التجريبية الإنجليزية
بدأ يظهر، في أعقاب عصر الإصلاح الديني، موقفٌ جديد إزاء السياسة والفلسفة في شمال أوروبا. وقد ظهر هذا الموقف بوصفِه ردَّ فعلٍ على فترة الحروب الدينية والخضوع لروما مركزًا في إنجلترا وهولندا. فقد ظلَّت إنجلترا، إلى حدٍّ بعيد، بمنأًى عن الفظائع التي ترتَّبت على الانقسام الديني في القارة الأوروبية. صحيح أنَّ البروتستانت والكاثوليك ظلوا لفترةٍ ما يضطهد بعضهم بعضًا بطريقةٍ تفتقر إلى الحماس الشديد، وأنَّ المذهب التطهُّري (البيوريتاني) في عهد كرومويل كان في نزاعٍ دائمٍ مع الكنيسة. ومع ذلك لم تُرتكب فظائع على نطاقٍ واسع. والأهم من ذلك أنه لم يحدُث تدخل أجنبي عسكري. أما الهولنديون فقد تحمَّلوا عواقب الحروب الدينية كاملة، وبعدَ صراع طويل ومرير ضدَّ إسبانيا الكاثوليكية، حقَّقوا آخِر الأمر اعترافًا باستقلالهم المؤقَّت في عام ١٦٠٩م، ثم أصبح هذا الاستقلال نهائيًّا بعد معاهدة وستفاليا عام ١٦٤٨م.
ويُطلق على هذا الموقف الجديد تجاه مشكلات الميدان الاجتماعي والثقافي اسم الليبرالية، وهي تسمية أقرَبُ إلى الغموض، يستطيع المرء أن يُدرك في ثناياها عددًا من السِّمات المُتميزة. فقد كانت الليبرالية أولًا، بروتستانتية في المحلِّ الأول، ولكن ليس على الطريقة الكالفينية الضَّيقة. والواقع أنها كانت أقربَ بكثيرٍ إلى أن تكون تطويرًا للفكرة البروتستانتية القائلة إن على كلِّ فردٍ أن يُسوِّي أموره مع الله بطريقته الخاصة — هذا فضلًا عن أن التعصُّب والتزمُّت يضرُّ بالأعمال الاقتصادية. ولمَّا كانت الليبرالية نتاجًا للطبقات الوسطى الصاعدة التي كان التقدُّم التجاري والصناعي يتحقَّق على يدَيها، فقد كانت مُعارضةً للتقاليد القائمة على التمييز، والتي ترسَّخت لدى الطبقة الأرستقراطية، ولدي الملكية على حدٍّ سواء. ومن ثَمَّ كان محور الموقف الليبرالي هو التسامُح. وهكذا ففي القرن السابع عشر، الذي كان فيه الصراع الديني يُمزِّق معظم البلاد الأوروبية الأخرى، وكان التعصُّب الأعمى يسُومها العذاب، كانت الجمهورية الهولندية ملاذًا لكافة أنواع الرافضين والمُفكرين الأحرار. ذلك لأنَّ الكنائس البروتستانتية لم تكتسِب أبدًا تلك السلطة السياسية التي كانت الكاثوليكية قد تمتَّعت بها خلال العصور الوسطى؛ ومن هنا أخذت سلطة الدولة تزداد أهمية بصورة ملحوظة.
كان تجَّار الطبقة الوسطى، الذين اكتسبوا ثروتهم وممتلكاتهم بجهودهم الخاصة، ينظرون بسخطٍ إلى السلطة المُطلقة للملوك. لذلك كانت الحركة تتَّجِه نحو الديمقراطية المَبنيَّة على حقوق التملُّك وعلى الحدِّ من سلطة الملوك. وإلى جانب إنكار الحقِّ الإلهي للملوك، ظهر شعور بأن في استطاعة الناس أن يتجاوزوا أوضاعهم بجهودهم الخاصة، ومن ثم بدأ الناس اهتمامًا متزايدًا بالتعليم.
