرَق المُتنازعة التي
تدين
بالولاء لتوما الأكويني ولوليام الأوكامي قد تناسَتْ أحقادها في مواجهة حركة الإحياء،
وأصبحت تقِف صفًّا واحدًا في مواجهة رجال النزعة الإنسانية.
وفي نهاية عام ١٤٩٩م قام بزيارةٍ قصيرة لإنجلترا، حيث قابل كولت Colet والأهمُّ من ذلك توماس
مور Thomas More. وعند عودته إلى القارَّة واصل دراسة اللغة اليونانية حتى بلغ فيها
مستوًى رفيعًا. وعندما زار إيطاليا في عام ١٥٠٦م حصل على درجة الدكتوراه في تورينو، ولكنه
لم يجِد هناك من يتفوَّق عليه في اليونانية. وفي عام ١٥٦١م أخرج أول نشرة للعهد الجديد
باليونانية تظهر في المطبعة. أمَّا عن كُتبه فإنَّ أكثرها ذُيوعًا هو «امتداح الحماقة The Praise of Folly» وهو وكتاب ساخِر ألَّفه في
بيت مور في لندن عام ١٥٠٩م، وكان العنوان اليوناني يتضمَّن تَورِية ساخرة على اسم مور.
في
هذا الكتاب نجد إلى جانب قدْرٍ كبيرٍ من السخرية على حماقات البشر، هجماتٍ مريرةً على
وضاعة
المُؤسسات الكنسية وكهنتها. ولكن على الرغم من انتقاداته الصريحة، فإنه لم يُعلن تأييده
الصريح لحركة الإصلاح الديني عندما حان الوقت. فقد كان يؤمن بالرأي البروتستانتي المَحض
القائل إنَّ الإنسان يتَّصل بالله اتصالًا مُباشرًا، وأن اللاهوت لا داعي له، ولكنه في
الوقت ذاته رفَض أن يُستدرَج إلى المنازعات الدِّينية التي نشأت في أعقاب حركة الإصلاح
الديني. وكان أكثر اهتمامًا بأعماله العلمية ونشر كُتبه، وأحسَّ على أيَّةِ حال بأنَّ
الانشقاق الذي حدَث أمرٌ مؤسِف. ومع الاعتراف بأنَّ أمثال هذه الخلافات هي بقدْرٍ ما،
أمور
سقيمة، فقد كانت مشاكل يستحيل تجاهلها. وفي النهاية أعلن إرازموس تأييده للكاثوليكية،
ولكن
أهميته عندئذٍ كانت قد بدأت تتضاءل، واحتلَّ المسرح رجلٌ أقوى منه معدنًا.
ولقد كان أبقى تأثيرٍ خلَّفه إرازموس هو تأثيره في ميدان التعليم. والواقع أنَّ الدراسة
الإنسانية، التي كانت حتى عهدٍ قريب تُشكِّل لُبَّ التعليم الثانوي حيثما سادت وجهات
النظر
الأوروبية الغربية، تدين بالكثير لجهوده الأدبية والتعليمية، أما في عَملِه من حيث هو
ناشر
فلم يكن يهتمُّ دائمًا بالفحص النقدي الشامل للنصوص؛ إذ كان يستهدف جمهورًا من القرَّاء
أوسعَ من المُتخصِّصين الأكاديميين، وفي الوقت نفسه لم يكتب باللغات المحلية، بل كان
على
العكس حريصًا على دعم مكانة اللغة اللاتينية.
أما في إنجلترا فكان أبرز رجال الحركة الإنسانية هيما السير توماس مور (١٤٧٨–١٥٣٥م)،
الذي
انتقل وهو في الرابعة عشرة إلى أكسفورد حيث بدأ دراسة اللغة اليونانية، وكان ذلك يُعدُّ
عندئذٍ نوعًا من الانحراف عن الخط السَّوي. ولا شكَّ أن أباه قد نظر إليه بعين الشك؛
إذ كان
يُريده أن يسير في طريقه نفسه، ومن ثَم فقد جعله يدرُس القانون. وفي عام ١٤٩٧م قابل إرازموس
عندما زار هذا الأخير إنجلترا لأول مرة. وأدَّى هذا الاتصال المُتجدِّد بالمعرفة الجديدة
إلى تقوية اهتمام مور بدراساته اليونانية. وبعد وقتٍ قصير مرَّ بمرحلةٍ من الزهد، ومارس
تقشُّف الطريقة الكارثوزية
Carthusian.
٥ ولكنه تخلَّى في النهاية عن أفكار الرهبنة، وذلك لأسبابٍ قد يكون من بينها
نصائح صديقه إرازموس بالابتعاد عنها. وفي عام ١٥٥٤م أصبح عضوًا في البرلمان، حيث برَز
بسبب
وقوفه بصورةٍ صريحة ومباشرة في وجه المطالب المالية لهنري السابع. وعندما مات الملك في
عام
١٥٠٩م عاد مور إلى التفرُّغ لمِهنته. ولكن سرعان ما استدعاه هنري الثامن لكي يُمارس الوظائف
العامة مرَّة أخرى. وبمضي الوقت ارتقى إلى أرفع المناصب، فأصبح كبير المُستشارين بدلًا
من
ولزي
Wolsey بعد سقوط الأخير في عام ١٥٢٩م. ولكن بقاء
مور في السلطة لم يدُم طويلًا؛ فقد كان مُعارضًا لطلاق الملك من كاترين من أراجون
Catherin of Aragon واستقال من منصبه عام ١٥٣٢م.
وقد أثار غضب الملك عليه عندما رفض قبول دعوةٍ لحضور تتويج آن بولين
Anne Boleyn. وعندما صدر قانون السيادة في عام ١٥٣٤م وجعل من الملك رئيسًا
للكنيسة الجديدة، رفض مور أن يُقسِم اليمين، فأُرسِل إلى برج لندن، وحُوكم في عام ١٥٣٥م
حيث
أُدين بتهمة الخيانة بسبب قوله إنَّ البرلمان لا يملك أن يجعل من الملك رئيسًا للكنيسة،
وحُكم عليه بالإعدام بسبب هذا الرأي. وهكذا لم يكن التسامح في الأمور السياسية سِمةً
من
سمات العصر.
كان مور كاتبًا غزير الإنتاج، ولكن مُعظم كتاباته لا تكاد تُقرأ اليوم. وترتكز شُهرته
كلها على عمل خيالي سياسي يُشتَهر باسم «اليوتوبيا»، وهو كتاب يعرِض نظريةً اجتماعية
وسياسية تأمُّلية، تستلهِم، كما هو واضح، جمهورية أفلاطون، ويتَّخِذ هذا العمل شكلَ رواية
لبحَّار أُغرقت سفينته، فعاش خمس سنواتٍ في مجتمع الجزيرة هذا. وهو يحرص، مثل أفلاطون،
على
مشاعية التملُّك، ويُقدِّم لذلك نفس الأسباب، فحيثما تكون هناك ملكية خاصة، لا يمكن أن
يقوم
احترام للصالح المُشترك. وفضلًا عن ذلك فإنَّ الناس إذا امتلكوا الأشياء انقسموا على
أنفسهم
بقدْر ما تختلف ثرواتهم. وتُسلِّم «اليوتويبا» مُقدمًا بحقيقةٍ أساسية، هي أنَّ الناس
ينبغي
أن يكونوا جميعًا مُتساوين. ويترتَّب على ذلك أنَّ الملكية الخاصَّة مفسدة، ومن ثَم لا
ينبغي السماح بها. وعندما يأتي إلى أهل اليوتوبيا زائر يُحدِّثهم عن المسيحية، يكون السبب
الأساسي لرضائهم عنها هو ذلك الطابع المَشاعي لتعاليمها الخاصة بالملكية.
ويصِف مور تنظيم هذه الدولة المُثلى بتفصيلٍ كبير. فهناك عاصمة وثلاثٌ وخمسون مدينة
أخرى،
مَبنية كلها على نفس النمَط، وبها مساكن مُتماثلة يستطيع أي واحدٍ أن يدخل أيًّا منها؛
ذلك
لأن عدم وجود ملكية خاصَّة يجعل السرقة أمرًا لا معنى له. وتنتشِر في الريف مزارع تُدار
كلها على نحوٍ مُماثل. أما عن الملبس، فإنَّ كل شخصٍ يلبس نفس الملابس، باستثناء تمييز
مُفيد، وإن كان ثانويًّا، بين ملابس النساء المُتزوِّجات وغير المتزوِّجات، وتتَّسِم
الملايس بأنها غير مُلفتة للنظر، وهي تظلُّ دائمًا على ما هي عليه، أما تقلُّبات الموضة
فلا
يعرفها أحد. وتسير حياة العمل عند جميع المواطنين على نفس الوتيرة. فهم جميعًا يشتغلون
ستَّ
ساعاتٍ في اليوم، ويعودون في الثامنة مساءً ويستيقظون مرة أخرى في الرابعة صباحًا. ويُركز
أولئك الذين يملكون الاستعداد للمعرفة على جهودهم العقلية «ولا يقومون بأيِّ عملٍ آخر.»
ومن
هذه الفئة تُختار الهيئة الحاكمة. أما نظام الحُكم فهو نوع من الديمقراطية النيابية عن
طريق
اقتراعٍ غير مُباشر ويُنتخب رئيس الدولة مدى الحياة، شريطة أن يُحسِن التصرُّف، فإن لم
يفعل
كان من المُمكن عزلُه، كذلك تخضع الحياة الاجتماعية لقواعد صارمة. أما عن العلاقات مع
البلاد الأجنبية، فإنها تقتصِر على الحدِّ الأدنى الأساسي. ولا وجود للحديد في الدولة
الفاضلة؛ ومن ثم ينبغي استيراده. ويُفرَض التدريب العسكري على الرجال والنساء، وإن كانت
الحربُ لا تُشنُّ أبدًا إلا دفاعًا عن النفس، أو مساعدة الحُلفاء أو أُمَم مُضطهَدة،
ويتمُّ
القتال عن طريق مُرتزقة كلما أمكن ذلك. ويتم إنشاء صندوقٍ من المعادن النفيسة عن طريق
التبادل التجاري من أجل دفع أجور القوات المُرتزقة في زمن الحرب. أما بالنسبة إلى أهل
البلاد أنفسهم فإنهم لا يحتاجون إلى المال، وحياتهم مُتحرِّرة من التعصُّب والتقشُّف.
غير
أنَّ ثمة قيدًا واحدًا بسيطًا. فالمُلحدون، وإن كان يُسمح لهم باعتناق آرائهم دون تدخل،
لا
يتمتَّعون بمركز المواطنين، ولا يمكن أن يدخلوا الحكومة، وهناك عُمَّال يشتغلون بالسُّخرة
في الأعمال الوضيعة، يُجلبون من بين صفوف المحكوم عليهم في جرائم خطيرة، أو من الأجانب
الذين هربوا لكي يتجنَّبوا العقاب في بلاهم ذاتها.
ولا جدال في أنَّ الحياة في مِثل هذه الدولة ذات النظام المُحكم ستكون مُملة إلى حدٍّ
لا
يطاق، وتلك في الواقع سِمة تشترك فيها كافة الدول المُثلى. غير أنَّ الشيء الذي يُهمُّنا
أكثر من غيره في مُعالجة مور لهذا الموضوع، هو تلك النظرة التحرُّرية الجديدة إلى مسألة
التسامُح الديني، ذلك لأن حركة الإصلاح الديني كانت قد هزَّت المجتمع المسيحي في أوروبا
وزعزعت موقفه المُستسلم إزاء السلطة. وقد تحدَّثنا من قبل عن وجود شخصيات سبقَت هذه الأحداث
ودعَت من قبلها إلى التسامح في الأمور الدينية، وحين أدَّت حركة الإصلاح إلى انقسامٍ
ديني
دائم في أوروبا، كان من الضروري أن تسُود فكرة التسامح بمُضي الوقت؛ ذلك لأنَّ البديل
الآخر، وهو الإبادة والقمْع بالجُملة، كان قد جُرِّب وتبيَّن في النهاية أنه غير مُجدٍ.
غير
أنَّ الفكرة القائلة إنَّ من الواجب احترام المُعتقدات الدينية للجميع كانت في القرن
السادس
عشر لا تزال غريبةً إلى الحدِّ الذي يكفي لجَعْلها مُثيرةً للانتباه.
ولقد كان من نتائج حركة الإصلاح الديني أنْ أصبح الدين في أوروبا مُرتبطًا بالسياسة
بصورةٍ أوضح، وكثيرًا ما كان يقوم على أساسٍ قومي، كما هي الحال في إنجلترا. ومن الواضح
أنَّ هذا ما كان يمكن أن يحدُث لو ظلَّ هناك مذهبٌ ديني شامل هو وحدَه السائد. ولقد كان
هذا
الطابع السياسي الجديد للولاء الدِّيني هو الذي انتقدَه مُفكرون مثل مور عندما امتنَعوا
عن
تأييد حركة الإصلاح. ولقد رأيْنا من قبل في حالة إرازموس كيف أنهم كانوا مُتَّفقين في
الأساس على ضرورة إيجاد نوعٍ من الإصلاح، غير أنهم كانوا ينتقدون العُنف والنزاع الحادَّ
الذي اقترن بظهور عقيدة مُنفصلة كلَّ الانفصال. ولا جدال في أنهم كانوا في ذلك على حقٍّ
تمامًا. ولقد ظهر الطابع القومي للانقسام الديني في إنجلترا بوضوح تام؛ إذ كانت الكنيسة
التي أقيمت حديثًا تَصلُح تمامًا لكي تكون جزءًا من الإطار السياسي للجهاز الحكومي، وفي
الوقت ذاته لم يكن الانفصال في بعض جوانبه بنفس العُنف الذي كان عليه في البلاد الأخرى؛
إذ
كان هناك تراثٌ قديم العهد من الاستقلال النِّسبي عن روما. ومنذ أيام وليام الفاتح أُمِّرَ
هذا الحاكم على أن يكون له صوتُه في تعيين أصحاب المناصب الكنسية. وما زال الاتجاه
المُضادُّ لروما في الكنيسة الجديدة باقيًا في بريطانيا حتى اليوم، مُتمثلًا في المحافظة
على وراثة العرش بين البروتستانت، كما أنه ظلَّ قائمًا في الولايات المتحدة حتى عام ١٩٦٠م
في ذلك القانون غير المكتوب الذي لم يكن يسمح لأي شخصٍ تابع للكنيسة الكاثوليكية الرومانية
بأن يكون رئيسًا للجمهورية.
٦
لقد رأينا أنه كان هناك، قبل أن تهبَّ عاصفة حركة النهضة ببضعةِ قرون، تغيُّر تدريجي
في
المناخ الثقافي هدَم الآراء القديمة عن سيطرة الكنيسة. أما الأسباب التي أدَّت إلى هذا
التغيير الثوري فهي مُتنوِّعة ومُتشابكة. فعلى السطح الخارجي يبدو الأمر كما لو كان
تمرُّدًا على سلطة رجال الدين في التدخُّل بين الله والإنسان. غير أنَّ هذا المبدأ السليم
(مبدأ عدم التدخل) ما كان ليشُقَّ طريقَه وحدَه لو لم تكن الكنيسة ذاتها قد لفتتْ أنظار
الناس، بمفاسدها، إلى التبايُن الشديد بين ما تعِظُهم به ومسلكها الفعلي، ففي كثيرٍ من
الأحيان كان رجال الكنيسة يملكون أراضيَ واسعة. وما كان هذا ليُعدَّ في ذاته أمرًا مذمومًا
لو لم يكن من الصعب التوفيق بين تعاليم المسيح وبين السلوك الدنيوي لكهنتِه. أما عن مسائل
المُعتقدات الدينية فإن أوكام كان قد قال من قبل إن المسيحية يمكن أن تسير في طريقها
بغير
السيطرة الجامحة لأسقُف روما. وهكذا فإن جميع عناصر الإصلاح الشامل للحياة الدينية للعالم
المسيحي كانت موجودةً بالفعل في إطار الكنيسة، ولم يتطوَّر السعي إلى الإصلاح بحيث يُصبح
انقسامًا حاسمًا، في النهاية، إلا نتيجةً لعوامل سياسية.
كان المستوى الثقافي لرجال الإصلاح ذاتهم أقلَّ من علماء الحركة الإنسانية الذين
مهَّدوا
لهم الطريق. غير أنهم كانوا يملكون تلك الحماسة الثورية التي يجد المفكرون الناقِدون
في
كثيرٍ من الأحيان صعوبةً في إبدائها. ولقد كان مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م) راهبًا أوغسطينيًّا
ومُعلمًا للاهوت وأثارت فيه تلك الممارسة الهابطة، أعني بيع صكوك الغفران، استياءً
أخلاقيًّا عارمًا، كما حدَث للكثيرين غيره. وفي عام ١٥١٧م خرج نشاطه إلى العلن، ونادي
بالقضايا الخمس والتِّسعين المشهورة، التي سجَّلها في وثيقةٍ علقها على باب كنيسة قلعة
فتنبرج Wittenberg. ولم يكن في ذهنه، حين تحدَّى
السلطة الكنسية العُليا في هذه النقطة، أن يُقيم مذهبًا دينيًّا جديدًا. غير أنَّ هذه
المسألة الشائكة كانت تُثير مشكلةً سياسية كاملة، هي الحصص المالية الضخمة التي كانت
تُدفع
لدولة أجنبية. وعندما حرَق لوثر علنًا المرسوم البابوي بطردِه من الكنيسة في عام ١٥٢٠م،
لم
تعُد المسألة تقتصِر على الإصلاح الديني؛ إذ بدأ الأمراء والحكَّام الألمان يتَّخذون
موقفًا، وأصبحتْ حركة الإصلاح ثورةً سياسية للألمان ضدَّ سلطة البابا الأشدَّ خفاء.
وبعد مجلس فرمز
Worms٧ في عام ١٥٢١م، ظلَّ لوثر مُختفيًا لمدة عشرة أشهر، وأعاد كتابة العهد الجديد
باللغة الشعبية. ويمكن القول إن هذا العمل، من حيث هو وثيقة أدبية، كان له بالنسبة إلى
الألمان نفس التأثير الذي كان للكوميديا الإلهية بالنسبة إلى الإيطاليين. وقد ساعد على
أية
حالٍ على انتشار كلمات الإنجيل على أوسع نِطاقٍ بين الناس، وأصبح في استطاعة أي شخصٍ
قادر
على القراءة أن يُدرك الآن وجود تبايُن شاسع بين تعاليم المسيح والنظام الاجتماعي القائم.
وكان هذا العامل بالذات، مُضافًا إليه النظرة البروتستانتية الجديدة إلى الإنجيل على
أنه
السلطة الوحيدة، هو إلى حدٍّ بعيدٍ الأساس المعنوي الذي قامت عليه ثورة الفلاحين في عام
١٥٢٤م. غير أن لوثر لم يكن مُصلحًا ديمقراطيًّا، وأعلن بصراحةٍ وقوفه ضدَّ أولئك الذين
تحدَّوا أسيادهم السياسيين؛ ذلك لأنه ظلَّ في تفكيره السياسي يتأمَّل الأمور بمنظور العصور
الوسطى. وقد اقترنت الثورة بقدرٍ كبير من العُنف والقسوة من جميع الإطارات، وسحقَتْ في
النهاية بوحشية. وأدَّت هذه المحاولة الفاشلة للثورة الاجتماعية إلى إضعاف قوَّة الدفع
الأصلية للعقيدة الإصلاحية إلى حدٍّ ما. ولقد جاء لفظ «البروتستانت» ذاته من نداءٍ أصدره
مؤيدو الإصلاح الديني واحتجُّوا فيه (
Protested) على محاولة
الإمبراطور أن يُعيد العمل في عام ١٥٢٩م بأحكام «مجلس فرمز»، الذي كان قد أعلن أنَّ المُصلح
وأتباعه خارجون عن القانون. غير أنَّ هذا الإجراء ظلَّ موقوفًا حتى عام ١٥٢٦م. أما الآن
فقد
أصبح لوثر مرةً أخرى مُطاردًا في الإمبراطورية، ومن ثم لم يحضر مجلس آوجسبرج
Augsburg في عام ١٥٣٠م. غير أنَّ الحركة البروتستانتية
كانت قد أصبحت في ذلك الحين أقوى من أن تُسحَق، وفي عام ١٥٣٢م اضطرَّ الإمبراطور كارهًا،
بموجب اتفاقية الصلح الديني في نورمبرج، إلى إعطاء ضماناتٍ لأولئك الذين يُريدون ممارسة
عقيدتهم الجديدة بحُرية.
وقد انتشرت الحركة الإصلاحية الجديدة بسرعةٍ في الأراضي الواطئة وفي فرنسا وسويسرا.