ويمكن القول بوجهٍ عام إنَّ الناس كانوا ينظُرون بارتيابٍ إلى الحكومة أيًّا كانت، على أساس أنها لا تُلبي احتياجات التوسُّع في التجارة، وتقف عقبةً في وجه نموِّها الحُر. وفي الوقت ذاته كان هناك اعتراف بالأهمية القُصوى للحاجة إلى القانون والنظام، ممَّا أدى إلى التخفيف إلى حدٍّ ما من المعارضة التي تُوجَّه إلى الحكومة. ومن هذه الفترة ورث الإنجليز مَيلهم المشهور إلى الحلول الوسطى، وهو الميل الذي يعني في الميدان الاجتماعي إيثار الإصلاح على الثورة.
ولقد كان نموُّ الليبرالية في إنجلترا وهولندا مُرتبطًا بالأوضاع العامة للعصر إلى حدٍّ لم تؤدِّ معه إلى إثارة ضجة كبيرة، غير أنها مارست في بلادٍ أخرى، وخاصة فرنسا وأمريكا الشمالية، تأثيرًا ثوريًّا في تشكيل الأحداث التالية.
ولقد كانت هذه النزعة الفردية في أساسها نظرية عقلانية، وكان العقل يُعدُّ ذا أهمية قصوى، بينما كان يُنظَر إلى تحكم الانفعالات والأهواء في المرء على أنه علامةٌ على انعدام التحضُّر. أما في القرن التاسع عشر فقد توسَّع المُفكرون في النزعة الفردية بحيث أصبحت تشمل الانفعالات ذاتها، وأدَّت، خلال ذروة الحركة الرومانتيكية، إلى ظهور عددٍ من فلسفات القوة التي كانت تُعلي من قدْر الإرادة الذاتية للأقوى؛ ممَّا أدى بطبيعة الحال إلى شيءٍ مضاد تمامًا لليبرالية. بل إنَّ مثل هذه النظريات تهدم نفسها بنفسها، ما دام الشخص الذي ينجح لا بدَّ له أن يُحطِّم السُّلَّم الذي قاده إلى النجاح، خَوفًا من منافسة أشخاصٍ آخرَين يُعادلونه طموحًا.
ولقد كان للنزعة الليبرالية تأثيرها في المناخ العقلي لدى الرأي العام، ومن هنا لم يكن من المُستغرَب أن نجد بعضًا من المُفكرين يتَّخذون موقفًا ليبراليًّا في نظرياتهم السياسية، مع أنهم يعتنقون في الميادين الأخرى آراءً فلسفية مختلفة عنها اختلافًا جذريًّا، فقد كان اسبينوزا ليبراليًّا بقدْر ما كان التجريبيُّون الإنجليز.
وبظهور المجتمع الصناعي في القرن التاسع عشر، أصبحت الليبرالية مصدرًا قويًّا للإصلاح الاجتماعي لأوضاع الطبقات العاملة المُستغَلَّة استغلالًا قاسيًّا. وفيما بعد تولَّت هذه المهمة قوى كُثرٌ نضالية، هي قوى الحركة الاشتراكية الصاعدة، وظلَّت الليبرالية على وجه العموم حركةً بلا عقيدة جامدة. ومن المُؤسِف أنها، من حيث هي قوة سياسية، أصبحت الآن مُستهلكة تمامًا. فمن سِمات عصرنا الحالي التي تدعو إلى الأسى، والتي ربما كانت حصيلة الكوارث العالمية المُتلاحِقة في هذا القرن، أنَّ مُعظَم الناس لم يعودوا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليعيشوا بدون عقيدة سياسية جامدة صارمة.
لقد أدَّت أعمال ديكارت الفلسفية إلى تيارَين رئيسيَّين للتطور: أحدهما هو إحياء التراث العقلي، الذي كان أكبر دُعاتِه في القرن السابع عشر اسبينوزا وليبنتس. والثاني ما يُطلق عليه بوجهٍ عام اسم التجريبية الإنجليزية. ولكن من المُهمِّ ألا نستخدِم هذَين الوصفَين (العقلية والتجريبية) بطريقةٍ مُفرطة في التحجُّر. ذلك لأنَّ من أكبر العقبات التي تعترِض طريق الفَهم في الفلسفة، بل في أي ميدان آخر، تصنيف المُفكرين بطريقةٍ عمياء مُفرطة في الجمود، وفقًا لأوصافٍ ثابتة نُطلقها عليهم. ومع ذلك فإنَّ التقسيم المألوف ليس جُزافيًّا، وإنما يُشير إلى بعض السِّمات البارزة في كلا التراثَين. ويظلُّ هذا الحُكم صحيحًا حتى على الرغم من أن التجريبيِّين الإنجليز قد كشفوا، في نظريتهم السياسية، عن نزعةٍ عقلية واضحة في تفكيرهم.
في كتاب «الدراسة»، نجد لأول مرة محاولة مباشرة لبيان حدود الذهن، ولتحديد نوع الأبحاث التي يُمكننا القيام بها. وعلى حين كان العقليُّون قد افترضوا ضِمنًا أن المعرفة الكاملة يمكن بلوغها في نهاية المطاف، فإنَّ نظرة لوك الجديدة كانت أقلَّ تفاؤلًا في هذا الصدد. والواقع أنَّ المذهب العقلي هو على وجه العموم مذهب تفاؤلي، ومن ثم فهو — من هذه الزاوية — غير نقدي. أما البحث المعرفي (الإبستمولوجي) الذي قام به لوك فهو أساس لفلسفة نقدية تُعدُّ تجريبية بمعنَيَين: أولهما أنها لا تُصدر مقدمًا حُكمًا يُحدِّد نطاق المعرفة البشرية، كما فعل العقليون، وثانيهما أنها تؤكد عنصر التجربة الحِسِّية؛ لذلك كانت هذه النظرة بدايةً للتراث التجريبي الذي حمل لواءه باركلي وهيوم وجون استورت مل، بل إنها كانت أيضًا نقطة بداية الفلسفة النقدية عند كانت. وهكذا فإنَّ ما يأخُذه لوك على عاتقه في هذا الكتاب ليس تقديم مذهبٍ جديد بقدْر ما هو إزالة الأوهام والتحيُّزات القديمة. وفي هذا نراه يضع لنفسه هدفًا رآه أكثر تواضُعًا من أعمال كبار البنائين لصرْح المعرفة، مثل «السيد نيوتن الذي لا يبارى.» فهو من جانبه يرى أنه «حسبي من الطموح أن أشتغل عاملًا تابعًا يُطهِّر الأرض قليلًا، ويُزيح بعض المُهملات التي تعترِض طريق المعرفة.»
والخطوة الأولى في هذا البرنامج الجديد في بناء المعرفة على التجربة وحدَها، مما يَعني ضرورة رفض الأفكار الفطرية التي قال بها ديكارت وليبنتس. والواقع أنَّ جميع الأطراف يُسلِّمون بأنَّ لدَينا منذ مَولدنا نوعًا من الاستعداد المغروز فينا، قابل للنمو، ويُتيح لنا تعلُّم عددٍ من الأشياء. ولكن لا جدوى من افتراض أنَّ الذهن الذي لم يتعلم يملك مضمونًا في حالة كمُون، ولو كان الأمر كذلك لاستحال علينا التمييز بين هذه المعرفة والمعرفة الأخرى التي تأتي حقيقةً من التجربة، ويكون في إمكاننا عندئذٍ أن نقول بنفس القوة إنَّ كل معرفة فطرية، وهذا بعَينه هو ما تقول به نظرية التذكُّر التي عرضتْ في محاورة «مينون».
وعلى ذلك ينبغي أن يبدأ الذهن كصفحةٍ بيضاء، تُزوِّدها التجربة بمضمونها الفعلي. ويطلق لوك على هذا المضمون اسم الأفكار، وهو لفظ يُستخدَم بمعنًى شديد الاتساع. وتنقسم الأفكار بوجهٍ عام إلى نوعَين، حسب موضوعاتها: فهناك أولًا أفكار الإحساس، التي تأتي من ملاحظة العالم الخارجي عن طريق حواسِّنا، أما النوع الآخر، فهو أفكار الانعكاس التي تنشأ عندما يُلاحظ الذهن ذاته. وإلى هذا الحدِّ لا يُقدِّم لوك شيئًا يلفِت نظرنا بجِدَّته. ذلك لأنَّ الرأي القائل إنَّ الذهن لا يُوجَد فيه شيء ما لم يكن قد أتى عن طريق الحواس، كان تعبيرًا مدرسيًّا قديمًا، وقد أضاف ليينتس تحفُّظًا يستثني الذهن ذاته من هذه الصيغة. أما الجديد، والمميز للتجريبية، فهو الرأي القائل إنَّ هذه هي المصادر الوحيدة للمعرفة، وهكذا فإنَّنا لا نستطيع أبدًا، خلال تفكيرنا وتأمُّلنا أن نتجاوز حدود ما اكتسبناه عن طريق الإحساس والانعكاس.