وكان
أقوى الإصلاحيين تأثيرًا بعد لوثر هو جان
كالفان Jean Calvin (١٥٠٩–١٥٦٤م)، وهو فرنسي استقرَّ به المُقام في جنيف، وتحوَّل إلى
الحركة الإصلاحية وهو في أوائل العشرينيات من عمره، ثم أصبح منذ ذلك الحين الرائد الرُّوحي
للبروتستانتية في فرنسا والأراضي الواطئة. والكلفينية مذهب ذو نزعةٍ أوغسطينية، ومن ثَم
فهي
أشدُّ صرامة وتصلُّبًا من اللوثرية التبشيرية. وتتغلغل فيها بقوةٍ المُثلُ العُليا
التطهيرية (البيوريتانية)، كما تذهب إلى أنَّ الخلاص مسألة مُقدرة مُقدَّمًا. ولقد كانت
تلك
إحدى السِّمات الأقل جاذبيةً للاهوت المسيحي، وقد أحسنتِ الكنيسة الرُّومانية صُنعًا
بتبرُّؤها من هذه الفكرة. غير أنَّ الفكرة لا تؤدي عمليًّا إلى تلك الأضرار التي ربما
بدَتْ
لها لأولِ وهلة، ما دام لدى كلِّ شخصٍ الحرية في أن يعتبِر نفسه واحدًا من المُصطفَين
المُختارين.
ولقد شهدت فرنسا في النصف الثاني من القرن السادس عشر حروبًا دينية مزَّقتها بين
الهوجنوت Huguenots الإصلاحيين وبين الكاثوليك. وكما
كانت الحال في ألمانيا، فإنَّ أسباب هذه القلاقل لم تكن دينيةً خالصة، بل كانت اقتصادية
جُزئيًّا. ونستطيع أن نقول بعبارةٍ أدقَّ إن العوامل الدينية والاقتصادية كانت سَويًّا
من
أعراض التغييرات العامة التي تميَّزت بها مرحلة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر
الحديث. ذلك لأنَّ العقيدة الإصلاحية وسِماتها التطهيرية (البيوريتانية) تسير جنبًا إلى
جنبٍ مع ظهور التجارة الحديثة. ولقد هدأت النزاعات الدينية في فرنسا لبعض الوقت نتيجةً
لمرسوم التسامُح الذي أُعلن في نانت Nantes عام ١٥٩٨م،
ولكن عندما أُلغي المرسوم في عام ١٦٨٥م، هاجرت أعدادٌ كبيرة من الهوجنوت من موطنها الأصلي
واستقرَّت في إنجلترا وألمانيا.
ونظرًا إلى أنَّ البروتستانتية لم تكن عقيدةً
عالمية، فقد كانت تحتاج إلى حماية السياسيين من رؤساء الدول، الذين كانوا يَميلون إلى
أن
يُصبحوا رؤساء لكنائسهم القومية أيضًا. وكانت تلك نِعمةٌ في ثَوب نِقمة؛ إذ إنَّ رجال
الكنيسة البروتستانت، الذين كانوا يفتقرون إلى سُلطة نظرائهم الرومان الكاثوليك، وإن
لم
يكونوا في كثيرٍ من الأحيان يقلُّون عنها تعصُّبًا وتزمُّتًا، لم تكن لديهم القدرة المُطلقة
على إلحاق قدرٍ كبير من الأذى. وفي النهاية أدرك الناس أنَّ المنازعات الدينية عقيمة
وغير
حاسمة، ما دام كلٌّ من الطرفَين كان عاجزًا عن القضاء على الآخر. ومن هذا الإدراك السلبي
ظهر التسامُح الديني الفعلي بمُضيِّ الوقت.
أما في داخل الكنيسة الرومانية ذاتها، فقد ظهرتْ حركةٌ إصلاحية جديدة في أواسط القرن
السادس عشر، تركَّزت على جماعة الجزويت، التي أسَّسها إجناثيوس من لويولا Ignatius of Loyola (١٤٩١–١٥٥٦م)، واعتُرِف بها
رسميًّا في عام ١٥٤٠م، وقد نُظِّمت هذه الجمعية الجزويتية على أسُسٍ عسكرية، تأثَّر فيها
لويولا بعملِه السابق كجُندي. أمَّا مِن حيث العقيدة فكان الجزويت يُعارضون التعاليم
الأوغسطينية التي أخذ بها البروتستانت، ويؤكِّدون حُرية الإرادة قبل كلِّ شيء. وكانت
أنشطتُهم العملية مُنصبَّة على العمل التبشيري، والتعليم، واستئصال شأفة البِدَع
والهرطقات.
وعلى حين أنَّ الحركة الإنسانية في الشمال قد أدَّت إلى قصور جديد للمسيحية، فإن المفكرين
الإنسانيين الإيطاليين لم يكونوا يهتمون كثيرًا بالدِّين. فقد كانت الكاثوليكية في إيطاليا
عندئذٍ، كما هي الآن، جُزءًا من الحياة اليومية لا يتغلغل بعُمق في ضمير الإنسان، وكان
الدِّين، بمعنًى ما، يقوم بدَورٍ أقلَّ في حياتهم، وكان قطعًا أقلَّ قدرة على إثارة
مشاعرهم. وفضلًا عن ذلك فنظرًا إلى أنَّ روما كانت محور الهرَم الدِّيني، فإن الكاثوليكية
الرومانية لم يكن من الممكن أن تجرَح الكبرياء الوطني للإيطاليين. ويمكن القول إنَّ
الكاثوليكية كانت، بصورةٍ حقيقية جدًّا، أثرًا باقيًا من آثار مبدأ عبادة الدولة كما
كان
موجودا في أيام الإمبراطورية القديمة. وما زالت سيطرة النفوذ الإيطالي في حكومة كنيسة
روما
قائمة إلى الآن.
وهناك عامل كانت له أهمية أعظم بكثيرٍ في تفكير رجال الحركة الإنسانية الإيطاليين،
هو
تجدُّد الاهتمام بالتراث الرياضي، للفيثاغوريين وأفلاطون؛ إذ بدأ التأكيد ينصبُّ مرةً
أخرى
على التركيب العددي للعالم، وبذلك حلَّ محلَّ التراث الأرسطي الذي كان قد بُنِي عليه.
وكان
ذلك واحدًا من التطورات الرئيسية التي أدَّت إلى ذلك الإحياء الرائع للبحث العلمي في
القرنَين السادس عشر والسابع عشر. ولم يظهر ذلك بوضوحٍ في أي مكان بقدر ما ظهر في عمارة
عصر
النهضة الإيطالية نظريًّا وتطبيقيًّا؛ إذ كانت هذه العمارة ترتبط مباشرةً بالتراث الكلاسيكي
القديم، وخاصَّة كما حدَّدَت معالمه أعمال فتروفيوس Vitruvius، المعماري الروماني المُنتمي إلى القرن الأول بعد الميلاد.
وهكذا أصبح المعماريون يُولون أهمية كبرى للنِّسَب بين مختلف أجزاء المبنى، وترافق ذلك
مع
نظريةٍ رياضية في الجمال. ذلك لأنَّ الجمال، كما قال فتروفيوس، مُرتكزًا على مصادر يونانية،
إنما هو انسجام النِّسَب الصحيحة، وهذا الرأي يرتدُّ مباشرة إلى مصادر فيثاغورية. وهو
بهذه
المناسبة يكشِف عن طريقةٍ أخرى يمكن بواسطتها أن تُثبَّت دعائم نظرية المُثل؛ إذ إنَّ
من
الواضح أن العين المُجرَّدة لا تستطيع أن تحكُم بدقَّة على العلاقات العددية بين مختلف
أجزاء مبنًى ما، ومع ذلك فعندما يتمُّ تطبيق نِسَبٍ دقيقة مَعنِيَّة، يترتَّب على ذلك
نوع
من المُتعة الجمالية، ومن ثَم فإن وجود مثل هذه النِّسَب، بوصفها مثلًا أعلى، يضمن
الكمال.
ولقد كان ألبرتي Alberti (١٤٠٤–١٤٧٢م) واحدًا من أهمِّ
مُفكري الحركة الإنسانية الإيطاليين، وكان هذا المُفكر الذي ينتمي إلى مدينة البندقية
يُجيد
أداء عدَّة حِرَفٍ في ميادين مُتعدِّدة، كما جرَتِ العادة في عصره، وربما كان أكثر
التأثيرات التي مارسها دوامًا هو تأثيره في ميدان العمارة، غير أنه كان في الوقت ذاته
فيلسوفًا وشاعرًا ورسَّامًا وموسيقيًّا. وكما أنَّ الإلمام بمعرفة أولية عن التوافُق
(الهارموني) كان أساسًا لفهم التأثير الفيثاغوري في الفلسفة اليونانية، فكذلك كانت هذه
المعرفة نفسها، في حالة العمارة في عصر النهضة، لازمةً لإدراك النِّسَب المطلوبة في تصميم
المبنى. ويمكن التعبير عن جوهر هذه النظرية بالقول إنَّ التوافق السَّمعي القائم بين
المسافات الفيثاغورية هو معيار التوافق البصري في التصميم المعماري. والواقع أن «جوته»
عندما وصف العمارة فيما بعدُ بأنها موسيقى مُجمَّدة، كان بعبارته هذه يقول شيئًا يمكن
أن
ينطبق حرفيًّا على العمل الذي كان يقوم به مِعماريُّو عصر النهضة. وهكذا فإن نظرية التوافق
المَبنية على الأوتار المُنغَّمة كانت تُقدِّم معيارًا عامًّا للفن الرفيع. وعلى هذا
النحو
كان يُفسِّرها فنانون مثل جورجوني Giorgione وليوناردو.
كذلك وجد هؤلاء أنَّ مبدأ التناسُب موجود في تركيب الجسم البشري، وفي الممارسة الصحية
لحياة
الإنسان الأخلاقية، وهذا كله لا يعدو أن يكون فيثاغورية مباشرة ومقصودة. غير أن الرياضة
هنا
يُصبح لها دور آخر كان له تأثيره الهائل في حركة الإحياء العلمي خلال القرون التالية.
ذلك
لأنَّ أي فن، بقدر ما يمكنه أن يَستخدِم العدد، يرتفع تلقائيًّا إلى مستوًى أسمى، ويظهر
ذلك
أوضح ما يكون في حالة الموسيقى، وإن كان ينطبق أيضًا على الفنون الأخرى. وهذا يفسر أيضًا،
إلى حدٍّ ما، تنوُّع اهتمامات المُفكرين الإنسانيين في ذلك العصر، ويُفسِّر بوجهٍ خاص
جمْع
الكثيرين منهم بين الاشتغال بالفنِّ والعمارة. ذلك لأنَّ رياضيات النِّسب كانت تُقدِّم
مفتاحًا شاملًا للتصميم الذي يقوم عليه الكون. أما مسالة إمكان جعل هذه النظرية أساسًا
سليمًا وشاملًا لعلم الجمال، فهو أمر يظلُّ بالطبع موضوعًا للخلاف. غير أنَّ ميزتها الكبرى،
على أيةِ حال، هي أنها وضعَتْ للجمال معاييرَ موضوعيةً لا شكَّ فيها، لا تتقيَّد بالمشاعر
أو المقاصد.
وهكذا فإنَّ إدراك البناء العدَدي في الأشياء قد أتعبَ الإنسان قدراتٍ جديدة يُسيطر
بها
على بيئته، وجعل الإنسان، بمعنًى مُعين، أقرب إلى الله. ولنتذكَّر في هذا الصدد أن
الفيثاغوريين كانوا يتصوَّرون إلهَهم على أنه الرياضي الأعظم. وكلما كان الإنسان على
نحوٍ
ما قادرًا على ممارسة مَواهبه الرياضية وتحسينها، كان بذلك أقربَ إلى الألوهية. وليس
معنى
ذلك أنَّ الحركة الإنسانية كانت تفتقِر إلى الإيمان، أو حتى أنها كانت مُعارضةً للعقيدة
السائدة. بل إنه يُبين لنا أنَّ المُمارسات الدينية الشائعة كانت تُقبَل على سبيل الأخذ
بما
هو مألوف، على حين أنَّ ما كان يُلهِب خيال المُفكرين بحقٍّ هو الأفكار القديمة السابقة
لعصر سقراط. وهكذا برَزَ مرة أخرى في ميدان الفلسفة تيَّار أفلاطوني جديد، وأصبح الاهتمام
الزائد الذي يُبدِيه المُفكرون بقدرات الإنسان يُذكِّرنا بالنزعة التفاؤلية لأثينا وهي
في
أوج مجدِها.
كان هذا هو المناخ العقلي الذي بدأ فيه نموُّ العلم الحديث. وإذا كان البعض يعتقد
أنَّ
العلم قد بزغ فجأةً إلى الحياة في مطلع القرن السابع عشر، بكامل عتاده، كما قفزت الإلهة
أثينا من رأس زيوس، فإنَّ هذا الاعتقاد في الواقع بعيدٌ كلَّ البُعد عن الصواب. ذلك لأنَّ
إحياء العلم مَبني مباشرة، وعن وعي، على التراث الفيثاغوري لعصر النهضة. وبالمِثل ينبغي
أن
نؤكِّد أنه لم يكن يُوجَد في ذلك التراث تعارُض بين عمل الفنان وعمل الباحث العلمي، فكلٌّ
منهما يبحث، بطريقته الخاصة، عن الحقيقة، التي لا يُدرَك جوهرها إلا عن طريق الأعداد.
وما
على المرء إلا أن ينظر حوله لكي يرى هذه النماذج العدديَّة في كل مكان. ولقد كانت هذه
النظرة الجديدة إلى العالم ومشكلاته مختلفة جذريًّا عن الاتجاه الأرسطي عند المدرسيِّين.
فقد كانت مُضادة للجمود والتزمُّت العقلي، من حيث إنها لم تكن تعتمد على النصوص، بل على
سلطة عِلم الأعداد وحده. ومن الجائز أنها كانت تذهب أحيانًا، في هذه الناحية، أبعدَ مما
ينبغي؛ إذ يجب أن نضع في حُسباننا دائمًا خطر تجاوز الحدود، كما يحدُث في كافَّة الميادين
الأخرى. ولقد كان التطرُّف، في الحالة التي نتحدَّث عنها، يتمثل في ظهور نزعةٍ صُوفية
رياضية تعتمد على الأعداد وكأنها رموز سِحرية. وهذا أحد العوامل التي أدَّت إلى إساءة
سُمعة
نظرية النِّسَب في القرون التالية. وفضلًا عن ذلك فقد ساد الإحساس بأنَّ المسافات
الفيثاغورية تفرِض قيودًا غير طبيعية وخانقة على العبقرية الإبداعية لواضع التصميم. ومن
الجائز أنَّ ردَّ الفعل الرومانسي هذا ضدَّ القواعد والمعايير قد استنفد أغراضَه في عصرنا
الحالي، وأصبح من الممكن أن تحدُث في المستقبل القريب عودةٌ إلى بعض المبادئ التي كانت
تَشيع في عصر النهضة.
أما في ميدان الفلسفة بمعناها الدقيق فإنَّ القرنَين الخامس عشر والسادس عشر لم يكونا،
على وجه الإجمال، مُتميِّزَين بصورةٍ خاصة. ومن جهةٍ أخرى بأنَّ امتداد المعارف الجديدة،
وانتشار الكتب، وقبل هذا وذاك، ذلك الإحياء القوي لتُراث فيثاغورس وأفلاطون القديم، كلُّ
ذلك مهَّد الطريق للمذاهب الفلسفية الكبرى في القرن السابع عشر.
وفي أعقاب هذا الإحياء لأساليب التفكير القديمة ظهرت الثورة العلمية الكبرى، التي
بدأت
بوصفها نزعةً تتمسَّك بالفيثاغورية بدرجاتٍ متفاوتة وأخذت تتخلَّى بالتدريج عن الأفكار
الأرسطية السائدة في مَيداني الفيزياء والفلك، وانتهى بها الأمر إلى تجاوز المظاهر واكتشاف
فرْضٍ مُثمر شديد العمومية. وفي هذا كلِّه كان العُلماء الذين يقُومون بتلك الأبحاث يعلمون
أنهم ينتمون مباشرةً إلى التُّراث الأفلاطوني.
كان أول من عمل على إحياء نظرية أرسطارخوس في مركزية الشمس هو كبرنيكوس Copernicus (١٤٧٣–١٥٤٣م)، وكان رجل الدين البولندي هذا قد
سافر في شبابه جنوبًا إلى إيطاليا، حيث قام بتدريس الرياضيَّات في روما عام ١٥٥٠م، وهنالك
عرف النزعة الفيثاغورية عند علماء الحركة الإنسانية الإيطاليين. وبعد بضع سنواتٍ من الدراسة
في عدَّة جامعات إيطالية، عاد إلى بولندا في عام ١٥٠٥م، وبعد عام ١٥١٢م استأنف عمله رئيسًا
للكنيسة في فراونبرج Frauenburg، وكان عمله إداريًّا في
الأساس، وإنْ كان قد زاولَ مهنة الطب، التي كان قد درسَها في إيطاليا، من آنٍ لآخَر.
وكان
في أوقات فراغِه يُتابع أبحاثَه الفلكية، بعد أن كان قد تنبَّه إلى الفرْض القائل بمركزية
الشمس خلال إقامته في إيطاليا. وأخذ في الفكرة التي نتحدَّث عنها يحاول اختبار آرائه
مُستعينًا بما كان يمكنه الحصول عليه عندئذٍ من أدوات.
وقد عرض كبرنيكوس هذه الأفكار كلها عرضًا وافيًا في كتابٍ بعنوان «في دورات الأجرام
السماوية»، لم يُنشَر إلا في العام الذي تُوفِّي فيه. ولم تكن النظرية كما عرضَها في
ذلك
الكتاب تخلو من صعوبات، وكانت تُمليها في بعض جوانبها أفكار مُسبقة ترجع إلى أيام فيثاغورس؛
فقد كان كبرنيكوس يرى أن من الضروري أن تتحرك الكواكب باطِّراد في دوائر، ويرى هذا قضية
مُسلَّمًا بها، لأن الدائرة رمز الكمال، والحركة المُطَّردة هي نوع الحركة الوحيد الذي
يليق
بالجُرم السماوي. غير أن فكرة مركزية الشمس بمداراتٍ دائرية كانت، في إطار الملاحظات
المُتوافرة عندئذٍ، أرقى كثيرًا من الأفلاك الدوَّارة على مُحيط الشمس، التي قال بها
بطليموس؛ إذ إننا هنا نجد أنفسنا أخيرًا إزاء فرْضٍ بسيطٍ يستطيع وحدَه أن يفسِّر كل
الظواهر. ولقد استُقبِلت النظرية الكبرنيكية بعداءٍ شديدٍ من جانب اللوثريِّين فضلًا
عن
الكاثوليك. ذلك لأنهم شعروا، عن حق، بأنَّ هذه بداية حركة جديدة مُضادة للجمود العقائدي،
من
شأنها، إن لم تهدم عقيدتهم ذاتها، أن تهدِم على الأقل تلك المبادئ السلطوية التي كانت
تعتمد
عليها مؤسَّساتهم الدينية. وإذا كنا نجد أن التطور الهائل للحركة العلمية قد حدث أساسًا
في
النهاية، في البلاد البروتستانتية، فإن ذلك يرجع إلى العجز النِّسبي للكنائس القومية
عن
فرْض سيطرتها على أفكار أعضائها.
وقد واصل تيكوبراهي Tycho Brahe (١٥٤٦–١٦٠١م) الأبحاث
الفلكية، وتمثَّل إسهامه أكبر في تقديم سجلاتٍ هائلة ودقيقة عن حركات الكواكب، كذلك ألقي
ظلالًا من الشكِّ على النظريَّات الفلكية الأرسطية حين أوضح أنَّ المنطقة الواقعة فيما
وراء
القمر لا تخلو من التغيُّر؛ إذ تبيَّن أن نجمًا جديدًا ظهر في عام ١٥٧٢م لم يكن يُغيِّر
شكله يوميًّا، ومن ثم فلا بدَّ أن يكون على مسافة أبعدَ من القمر بكثيرٍ كما أمكن إثبات
أن
المُذنَّبات تتحرك فيما وراء فلك القمر.
أما كبلر Kepler (١٥٧١–١٦٣٠م) فقد خطا خطوةً هائلة. وكان
كبلر يعمل في شبابه مساعدًا لتيكوبراهي. وعندما درس سجلَّات الأرصاد الفلكية (التي تركها
أستاذه) بدقة، تبيَّن له أن المدارات الدائرية التي كان يقول بها كبرنيكوس لم تكن تُفسِّر
الظواهر تفسيرًا صحيحًا، وأدرك أنَّ المدارات بيضاوية تحتلُّ الشمس أحد مركزيها. وفضلًا
عن
ذلك تبيَّن أن المساحة التي يعبُرها في لحظةٍ مُعيَّنة نصف قطر يربط الشمس بكوكبٍ ما،
تظلُّ
ثابتةً بالنسبة إلى هذا الكوكب. وأخيرًا فقد اتَّضح أن نِسبة مربع مدَّة دوران الكوكب
إلى
مكعب متوسط المسافة بينه وبين الشمس تظلُّ واحدةً في حالة جميع الكواكب.
تلك هي قوانين كبلر الثلاثة، التي كانت تُشكِّل خروجًا جذريًّا عن التراث الفيثاغوري
الحَرفي الذي كان يتَّبعه كبرنيكوس، وأصبح واضحًا أن من الضروري التخلِّي عن تلك العناصر
الخارجة عن نطاق العلم، من أمثال الإصرار على الحركة الدائرية. ولقد جرَتِ العادة منذ
أيام
بطليموس، في الحالات التي كان يتَّضِح فيها عدم كفاية مدار دائري بسيط، أن تُضاف مدارات
أكثر تعقيدًا عن طريق حركاتٍ تدور حول مُحيط فلك مُعين، وهي طريقة تُعلِّل على وجه التقريب
حركات القمر بالنسبة إلى الشمس. غير أن الملاحظات الأكثر دقَّة أثبتَت أنه مهما كانت
تلك
الإضافات المدارية حول المُحيط، فإنها لا تستطيع أن تُقدِّم وصفًا شاملًا للمدارات
المرصودة. وقد أدَّى قانون كبلر إلى استئصال هذه الصعوبة من جذورها دفعةً واحدة. وفي
الوقت
ذاته أثبت قانونه الثاني أنَّ حركة الكواكب في مداراتها ليستْ مُطَّردة. فحين تكون الكواكب
أقربَ إلى الشمس تتحرَّك بسرعةٍ أكبر من حركتها حين تكون في الأجزاء الأبعد من مدارها.
كل
ذلك دفَع الناس إلى الاعتراف بخطورة الاعتماد على آراء مُرتكزة على مبادئ جمالية أو صُوفية
دون الرجوع إلى الوقائع ذاتها. ومن جهةٍ أخرى فإن قوانين كبلر الثلاثة كانت تُشكل دعمًا
قويًّا للمبادئ الرياضية الرئيسية للفيثاغورية، وبدا أنَّ البناء العددي للظواهر هو الذي
يُقدِّم مفتاحًا لفَهمها في الواقع. وبالمِثل أصبح واضحًا أنَّ الإتيان بتفسيرٍ للظواهر
يقتضي البحث عن علاقات لا تظهر عادةً بوضوح، فالمقاييس التي يسير الكون وفقًا لها مُختبئة،
كما عبَّر عن ذلك هرقليطس، ومهمَّة الباحث العلمي إنما هي إماطة اللثام عنها. وفي الوقت
ذاته فإنَّ ممَّا له أهمية قصوى ألَّا يُخالف الباحث الظواهر لمجرد أن يحتفظ بمبدأٍ مُعين
خارجٍ عن نطاق بحثه.
ولكن إذا كان تجاهُل الظواهر هو، من جهة، أمرٌ محفوف بالخطر، فإنَّ الاكتفاء بتسجيلها
آليًّا لا يقلُّ إضرارًا بالعلم، من جهةٍ أخرى، عن أشدِّ التأمُّلات الفكرية الخالصة
شططًا.
وأوضَحُ مَثلٍ لذلك هو أرسطو؛ ذلك لأنه كان على صوابٍ في قوله إنك إن لم تظلَّ تدفع جسمًا
من الأجسام فإنه سيتوقف، وهذا هو بالقطع ما نُلاحظه في حالة تلك الأجسام التي نستطيع
دفعَها، ولكنه كان على خطأ حين استنتج من ذلك أن هذا يصدُق على النجوم، التي لا نستطيع
نحن
أن ندفعَها بأنفسنا حول السماء، ومن ثَم ظهر الاعتقاد بأنها لا بدَّ مُتحركة على نحوٍ
آخر.
كل هذا التفكير النظري غير السليم في ميدان حركة الأجسام يرتكز على مجموعةٍ من الظواهر
التي
بُولغ في الاكتفاء بمظهرها الخارجي. وهنا أيضًا نجد أنَّ التحليل الصحيح كامن ومُختبئ،
فما
يُسبِّب تباطؤ الأجسام حين لا يستمرُّ دفعها هو تأثير العوائق، ولو أزلتَ هذه العوائق
لظلَّ
الجسم يتحرَّك بذاته. وبطبيعة الحال فإننا لا نستطيع عمليًّا إزاحة جميع العوائق. ولكننا
نستطيع الإقلال منها ومُلاحظة أن الحركات تستمر لمدة أطول بقدرِ ما يمكن تطهير مسارها.
أما
في الحالة الحدِّية التي لا يعود فيها شيء يعُوق الجسم، فإنه يستمرُّ في حركته الحُرة.
هذا
الفرض الجديد في الديناميكا وضعَه جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م)، وهو من أعظم مُؤسِّسي العلم
الحديث. ولقد كانت هذه النظرة الجديدة إلى الديناميكا تُمثل خروجًا جذريًّا عن المذهب
الأرسطي في ناحيتَين: فهي أوَّلًا تفترِض أن السكون ليس حالةً مُميِّزة للأجسام، بل إنَّ
الحركة طبيعية شأنها شأن السكون تمامًا. وثانيًا فقد أثبتت أنَّ الحركة الطبيعية، بالمعنى
الخاص الذي كانت تُستخدَم به هذه الكلمة، ليست هي الحركة الدائرية، وإنما هي الحركة في
خطٍّ
مستقيم. فإذا لم يحدُث تدخُّلٌ من أي نوعٍ في طريق جسمٍ ما، فإنه يظلُّ يتحرَّك بسرعةٍ
متجانسة في خطٍّ مُستقيم.
ولقد كانت نفس النظرة المُفتقرة إلى الرُّوح النقدية تحُول دون فَهم القوانين التي
تحكم
سقوط الأجسام فهمًا سليمًا. فمن الأمور الواقعة فعلًا أنَّ الجسم الأكثر كثافةً يسقُط
في
الغلاف الجوي أسرعَ من الجسم الأخفِّ ذي الكتلة المُتساوية، ولكن في هذه الحالة بدَورها
ينبغي أن يُؤخَذ في الاعتبار إعاقة الوسط الذي تسقُط فيه الأجسام؛ فكلما أصبح هذا الوسط
أكثر تخلخلًا، اتَّجهت الأجسام إلى السقوط. بنفس السرعة، وفي المكان المُفرَّغ تصبح هذه
السرعة مُتساوية بدقة. وقد أثبتت المُلاحظات المتعلقة بالأجسام الساقطة أن سرعة السقوط
تزيد
بمعدل اثنين وثلاثين قدمًا في كلِّ ثانية؛ وعلى ذلك فما دامت السرعة غير متجانسة، وإنما
تتسارع باطراد، فلا بدَّ أن يكون هناك شيء يتدخَّل في الحركة الطبيعية للأجسام. هذا الشيء
هو قوة الجاذبية التي تُحدثها الأرض.
ولقد كانت لهذه الكشوف أهميتها في أبحاث جاليليو عن
مسار المقذوفات، وهي مسألة كانت لها أهمية عسكرية بالنسبة إلى دوق تسكانيا، الذي كان
يرعى
جاليليو. فهنا طُبِّق مبدأ هام للديناميكا على حالة مُلفتة للنظر، فلو درَسْنا مسار قذيفة
أمكننا أن ننظُر إلى الحركة على أنها مُركَّبة من حركتَين جُزئيتَين مُنفصلتَين
ومُستقلتَين، إحداهما أفقية مُتجانسة، والأخرى رأسية، ومن ثَمَّ تحكمها قوانين سقوط
الأجسام. أما الحركة التي تنتُج بالجمع بين الاثنين فيتبيَّن أنها تتبع مسارًا على شكل
قطع
مُكافئ. وهذه حالة بسيطة لتركيب مقادير كمية مُوجهة تخضع لقانون الجمْع بين المُتوازيات،
وهنالك مقادير كمية أخرى يُمكن مُعالجتها على هذا النحو ذاته، وهي السُّرعات العادية،
والسرعات المُعجلة، والقوى.
أما في ميدان علم الفلك فإنَّ جاليليو أخذ بنظرية مركزية الشمس، وأضاف إليها بعض الكشوف
الهامة. فقد عمل على تحسين مِنظارٍ مُقرِّب (تلسكوب) كان قد اختُرِع قبل ذلك بقليل في
هولندا، ولاحظ به عددًا من الظواهر التي قضَتْ نهائيًّا على التصوُّرات الأرسطية الباطلة
للعالم السماوي؛ فقد تبيَّن أن مجرَّة درْب التبَّانة تتألَّف من عدد هائل من النجوم.
وكان
كبرنيكوس قد ذكر أن كوكب الزهرة لا بدَّ أن تكون له أوجه، وفقًا لنظريته، وقد أيد منظار
جاليليو ذلك. وبالمِثل كشف هذا المنظار عن أقمار المُشترى، وتبيَّن أنها تدور حول كوكبها
الأصلي وفقًا لقوانين كبلر. كل هذه الكشوف قلبَتِ الأخطاء الراسخة منذ القِدَم رأسًا
على
عقب، وأدَّت بالمدرسيِّين المُتمسكين بحَرفيَّة العقيدة إلى إدانة المنظار المُقرِّب
الذي
عكَّر صفو سُباتهم الغارق في الأوهام. ونستطيع أن نستبِق الأحداث فنقول إنَّ مما يَلفتُ
النظر أنَّ شيئًا قريبًا من هذا كلَّ القُرب قد حدث بعد ثلاثة قرون، ذلك لأنَّ أوجست
كونت
قد أدان المِجهَر (الميكروسكوب) لأنه هدَم الصورة البسيطة لقوانين الغازات. وبهذا المعنى
نجِد أنه كانت هنالك نقاط مشتركة كثيرة بين الوضعيِّين وأرسطو في تلك السطحية الهائلة
التي
اتَّسمت بها ملاحظاته في الفيزياء.
ولقد كان من المُحتَّم أن يقع، عاجلًا أو آجلًا، صدام بين جاليليو ورجال الدين المحافظين،
وبالفعل أدين في عام ١٦١٦م، في جلسةٍ مُلفتة لمحاكم التفتيش، غير أنَّ سلوكه بدا بعد
ذلك
بعيدًا عن الخضوع والامتثال بحيث سِيق مرة أخرى إلى المحكمة في عام ١٦٣٣م، ولكن المحكمة
كانت في هذه المرة علنية. ولكي يُهدِّئ الحملة عليه، تراجع، ووعد بأن يتخلَّى من الآن
فصاعدًا عن كلِّ الأفكار المتعلقة بحركة الأرض. وتقول الروايات المُتداولة على الألسُن
إنه
فعل ما أُمِر به، ولكنه تمتم لنفسه قائلًا، «ومع ذلك فإنها تتحرَّك.» أما تراجُعه فكان
بالطبع مظهرًا خارجيًّا، غير أنَّ محكمة التفتيش نجحت في استئصال البحث العلمي في إيطاليا
لعدَّة قرون.
وكانت الخطوة الأخيرة في طريق وضْع نظريةٍ عامة في الديناميكا هي تلك التي خطاها
إسحق
نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧م). وكانت معظم المفاهيم التي تتضمَّنها تلك النظرية العامة قد استُخدِمت
من قبل أو أُشير إليها تلميحًا بطريقةٍ منفصلة. ولكنَّ نيوتن كان أول من أدرك المغزى
الكامل
للإشارات التي توصَّل إليها السابقون له. وفي كتابه المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية،
الذي صدر عام ١٦٨٧م، عرض ثلاثة قوانين للحركة، ثم طوَّر، على طريقة اليونانيين، تفسيرًا
استنباطيًّا للديناميكا. كان أول قانونٍ تعبيرًا تعميميًّا عن مبدأ جاليليو، فقال إنَّ
جميع
الأجسام، إذا لم يعُقْها شيء تتحرك بسرعةٍ ثابتة في خطٍّ مستقيم؛ أي إذا شئنا الدقَّة،
بسرعة متُجانسة. أما القانون الثاني فيُعرِّف القوة بأنها سبب الحركة غير المُتجانسة،
وتكون
القوة مُتناسبةً مع حاصل ضرب الكتلة في عجلة السرعة. وأما القانون الثالث فهو المبدأ
القائل
إنَّ لكل فعلٍ ردَّ فعلٍ مُساويًا له ومُضادًّا له في الاتجاه. وفي ميدان الفلك قدَّم
التفسير النهائي الذي كان كبرنيكوس وكبلر قد اتَّخذا الخطوات الأولى في سبيله، وهو القانون
العام للجاذبية، الذي ينصُّ على أنَّ هنالك، بين أي جزأين من المادة، قوة جذبٍ تتناسَب
طرديًّا مع حاصل ضرب كتلتهما وتتناسب عكسيًّا مع مُربع المسافة بينهما. وعلى هذا النحو
أصبح
من الممكن تفسير حركة الكواكب وأقمارها ومُذنَّباتها حتى أدق تفاصيلها المعروفة. بل إنه
لمَّا كان كل جزءٍ من المادة يؤثر في كل جزءٍ آخر، فإذن هذه النظرية جعلت من الممكن حساب
انحرافات المدارات التي تُسبِّبها الأجسام الأخرى بدقَّةٍ تامَّة، وهو ما لم تتمكن أية
نظرية أخرى من تحقيقه من قبل. أما عن قوانين كبلر فقد أصبحت الآن مجرَّد نتائج لنظرية
نيوتن. وهكذا بدا أن المفتاح الرياضي للكون قد اكتُشف أخيرًا، والصورة النهائية التي
تُعبِّر بها الآن عن هذه الحقائق هي المعادلات التفاضُلية للحركة، التي خلَتْ من أية
تفاصيل
دخيلة عارِضة مُتعلقة بالواقع المحسوس الذي تنطبق عليه. وهذا الشيء نفسه يصدق على تفسير
آينشتين، الذي كان أعمَّ حتى من هذا، ومع ذلك فإنَّ نظرية النِّسبية ما زالت موضوعًا
للجدَل
حتى يومِنا هذا، وتكتنفِها صعوباتٌ داخلية، ولكن، لنَعُد إلى نيوتن، فنقول إنَّ الأداة
الرياضية للتعبير عن الديناميكا هي حساب التفاضُل، الذي اكتشفَه ليبنتس Leibniz أيضًا بطريقةٍ مُستقلة. ومنذ ذلك الحين أخذت الرياضة والفيزياء
تتقدَّمان بقفزاتٍ هائلة.
وقد شهد القرن السابع عشر كشوفًا أخرى هائلة. فقد نُشِر بحث جلبرت Gilbert عن المغناطيسية عام ١٦٥٠م. وفي أواسط القرن عرض هوجنز Huygens النظرية التموُّجية في الضوء. وظهرتْ كشوف
هارفي Harvey عن الدورة الدموية مطبوعة في عام ١٦٢٨م.
ووضع روبرت بويل R. Boyle في كتابه «الكيميائي المُدقَّق The Sceptical Chemist» (١٦٦١م) حدًّا لإغراق
الكيميائيين القُدامى Alchemist في الأسرار والخُرافات،
وعاد إلى النظرية الذرِّية عند ديمقريطس. وتحقَّق تقدُّم كبير في صناعة الأدوات، مما
أدى
بدوره إلى إتاحة ملاحظات أدق، أفضَتْ هي الأخرى إلى تطوُّراتٍ أفضل في النظريات. وأعقب
هذا
التفجُّر الرائع للنشاط العلمي تطوُّر تكنولوجي مُناظر، حقَّق السيطرة لأوروبا الغربية
طوال
ثلاثة قرون. وهكذا فإن الروح اليونانية قد انتعشَتْ مرة أخرى بفضل الثورة العلمية، وكان
لهذا كلِّه انعكاساته على الفلسفة بدَورها.
لقد كان الجهد الأكبر للفلاسفة، في عملية تفسير الظواهر، ينصبُّ من قبل على جانب
التفسير،
أما الظواهر ذاتها فلم يكد أحدٌ يقول عنها شيئًا؛ ولهذا بالطبع أسباب وجيهة. ولكن ظهر
في
العصر الذي نتحدَّث عنه ردُّ فعل على التركيز المُفرط على الجانب المنطقي البحْت للاستنباط،
وأصبح الجوُّ مُهيَّأً للكلام عن مادة الملاحظة، التي يظلُّ البحث التجريبي بدونها عقيمًا،
فلم تعُد الأداة القديمة (أو الأورجانون)
٨ التي وضعها أرسطو، وهي القياس، صالحةً لتحقيق التقدُّم في العلم، وبدا من
الضروري قيام أداة جديدة، أو أورجانون جديد.
كان أول من عالج هذه الموضوعات صراحةً هو فرانسس
بيكن Francis Bacon (١٥٦١–١٦٢٦م) وقد كان بيكن ابنًا لحامل الأختام الملكية، وتلقَّى
تعليمًا قانونيًّا، ونشأ في بيئةٍ كان من الطبيعي أن تؤدِّي به إلى العمل في السلك الحكومي،
وقد دخل البرلمان وهو في الثالثةِ والعشرين، ثُم أصبح مُستشارًا للإيرل إسكس Essex. وعندما أُدين إسكس بتهمة الخيانة، انحاز بيكن إلى صفِّ
الملكة إليزابيث، على الرغم من أنه لم يُفلح أبدًا في اكتساب ثِقتِها الكاملة. ولكن عندما
خلَفَها جيمس الأول على العرش في عام ١٦٠٣م، بدتْ له الأمور مبشِّرةً بمزيدٍ من الأمل.
وبالفعل ارتفعت مكانة بيكن حتى شغل في عام ١٦١٧م منصب أبيه، وأصبح في العام التالي مُستشار
الملك، ومُنح لقب بارون فيرولام Verulam. ولكن أعداءه
تآمَروا في عام ١٦٢٠م للقضاء على مُستقبله السياسي، فاتَّهموه بأنه تلقَّى رشاوى في قضايا
المحكمة الملكية. ولم يعترِض بيكن على الاتهام، بل اعترف به، ولكنه دافع عن نفسه بالقول
إنَّ الأحكام التي أصدرَها لم تتأثر أبدًا بالهدايا. وكان الحُكم الذي أصدره ضدَّه اللوردات
هو تغريمه مبلغ ٤٥ ألف جنيه، وسَجنُه في برج لندن طوال الوقت الذي يشاؤه الملك، وحرمانه
في
المستقبل من منصبه السياسي ومقعدِه في البرلمان. وقد تمَّ تنفيذ الجزء الأول من هذا الحكم
القاسي، أما الجزء الثاني فقد اقتصر على احتجازه لمدة أربعة أيام. وأما إبعاده عن العمل
السياسي فقد نُفِّذ بالفعل. ومنذ ذلك الحين عاش مُعتكفًا ومُتفرغًا للكتابة.
كان بيكن، شأنه شأن أقطاب عصر النهضة، مُتعدِّد الاهتمامات، فكتب في القانون والتاريخ،
واشتُهر بمقالاته Essays، وهي شكل أدبي كان مونتني Montaigne (١٥٣٣–١٥٩٢م) قد ابتكره في فرنسا منذ وقتٍ قريب.
وأشهر كُتب بيكن الفلسفية هو «تقدُّم المعرفة» The Advancement of
Learning،
الذي نُشر في عام ١٦٠٥م، وكُتِب بالإنجليزية، وهو كتاب يُمهِّد فيه بيكن الأرض لأبحاثه
التالية، وهدف الكتاب، كما يُوحي عنوانه، هو توسيع نطاق المعرفة وزيادة سيطرة الإنسان
على
ظروفه وبيئته. أما في المسائل الدينية فقد اتَّخَذ موقفًا شبيهًا بموقف أوكام، فدعا إلى
أن
يهتمَّ الإيمان والعقل كلٌّ بمَيدانه الخاص دون أن يتعدَّى أحدهما على حدود الآخر، والوظيفة
الوحيدة التي يَعزوها إلى العقل، في الميدان الديني هي استخلاص النتائج من المبادئ المقبولة
بالإيمان.