إن القول بأنَّ المرء يعرف شيئًا ما ينطوي في نظر لوك، على القول بأنَّ المرء لديه يقين ما. وفي هذه المسألة لم يفعل لوك شيئًا سوى مُسايرة تراث العقليين، واستخدام لفظ «يَعرف» بمعنى يرجع إلى أفلاطون وسقراط. على أنَّ ما نعرفه، في رأي لوك إنما هو أفكار، وهذه الأفكار بدورها تُوصف بأنها تُصوِّر العالم أو تُمثله. وبطبيعة الحال فإن نظرية المعرفة القائمة على فكرة تمثيل العالم تجعل لوك يتجاوز التجريبية التي دافع عنها بكلِّ هذا الحماس. ذلك لأنه إذا كان كل ما نعرفه هو الأفكار، فلن يكون في وُسعنا أبدًا أن نعرف إن كانت هذه الأفكار مُطابقة لعالم الأشياء. وعلى أية حال فإنَّ هذا الرأي عن المعرفة يؤدي بفيلسوفنا إلى الرأي القائل إن الألفاظ تدلُّ على الأفكار بطريقةٍ تُشبه إلى حدٍّ بعيد دلالة الأفكار على الأشياء. غير أنَّ بين الحالتَين فرقًا، هو أنَّ الألفاظ علامات اصطلاحية أو مُتعارف عليها، وهي صِفة لا يمكن أن تُقال عن الأفكار. ولمَّا كانت التجربة لا تُزوِّدنا إلا بأفكار جزئية، فإنَّ نشاط الذهن ذاته هو الذي يُنتج الأفكار المجرَّدة، العامة. أما عن رأي لوك في أصل اللغة، الذي يُعبر عنه بطريقةٍ عرضية في الدراسة، فإنه يُشارك فيكو اعترافَه بأهمية المجاز.
إن من الصعوبات الرئيسية في نظرية المعرفة عند لوك، محاولة تفسير الخطأ. والواقع أن الطابع الذي تتَّخذه المشكلة عنده هو بالضبط طابعها الذي رأيناه من قبل في محاورة «تيتاتوس» لأفلاطون، وذلك إذا ما أحللْنا الصفحة البيضاء عند لوك محلَّ قنْص الطيور عند أفلاطون، ووضَعْنا الأفكار مَوضِع الطيور. عندئذٍ يبدو أنَّ من المستحيل وفقًا لهذه النظرية أن يقع المرء في الخطأ، غير أنَّ هذا النوع من المشكلات لا يُقلِق بال لوك عادة. فهو ليس منهجيًّا في معالجته لموضوعاته، وكثيرًا ما يترك الموضوع حين تنشأ صعوبات. وقد أدَّى به تكوينه الذهني العملي إلى مُعالجة المشكلات الفلسفية بطريقةٍ تجزيئية دون أن يواجِهَ مشكلة الوصول إلى موقفٍ مُتَّسق مع ذاته. لقد كان بالفعل، كما قال، عاملًا تابعًا.
أما في مسائل اللاهوت، فقد أخذ لوك بالتقسيم التقليدي للحقيقة إلى عقلية ونقلية، وظلَّ على الدوام مؤمنًا مُخلصًا بالمسيحية، وإنْ كان إيمانه قد اتَّخذ طابعًا مُستقلًا. ولقد كان أشدَّ ما ينفر منه هو الحماس الديني الذي يصل إلى حدِّ الهوَس، أي حالة أولئك الذين يعتقدون أنَّ هناك إلهامًا إلهيًّا مُتسلطًا عليهم، مثل كثيرٍ من الزعماء الدينيِّين في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد كان يرى أن تعصُّبَهم يهدِم العقل والوحي معًا، وهو رأي أكدتْهُ فظائع الحروب الدينية بطريقةٍ مأساوية. ولكن حقيقة الأمر، على أية حال، هي أنَّ لوك قد جعل الأولوية للعقل، متابعًا في ذلك الاتجاه الفلسفي العام لعصره.