أما بالنسبة إلى السعي من أجل المعرفة العلمية، بمعناها الصحيح، فإنَّ ما أكدَّه بيكن
هو
الحاجة إلى منهجٍ جديد أو أداة جديدة للكشف، يحلُّ محل نظرية القياس التي أصبح إفلاسها
واضحًا للعيان، وقد وجد بيكن هذا المنهج في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء. والواقع
أنَّ فكرة الاستقراء لم تكن في ذاتها جديدةً فقد استخدَمَها أرسطو من قبل، ولكن طريقة
استخدام الاستقراء حتى ذلك الحين كانت هي التعداد البسيط للأمثلة، أما بيكن فرأى أنه
اهتدى
إلى طريقةٍ أكثر فعالية، تتمثَّل في وضع قوائم للظواهر التي تشترك في صفةٍ مُعينة هي
موضوع
البحث، وكذلك قوائم بالظواهر التي تفتقِر إلى هذه الصفة، وقوائم بالظواهر التي تملك هذه
الصفة بدرجاتٍ متفاوتة. وعلى هذا النحو كان يأمُل في الكشف عن السِّمة المُميِّزة لصفةٍ
ما.
فإذا أمكن الوصول بطريقة القوائم هذه إلى الكمال والشمول، فعندئذٍ نكون قد وصلْنا حتمًا
إلى
نهاية بحثِنا. أما مِن الناحية العملية فعلَينا أن نكتفيَ بقائمةٍ جُزئية ثم نُغامر بتخمينٍ
ما على أساسها.
هذا، باختصار شديد، هو لبُّ العرْض الذي قدَّمه بيكن للمنهج العلمي، الذي كان يرى
فيه
أداةً جديدة للكشف. ويُعبِّر عنوان الدراسة التي عرَض فيها هذه النظرية عن هذا الرأي؛
إذ
كان القصْد من «الأورجانون الجديد»، الذي نُشِر عام ١٦٢٠م، أن يحلَّ محلَّ أورجانون أرسطو.
غير أنَّ هذا المنهج من حيث هو طريقة عملية، لم يلقَ قَبولًا لدى العلماء، أما من حيث
هو
نظرية في المنهج، فقد كان مُخطئًا، وإن كان تأكيده لأهمية الملاحظة قد جعل منه دواءً
مفيدًا
يَشفي من النزعة العقلية التقليدية المُتطرفة. والواقع أنَّ الأداة الجديدة لا تفلح بالفعل
في تجاوز أرسطو على الإطلاق؛ فهي تعتمِد على التصنيف وحدَه، وعلى الفكرة القائلة إنَّ
مُراعاة التدقيق اللازم كفيلة بإيجاد الفئة أو المكان المناسِب لكلِّ شيء. وتبعًا لهذا
الرأي، فإننا ما إن نهتدي إلى المكان الصحيح، ومعه الاسم الملائم، لأيةِ كيفيةٍ أو صفةٍ
مُحدَّدة، حتى نكون قد سيطرنا عليها. على أنَّ هذا الوصف يصلُح للانطباق على البحث
الإحصائي. أما فيما يتعلَّق بصياغة الفروض فقد كان بيكن على خطأٍ في اعتقاده أنها مَبنية
على الاستقراء، الذي تكون مهمَّتُه الحقيقية في الواقع، هي اختبار الفروض. بل إنَّ مُجرَّد
القيام بسلسلةٍ من الملاحظات يقتضي أن يكون لدى المرء من قبل فرضٌ أولى. أما اكتشاف الفروض
فلا يمكن أن تُوضَع بشأنه مجموعة من القواعد العامة. والواقع أن بيكن كان مُخطئًا كلَّ
الخطأ عندما اعتقد بإمكان وجود أداة للكشف، يستطيع المرء عن طريق تطبيقها آليًّا أن يُميط
اللثام عن أسرارٍ جديدة مُذهلة للطبيعة. ذلك لأنَّ وضع الفروض لا يتمُّ بهذه الطريقة
على الإطلاق.
٩ وفضلًا عن ذلك فإنَّ رفض بيكن للقياس قد أدى به إلى الإقلال من أهمية وظيفة
الاستنباط في البحث العلمي. ومن الجدير بالملاحظة، بوجهٍ خاص، أنه لم يُبدِ تقديرًا كبيرًا
للمناهج الرياضية التي كانت قد بدأتْ تتطوَّر في عصره. ذلك لأنَّ دور الاستقراء في اختبار
الفروض ما هو إلَّا جانب بسيطٌ من جوانب المنهج، وبغير الاستنباط الرياضي الذي يقودُنا
من
الفروض إلى موقفٍ عَيني قابل للاختبار، لا تتوافر لدَينا معرفة بما يتعيَّن علينا
اختباره.
أما العرض الذي قدَّمه بيكن لمُختلف ضروب الخطة
التي يتعرَّض لها الإنسان فهو من أكثر أجزاء فلسفته تشويقًا. فنحن، في رأيه، مُعرَّضون
للوقوع في أربعة أنواع من الخطأ العقلي، أطلق عليها اسم «الأصنام أو الأوهام»
Idols. فهناك أولًا أوهام القبيلة (أو النوع البشري)
التي نقَع فيها لمجرَّد كوننا بشرًا، ومن أمثلتها تحكُّم أمانينا في اتجاه تفكيرنا، وبوجهٍ
خاص توقُّعنا أن نجد في الظواهر الطبيعية نظامًا يزيد على ما هو موجود فعلًا. وهناك أوهام
الكهف، وهي نقاط الضَّعف الفردية في كلِّ شخص، وهذه لا حصر لها ولا عدد. أما «أوهام السوق»،
وهي الأخطاء الناجمة عن مَيل الذهن إلى الانبهار بالألفاظ، وهو خطأ يتفشَّى في الفلسفة
بوجهٍ خاص. وأخيرًا فإن «أوهام المسرح» هي تلك الأخطاء التي تنشأ عن المذاهب والمدارس
الفكرية، والمَثَل المُفضَّل لدي بيكن في هذا الصدد هو المذهب الأرسطي.
إن بيكن، على الرغم من كلِّ ما أبداه من اهتمامٍ بالبحث العلمي، قد فاتته جميع التطوُّرات
الأكثر أهمية في عصره تقريبًا. فهو لم يعرف أعمال كبلر، وعلى الرغم من أنه كان يتلقَّى
العلاج على يدِ هارفي، فإنه لم يعرِف بأبحاث طبيبه عن الدورة الدموية.
والأهم من بيكن، بالنسبة إلى المذهب التجريبي، وكذلك بالنسبة إلى الفلسفة عامَّةً،
هو
توماس هبز Thomas Hobbes (١٥٨٨–١٦٧٩م) فعلى حين أنَّ
هبز ينتمي في جوانب مُعينة إلى التراث التجريبي، فقد كان في الوقت ذاته يُقدِّر المنهج
الرياضي، وهو ما كان يربط بينه وبين جاليليو وديكارت. وهكذا فإن وعيه بوظيفة الاستنباط
في
البحث العلمي جعل تصوُّرَه للمنهج العلمي أنضجَ بكثيرٍ من أي تصوُّر توصَّل إليه
بيكن.
لم تكن حياة هبز الأولى مع أسرته تُبشِّر بخير كثير، فقد كان أبوه قسًا شرسًا مُتعنتًا
اختفى في لندن في وقتٍ كان فيه هبز ما يزال طفلًا.
ومن حُسن حظِّه أنَّ عمَّهُ كان إنسانًا لدَيه شعور بالمسئولية، فأخذ على عاتقه تربية
ابن
أخيه الصغير، وخاصَّة لأنه لم يكن قد أنجب أطفالًا، وفي سنِّ الرابعة عشرة تَوجَّه هبز
إلى
أكسفورد حيث درس الآداب والفلسفات الكلاسيكية، وكان المنطق المدرسي وميتافيزيقا أرسطو
جزءًا
من برنامج الدراسة، وقد شعر هبز بكراهية شديدة لهذَين الموضوعَين، ظلَّت مُلازمةً له
طوال
حياته. وفي عام ١٦٠٨م أصبح مُعلمًا خاصًّا لوليم
كافندش W. Cavendish ابن إيرل ديفونشير Devonshire،
وبعد سنتَين رافق تلميذَه في الرحلة الكبرى عبر القارة الأوروبية، التي كانت شيئًا
تقليديًّا في ذلك الحين. وعندما ورِث تلميذه اللقب، أصبح راعيًا لهبز، وعن طريقِه تعرَّف
هبز إلى كثيرٍ من الشخصيات البارزة في عصره. وعندما مات راعيه في عام ١٦٢٨م، توجَّه هبز
إلى
باريس لبعض الوقت، ثم عاد ليُصبح مُعلمًا خاصًّا لابن تلميذه السابق. ومرة أخرى رحَل
مع
الإيرل الشاب في عام ١٦٣٤م لزيارة فرنسا وإيطاليا، وفي باريس قابل مرسين Mersenne وحلقة أصدقائه، وفي عام ١٦٣٦م زار جاليليو في
فلورنسة. وعاد إلى بلاده في عام ١٦٣٧ وبدأ يكتُب صياغةً أولى لنظريَّتِه السياسية. غير
أنَّ
آراءه عن السيادة لم تُعجِب أيًّا من الطرفَين في الصراع الذي كان قد بدأ ينشَب بين
الملكيِّين والجمهوريين. ولما كان ميَّالًا بطبيعتهِ إلى الحذر فقد رحل إلى فرنسا حيث
عاش
من ١٦٤٥م إلى ١٦٥١م.
وخلال سنواته هذه في باريس ارتبط مرةً أخرى بحلقة مرسين وقابل ديكارت. ولمَّا كان
قد
ارتبط بعلاقة ودِّية في البداية مع اللاجئين المَلكيِّين الهاربين من إنجلترا، وضِمنهم
الأمير الذي سيُصبح فيما بعد الملك تشارلز الثاني، فإنه أغضب الجميع عندما نشر كتاب
«التِّنين Leviathan» عام ١٦٥١م. ذلك لأنَّ أصدقاءه
الملكيين لم تُعجبهم طريقته العلمية اللاشخصية في معالجة مشكلة الولاء، على حين أنَّ
رجال
الكنيسة الفرنسية أخذوا عليه خصومته للكاثوليكية. لذلك استقرَّ رأيُه على الفرار مرة
أخرى،
ولكنه سار هذه المرة في الاتجاه المُضاد وعاد إلى إنجلترا، حيث استسلم لكرومويل وانسحَبَ
من
الحياة السياسية. وفي هذه المرحلة من حياة هبز دخل في معركةٍ فكرية عنيفة كان خصمُه فيها
هو
«ووليس Wallis» من أكسفورد. ولمَّا كان إعجاب هبز
بالرياضيات يفُوق قدراته في هذا العلم، فإنَّ خصمَه الذي كان أستاذًا، انتصر بسهولة في
الجدَل الناشِب بينهما. وقد استمرَّت خلافات هبز مع علماء الرياضة حتى نهاية حياته.
وبعد عودة الملكية استعاد هبز الحَظوة لدى الملك، بل إنه حصل على معاشٍ مقداره مائة
جنيه
في السنة، وهي هِبة كانت كريمة وإن كان دفْعُها له قد ظلَّ أمرًا غير مضمون. ولكن عندما
تفشَّت الخُرافات بين الشعب على إثر وباء الطاعون الذي فتك بالناس وحريق لندن الكبير،
أجرى
البرلمان تحقيقًا حول موضوع الإلحاد، فأصبح كتاب التِّنين، لهبز هدفًا خاصًّا للنقد الجارح.
ومنذ ذلك الحين لم يستطع هبز أن ينشُر شيئًا عن أية مسألة اجتماعية أو سياسية شائكة إلا
في
الخارج، حيث كان يحظى في أُخرَيات سِني حياته الطويلة بسمعة تفوق سمعتَه في بلاده.
ولقد وضع هبز في الفلسفة أساسَ عناصر كثيرة أصبحت تتميَّز بها المدرسة التجريبية
الإنجليزية فيما بعد. وكان أهمُّ أعماله هو «التنين»، وفيه طبَّق آراءه الفلسفية العامة
من
أجل وضْع نظرية في الحُكم والسيادة. لكن الكتاب، قبل أن ينتقل إلى بحث النظرية الاجتماعية،
يتضمَّن على سبيل التقديم مُوجزًا وافيًا لمَوقفه الفلسفي العام. ففي الجزء الأول نجد
تفسيرًا للإنسان ولعِلم النفس البشري على أسُسٍ ميكانيكية دقيقة، مصحوبًا ببعض التأمُّلات
الفلسفية عن اللغة ونظرية المعرفة. وهو يرى، مثل جاليليو وديكارت، أنَّ أيَّ شيءٍ يدخل
في
نطاق تجربتنا ينتُج عن حركة ميكانيكية في الأجسام الخارجية، على حين أنَّ المرئيات والأصوات
والروائح وما شابهها لا تُوجَد في الأشياء، بل هي ذاتية فينًا. وهو يذكر عرَضًا، في سياق
هذا الموضوع، أنَّ الجامعات ما زالت تُدرِّس نظرية فجَّة في الانبعاثات emanations مبنية على آراء أرسطو، ثُم يضيف بخُبثٍ أنه لا يرفض الجامعات
بوجهٍ عام، ولكنه لمَّا كان سيتحدَّث فيما بعد عن موقعها في الدولة، فلا بدَّ له أن
يَدُلَّنا على أهمِّ عيوبها التي يتعيَّن إصلاحها والتي من بينها الإكثار من الكلام الفارغ.
ويقوم رأيه في علم النفس على فكرة التداعي أو الترابُط، كما يتَّخِذ في موضوع اللغة موقفًا
اسميًّا تامَّ الاتساق. وهو يرى أن الهندسة هي العلم الوحيد، ووظيفة العقل لها نفس طابع
البرهان في الهندسة فعَلينا أن نبدأ بالتعريفات، ونحرِص في صياغتنا لها على ألا نَستخدِم
مفاهيم مُناقضةً لذاتها. وبهذا المعنى يكون العقل شيئًا يُكتَسَب بالمران، أي أنه ليس
فطريًّا كما اعتقد ديكارت. ويلي ذلك عرْضٌ للانفعالات على أساس فكرة الحركة.
ومن جهة أخرى يرى هبز أنَّ الناس يكونون في حالتهم الطبيعية مُتساوين، ويسعى كل منهم
إلى
المحافظة على ذاته على حساب الآخرين، بحيث تقوم بينهم حالة حرْب للكلِّ ضدَّ الكل. ولكي
يتخلَّص الناس من هذا الكابوس المُزعج، يتجمعون سويًّا ويفوِّضون قدراتهم الخاصة لسُلطة
مركزية. وهذا هو موضوع الجزء الثاني من الكتاب. فلمَّا كان الناس عقلاء وميَّالين إلى
التنافس، فإنهم يصلون إلى اتفاق أو ميثاق مِن صُنعهم، يتفقون فيه على الخضوع لسُلطة مُعينة
من اختيارهم. وبمجرَّد قيام مثل هذا النظام، لا يكون لأحدٍ الحق في التمرُّد، ما دام
المحكومون، لا الحاكمون، هم المُلزمون بالاتفاق. ولا يحقُّ للناس أن يفسخوا الاتفاق إلا
إذا
عجز الحكَم عن توفير الحماية التي اختير أصلا من أجلها. ويُسمَّى المجتمع الذي يرتكز
على
عقد من هذا النوع باسم الدولة القائمة على مصلحة
مشتركة
Commonwealth، وهي أشبه برجلٍ عملاق مركَّب من رجالٍ عاديين، أي «بالتنين». ولما
كانت هذه الدولة أضخم وأقوى من الإنسان، فإنها أشبه بالإله، وإنْ كانت تشترك مع الناس
العاديين في أنها فانية، وتُوصَف السلطة المركزية بأنها ذات
سيادة
Sovereign، وهذه السيادة تعني سلطة مُطلقة في كافَّة جوانب الحياة. أما الجزء
الثالث من الكتاب فيقدِّم إيضاحًا للسبب الذي يتعيَّن معه عدم وجود كنيسة عالمية. ولقد
كان
هبز «إراستيًّا».
١٠ بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، ومن ثَم رأى من الضروري أن تكون الكنيسة مؤسَّسة
قومية خاضعة للسلطات المدنية. وفي الجزء الرابع يوجِّه انتقاده إلى كنيسة روما لعدَم
توافر
شرط الخضوع هذا فيها. لقد تأثرت نظرية هبز بالقلاقل السياسية التي انتشرت في عصره. وكان
أكثر ما يخشاه وينفِر منه هو الانشقاق الداخلي؛ ولذا كانت آراؤه تنشُد السلام بأي ثمن.
أما
فكرة القيود والضوابط، كما عرضَها لوك فيما بعد، فكانت غريبة عن أسلوبه في التفكير. على
أنَّ طريقة مُعالجته للمسائل السياسية، رغم تحرُّرها من الخُرافة والنزعة الصوفية، كانت
تميل إلى الإفراط في تبسيط المشكلات. ولم يكن تصوُّره للدولة كافيًا لمواجهة الموقف السياسي
الذي عاش فيه.
لقد رأينا أنَّ عصر النهضة قد شجع الباحثين على الاهتمام المُتزايد بالرياضيات، وهناك
مسألة رئيسية أخرى كانت تشغل مُفكري ما بعد عصر النهضة، هي أهمية المنهج، وهي مسألة
لاحظناها من قبل في حالة بيكن وهبز. ولقد امتزج هذان العاملان عند رينيه ديكارت Rene Descartes (١٥٩٦–١٦٥٠م) ليؤلِّفا مذهبًا
فلسفيًّا جديدًا على طريقة القدماء في تكوين مذاهب شاملة. ومن هنا كان يُعَد، عن حق،
مؤسِّس
الفلسفة الحديثة.
كانت أسرة ديكارت تنتمي إلى الشريحة الدُّنيا من
طبقة النبلاء؛ إذ كان أبوه مُستشارًا لبرلمان مقاطعة بريتاني. وقد تتلمذ منذ عام ١٦٠٤م
حتى
١٦١٢م في مدرسة لا فليش La Fleche اليسوعية، التي قدَّمت
إليه تعليمًا كلاسيكيًّا جيدًا، فضلًا عن أنها زوَّدته بأساسٍ متين لمعرفة العلوم الرياضية
كما كانت تُعلَّم في ذلك الحين. وبعد أن أنهى دراسته فيها، توجَّه إلى باريس، وفي العام
التالي بدأ دراسة القانون في بواتييه Poitiers، حيث تخرج
عام ١٦١٦م. غير أن اهتماماته كانت مُركَّزة على ميدانٍ آخر. ففي عام ١٦١٨م سافر إلى هولندا
للالتحاق بالجيش، ممَّا أتاح له وقتًا طويلًا لدراسة الرياضيات. وفي عام ١٦١٩م بدأت حرب
الثلاثين عامًا بداية جادة، ونظرًا إلى حرص ديكارت على أن يُشاهدَ العالمَ فقد انضمَّ
إلى
جيش بافاريا. وفي شتاء ذلك العام اهتدى إلى الأفكار الرئيسية التي استلهمتها فلسفته،
وذلك
من خلال تجربة وصفَها لنا في كتاب «المقال في المنهج». ففي يوم أبرَدَ من المُعتاد، لجأ
ديكارت إلى كوخ، وجلس بقُرب المدفأة الحجَرية، وعندما سرى الدفءُ في أوصاله، بدأ يفكر،
وما
إن حلَّت نهاية ذلك اليوم حتى كانت الخطوط العامة لفلسفته كلها قد تكشَّفت له بوضوح.
وقد
ظلَّ ديكارت مُلتحقًا بالجيش حتى عام ١٦٢٢م، ثم عاد إلى باريس، وفي العام التالي زار
إيطاليا، حيث بقِي بها طوال عامين. وحين عاد إلى فرنسا وجد أن الحياة في موطنه تُلهيه
عن
أمور كثيرة. ولما كان بطبيعته انعزاليًّا إلى حدٍّ ما، ونظرًا إلى حرصه على العمل في
جوٍّ
لا يعكر صفوه شيء، فقد رحل إلى هولندا في عام ١٦٢٨م، وهناك تمكن، بعد أن باع مُمتلكاته
التي
لم تكن واسعة، من أن يعيش حياةً مُستقلة متمتعًا بقِسط معقول من الراحة. وطوال الأعوام
الإحدى والعشرين التالية بقِي في هولندا باستثناء ثلاث زيارات قصيرة لباريس. وبالتدريج
بدأ
يضع تفاصيل فلسفته، على الأسُس التي كان قد اهتدى إليها في وقت اكتشافه لمنهجه. ولكنه
امتنع
عن نشْر كتابٍ هام في الفيزياء، كان قد أخذ فيه بالنظام الفلكي الكبرنيكي، عندما ترامت
إليه
أنباء محكمة جاليليو في عام ١٦٣٣م. ولقد كان أشد ما يحرص عليه هو ألا يتورَّط في خلافات
ومُجادلات؛ إذ بدا له أنَّ في ذلك مَضيعة للوقت الثمين. وفضلًا عن ذلك فإنَّ كل الظواهر
تدلُّ على أنه كان كاثوليكيًّا مُخلصًا، وإن كنا لن نعلم أبدًا مدى نقاء معتقداته في
هذا
الصدد. ولذلك اكتفى ديكارت بنشر مجموعة من ثلاثة أجزاء عن البصريات، والأرصاد الجوية،
والهندسة. أما «المقال في المنهج»، الذي ظهر عام ١٦٣٧م، فكان القصد منه هو أن يكون مُقدمة
لهذه الدراسات الثلاث. ولقد كان أشهر هذه الدراسات هي دراسته في الهندسة حيث عرض مبادئ
التحليل الهندسي وطبَّقها. وفي عام ١٦٤١م نشر كتاب «التأمُّلات»، وأعقبه في عام ١٦٤٤م
بكتاب
«مبادئ الفلسفة»، الذي أهداه للأميرة اليزابيث، ابنة أمير بافاريا. وفي عام ١٦٤٩م كتب
دراسة
عن انفعالات النفس أُهدِيت إلى الأميرة نفسها. وفي هذا العام نفسه أبدت الملكة كريستينا،
ملكة السويد، اهتمامًا بأعمال ديكارت، وتمكنت في النهاية من إقناعه بالرحيل إلى ستوكهلم.