وفي الدراسة الثانية يعرض لوك نظريَّتَه الخاصة. فهو، مثل هبز، يعتقد أنه قبل أن تقوم الحكومة المدنية، كان الناس يعيشون في حالةٍ طبيعية يحكُمها القانون الطبيعي، وكل هذه الآراء تنتمي إلى المدرسة التقليدية. أما رأي لوك في نشوء الحكومة فيُبنى، مثل رأي هبز، على نظرية العقد الاجتماعي، وهي نظرية يقول عنها المذهب العقلي. وقد كانت هذه النظرية تُمثل تقدُّمًا بالنسبة إلى من يؤمنون بحقِّ الملوك الإلهي، وإن كانت أدنى مستوًى من نظرية فيكو. والدافع الأساسي الذي يُحفِّز إلى العقد الاجتماعي هو في رأي لوك، حماية الملكية. فحين يلتزم الناس بهذه الاتفاقات، يتنازلون عن حقِّهم في العمل بوصفهم المدافعين الوحيدين عن شئونهم، ويعهدون به إلى الحكومة. ونظرًا إلى أن الملك ذاته، في النظام الملكي، قد يدخُل في منازعات، فإن المبدأ القائل بعدم جواز حُكم أي إنسان في قضيته الخاصة يُحتِّم استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. وقد تناول مونتسكيو فيما بعد مسألة فصل السلطات بمزيدٍ من التفصيل. أما عند لوك فإننا نجد أول عرضٍ مُتكامل لهذه المسائل، وكان معنيًّا بوجهٍ خاص بالسلطة التنفيذية للملك في مواجهة الوظيفة التشريعية للبرلمان. فالسلطة التشريعية هي التي ينبغي أن تكون لها الكلمة العُليا، لأنها مسئولة فقط أمام المجتمع ككل، ذلك المجتمع الذي تُعد هي مُمثلة له. فما الذي ينبغي عمله حين تتصادَم السلطتان التنفيذية والتشريعية؟ من الواضح أنَّ السلطة التنفيذية هي التي ينبغي أن تُجبر في هذه الحالات على الاستسلام، وهذا بالفعل ما حدث للملك تشارلز الأول، الذي أدَّت أساليبه القمعية إلى إثارة الحرب الأهلية.
وتبقى بعد ذلك مسألة الطريقة التي يمكن بها أن نُقرِّر متى يكون من الواجب استخدام القوة ضدَّ حاكم مُشاكس. هذه الأمور تُقرَّر عادة، في الواقع العملي، على أساس نجاح القضية موضوع النزاع أو إخفاقها. وعلى الرغم من أن لوك يبدو واعيًا بهذه الحقيقة، ولكن بصورةٍ فيها شيء من الغموض، فإنَّ رأيه يتمشَّى مع اتجاه التفكير السياسي لعصره، الذي كان في عمومه عقلانيًّا. فقد كان يفترِض أن أي إنسان عاقل يعرف ما هو الصواب، وهنا نجد مرة أخرى أنَّ نظرية القانون الطبيعي تكمُن في خلفية هذا التفكير؛ ذلك لأنَّ صواب أي فعلٍ لا يمكن تقديره إلا على أساس مبدأ من هذا النوع. وهنا تلعب السلطة الثالثة، القضائية، دورًا خاصًّا. والواقع أنَّ لوك ذاته لا يتحدَّث عن السلطة القضائية بوصفها سلطة مُستقلة، غير أنَّ هذه السلطة اكتسبَت بمُضي الوقت، حيثما كان مبدأ فصل السلطات مقبولًا، مَركزًا مُستقلًا تمام الاستقلال، ممَّا أتاح لها أن تقوم بدور التحكيم بين أية سلطاتٍ أخرى، وعلى هذا النحو تكون السلطات الثلاث نسقًا من الضوابط المتبادلة التي تحُول دون ظهور قوةٍ طاغية، وهذا مبدأ جوهري بالنسبة إلى الليبرالية السياسية.
أما في إنجلترا الآن، فإنَّ جمود البناء الحزبي، والسلطات التي يملكها مجلس الوزراء تُقلل إلى حدٍّ ما من الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولكن أوضح مثال للفصل بين السلطات على النحو الذي تَصوَّره لوك يُوجد في حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يعمل الرئيس ومجلسا الكونجرس على نحوٍ مستقل. أما عن الدولة بوجهٍ عام فإن سلطاتها زادت، منذ أيام لوك، حتى اتخذت أبعادًا هائلة، على حساب الفرد.