ولقد كانت هذه الملكة الاسكندنافية شخصية تتجسَّد فيها روح عصر النهضة بحق، فقد دفعتها
قوة
إرادتها وعنادها إلى الإصرار على أن يُعلمها ديكارت الفلسفة في الساعة الخامسة صباحًا
من كل
يوم. وهكذا وجد ديكارت نفسه مُلزمًا بواجبٍ غير فلسفي هو أن يستيقظ في ظلمة ليل الشتاء
السويدي، وكان ذلك أكثر ممَّا تحتمِله صحته، فداهَمَه المرَض ومات في فبراير ١٦٥٠م.
لقد كان منهج ديكارت هو، في نهاية المطاف، حصيلة اهتمامه بالرياضيات، وكان ديكارت
قد أثبت
من قبل، في ميدان الفلسفة، مدي اتِّساع نطاق النتائج التي يمكن أن يوصِّل إليها هذا المنهج؛
إذ كان من الممكن، باستخدام المنهج التحليلي، تقديم وصفٍ لخصائص فئاتٍ كاملة من المنحنيات
عن طريق معادلاتٍ بسيطة. وكان ديكارت يؤمن بأن المنهج، الذي أحرز كل هذا النجاح في ميدان
الرياضيات، يمكن أن يمتدَّ إلى ميادين أخرى، وبذلك يُتيح للباحث أن يصِل إلى نوع اليقين
نفسه الذي يتوصَّل إليه في الرياضيات. وكان الهدف من «المقال في المنهج» هو بيان القواعد
والإرشادات التي ينبغي أن نتَّبعها كيما نستخدم مَلكاتنا العقلية على وجهٍ أشمل. أما
بالنسبة إلى العقل ذاته، فقد كان ديكارت يرى أنَّ الناس جميعًا مُتساوون فيه، وكل ما
بيننا
من اختلافات هو أن البعض منَّا يستعملونه أفضل من البعض الآخر. غير أنَّ المنهج شيء نكتسبه
بالممارسة، وهي نقطة يعترِف بها ديكارت بصورةٍ ضمنية، لأنه لا يريد أن يفرض علينا منهجًا،
بل يهدف إلى أن يُبين لنا كيف استخدَمَ هو ذاته عقله بنجاح. ويتَّخذ العرض الذي يُقدِّمه
ديكارت في هذا الكتاب طابع السيرة الذاتية؛ إذ يروي لنا كيف أنَّ المؤلف لم يقتنع في
شبابه
بذلك الكلام الغامض المُفتقر إلى اليقين، الذي يجِده المرء في كل المجالات. أما في ميدان
الفلسفة فما من رأي ممجوج إلا واعتنقَه شخصٌ ما. ولقد أعجبتْه الرياضيات بسبب ما تتسم
به
استنتاجاتها من يقين، غير أنه لم يكن قد أدرك بعدُ كيف تُستخدَم على النحو الصحيح. وهكذا
تخلَّى عن التعلُّم من الكُتب وبدأ أسفاره، ولكن تبين له أنَّ عادات الناس تختلف فيما
بينها
بقدر ما تختلف آراء الفلاسفة. وفي النهاية، استقرَّ عزمُه على أن ينظر في داخله علَّه
يهتدي
إلى الحقيقة، ومن هنا حدثت واقعة تفكيره بقُرب المدفأة، التي تحدَّثْنا عنها من قبل.
وإذ لاحظ ديكارت أنَّ العمل الذي يُنجزه كله شخص واحد هو وحدَه الذي يمكن أن يكون
مُرضيًا
على أي نحو، فإنه قرَّر أن يرفض كل شيء سبق له أن تعلمه وأُرغِم على أن يُسلِّم به تسليمًا.
وهكذا فإن المنطق والهندسة والجبر هي وحدَها المعارف التي تظلُّ صامدةً وسط هذا الرفض
الشامل، ومن هذه المعارف اهتدى إلى أربع قواعد؛ الأولى هي ألا نقبل أي شيءٍ سوى الأفكار
الواضحة والمُتميزة. والثانية هي أن نُقسِّم كل مشكلة إلى أي عددٍ من الأجزاء يلزَم
لحلِّها. والثالثة هي أن نسير في تفكيرنا من البسيط إلى المُركَّب، مُفترضين وجود ترتيبٍ
حيث لا يكون هناك ترتيب بالفعل. أما القاعدة الرابعة فتدعونا إلى أن نقوم دائمًا بمُراجعات
دقيقة كيما نتأكَّد من أنَّنا لم نُغفِل شيئًا. هذا هو المنهج الذي استخدَمه ديكارت في
تطبيق الجبر على المشكلات الهندسية، ممَّا أتاح له أن يخترع ما نُطلق عليه اسم الهندسة
التحليلية. أما تطبيق هذا المنهج على الفلسفة فقد رأى ديكارت أنَّ من الواجب إرجاءه حتى
يتقدَّم به العمر قليلًا. وفيما يتعلق بالأخلاق فإننا نواجِه مأزقًا؛ ذلك لأنها هي الأخيرة
في ترتيب العلوم، ومع ذلك يتعيَّن علينا في حياتنا أن نتَّخِذ قراراتٍ عاجلة، لذلك وضَع
ديكارت لنفسه قانونًا مؤقتًا للسلوك يوفِّر له، بالمعيار العملي (البرجماتي)، أفضل ظروفٍ
مُمكنة للحياة. ومن هنا قرَّر أن يمتثل لقوانين بلاده وعاداتها، وأن يظلَّ مُؤمنا بعقيدته،
وأن يسلك بتصميمٍ وإصرارٍ بمجرد أن يستقرَّ ذهنه على أن يسير في اتجاهٍ مُعين، وأن يحاول
أخيرًا أن يتحكم في نفسه بدلًا من أن يُغير قدره، ويُكيِّف رغباته وفقًا لنظام الأشياء
لا
العكس. ومنذ ذلك الحين قرَّر ديكارت أن ينذُر نفسه للفلسفة.
ويؤدي منهج ديكارت، حين يُطبَّق على الميتافيزيقا، إلى الشكِّ المنهجي. شهادة الحواس
غير
مؤكدة ولا بدَّ من الشك فيها. بل إنَّ الرياضيات ذاتها، رغم كونها أقلَّ تعرُّضًا للشك،
ينبغي الارتياب فيها، لأنَّ من الجائز أنَّ قوةً ذات قدرة هائلة تقودُنا عمدًا في طريق
الضلال. وبعد هذا كله يظلُّ الشيء الوحيد الذي يتحتَّم على المُتشكك أن يعترِف به هو
تشككه
ذاته. وهذا هو أساس صيغة ديكارت الأساسية: أنا أفكر إذن فأنا موجود. ففي هذه القضية وجد
ديكارت نقطة البداية الواضحة والمتميزة للميتافيزيقا. وهكذا استنتج أنه كائن مُفكر، مُستقل
تمامًا عن العناصر الطبيعية، ومن ثَمَّ مُستقل عن الجسم أيضًا، ثم انتقل ديكارت إلى وجود
الله، الذي قدَّم له برهانًا ينطوي في جوهره على تكرارٍ للدليل الأنطولوجي. ولما كان
الله
صادقًا بالضرورة فلا يمكن أن يخدَعنا بشأن أفكارنا الواضحة والمتميزة. فنظرًا إلى أنَّ
لدَينا فكرة من هذا النوع عن الأجسام، أو عن الامتداد، حسب تعبيره، فلا بدَّ أن تكون
الأجسام موجودة. ويلي ذلك عرْض عام للمسائل الفيزيائية بالترتيب الذي كان مفروضًا أن
تُعالَج به هذه المسائل في دراسته غير المنشورة. فهو يُفسر كل شيء من خلال الامتداد
والحركة. وهو يُطبق ذلك حتى على علم الأحياء. ويُقدِّم ديكارت تفسيرًا للدورة الدموية
على
أساس أنها ترجع إلى قِيام القلب بوظيفة جهاز التسخين، بحيث يجعل الدم الذي يدخُله يتمدَّد،
وهو تفسير يختلف بالطبع عن ملاحظات هارفي، ممَّا أثار جدلًا شيِّقًا بين الرجُلين. ولكن
لنعُد إلى «المقال في المنهج»، فنلاحظ أن هذه النظرية الميكانيكية تؤدِّي إلى الرأي القائل
إنَّ الحيوانات كائنات آلية، لا رُوح فيها، وهي نتيجة يُفترَض أننا نستدلَّ عليها أيضًا
من
كون الحيوانات لا تتكلم ومن ثَمَّ فلا بدَّ أنها تفتقر إلى العقل. ويؤدي ذلك إلى دعم
الرأي
القائل إنَّ نفس الإنسان مُستقلة عن جسده، ويقودنا إلى استنتاج خلودها، ما دامت لا تُوجَد
قوى أخرى تهدمها. وأخيرًا يُشير المقال، تلميحًا إلى محكمة جاليليو، ويناقش مسألة النشر
أو
عدم النشر، وفي النهاية يكون الحلُّ الوسط هو نشر المقال في المنهج، والدراسات الثلاث
التي
يكون المقال مدخلًا إليها. هذه باختصار شديد، هي رسالة «المقال»، الذي يُقدِّم صورةً
موجزة
لمبادئ الفلسفة الديكارتية.
وأهم ما في هذا المذهب هو طريقة الشكِّ المنهجي. فهذه الطريقة، من حيث هي أسلوب إجرائي،
تؤدي إلى الشك الشامل، كما حدث فيما بعدُ في حالة هيوم. ولكن ما يُنقذ ديكارت من النتائج
الشكاكة هو أفكاره الواضحة والمتميزة، التي يجدها في نشاطه الذهني الخاص. فلمَّا كانت
الأفكار العامة، من أمثال الامتداد والحركة، مُستقلة عن الحواس، فإنها في نظر ديكارت
فطرية،
ومثل هذه الصفات الأولية هي التي تُولِّد معرفة بالمعنى الأصيل، أما الإدراك الحسِّي
فينصبُّ على الصفات الثانوية، كاللون والطعم والملمَس وما شابَهَ ذلك. غير أن هذه الصفات
لا
تُوجَد حقيقةً في الأشياء. وفي كتاب التأمُّلات يُقدِّم ديكارت المثَل المشهور لقطعة
الشمع
ومظاهرها المُتغيرة، لكي يضرِب مثلًا يوضِّح هذه النقطة. أما الشيء الذي يظلُّ على ما
هو
عليه طوال الوقت فهو الامتداد، وهو فكرة فطرية يعرفها العقل.
وهكذا فإن الفلسفة الديكارتية تؤكد الأفكار بوصفها نقاط البداية التي لا يتطرَّق
إليها
شك. وقد كان لذلك تأثيره على الفلسفة الأوروبية منذ ذلك الحين، سواء في اتجاهها العقلي
أم
في اتجاهها التجريبي. ويظلُّ هذا الرأي صحيحًا حتى على الرغم من أن الصيغة «أنا أفكر
إذن
فأنا موجود.» التي ارتكز عليها هذا التطوُّر، ليست في ذاتها صحيحة كلَّ الصحة. ذلك لأنَّ
هذه العبارة لا تكون سليمة إلا إذا اعترَفْنا بمُسلَّمة مُضمرة، هي أن الفكر عملية واعية
بذاتها، ولو لم نفعل ذلك، لتساوى مع هذه القضية أن نقول: «أنا أمشي، إذن فأنا موجود.»
لأنني
إذا كنتُ أمشي فمن الصحيح بالفعل أنَّني لا بدَّ أن أكون موجودًا، وقد أثار هذا الاعتراض
هبز وجاسندي Gassendi، ولكن ينبغي أن نلاحظ بالطبع أنَّني
قد أعتقِد أنَّني أمشي عندما لا أكون في الواقع ماشيًا، على حين أنني لا يمكن أن أعتقد
أنَّني أفكر حين لا أكون مُفكرًا بالفعل. أي أن هذه الإحالة إلى الذات، التي يفرض حدوثها
في
عملية التفكير، هي التي تُضفي على صيغة ديكارت طابعها الذي يبدو بمنأًى عن الشك، فإذا
أزلتَ
عنها طابع الوعي الذاتي، كما فعل هيوم فيما بعد، انهار المبدأ من أساسه. ومع ذلك يظلُّ
من
الصحيح أنَّ تجارب المرء الذهنية الخاصة تنطوي على يقينٍ خاص لا تشاركها فيه الأحداث
الأخرى.
ولقد أدى تأكيد الفلسفة الديكارتية لتلك الثنائية القديمة العهد، ثنائية العقل والمادة،
إلى إبراز مشكلة العلاقة بين الذهن والجسم، وهي المشكلة التي يتعيَّن على أيَّةِ فلسفة
كهذه
أن تواجهها. ذلك لأنه يبدو أن العالمَين المادي والذهني يسير كلٌّ منهما في مجراه الخاص،
المُكتفي بذاته، الذي تحكُمه مبادئه الخاصة، ووفقًا لهذا الرأي يكون من المُستحيل بوجهٍ
خاص
القول بأن عملياتٍ ذهنية أو نفسية كالإرادة يمكن أن تؤثِّر على العالم المادي على أي
نحو.
وقد وضع ديكارت ذاته استثناءً لهذه القاعدة، حين اعترف بقُدرة النفس البشرية على تغيير
حركة
الأرواح الحيوية من حيث الاتجاه، ولكن ليس من حيث الكم. غير أنَّ هذا المهرب المُصطنع
لم
يكن يتمشَّى مع مذهبه، فضلًا عن أنه لا يتفق وقوانين الحركة؛ ومن هنا فقد استغني عنه
أتباع
ديكارت ورأوا أنَّ الذهن لا يستطيع تحريك الجسم. ولكي نُفسر العلاقة بينهما ينبغي أن
نفترض
أنَّ العالم قد رُتِّب مقدمًا بحيث إنه كلما حدثت حركة جسمية مُعينة، يطرأ في الميدان
الذهني، وفي الوقت المناسب، ما نعتبره الحدث الذهني الصحيح المُصاحب لهذه الحركة، دون
أن
يكون هناك أي ارتباط مباشر. وقد قال بهذا الرأي خلفاء ديكارت، وخاصة جولينكس Geulinex (١٦٢٤–١٦٦٩م) ومالبرانش Malebranche (١٦٣٨–١٧١٥م). ويطلق على هذه النظرية اسم «مذهب المناسبة Occasionalism»، لأنه يرى أنَّ الله يُرتِّب الكون
بحيث تسير سلاسل الأحداث المادية والذهنية في مساراتها المُتوازية على نحوٍ يجعل الحادث
في
إحدى السلسلتين يقَع دائمًا في المناسبة الصحيحة لوقوع حدَث في السلسلة الأخرى. وقد ابتدع
جولينكس تشبيه الساعتَين لكي يضرب به مثلًا يوضح هذه النظرية. فإذا كانت لدينا ساعتان
تدلُّ
كل منهما على الوقت بدقة كاملة، ففي وسعنا أن ننظُر إلى إحداهما عندما يُشير العقرب إلى
اكتمال الساعة، بينما نسمع دقات الساعة الأخرى. وقد يؤدي بنا هذا إلى الاعتقاد بأنَّ
الساعة
الأولى هي التي جعلت الثانية تدق. والواقع أنَّ الذهن والجسم أشبَهُ بهاتَين الساعتَين
اللتَين ضبطهما الله بحيث تسيران كلٌّ في مجراها المُستقل والموازي لمجرى الأخرى. وبالطبع
فإن مذهب المناسبة، يُثير بعض الصعوبات المُحرجة. فكما إننا نستطيع، من أجل معرفة الوقت
المضبوط، أن نستغني عن إحدى الساعتَين، فكذلك يبدو من الممكن أن نستدلَّ على الأحداث
الذهنية بالإشارة إلى الأحداث المادية المُوازية لها فحسب.
والواقع أنَّ مبدأ المناسبة، ذاته هو الذي يضمن إمكان نجاح مثل هذه المهمة. وهكذا
يُمكننا
أن نقدم نظريةً كاملة عن الأحوال الذهنية من خلال الأحداث المادية وحدَها. وهي محاولة
قام
بها بالفعل الفلاسفة الماديُّون في القرن الثامن عشر، وتوسَّع فيها علم النفس السلوكي
في
القرن العشرين. وهكذا فإنَّ مذهب المناسبة، بدلًا من أن يعمل على ضمان استقلال النفس
عن
الجسم، يؤدي في نهاية الأمر إلى جعل النفس كيانًا زائدًا يمكن الاستغناء عنه، أو قد يؤدي،
بعكس ذلك، إلى جعل الجسم كيانًا غير ضروري في كل الأحوال. وأيًّا كان الرأي الذي يُفضله
المرء، فإنَّ هذا لا يتفق والمبادئ المسيحية، ومن هنا لم يكن من المُستغرَب أن تجد مؤلَّفات
ديكارت مكانًا مضمونًا على قائمة الممنوعات لدى الكنيسة. ومن أسباب ذلك أن المذهب الديكارتي
لا يُمكنه تفسير الإرادة الحرَّة بطريقة مُتَّسقة. والواقع أن النزعة الحتمية الصارمة
التي
يتَّسِم بها التفسير الديكارتي للعالم المادي، الفيزيائي والبيولوجي، قد أسهمت بدورٍ
كبير
في تشجيع المذهب المادي في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وخاصةً عندما ننظر إلى هذه
النزعة في ارتباطها بفيزياء نيوتن.
إن الثنائية الديكارتية هي في نهاية المطاف حصيلة نظرة تقليدية تمامًا إلى مشكلة
الجوهر،
بالمعنى الفنِّي الذي استخدَم به الفلاسفة المدرسيُّون هذا اللفظ. فالجوهر هو حامل الصفات،
غير أنه هو ذاته مُستقل ودائم. وقد اعترف ديكارت بجوهرَين مُتباينَين، أعني المادة والعقل،
لا يمكنهما أن يتفاعلا على أيِّ نحو، لأنَّ كلًّا منهما مُكتفٍ بذاته، وقد ظهرت فكرة
«المناسبة» من أجل عبور الهوة بينهما، ولكن من الواضح أنَّنا لو قبِلنا بمثل هذا المبدأ
فلن
يحُول شيء بيننا وبين الاعتماد عليه إلى أي حدٍّ نشاء، فمن الممكن مثلًا النظر إلى كلِّ
عقلٍ على أنه جوهر في ذاته، وقد سار ليبنتس Leibniz في هذا
الاتجاه، فوضع نظرية «الذرَّات الرُّوحية monads» التي
تنطوي على القول بعددٍ لا نهاية له من الجواهر، كلها مُستقلة، ولكن بينها تنسيقًا، وفي
مقابل ذلك يستطيع المرء أن يعود إلى وجهة نظر بارمنيدس فيقول بأنه لا يُوجد إلَّا جوهر
واحد، وهذا الاتجاه الأخير هو الذي سار فيه اسبينوزا، الذي ربما كانت نظريته أشدَّ المذاهب
الواحدية التي عرفها التاريخ اتِّساقًا وصرامة.
كان اسبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧م) الذي وُلد في أمستردام، ابنا لأسرةٍ يهودية رحل أجدادها
— قبل
وقتٍ كانت ذاكرة الأسرة لا تزال تَعِيه — عن ديارهم في البرتغال لكي يجدوا مكانًا يمكنهم
فيه أن يعبدوا الله على طريقتهم الخاصة. ذلك لأنَّ خروج المُسلمين من إسبانيا والبرتغال
قد
أتاح الفرصة لمحاكم التفتيش لكي تنشُر حكمًا يسُوده التعصُّب الديني، مما جعل الحياة
بالنسبة إلى غير المسيحيين غير مريحة، هذا إذا استخدَمْنا أخفَّ تعبير ممكن. أما هولندا
فقد
كانت أثناء عصر الإصلاح الديني في حربٍ ضدَّ حكم الطغيان في إسبانيا؛ ومن ثم قدَّمت ملجأ
لضحايا الاضطهاد، وأصبحت أمستردام موطنًا لطائفةٍ يهودية كبيرة. وفي هذا الإطار تلقَّى
اسبينوزا تعليمه وتربيتَه الأولى.