وعلى الرغم من أن لوك لم يكن من أعمق المُفكرين أو من أكثرهم أصالة، فإن أعمالَه قد مارست تأثيرًا قويًّا وباقيًا في الفلسفة والسياسة معًا، فهو في الفلسفة واحدٌ ممن بدءوا المذهب التجريبي الحديث، وهو اتجاه فكري طوَّره بعد ذلك باركلي وهيوم، ثم بنتام وجون استورت مل. وفضلًا عن ذلك فقد كانت حركة «الموسوعيِّين» الفرنسية في القرن الثامن عشر مُتأثرة بلوك إلى حدٍّ بعيد، باستثناء روسُّو وأتباعه. كذلك فإن الماركسية تدين بمذاقها العلمي لتأثير جون لوك.
لقد كانت نظريات لوك السياسية تلخيصًا لما كان يُمارَس بالفعل في إنجلترا في ذلك الوقت. لذلك لم يكن لنا أن نتوقَّع لهذه النظريات أن تُحدِث في إنجلترا تقلباتٍ ضخمة. أما في أمريكا وفرنسا فقد كان الأمر على خلاف ذلك؛ إذ أدَّت ليبرالية لوك إلى تغييرات ضخمة وثورية. ففي أمريكا أصبحت الليبرالية هي المَثل الأعلى القومي، الذي صانه الدستور بحرصٍ شديد، ومع أنَّ من سِمات المُثل العُليا أنها لا تُراعَى دائمًا بإخلاص، فإن الليبرالية المبكرة، من حيث هي مبدأ، قد ظلَّت تُمارَس في أمريكا لدرجةٍ لا يكاد يطرأ عليها أي تغيير.
ومن الغريب حقًّا أن نجاح لوك الهائل يرتبط بالانتصار الكاسح الذي أحرزَه نيوتن؛ ذلك لأن فيزياء نيوتن قد قضتْ على سلطة أرسطو بصورةٍ نهائية حاسمة. وبالمِثل فإن نظرية لوك السياسية، وإن لم تكن مُبتكَرة إلا في القليل، قد نفَّذت حق الملوك الإلهي، وسعَتْ إلى إقامة نظريةٍ جديدة للدولة، مبنية على قانون الطبيعة الذي قال به المدرسيون، بعد أن أدخلت عليه التعديلات التي تجعله مُلائمًا للأوضاع الحديثة. ويظهر الطابع العلمي لهذه الجهود من خلال تأثيراتها على الأحداث التالية. فصيغة إعلان الاستقلال الأمريكي ذاتها تحمل طابعها بوضوح. وحين عدَّل فرانكلين عبارة جيفرسون التي كانت تقول «إننا نؤمن بأن هذه الحقائق مُقدسة لا سبيل إلى إنكارها.» فاستعاض عن التعبير «مُقدَّسة لا سبيل إلى إنكارها.» بالتعبير «واضحة بذاتها.» فقد كان يُعبر بذلك عن لغة لوك الفلسفية.
ونتيجةً لهذه الاختلافات في طريقة المُعالجة، نجد المذهب القبلي، برغم اتِّساقه في ذاته، يتهاوى بأكمله إذا ما زُعزِعت مُرتكزاته الأساسية. أما الفلسفة التجريبية فإنَّ اعتمادها على الوقائع الملاحظة يجعلها لا تنهار إذا ما تبيَّن وجود خطأ في مواضيع مُعينة منها. والاختلاف هنا أشبَهُ بالاختلاف بين هرمَين يبنى أحدُهما مقلوبًا، فالهرم التجريبي يرتكز على قاعدته، ومن ثم فهو لا ينهار إذا ما سقطتْ كتلة من جزءٍ مُعين فيه، أما الهرم القبلي فيرتكز على رأسه ويتداعى حتى لو دفعتَه بالإصبع.
والواقع أنَّ النتائج العملية لهذا المنهج أوضح ظهورًا في ميدان الأخلاق بوجهٍ خاص، فمن المُمكن أن تؤدِّي نظرية للخير وُضِعت بوصفها مذهبًا جامدًا إلى خرابٍ مُرعب لو أنَّ طاغيةً غشومًا تخيل نفسه مبعوث العناية الإلهية من أجل تطبيقها. ولا جدال في أنه قد يكون هناك من يزدَرُون الأخلاق النفعية لأنها تبدأ من الرغبة الأساسية في السعادة. غير أنَّ من المؤكد أن من يؤيد هذه النظرية سوف يفعل في النهاية، من أجل تحسين حال أقرانه، أكثر ممَّا يفعل المُصلح المُتزمِّت المتصلِّب، الذي يسعى إلى تحقيق غايةٍ مثالية مهما كانت الوسائل. ويناظر هذا الاختلاف في وجهات النظر حول الأخلاق، اختلافٌ آخَر في المواقف إزاء السياسة؛ إذ لم يكن لدى الليبراليين المُتأثرين بتُراث لوك مَيل كبير إلى التغييرات الشاملة المبنية على مبادئ مُجردة. فكل مشكلة ينبغي أن تُعالج بذاتها في مناقشة حُرَّة. وهذا الطابع التجزيئي، التجريبي، الذي لا يكتفي بالخروج عن المذهبية الجامدة، بل يُعاديها، والذي يتَّسِم به الحُكم والممارسة الاجتماعية في إنجلترا، هو الذي يُثير قدرًا كبيرًا من السخط لدى بقية الأوروبيين داخل القارة.
ولقد كان خلفاء المذهب الليبرالي عند لوك، من أصحاب مذهب المنفعة يَدعُون إلى أخلاقٍ تقوم على النفع الذاتي المُستنير، وهي فكرة قد لا تستثير أنبلَ المشاعر في البشَر، ولكنها في الوقت ذاته تتجنَّب تلك الفظائع التي ارتُكبت بطريقةٍ بطولية حقًّا، باسم مذاهب أرفع، وَضعَت لنفسها أهدافًا أكثر احترامًا، ولكنها تجاهلتْ حقيقة أنَّ الناس ليسوا تجريدات.
على أنَّ من الأخطاء الخطيرة التي وقعتْ فيها نظرية لوك، رأيَه في الأفكار المُجردة، وهذا الرأي إنما كان بالطبع محاولة لمُعالجة مشكلة الكليَّات، التي تركتها نظرية المعرفة عند لوك دون حل. والصعوبة هي أننا لو جُرِّدْنا مِن أمثلةٍ محددة، لما تبقى في النهاية شيء على الإطلاق. ويضرب لوك لذلك مثلًا بالفكرة المجردة للمُثلَّث، وهي الفكرة التي لا ينبغي أن تكون مُنحرفة أو قائمة، ولا مُتساوية الأضلاع ولا متساوية الساقَين ولا حادَّة، وإنما كل هذه الأفكار ولا أحد منها في آنٍ معًا، ومن هنا كان نقد نظرية الأفكار المجردة هو نقطة البدء في فلسفة باركلي.
كان أول كتاب انتقد فيه باركلي نظرية الأفكار هو «محاولة في سبيل نظرية جديدة للإبصار»، وفي هذا الكتاب يبدأ بمناقشة بعض مظاهر الخلط التي كانت شائعة في عصره حول موضوع الإدراك الحسِّي، وهو يقدِّم بوجهٍ خاص الحل الصحيح للُّغز الذي يبدو مُحيرًا، وهو أننا نرى الأشياء معقولة على الرغم من أنَّ الصورة المُنطبعة على عدسة العين تكون مقلوبة. وقد كان هذا اللغز شائعًا في ذلك الحين، ولكن باركلي أثبتَ أنه مَبنيٌّ على مُغالطة بسيطة غاية البساطة. فالمسألة هي أننا نرى بأعيُننا، وليس بالنظر إلى الأشياء من الخلف وكأنَّنا ننظُر إلى شاشة. وهكذا فإنَّ سبب سوء الفهم هذا هو الإهمال الذي يجعلنا ننزلِق من البصريات الهندسية إلى لغة الإدراك البصري. وينتقل باركلي بعد ذلك إلى وضع نظرية في الإدراك الحِسِّي تُقدِّم تمييزًا أساسيًّا بين الأشياء التي تسمح لنا مُختلف الحواسِّ أن نقولها عن موضوعاتها.