على أن هذه الدراسات التقليدية لم تكن تكفي لإرضاء ذهنه المُتوقِّد. وقد أتاحت له
معرفته
باللاتينية أن يطلع على كتابات أولئك المفكرين الذين أحدثوا حركة إحياء العلم الكبرى،
وعملوا على تشجيع العلم والفلسفة الجديدَين. وسرعان ما وجد أن من المستحيل عليه البقاء
في
إطار العقيدة الحرفية لليهود، ممَّا سبَّب حرجًا شديدًا للطائفة اليهودية. والواقع أنَّ
لاهوتيي حركة الإصلاح الديني كانوا مُتزمِّتين على طريقتهم الخاصة، وشعروا بأن أيَّ رفضٍ
للدين بطريقة نقدية عنيفة قد يُعكر صفو جوِّ التسامح العام الذي كان يسُود هولندا في
ذلك
الحين. وهكذا طرد اسبينوزا في النهاية من الكنيس اليهودي وصُبَّت على رأسه كل لعنات الكتاب
المقدس.
ومنذ ذلك الحين التزم اسبينوزا العزلة التامة،
وخاصة لأنه كان بطبيعته مُنطويًا على نفسه، وعاش في هدوءٍ وسط حلقةٍ صغيرة من الأصدقاء،
وكان يكتسب رزقَه من صقل العدسات، ويُكرِّس حياته للتأمُّل الفلسفي. ولكن على الرغم من
حياة
الاعتزال التي كان يعيشها، ذاعت شُهرته بسرعةٍ وأخذ يتبادل الرسائل فيما بعدُ مع عددٍ
من
المعجبين ذوي النفوذ، كان أهمهم ليبنتس. ومن المعروف أنهما قد تقابلا في لاهاي، غير أن
اسبينوزا لم يوافق أبدًا على أن يُخرجَه أحدٌ من عزلته. ففي عام ١٦٧٣م عرض عليه أمير
بافاريا كرسي الفلسفة في جامعة هيدلبرج، ولكنه رفض العرْض رفضًا مُهذبًا، وكانت أسباب
رفضه
لهذا الشرَف تنمُّ عن الكثير؛ إذ يقول أولًا: «أعتقد أنني لو تفرَّغتُ لتعليم الشباب
فسوف
أكفُّ عن ممارسة الفلسفة. وفضلًا عن ذلك فإني لا أدري ما هي الحدود التي ينبغي لي أن
أحصُر
فيها حرية التفلسُف حتى لا أبدو راغبًا في الخروج على العقيدة السائدة … وهكذا ترى أنني
لا
أُعلل نفسي بالأمل في حظٍّ أفضل، بل إنني سأمتنع عن إلقاء الدروس لسببٍ واحد هو إيثاري
السكينة التي أعتقد أنني أستطيع اكتسابها على أفضل وجه بهذه الطريقة.»
أما كتابات اسبينوزا فلم تكن ضخمةً في حجمها غير أنها تكشف عن قُدرة على التركيز والدقة
المنطقية يندُر، وربما يستحيل، الوصول إليها. غير أن آراءه في الألوهية والدين كانت سابقةً
لعصره إلى حدِّ أنه، برغم كل جهوده الجادة في التفكير النظري الأخلاقي، قد صُبَّت عليه
اللعنات، في عصره وطوال مائة عام بعد ذلك، بوصفه شيطانًا آثمًا، كما أنَّ كتابه الأعظم
«الأخلاق» كان في نظر مُعاصريه من الخطورة بحيث لم يمكن نشرُه إلا بعد وفاته.
وتنطوي نظريته السياسية على عناصر مُشتركة كثيرة مع نظرية «هبز»، غير أنَّ الأساس
الذي
كانت ترتكز عليه نظرية اسبينوزا مختلف كل الاختلاف على الرغم من وجود قدْرٍ لا بأس به
من
الاتفاق بينهما على كثيرٍ من السِّمات التي اعتقدا أنها ضرورية لقيام مجتمع صالح، فعلى
حين
أن هبز يقيم آراءه على أساسٍ تجريبي، فإن اسبينوزا يستنبط نتائجه من نظريته الميتافيزيقية
العامَّة. بل إن المرء لا يستطيع أن يُدرك مدى قوة استدلاله إلا إذا نظر إلى أعماله
الفلسفية كلها على أنها دراسة كبرى واحدة. والواقع أنَّ هذا واحدٌ من الأسباب التي جعلت
التأثير المباشر لكتابات اسبينوزا أضعفَ من تأثير الكتابات السياسية للفلاسفة التجريبيِّين.
ولكن ينبغي أن نذكر أن المسائل التي ناقشها كانت مُشكلاتٍ حيةً وحقيقية إلى أبعدِ حدٍّ
في
عصره. غير أن الدور الأساسي الذي تقوم به الحرية في أداء الجهاز السياسي لعمله لم يكن
مُعترفًا به عندئذٍ على النطاق الواسع الذي أصبح سائدًا في القرن التاسع عشر.
كان اسبينوزا من أنصار حرية التفكير على خلاف هبز، بل إنَّ ميتافيزيقاه ونظريته الأخلاقية
تستتبع القول بأن الدولة لا تستطيع أداء عملها على الوجه الصحيح إلا في إطار هذه الحرية.
وهو يناقش هذه المسألة بحماسة كبيرة في كتاب «دراسة لاهوتية
سياسية Tractatus
Theologico-Politicu». ويتَّخذ هذا الكتاب طابعًا غير مألوف إلى حدٍّ ما، من حيث إنَّ
هذه الموضوعات تُعالج فيه على نحوٍ غير مباشر من خلال نقد الإنجيل. وهنا نجد أن اسبينوزا
قد
بدأ، بالنسبة إلى العهد القديم بوجهٍ خاص، ما أصبح يُطلق عليه بعد قرنَين من الزمان اسم
«النقد الأعلى». وهو يدرس أمثلة تاريخية من هذا المصدر (أي العهد القديم)، ويخلُص منها
إلى
إثبات أن حرية التفكير تنتمي إلى صميم الوجود الاجتماعي وفي هذه المسألة يصِل على سبيل
الاستنتاج الختامي، إلى فكرة رائعة يقول فيها: «ومع ذلك ينبغي أن أعترف بأنَّ مثل هذه
الحرية تترتَّب عليها أضرار في بعض الأحيان. ولكن من ذا الذي استطاع أن يُنشئ أي شيءٍ
بقدْر
من الحكمة يستحيل معه أن تترتَّب عليه نتائج ضارة؟ إنَّ من يرمي إلى أن يحكُم كلَّ شيء
بالقوانين لا بدَّ أن يزيد من النقائص بدلًا من أن يُقللها. ولكن ما يمكن منعه ينبغي
أن
يسمح به، حتى لو أدَّى ذلك أحيانًا إلى «الضَّرر».» كذلك يختلف اسبينوزا عن هبز في أنه
لم
ينظر إلى الديمقراطية على أنها أكثر تنظيمات المُجتمع عقلانية، فأكثر الحكومات تعقُّلًا
تُصدر مراسيم سليمة في الأمور الواقعة في نطاق سلطتها، وتكفُّ أيديَها في المسائل المتعلقة
بالعقيدة والتعليم. ومثل هذه الحكومة تنشأ حين تكون هناك طبقة لدَيها وعيٌ بمسئوليتها
ومتميزة من حيث الملكية الاقتصادية. في ظلِّ دولة كهذه تُتاح للناس أفضل فُرَص تحقيق
إمكاناتهم العقلية، بالمعنى الذي كان يقصده اسبينوزا، وهذه الإمكانات العقلية هي، وفقًا
لمذهبه الميتافيزيقي، ما يهدف إليه البشَر بطبيعتِهم. أما عن مسألة أفضل الحكومات، فقد
يكون
من الصحيح بالفعل أنَّ المجتمع التجاري الذي يتوقَّف النشاط فيه على قدرٍ من الحرية
والأمان، هو الذي تُتاح فيه أكبر فرصة لإقامة حكم ليبرالي. ولا شكَّ أن هولندا، بلد
اسبينوزا، كانت مثلًا واضحًا على صحة هذا الرأي.
وحين ننتقل بعد ذلك إلى «الأخلاق»، نكون قد سِرنا وفقًا للترتيب التاريخي الذي نُشِرت
به
كتابات اسبينوزا، وإن كان الترتيب المنطقي يقتضي البدء بها. ويمكن القول إنَّ عنوان هذا
الكتاب مُضلِّل إلى حدٍّ ما بالقياس إلى مُحتواه. ذلك لأننا نجد هنا أوَّلًا ميتافيزيقا
اسبينوزا، التي تنطوي ضِمنًا على إيضاح لذلك التخطيط الذي يضعه الفيلسوف العقلاني من
أجل
بحث الطبيعة علميًّا. ولقد أصبحت هذه المسالة من أهمِّ المسائل العقلية في القرن السابع
عشر. ويلي ذلك عرضٌ يدور حول موضوع الذهن، وسيكولوجية الإرادة والانفعالات، ثم نظرية
أخلاقية مَبنية على ما سبق.
والكتاب كلُّه معروض على طريقة هندسة إقليدس، إذ يبدأ بتعريفاتٍ ومجموعة من المُسلَّمات،
ومنها يستمدُّ المجموعة الكاملة للقضايا اللازمة عنها، مع كل ما تقتضيه من براهين ونتائج
وتفسيرات. وهذه الطريقة في التفلسُف لم تعُد اليوم شائعة أو مرغوبة، ولا بدَّ أن يبدو
مذهب
اسبينوزا تدريبًا غريبًا بحقٍّ في نظر أولئك الذين لا يُعجبهم شيء سوى آخر أنباء الصحافة.
ولكن هذا المذهب لا يبدو، في تركيبه، على هذا القدْر من الغرابة، بل إنه يظل، في ذاته،
عملًا من أروع أعمال التفكير المُنضبط الدقيق.
يبحث الباب الأول من الكتاب مشكلة الله. وهو يعرض ستَّة تعريفات تشمل تعريفًا للجوهر
وتعريفًا لله وفقًا للاستعمال التقليدي للفلسفة المدرسية، وتضع المُسلَّمات سبعة فروض
أساسية لا يُقدَّم لها تبريرٌ آخر. ومنذ ذلك الحين يكون كل ما علينا هو أن نتابع استخلاص
النتائج، كما هي الحال عند إقليدس؛ إذ يبدو من الطريقة التي تمَّ بها تعريف الجوهر أنه
ينبغي أن يكون شيئًا يُفسِّر نفسه بنفسِه كُلية، ويُدلل اسبينوزا على أنه يجب أن يكون
لا
مُتناهيًا، إذ إنه لو كان محدودًا لكان لتلك الحدود بعض التأثير عليه. كما يُدلِّل على
أنه
لا يمكن أن يُوجَد إلا جوهر واحد، ويتبيَّن لنا أنَّ هذا الجوهر هو العالم ككل، وهو بالمِثل
الله ذاته. ومن هنا فإنَّ الله والكون، أي مجموع الأشياء كلها، هما واحد ونفس الشيء،
وهذه
هي نظرية «شمول الألوهية»، المشهورة عند اسبينوزا، وينبغي أن نؤكد أن العرْض الذي يُقدمه
اسبينوزا لا يتضمَّن في ذاته أي قدرٍ من التصوُّف، بل إن المسألة كلها تمرين في المنطق
الاستنباطي، مبنيٌّ على مجموعة من التعريفات والمُسلَّمات المعروضة ببراعةٍ عبقرية، وربما
كان ذلك أعظم أمثلة البناء المذهبي في تاريخ الفلسفة.
لقد كان التوحيد بين الله والطبيعة أمرًا مكروهًا إلى أبعدِ حدٍّ في نظر المُتمسِّكين
بحرفية العقيدة في كافة المُعسكرات. ومع ذلك فقد كان مجرَّد نتيجة لبُرهانٍ استنباطي
بسيط،
وحين نتأمَّل هذا البرهان في ذاته، نجده سليمًا، وإذا كان يؤدي إلى إيذاء شعور البعض
فما
هذا إلا دليل على أنَّ المنطق ليس مُلتزمًا باحترام مشاعر الناس. وما دام الله والجوهر
يُعرَفان بالطريقة التقليدية فلا غُبار على هذه الحُجَّة، بل إن النتيجة التي ينتهي إليها
اسبينوزا تفرض نفسها. وقد يؤدي هذا بالبعض إلى الاعتراف بأنَّ في هذَين اللفظين سِمة
مُعينة
غير مألوفة.
وتمشِّيًا مع هذه النظرية، ينظر اسبينوزا إلى عقولنا البشرية الكثيرة على أنها جُزء
من
العقل الإلهي. وهو يشارك ديكارت تأكيده للوضوح والتميُّز؛ إذ يقول: «إنَّ قوام الخطأ
أو
البطلان هو افتقار إلى الإدراك، تنطوي عليه الأفكار غير الكافية، أي المُضطربة المُختلطة.»
وما إن تتكوَّن لدينا أفكار كافية، أو مُطابقة، حتى نصل على نحوٍ مؤكد إلى معرفة نظام
الأشياء وترابطها، الذي هو ذاته نظام الأفكار وترابطها. ومن طبيعة العقل أنْ يتأمَّل
الأشياء لا من حيث هي عرضية، بل من حيث هي ضرورية. وكلما ازددْنا قدرةً على ذلك، ازددْنا
اقترابًا من التوحُّد بالله، أو التوحُّد بالعالم وهو ما يعني نفس الشيء، وفي هذا السياق
وضع اسبينوزا عبارته المشهورة التي يقول فيها: «إنَّ من طبيعة العقل أن يُدرك الأشياء
من
وجهة نظرٍ لا زمانية مُعينة.» وتلك في الواقع نتيجة تترتَّب على القول إنَّ العقل يرى
الأشياء من حيث هي ضرورية.
وفي الباب الثالث من كتاب الأخلاق، يُبيِّن اسبينوزا كيف يُمنع الذهن من الوصول إلى
رؤية
عقلية كاملة للكون، بسبب تأثير الانفعالات الذي يحُول دون ذلك. فالقوَّة الدافعة لنا،
من
وراء كل أفعالنا، هي حِفظ الذات. وربما اعتقد البعض أنَّ هذا المبدأ الأناني الصِّرف
يدمَغُنا جميعًا بأننا منافقون لا نُفكر إلا في مصالحنا، غير أنَّ هذا الفَهم يغفل كلية
عن
المقصود. ذلك لأنَّ الإنسان في بحثِه عن مصلحته الخاصَّة، يجِد لزامًا عليه، عاجلًا أو
آجلًا، أن يسعى إلى الوحدة مع الله. وهو يُحقِّق مسعاه هذا كلما تمكن من رؤية الأشياء
«من
منظور الأزل»، أي من وجهة نظر لا زمانية، كما ذكرْنا من قبل.
وفي البابَين الأخيرَين نجد فلسفة اسبينوزا الأخلاقية بمعناها الصحيح. فالإنسان يكون
في
حالة عبوديةٍ ما دام خاضعًا للمؤثرات والأسباب الخارجية. وهذا يسري في الواقع، على كلِّ
شيء
مُتناه. ولكن بقدر ما يستطيع الإنسان تحقيق الوحدة مع الله، لا يعود خاضعًا لهذه المؤثرات،
لأنَّ الكون في مجموعه لا يخضع لتحكُّم شيء. وهكذا فإن المرء، بتوافُقه أكثرَ فأكثرَ
مع
الكل، يكتسب قدرًا مُناظرًا من الحرية. ذلك لأنَّ الحرية هي بعَينِها الاستقلال، أو
التحكم الذاتي Self-Determination، وهو لا يصدُق إلا
على الله، وعلى هذا النحو نستطيع أن نُحرِّر أنفسنا من الخوف. ولقد رأي اسبينوزا، مثل
سقراط
وأفلاطون، أن الجهل هو العلة الأولى لكلِّ شر، بينما المعرفة، بمعنى الفَهم الأفضل للكون،
هي الشرط الأساسي الذي يُوصِّلنا إلى الحكمة والسلوك القويم، ولكنه، على خلاف سقراط،
لم يكن
يُفكر في الموت. «إنَّ أقلَّ ما يفكر فيه الإنسان الحُر هو الموت، وحكمته إنما هي تأمُّل
في
الحياة لا في الموت.» ولمَّا كان الشر سلبًا أو عدمًا، فمن المحال أن يكون الله أو الطبيعة
مُتَّصِفَين بالشر، لأنهما لا يفتقران إلى شيء، وكل شيء إنما هو على أفضل وجهٍ في هذا
العالم الوحيد المُمكن. ولمَّا كان الإنسان مُتناهيًا فإنَّ عليه أن يسلك في الشئون
العملية، على نحوٍ يؤدي به إلى حِفظ ذاته، كيما يحتفظ بأقوى ما يستطيع الاحتفاظ به من
الصِّلات مع الكون.
هذه، باختصار شديد، هي الخطوط العامة لمذهب اسبينوزا. وتكمُن أهميتُه بالنسبة إلى
الحركة
العلمية في القرن السابع عشر فيما يُوحي به ضِمنًا من تفسيرٍ حتمي على مستوًى واحدٍ لكل
ما
يحدُث في الكون. والواقع أنَّ هذا المذهب هو المشروع الأولى الذي سيتمُّ التوسُّع فيه
مُستقبلًا لنسقٍ موحَّد للعلم، على أنَّ مثل هذه المحاولة لا يمكن أن تُقبَل في أيامنا
هذه
إلا بعدَ إبداء بعض التحفظات الهامَّة. وبالمثل لا يمكن من الناحية الأخلاقية، الاعتراف
بأن
الشرَّ شيء سلبيٌّ فحسب، فكلُّ عملٍ من أعمال القسوة المُتعمَّدة، مثلًا، هو وصمة إيجابية
ودائمة على جبين العالَم ككل. ومن الجائز أنَّ هذا هو ما تُشير إليه المسيحية من طرفٍ
خفيٍّ
في نظرية الخطيئة الأولى، ولو وُجِّه اعتراض كهذا إلى اسبينوزا، لكان ردُّه هو أنَّ أية
قسوةٍ لا يمكن أن تكون مُتعمَّدة إذا تأمَّلناها «من منظور الأزل»، غير أنَّ هذا شيء
لا
يسهُل إثباته. ومع ذلك فإنَّ مذهب اسبينوزا يظلُّ واحدًا من الإنجازات الكبرى للفلسفة
الغربية، وعلى الرغم من أنَّ صرامة لهجتِه تحمِل شيئًا من طابع العهد القديم، فإنه يُمثل
إحدى المحاولات الكبرى، على طريقة اليونانيِّين العظام، لإظهار العالم بوصفه كلًّا شاملًا
قابلًا للفَهم.
لقد أدَّت مشكلة الجوهر، كما رأينا من قبل، إلى حلولٍ شديدة الاختلاف فيما بينها.
وإذا
كان اسبينوزا قد تمسَّك بمذهبٍ واحدي مُتطرف فإنَّ الإجابة التي أتى بها ليبنتس تذهب
إلى
الطرف المُضاد، وتفترِض عددًا لا نهائيًّا من الجواهر، ومع ذلك فإنَّ بين النظريَّتَين
صِلات من بعض النواحي، مُشابِهة للصِّلات التي تربط بارمنيدس بالمذهب الذرِّي، وإنْ كان
من
الواجب ألا نذهب في تشبيه الحالة الأولى بالثانية أبعد ممَّا ينبغي. فنظرية ليبنتس ترتكز
في
النهاية على الفكرة القائلة إن الجوهر، إذا كان واحدًا، لا يمكن أن يكون له امتداد، لأنَّ
الامتداد يُوحي بالتعدُّد، ولا يُمكن أن تُوصَف به إلا مجموعة من الجواهر. ومن ذلك استدلَّ
على أنَّ هناك جواهر كثيرة إلى حدٍّ لا مُتناهٍ، كل منها غير مُمتد، ومن ثم فهو لا مادي.
وهو يُطلق على هذه الجواهر اسم الذرات الروحية، التي تتَّسِم بسِمةٍ أساسية هي كونها
نفوسًا
بمعنى عام لهذه الكلمة.
وقد وُلد ليبنتس (١٦٤٦–١٧١٦م) في ليبتسج، حيث كان أبوه أستاذًا جامعيًّا، وقد كشف
منذ
سنٍّ مُبكرة عن مواهب عقلية نقدية مُتدفقة. وفي سنِّ الخامسة عشرة التحقَ بالجامعة، حيث
درس
الفلسفة، وتخرج بعد عامَين، ثم انتقل إلى «يينا Jena»
لدراسة القانون. وفي سنِّ العشرين تقدَّم للحصول على الدكتوراه في القانون من جامعة ليبتسج،
ولكنَّ طلَبَه رُفِض بسبب صِغَر سنِّه. أما جامعة آلتدورف Altdorf فكانت أكثر تسامُحًا، ولم تكتفِ بمنحِهِ الدرجةَ بل عرضتْ عليه
كرسيًّا جامعيًّا. غير أنَّ ليبنتس، الذي كانت في ذِهنه أشياء مختلفة كلَّ الاختلاف،
لم
يستجِب لهذا العرْض. وفي عام ١٦٦٧م التحق بالسِّلك الدبلوماسي مع كبير أساقفة مينتس Mainz، وهو أحد الأمراء الكبار، وكان سياسيًّا نشطًا أخذ على
عاتقه إنقاذ البقايا المُمزَّقة للإمبراطورية من جحيم حروب الثلاثين. كما كان من أهدافه
الحيلولة دون قيام ملك فرنسا، لويس الرابع عشر، بغزو بلاده.
وهكذا توجَّه ليبنتس إلى باريس لهذا الغرَض عام ١٦٧٢م، وظلَّ هناك مُدةً تقرُب من
أربع
سنوات. وكانت خُطته هي أن يُقنع الملك الشمس،
١١ بتوجيه طاقاته الحربية ضدَّ غير المسيحيين، وبأن يغزو مصر. ولكن مهمَّتَه أخفقت،
١٢ وإن كان ليبنتس قد قابل خلالها كثيرًا من فلاسفة عصره وعُلمائه الكبار، فقد كان
مالبرانش هو المَوجة الجديدة في باريس وكذلك الحال بالنسبة إلى أرنو
Arnauld أكبر مُمثلي المذهب
الجانسيني
Jansenism منذ باسكال. كذلك تعرَّف ليبنتس إلى عالم الفيزياء الهولندي
هيجنز
Huygens. وفي
عام ١٦٧٣م توجَّه إلى لندن حيث قابل الكيميائي بويل
R.
Bolyle، وأولدنبرج
Oldenburg، أمين
الجمعية الملكية التي كانت قد أُنشِئت حديثًا والتي انضمَّ ليبنتس إلى عضويتها. وبعدَ
موت
كبير الأساقفة الذي كان ليبنتس يعمل لديه، في العام نفسه، عرض عليه دوق برنسفيك
Brunswick منصب أمين مكتبة هانوفر، ولكن ليبنتس لم يقبَل
هذا العرض على الفور، بل ظلَّ في الخارج. وفي عام ١٦٧٥م بدأ يشتغل، أثناء وجوده في باريس،
في حساب التفاضُل والتكامل، واكتشف هذا الفرع على نحوٍ مُستقل عن نيوتن الذي كان قد اكتشفه
قبله بوقتٍ قصير، وبعد فترةٍ نشر ليبنتس صيغة حساب التفاضُل والتكامُل كما اكتشفَها،
وكان
ذلك في مجلة أعمال الباحثين العلميين
Acta Eroditorum عام
١٦٨٤م، وهذه الصيغة أقرَبُ إلى الصورة الحديثة لهذا العلم من صيغة نظرية التفاضُل عند
نيوتن. وبعد ثلاث سنوات ظهر كتاب «مبادئ الفلسفة الطبيعية» لنيوتن. وقد أدى ذلك إلى ظهور
خلافٍ طويل وعقيم، وبدلًا من أن يُعالِج المشتركون في هذا الخلاف المسائل العلمية أخذ
كلُّ
فريقٍ منهم ينحاز إلى ابن وطنه، ممَّا ترتَّب عليه تأخُّر الرياضيات الإنجليزية لمدة
قرن،
لأنَّ طريقة التدوين التي وضعَها ليبنتس، والتي أخذ بها الفرنسيُّون، كانت أداةً أكثر
مرونة
للتحليل. وفي عام ١٦٧٦م قام ليبنتس بزيارة اسبينوزا في لاهاي، ثُم شغل منصب أمين مكتبة
هانوفر، وظلَّ في هذا المنصب حتى وفاته، وقد أمضى وقتًا طويلًا في جمع مادة كتاب في تاريخ
برنسفيك، كما تابع دراساته العلمية والفلسفية. وفضلًا عن ذلك فقد واصل عمله في وضْع خُطط
لإعادة الحيوية إلى المسرح السياسي الأوروبي، وحاول أن يُقدِّم علاجًا للانقسام الديني
الكبير، غير أنَّ مشروعاته لم تلقَ إلا آذانا صمَّاء. وعندما أصبح الأمير جورج، من هانوفر،
ملكًا على بريطانيا في عام ١٧١٤م، لم تُوجَّه الدعوة إلى ليبنتس ليكون ضِمن الحاشية
المُرافقة له إلى لندن، وكان السبب الرئيسي لذلك هو أصداء ذلك الخلاف المُؤسِف حول حساب
التفاضُل والتكامل. وهكذا ظلَّ وراء الأضواء، شاعرًا بالمرارة وبأنَّ الناس قد تجاهلوه،
ومات بعد ذلك بعامَين.
أما فلسفة ليبنتس فليس من السهل مناقشتها، وذلك لأسبابٍ منها أنَّ أعماله غير مكتملة،
وكثيرًا ما كانت تفتقر إلى الصقل الذي كان يمكن أن يتحقَّق لو عُني بمراجعتها واكتشف
جوانب
عدم الاتِّساق فيها قبل فواتِ الأوان. على أنَّ السبب الرئيسي لذلك هو الظروف الخارجية
لحياة ليبنتس؛ فقد كان يكتُب الفلسفة في لحظات الفراغ النادرة، وكانت كتاباته تتعرَّض
للتأخير والانقطاع. غير أنَّ هناك سببًا آخر أهم، هو الذي يجعل قراءة ليبنتس عسيرةً في
بعض
الأحيان. هذا السبب ناشئ عن الطبيعة المزدَوَجة لفلسفته، إذ نجد لدَيه من جهةٍ ميتافيزيقا
الجوهر، وهي التي أفضت إلى نظرية الذرَّات الرُّوحية، ونجِد من وجهةٍ أخرى نظرية منطقية
تسير، من نواحٍ كثيرة، في خطٍّ موازٍ لتأمُّلاته الميتافزيقية. وربما كان المنطق هو أهم
الجانبين في نظرنا، غير أنَّ ليبنتس ذاته كان يُبدي، كما هو واضح، قدرًا مُتساويًا من
الاهتمام بجانبي فلسفته. بل لقد بدا له مؤكدًا أنَّ المرء يستطيع الانتقال من أحد المجالين
إلى الآخر بلا صعوبة. على أنَّ هذا الرأي لم يعُد يلقى قبولًا اليوم، وذلك على الأقل
بين
الفلاسفة الإنجليز، على الرغم من أنَّ الفكرة القائلة إنَّ اللغة والمنطق مُكتفِيان بذاتهما
هي نفسها رأيٌ ميتافيزيقي له عُيوبه الخاصة. أما عن ميتافيزيقا ليبنتس، فمن المُهمِّ
أن
نلاحظ أنها تدين للتطوُّرات العلمية في ذلك العصر ببعض سِماتها الهامَّة. وقد نُشرت كتاباته
الميتافيزيقية أثناء حياته، وهي تشمل نظرية الذرات الروحية التي ظلت شهرة ليبنتس، بوصفه
فيلسوفًا، ترتكِز عليها قُرابة قرنَين. أما المؤلَّفات المنطقية فظلت غيرَ منشورة، ولم
تلقَ
التقدير الذي تستحقُّه إلا في أوائل هذا القرن.
وكما ذكرنا من قبل، فإنَّ نظريات ليبنتس المنطقية كانت تُقدِّم إجابةً لمشكلة الجوهر
من
خلال فكرة الذرَّات الروحية. وهو يشترك مع اسبينوزا في الرأي القائل إنَّ الجواهر لا
تتفاعل
فيما بينها. ويؤدي هذا على التوِّ إلى استنتاج استحالة وجود رابطة سببية بين أيِّ ذرَّتَين
رُوحيتَين، وهو ما يُعبِّر عنه بقوله إنَّ المونادات (الذرات الروحية) بلا نوافذ. ولكن
كيف
نُوفِّق بين هذا وبين تلك الحقيقة التي يعترِف بها كافة الأطراف، وهي أنَّ مختلف أجزاء
الكون تبدو مُرتبطة بعلاقات سببية؟ هنا يأتي الردُّ سريعًا من خلال نظرية «جولينكس» عن
الساعتَين. وكل ما علينا هو أن نجعل عدد هذه الساعات لا مُتناهيًا، فنصِل إلى نظرية
الانسجام المُقدَّر Pre-established harmony، التي
تقول إن كلَّ مونادة تعكس الكون بأكمله، بمعنى أن الله قد دبَّر الأمر بحيث إنَّ كل
المُونادات تسير على نحوٍ مستقل في مساراتها الخاصة، في نظامٍ هائل من المسارات المُتوازية
التي صُمِّمت ببراعة.
ولمَّا كانت كل مونادة جوهرًا، فإنها كلها تختلف فيما بينها كيفيًّا، فضلًا عن أنها
تحتلُّ وجهات نظرٍ مختلفة. ولو شئنا الدقة لما أفادنا القول إن لها موانع مختلفة، ما
دامت
ليستْ بالكيانات التي تشغل مكانًا وتقَع في زمان. فالمكان والزمان ظاهرتان حسِّيَّتان،
وهما
ليسا حقيقيَّين. أما الحقيقة الكامنة من ورائهما فهي تنظيم المونادات بحيث تكون لكلٍّ
منها
وجهة نظرها المختلفة. فكل مونادة تعكس الكون على نحوٍ مختلف قليلًا، بحيث لا يكون أيُّ
اثنين من هذه الانعكاسات مُتشابهَين من جميع الأوجه. ولو وجدت مونادتان مُتماثلتان في
كلِّ
شيءٍ لكانتا في الحقيقة واحدة، وهذا هو معنى مبدأ هوية اللامُتميِّزات
identity of the indescernibles١٣ عند ليبنتس.
وهكذا فلا معنى لقولنا، بغير تدقيق، إنَّ من الممكن أن تختلف مونادتان في الموقع
وحدَه.
ولمَّا كانت جميع المونادات مختلفة، فإن في استطاعتنا ترتيبها وفقًا لدرجة الوضوح
التي
تعكس بها العالم. فكلُّ شيءٍ يتألف من حشدٍ هائل من المونادات، والأجسام البشرية بدورها
مُنظمة على هذا النحو، غير أننا نجدها هنا مونادة مُسيطرة تتميَّز عن الباقِين بوضوح
رؤيتها. هذه المونادة المُميَّزة هي ما نطلق عليه، تخصيصًا، اسم النفس الإنسانية، وإن
كانت
جميع المونادات، بمعنى مُعين، نفوسًا، وكلها لا مادية، غير فانية، ومن ثَمَّ كانت خالدة،
ولا تتميَّز المونادة المُسيطرة أو النفس بالوضوح الزائد في إدراكها فحسْب، وإنما تتميَّز
أيضًا بأنها تضمُّ في داخلها الغايات التي تستهدفها المونادات التابِعة لها بطريقتها
التي
يسُودها الانسجام المقدَّر سلفًا، فكل شيء في الكون يحدُث من أجل سبب كافٍ، غير أنَّ
للإرادة الحرة مجالها، من حيث إنَّ الأسباب التي يسلك من أجلها الكائن البشري لا تتَّسِم
بذلك الإلزام الصارم الذي تتَّسِم به الضرورة المنطقية. كذلك فإنَّ الله يملك هذا النوع
من
الحرية، وإن كانت هذه الحرية لا تخرق قوانين المنطق. والواقع أن نظرية حرية الإرادة هذه،
التي جعلت ليبنتس مقبولًا لدى الأوساط التي لم تكن راضيةً عن اسبينوزا، كانت خارجة إلى
حدٍّ
ما عن ذلك التفسير المذهبي الذي قدَّمه ليبنتس من خلال فكرة المونادة، بل هي تتعارَض
معه في
الواقع كما سنرى فيما بعد.
أما عن مسألة وجود الله، التي تُثار على الدوام في الفلسفة فإنَّ ليبنتس يُقدِّم عرضًا
كاملًا لأهم البراهين الميتافزيقية التي رأيناها من قبل. وأول برهان من براهينِه الأربعة
هو
البرهان الأنطولوجي عند القديس أنسلم، والثاني شكل من أشكال بُرهان العلَّة الأولى كما
نجده
عند أرسطو. ثم يأتي برهانٌ قائم على فكرة الحقيقة الضرورية، التي يقول ليبنتس إنها تتطلَّب
عقلًا إلهيًّا تُوجَد فيه. وأخيرًا، نجد برهانا قائمًا على فكرة الانسجام المقدَّر سلفًا،
وهو في الواقع شكل من أشكال بُرهان النظام والغائية في الكون. وقد تناولْنا هذه البراهين
جميعًا من قبل في مواضع أخرى، وأوضحْنا المآخِذ التي يمكن أن تُؤخَذ عليها. وسرعان ما
أنكر
«كانْت» إمكان تقديم براهين ميتافيزيقية من هذا النوع بوجهٍ عام. أما بالنسبة إلى اللاهوت،
فينبغي أن نذكُر أن التصوُّر الميتافيزيقي لله إنما هو اللمسة النهائية في نظريةٍ عن
طبيعة
الأشياء. وفي هذا التصوُّر لا تكون للألوهية علاقة بمشاعرنا وعواطفنا، ومن ثَمَّ فهي
مختلفة
عن الألوهية كما نجدها في الكتُب المقدَّسة، وهكذا فإنَّ رجال اللاهوت، في عمومهم، باستثناء
التوماويِّين الجُدد، لم يعودوا يُعَوِّلون على تلك الألوهية النظرية التي قدَّمتْها
إلينا
الفلسفة التقليدية.
ولقد كان من العناصر التي استلهمتْها ميتافيزيقا ليبنتس، تلك الكشوف الجديدة التي
كانت
تتراكم بمساعدة المِجْهر (الميكروسكوب). فقد اكتشف ليفنهوك Leeuwenhoek (١٦٣٢–١٧٢٣م) الكائنات المجهريَّة الدقيقة، وتبيَّن أن قطرة
الماء مليئة بكائنات عضوية صغيرة. وكان ذلك أشبَهَ بعالمٍ كامل على نطاق أصغر من عالمنا
اليومي. وقد أدَّت عوامل كهذه إلى فكرة الذرة الروحية (الموناد) بوصفها آخر ما نصِل إليه
من
نقاطٍ نفسية ميتافيزيقية غير مُمتدَّة. وبدا أنَّ حساب اللامُتناهيات الجديد يُشير إلى
هذا
الاتجاه العام نفسه. والواقع أنَّ ما يُهمُّ ليبنتس هنا هو الطبيعة العضوية لهذه
المُكوِّنات النهائية. فهو في هذا يفرق عن تلك النظرة الآلية التي أكَّدها جاليليو
والديكارتيون. وعلى الرغم من أنَّ هذا قد خلق صعوباتٍ في وجه ليبنتس، فإنه أدَّى به إلى
كشْف مبدأ بقاء الطاقة في واحدٍ من أشكاله المُبكرة، وكذلك إلى كشف مبدأ الفعل الأدنى (least action). غير أنَّ تطوُّر الفيزياء في عمومه
قد سار وفقًا للمبادئ التي وضعها جاليليو وديكارت.
وأيًّا كان الأمر، يظلُّ من الصحيح أنَّ ليبنتس قد قدَّم في مذهبه المنطقي عددًا كبيرًا
من التلميحات التي تجعل ميتافيزيقاه أسهل فهمًا على الأقل حتى لو لم تكن مقبولة. ولنبدأ
بالقول إنَّ ليبنتس تقبَّل منطق الموضوع والمحمول عند أرسطو، وهو يتَّخِذ لنفسه بديهيتَين
أساسيتَين من مبدأين منطقيَّين عامَّين: أولهما مبدأ التناقض، الذي ينصُّ على أنه إذا
تناقضت قضيتان وجَب أن تكون إحداهما صادقةً والأخرى كاذبة، وثانيهما مبدأ السبب الكافي
الذي
تحدَّثنا عنه من قبل، والذي ينصُّ على أنَّ أية واقعةٍ حاضرة تلزَم عن أسبابٍ سابقة كافية،
فلنطبق هذين المبدأين على حالة القضايا التحليلية بالمعنى الذي حدَّدها به ليبنتس، أعني
القضايا التي يكون فيها الموضوع مُتضمِّنًا للمحمول، كالقضية «كل العملات المعدنية مصنوعة
من المعدن.» عندئذٍ يتَّضِح من مبدأ التناقض أنَّ كل هذه القضايا صادقة، على حين أن مبدأ
السبب الكافي يؤدي إلى القول بأنَّ جميع القضايا الصادقة نظرًا إلى أنها تقوم على أسُسٍ
كافية، هي من النوع التحليلي، وإنْ كان الله وحدَه هو الذي يراها على هذا النحو، أما
بالنسبة إلى العقل البشري فإنَّ هذه الحقائق تبدو طارئة. وهنا، كما هي الحال عند اسبينوزا،
نجد محاولة لمُعالجة البرنامج المثالي للعلم. ذلك لأنَّ ما يفعله العالم عند وضعه للنظريات
إنما هو محاولة التوصُّل إلى العرض ثم تقديمه على نحوٍ يبدو فيه نتيجةً لشيءٍ آخر، ومن
ثم
يبدو ضروريًّا بهذا المعنى. ولمَّا كان الله وحده هو الذي يملك العلم الكامل، فإنه يرى
كلَّ
شيءٍ في ضوء الضرورة.
أما عدم تفاعل الجواهر فهو نتيجة لأنَّ تاريخ حياة كل موضوع منطقي مُتضمَّن بالفعل
في
مفهومه. وهذا القول يلزم عن كون تاريخه هو ما يصدُق عليه، وهو الطابع التحليلي لجميع
القضايا الصادقة، وهكذا تُضطرُّ إلى التسليم بالانسجام المُقدَّر سلفًا. غير أنَّ هذا
التفسير، إذا شئنا الدقَّة، لا يقلُّ حتميةً على طريقته الخاصة، عن تفسير اسبينوزا، وليس
لحرية الإرادة بالمعنى الذي أوضحناهُ من قبل مكانٌ فيه. أما عن الله وخلقه للعالم، فإنَّ
خيريَّتَه تؤدي به إلى خلق أحسن عالمٍ ممكن. غير أنَّ لدى ليبنتس نظرية أخرى في هذا
الموضوع، لا يظهر فيها الله والخلق على الإطلاق. هذه النظرية تبدو مُستوحاةً من نظرية
أرسطو
في الكمال entelechy، أو السعي إلى الانتقال من الإمكان
إلى الواقع. ففي نهاية المطاف سوف يكون العالم الذي يُوجَد هو ذلك الذي يتبدَّى فيه،
خلال
أي زمن مُعين، أعظم قدْرٍ من التحقُّق، مع العلم بأنَّ من المُستحيل أن تتحقَّق كل
الإمكانات في آنٍ واحد.
ولولا تمسُّك ليبنتس الشديد بمنطق الموضوع والمحمول، لنشَر بعضًا من محاولاته في
ميدان
المنطق الرياضي، ولو كان ذلك قد حدَث لبدأ البحث في هذا الميدان مُبكرًا بِقرنٍ من الزمان.
فقد رأى ليبنتس أنَّ من الممكن اختراع لغةٍ رمزية شاملة تتَّسِم بالكمال، وتجعل التفكير
مجرد عملية حساب. وربما كان ذلك رأيًا مُتسرعًا إلى حدٍّ ما، برغم العقول الإلكترونية،
غير
أنه تنبأ بالكثير ممَّا أصبح معروفًا بعد ذلك في ميدان المنطق. أما عن اللغة الكاملة،
فإنما
هي تعبير آخَر عن الأمل في أن يقترِب البشَر من العلم الإلهي الكامل. لقد كان السعي وراء
الأفكار الواضحة المتميزة، وما يترتَّب عليه من بحثٍ عن لغة عالمية كاملة، هما الهدفان
العقليَّان الرئيسيَّان للفلسفة في التراث الديكارتي، وقد لاحظنا من قبل أنَّ هذا يطابق،
بقدرٍ ما، أهداف العلم. وفي الوقت ذاته فإنَّ ما نحن إزاءه ها هنا هو طريقٌ نسير فيه
أكثر
ممَّا هو غاية نهائية نصِل إليها. ولقد أدرك ليبنتس هذا بالفعل، وذلك بصورةٍ ضمنية على
الأقل، عندما ذهب إلى أنَّ الله وحدَه هو الذي يمتلك العلم الكامل، على أنَّنا نجد نقدًا
أشدَّ حدَّةً بكثيرٍ للاتجاه الفكري العقلاني في أعمال الفيلسوف الإيطالي العظيم
جامباتستا فيكو Giambattista Vico (١٦٦٨–١٧٤٤م)، فقد
أدَّت عبارة ليبنتس، التي يمكن أن يقبلها أي مسيحي يخاف الله، بما في ذلك فيكو، أدَّت
بهذا
الفيلسوف الإيطالي إلى وضْع مبدأ جديد للمعرفة. فنظرًا إلى أن الإنسان مخلوق، فإنه يعرف
العالم بطريقة ناقصة. ذلك لأنَّ شرط معرفة الشيء، عند فيكو، هو أن يكون المرء قد خلقَه؛
ولذا فإنَّ الصيغة الأساسية للمبدأ هي أننا لا نستطيع أن نعرف إلا ما نصنَع أو نعمل.
ويمكننا أن نُعبِّر عن ذلك بقولنا إنَّ الحقيقة مُماثلة للواقع، بشرط أن يُفهَم اللفظ
الأخير بمعناه الأصلي.
ظلَّ فيكو غير معروفٍ في زمانه وبعد خمسين عامًا من مماته. وقد وُلد في نابولي، وكان
أبوه
بائعًا صغيرًا للكُتب، وأصبح في الحادية والثلاثين من عمره أستاذًا للبلاغة في جامعة
نابولي. وظلَّ يشغَل هذا المنصب المُتواضع إلى حدٍّ ما حتى اعتزاله في عام ١٧٤١م. ولقد
كان
فقيرًا طوال معظم أيام حياته، وكان لزامًا عليه، كيما يُنفق على نفسه وعلى أسرته، أن
يدعم
مُرتَّبه الهزيل بإعطاء دروس خصوصية والقيام بأعمالٍ أدبية غير عادية لحساب النُّبلاء،
ولم
يستطع مُعاصروه فَهمه لأسبابٍ من أهمها غموض رسالته، ولم يخدُمه الحظ أبدًا بمقابلة أيِّ
مُفكر من مستواه أو بالتراسُل معه.
إنَّ النظرية القائلة إنَّ الحقيقة هي الفعل أو الصُّنع، تؤدي إلى عددٍ من النتائج
عظيمة
الأهمية. فهي أولًا تُعلل لنا لماذا كانت الحقائق الرياضية تُعرَف معرفة يقينية. ذلك
لأنَّ
الإنسان ذاته هو الذي صنَع العلم الرياضي عن طريق وضْع قواعد بطريقةٍ تجريدية اختارها
هو
ذاته، فالسبب الذي يجعلنا قادِرين على فَهم الرياضيات هو أننا صنعناها بالمعنى الصحيح.
وفي
الوقت ذاته يعتقِد فيكو أن الرياضيات لا تُتيح لنا أن نكوِّنَ معرفة بالطبيعة بقدْر ما
اعتقد العقلانيون. ذلك لأنه يعتقد أنَّ الرياضة مجردة، لا بمعنى أنها قد انتُزِعت بالتجريد
من التجربة، بل من حيث هي مُنفصلة عن الطبيعة، ومن حيث هي بناء اعتباطي شيَّدَه الذهن
البشري. أما الطبيعة ذاتها فقد صنعَها الله، ومن ثم كان الله وحدَه هو الذي يستطيع أن
يفهمَها. ولو شاء الإنسان أن يعرِف شيئًا عن الطبيعة، فعليه أن يتَّخِذ لنفسه موقفًا
تجريبيًّا يستخدِم فيه التجربة والمُلاحظة، لا أنْ يكتفي باتِّباع الأساليب الرياضية،
وهكذا
كان فيكو أقربَ بكثيرٍ إلى التعاطُف مع بيكن، لا مع ديكارت. ولكن ينبغي أن نعترف بأن
فيكو،
في تحذيره لنا ضدَّ استخدام الرياضيات، لم يُدرك الدور الذي تلعبه في البحث العلمي، ومع
ذلك
ينبغي أن نعترِف في الوقت ذاته بأنَّنا نجد هنا تحذيرًا من التأمُّل الرياضي الجامح،
الذي
يدَّعي لنفسه في بعض الأحيان مكانةً البحث التجريبي، وقد لاحظْنا من قبل أنَّ الموقف
الصحيح
يقَع في مكانٍ ما بين هذين الطرفين.
ولقد أدَّت النظرية القائلة إنَّ الرياضيات تستمدُّ يقينها من كونها مصنوعة بواسطة
البشر
إلى التأثير في عددٍ كبير من الكُتَّاب اللاحقين، وإن كان هؤلاء قد يختلفون مع فكرة فيكو
القائلة إن الرياضة اعتباطية بالمعنى الذي حدَّده. ويُمكننا في هذا السياق أن نشير إلى
آراء
الكاتب الماركسي سوريل Sorel، وكذلك إلى التفسيرات التي
قدَّمها جوبلو Goblot ومايرسون Meyerson. ويصدُق ذلك أيضًا على التفسيرَين المنفعي Utilitarian والبرجماتي لطبيعة الرياضيات. ومن جهةٍ أخرى
فإنَّ مفهوم الاعتباطية قد استهوى عقول الشكليين، الذين ينظرون إلى الرياضيات على أنها
لعبة
شديدة الاتساع. وبالطبع فإنَّ من الصعب أن نذكُر في جميع الحالات ما مقدار التأثير المباشر
الذي مارسه فيكو. غير أننا نعرِف عن ماركس وسوريل أنهما درَسا أعمال فيكو، ومع ذلك فإنَّ
للأفكار في كثيرٍ من الأحيان طرقًا خفية لإشعار الناس بها بنيران يُصبح تأثيرها محسوسًا
بوعي. وهكذا فإنَّ أعمال فيكو على الرغم من أنها لم تكن معروفة على نطاق واسع، تحوي بذورًا
لكثيرٍ من التطوُّرات التي طرأت على الفلسفة في القرن التاسع عشر.
أما النتيجة الرئيسية الثانية لمبدأ فيكو فهي نظرية التاريخ. فقد كان يرى أنَّ الرياضيات
يمكن أن تُعرَف معرفة كاملة لأنها من صُنع الإنسان، ولا تُشير إلى الواقع الفعلي. أما
الطبيعة فلا يمكن معرفتها على نحوٍ كامل لأنها من صُنع الله، وإنْ كانت تُشير إلى الواقع.
وهذه مُفارقة لا تزال حيَّةً إلى يومِنا هذا عند كل من يرى في الرياضيات تركيبًا ذهنيًّا
خالصًا، على أن فيكو حاول أن يهتدي إلى علمٍ جديد، يكون قابلًا للمعرفة الكاملة من جهة،
وينصبُّ على العالم الواقعي من جهةٍ أخرى. وهذا ما وجدَه في التاريخ، حيث يتضافَر الإنسان
والله، وهو رأي يقلب الرأي التقليدي رأسًا على عقب، لأنَّ أتباع المدرسة الديكارتية كانوا
يستبعدون التاريخ على أساس أنه غير عِلمي. وقد أُعيد إحياء الرأي القائل إنَّ المجتمع
قابل
في ذاته لأن يعرِف خيرًا من المادة الجامدة في القرن الماضي، على يد الفيلسوف الألماني
دلتاي Dilthey، وعالمي الاجتماع مكس فيبر Max Weber وزومبارت Sombart.
ويقدِّم فيكو فرضَه الجديد على أكمل وجهٍ في كتابٍ أسماه «العلم الجديد»، وهو كتاب
وضع له
فيكو صِيَغًا مُتعددة. على أنَّ هذا الكتاب يُمثل مشكلة بالنسبة إلى القارئ الحديث، لأنه
مزيج من عناصر مُتعددة لا يمكن في كل الأحوال التمييز بينها كما يجِب. فالمؤلف يبحث،
إلى
جانب المسائل الفلسفية، في مشكلاتٍ تجريبية، وفي مسائل تاريخية مباشرة، ومن الصعب الفصل
بين
اتجاهات البحث المُتعددة هذه. بل إنه ليبدو أحيانًا أن فيكو ذاته لم يكن واعيًا بأنه
ينزلِق
من نوعٍ من المسائل إلى نوعٍ آخر. ولكن، على الرغم من هذه العيوب والغوامض كلها، فإنَّ
الكتاب يعرِض نظريةً عظيمة الأهمية.
فما المقصود إذن بالقَول إنَّ الحقيقة هي ذاتها الشيء الذي يتمُّ فعله، أو الواقعة؟
لو
اختبرْنا هذا المبدأ غير التقليدي عن كثب، لاستخلصْنا منه بعض النتائج الصحيحة كلَّ الصحة
على المستوى الإبستمولوجي (المعرفي). ذلك لأنَّ من الصحيح أنَّ الفعل يمكن أن يُساعدنا
في
تحسين معرفتنا، ولا جدال في أنَّ أداء فعلٍ ما بطريقةٍ ذكية يزيد من فَهم المرء له. وواضح
أنَّ هذا يحدُث على أوضح نحوٍ ممكن في ميدان الفعل أو الجهد البشري. ومن الأمثلة الجيدة
التي تُوضِّح ذلك، فَهمنا للموسيقى؛ إذ لا يكفي لكي نُجيد فَهم قطعة موسيقية، أن نستمع
إليها، بل ينبغي إعادة بنائها إنْ جاز التعبير عن طريق قراءة المُدوَّنة أو عزفِها، حتى
لو
تمَّ ذلك بطريقةٍ تفتقر نسبيًّا إلى المهارة والخبرة. ذلك لأنَّ هذه هي بعينها الطريقة
التي
تُكتَسب بها المهارة والخبرة بالتدريج، غير أنَّ مثل هذا الرأي يصدُق على البحث العلمي
بدوره، فالمعرفة الفعَّالة بما يُمكن عمله بالمادة موضوع البحث تُكسِب المرء سيطرةً على
الواقع تفُوق تلك التي يكتسبها من مجرَّد المعرفة الخارجية المُجرَّدة. وهذه فكرة ترتكز
عليها فلسفة بيرس Peirece البرجماتية، كما سنرى فيما بعد.
ولكن هذا، على أية حال، لا ينطوي على كشف علمي مُلفت للنظر، لأن الإنسان يُدرك ذلك بفهمه
العادي حين يقول إن التدريب يصنع الكمال. وهكذا فإنه لا يكفي في الرياضيات أن نتعلَّم
النظريات، بل ينبغي أن يكون المرء قادرًا على تطبيق معلوماته النظرية على مجموعةٍ مُتنوِّعة
من المشكلات المُحدَّدة، ولا يعني ذلك دعوةً إلى التخلِّي عن البحث المُنزَّه لصالح
المنفعة، بل إنَّ الأمر على عكس ذلك؛ إذ إن رؤية المفاهيم وهي مُطبقة بطريقةٍ عملية هي
التي
تُكسبنا فهمًا صحيحًا لها، وقد تبدو وجهة النظر هذه، ظاهريًّا، قريبة الشَّبَه بالنظرية
البرجماتية عند بروتاجورس. غير أنَّ فيكو لا يجعل من الإنسان مقياسًا للأشياء جميعًا
بالمعنى السفسطائي، بل إنَّ ما يؤكده هو العنصر الفعَّال، الذي يُعيد تركيب الوقائع،
في
عملية المعرفة وهو شيء مختلف كلَّ الاختلاف عن اتِّخاذ ما يبدو لكلِّ شخصٍ معيارًا
نهائيًّا.
ومن جهة أخرى فإنَّ تأكيد الفاعلية يتعارض بشدَّة مع الأفكار الواضحة المُتميزة عند
العقليين. فعلى حين أن المذهب العقلي يتباعد عن الخيال على أساس أنَّ هذا الأخير مصدر
للاضطراب والخلط، فإن فيكو على عكس ذلك، يؤكد دورَه في عملية الكشف. وهو يرى أنَّنا قبل
أن
نصِل إلى تصوُّراتٍ أو مفاهيم، نُفكر في إطار مواقف أقرب إلى الغموض وانعدام التجدُّد.
على
أنَّ هذا الرأي ليس صائبًا كل الصواب، لأنه مهما كان من غموض عملية فكرية مُعينة، فمن
الصعب
أن نتخيلها وقد خلَتْ تمامًا من مضمونٍ من التصوُّرات، وربما كان الأفضل أن نقول إن الفكر
البدائي يستخدِم صورًا ومجازات، على حين أنَّ الفكر التصوُّري Conceptual هو آخِر مرحلةٍ في الارتقاء والتعقيد. ومن المُمكن أن نستنتِج
من هذا كله حقيقةً هامَّة هي أن العرض الذي يُقدِّمه المذهب العقلي يتعامل مع العِلم
بعد
الانتهاء من إنتاجه، ويُقدِّمه بترتيبٍ يصلح للعرض. أما العرض المُتضمَّن في كتابات فيكو
فيكشف عن العلم خلال نموِّه، ويسير حسب ترتيب الاختراع. ولكن أعمال فيكو لا تُعبِّر بوضوحٍ
عن قدرٍ كبير من هذه الأفكار.
أما بالنسبة إلى التاريخ الذي هو من صُنع الإنسان، فإن فيكو يرى أنَّنا نستطيع أن
نُحقق
فيه أعظم قدرٍ من اليقين، وكان من رأيه أنَّ المؤرخ يستطيع كشف القوانين العملية لمسار
التاريخ ويُفسِّر من خلالها سبب وقوع الأحداث على نحو ما وقعت، وسبب استمرار حدوثها في
المستقبل بطريقةٍ قابلة للتنبؤ. على أنَّ فيكو لا يقول إن كلَّ تفصيلٍ يمكن التنبؤ به
آليًّا، وإنما يقول إن الخطوط العريضة يمكن معرفتها على نحوٍ عام. فهناك، في رأيه، مدٌّ
وجزر في أمور البشر. وحظوظ الناس تسير في دورات، شأنها شأن المدِّ والجزْر، وكما رأيْنا
من
قبلُ فإن المصدر الأول لنظرية الدورات هو الفترة السابقة لسقراط. غير أنَّ فيكو يُضفي
لونًا
جديدًا على هذه الأفكار القديمة، وذلك حين بحَثَ عن صورة المراحل المُتكرِّرة للتاريخ
في
عقل الإنسان، بوصفه مُؤلِّف المسرحية ومُمَثلها.
وهكذا فإنَّ نظرية فيكو تتطلَّع قُدمًا إلى نظرية التاريخ عند هيجل، بدلًا من أن
تعود إلى
الوراء. وفي الوقت ذاته فإن هذه النظرة إلى المشكلة التاريخية أكثر تلاؤمًا مع الدراسة
التجريبية للتاريخ من نظريات النظام والترتيب Order التي
قال بها العقليون. وهكذا فإن نظرية العقد الاجتماعي، كما عبر عنها هبز، ومن بعدِه روسو،
تعبر عن نوع التشويه المُميز للعقليين. فهي نظرية اجتماعية منظورٌ إليها بطريقةٍ ميكانيكية،
بل بطريقة تكاد تكون رياضية. أما نظرية فيكو فتسمح له بالنظر إلى التنظيم الاجتماعي على
أنه
نموٌّ طبيعي مُتدرِّج، ينخرِط فيه بشَر يطوِّرون ببطءٍ أشكالًا للحياة المشتركة، عن طريق
التراكم التدريجي لتُراثهم، على حين أنَّ العقد الاجتماعي يفترض بشرًا يجدون أنفسهم وقد
أصبحوا بصورةٍ مفاجئة كائناتٍ عاقلة قادرة على التدبُّر والحساب، تبعَث الحياة في مجتمعٍ
جديد بفعل إرادي ينطوي على قرارٍ عقلي.
وما يصدُق على المجتمع بوجهٍ عام يصدُق أيضًا على اللغة بوجهٍ خاص، فاللغة تبدأ عندما
يتعيَّن على الناس، خلال أوجه نشاطهم المُشتركة، أن ينقلوا المعلومات بعضهم إلى بعض.
وتتألَّف اللغة، في صورتها البدائية، من إيماءاتٍ وأفعالٍ رمزية، وعندما تُصبح اللغة
منطوقةً تمرُّ العلامات بتطوُّر مُتدرِّج من الارتباط المباشر والطبيعي بالأشياء البسيطة،
إلى أنماطٍ مُصطلح عليها، بل إنَّ بداية اللغة لا بدَّ أن تكون شاعرية، وهي لا تُصبح
علمية
إلا بالتدريج، ولقد كان النحويُّون الذين قنَّنوا مبادئ التركيب اللغوي على خطأ عندما
أخذوا
برأي العقليين هنا أيضًا، ونظروا إلى اللغة على أنها بناءٌ واعٍ مقصود. وقد رأينا من
قبل،
عند دراستنا للفلسفة القديمة أن اللغة العلمية والفلسفية نتاجٌ مُتأخر للحضارة، وتبيَّن
لنا
كيف بذل الناس جهدًا خارقًا مع اللغة السائدة في عصرهم كيما يقولوا أشياء جديدة. والواقع
أن
هذا ما زال مبدأ هامًّا ينساه الناس في بعض الأحيان. ذلك لأنَّ مهمة العلم والفلسفة اللذَين
يبدآن باللغة العادية، هي بالضبط صياغة أدوات لغوية أدقَّ بهدفِ مُعالجة الأبحاث الجديدة،
وتلك هي الرسالة القيِّمة المُتضمَّنة في الدعوة الديكارتية إلى الأفكار الواضحة المُتميزة.
على أنه لا يبدو أن فيكو ذاته قد نظر إلى المسألة على هذا النحو، ومن هنا فاتتْهُ أهمية
الفلسفة العقلية بالنسبة إلى العلم.
إن في استطاعتنا أن ننظُر إلى اللغة بإحدى طريقتَين مُتعارضتَين؛ فإمَّا أن نأخذ بالنظرة
العقلية المُتطرفة إلى اللغة، كما فعل ليبنتس، فنعُدَّها حسابًا تسُوده الأفكار الواضحة
المُتميزة في كل خطواته، وتُعرَض فيه قواعد الحساب بوضوح وصراحة، وإما أن ننظر، كما فعل
فيكو، إلى اللغات الطبيعية تبعًا للطريقة التي نمَتْ بها، بوصفها وسائل للتواصُل، مع
رفْض
أية محاولة لوضْع صيغةٍ صُورية لها على أساس أنها تشويهٌ لها. وتبعًا لهذا الرأي تكون
مهمة
المنطق في الواقع زائدة عن الحاجة، ويكون المعيار الوحيد الذي يمكنه توصيل المعنى إلينا
هو
الاستخدام الفعلي للغة ذاتها. على أنَّ كلتا وجهتَي النظر المُتطرِّفَتَين هاتين على
خطأ.
فالعقلاني ينظر خطأً إلى اتجاه التطوُّر على أنه هدفٌ نهائي يمكن بلوغه، على حين أن الرفض
القاطع لأية صياغة صورية يحُول دون أية إمكانية لتجاوز المنظور الضيِّق الذي نجد أنفسنا
فيه
في أي وقت. وفضلًا عن ذلك فإن وجهة النظر الأخيرة ترتبِط عادة بالرأي القائل إنَّ الحديث
العادي يتَّسِم بكلِّ ما يلزم من صفات الوضوح والتميُّز، وهو رأي شديد التسرُّع والتفاؤل،
لا يأخذ في حسبانه الأخطار والتحيُّزات الفلسفية السابقة التي لا تزال ماثلةً في الحديث
المُعتاد.
وعلى الرغم من التنظيرات المُتمرِّدة التي قام بها فيكو في ميدان علم الاجتماع، فقد
ظلَّ
كاثوليكيًّا مخلصًا، أو حاول على الأقل، أن يجد للعقيدة النقلية مكانًا في مذهبه. أما
مسألة
إنْ كان هذا مُمكنًا دون فقدان للاتِّساق، فتلك بالطبع مسألة أخرى … غير أن الاتِّساق
ليس
من مزايا فيكو، بل إن أهمية فيكو تكمُن، بالأحرى، في استباقه العجيب للقرن التاسع عشر
وتطوُّراته الفلسفية. ففي علم الاجتماع يبتعِد عن تصوُّر العقليِّين للدولة المُثلى،
ويأخذ
على عاتقه مهمَّةً تجريبية هي دراسة كيفية نموِّ المُجتمعات وتطوُّرها، وفي هذا كانت
أصالته
كبيرة، ولأول مرة نجد لديه نظريةً حقيقية عن الحضارة البشرية. كل ذلك يرتبط ارتباطًا
وثيقًا
بالفكرة الرئيسية التي دار حولها تفكيرُه كله: وهي الفكرة القائلة إنَّ الحقيقة هي الفعل،
أي Verum Factum، حسب التعبير اللاتيني.