فالإدراكاتُ البصرية ليستْ في رأيه إدراكًا لأشياء خارجية، وإنما هي أفكار في الذهن فحسب. وعلى الرغم من أنَّ الإدراكات اللَّمْسية تُوجَد في الذهن بوصفها أفكارًا للإحساس، فإنه يصِفُها بأنها تتعلق بموضوعات فيزيائية، وإن كان قد أزال هذا التمييز في أعماله اللاحقة، وأصبحت كل الإدراكات تزوِّدنا بأفكارٍ عن الحس فقط. والسبب الذي يجعل الحواسَّ منعزلةً على هذا النحو، كلًّا عن الأخرى، هو أنَّ جميع الإحساسات نوعية. وهذا بدوره يُعلِّل رفض باركلي لما يُسمِّيه بالمادية. ذلك لأنَّ المادة ما هي إلا حامل ميتافيزيقي لصفاتٍ هي وحدَها التي تؤدي إلى تجارب تُشكِّل مضامين ذهنية. أما المادة الخالصة فلا يمكن تجربتها، ومن ثَمَّ فإنها تجريد لا تدعو إليه الحاجة. وينطبق هذا الوصف ذاته على الأفكار المجردة عند لوك. فلو نزعْتَ عن المثلث مثلًا كل ما فيه من سماتٍ نوعية، لَما بقِيَ في النهاية شيءٌ بالمعنى الدقيق، ومن المُحال أن تكون لدَينا تجربة باللاشيء.
فكيف إذن ينبغي مُعالجة مشكلة الكليَّات؟ يُشير باركلي إلى أنَّ ما ظنَّ لوك أنه أفكار مجردة إنْ هو إلا أسماء كلية. غير أنَّ هذه لا تُشير إلى أيِّ شيءٍ منفرد، وإنما تُشير إلى أي واحدٍ ضِمن مجموعةٍ من الأشياء. وهكذا فإنَّ لفظ «المُثلث» يُستخدَم للتعبير عن أي مثلث، ولكنه لا يُشير إلى تجريد. والواقع أنَّ الصعوبة في نظرية الأفكار المُجرَّدة ترتبط بالصعوبة التي ناقشناها في صدَد الصور السُّقراطية. فهي بدَورها غير مُحدَّدة أو نوعية على الإطلاق، وهي بهذا الوصف تعيش في عالمٍ آخر غير عالمنا، أو مع ذلك، فقد ساد الاعتقاد بأنَّ من الممكن مَعرفتَها.
ولا يجد باركلي صعوبةً في تفنيد هذه النظرة إلى اللغة، ذلك لأنَّ ما نفهمه عندما نستمع إلى شخصٍ ما هو المعنى الإجمالي لكلامه، لا سلسلة من المعاني اللفظية المُنفصل بعضها عن بعض، والتي تُنْظَم بعد ذلك كحبَّات العقد. بل يُمكننا أن نضيف إلى ذلك قولنا إنَّ الصعوبة المتعلقة بعملية التمثيل ستعود، على أية حال، مرة أخرى، فكيف يُعطي المرء الأفكارَ أسماء؟ إنَّ هذا يقتضي أن يكون المرء قادرًا على أن يُعبِّر عن وجود فكرة مُحددة مُعينة في ذهنه، ثم يُعطيها بعد ذلك أسماء، ولكن حتى في هذه الحالة سيظلُّ من المُستحيل أن نرى كيف يمكن التعبير عن التطابق، لأنَّ الفكرة وفقًا لما تقول به النظرية ذاتها، غير لفظية، وهكذا فإنَّ التفسير الذي يُقدمه لوك للغة يَشُويه نقصٌ فادح.
لقد رأيْنا أنَّ في استطاعة المرء تقديم تفسيرٍ لمثالية باركلي يجعلها أقلَّ غرابةً مما قد تبدو للوهلة الأولى. غير أنَّ بعض النتائج التي اضطُرَّ باركلي إلى استخلاصها تتَّسِم بأنها أقل إقناعًا؛ فقد بدا له أنه إذا كان هناك نشاط إدراكي فلا مهرَبَ من القول بضرورة وجود أذهانٍ أو أرواح تقوم بهذا النشاط. على أن الذهن، حين تكون له أفكار لا يكون موضوعًا لتجربته الخاصة، ومن ثَمَّ فإنَّ وجوده لا يكمُن في كونه مُدرَكًا (بفتح الراء)، بل في كونه مُدرِكًا (بكسرها). غير أنَّ هذه النظرة إلى الذهن لا تتَّسِق مع موقف باركلي الخاص؛ ذلك لأننا لو فحصْنا المسألة لوجدْنا أن الذهن الذي يتصوَّر على هذا النحو هو بالضبط من نوع تلك الفكرة المجردة التي انتقدَها باركلي عند لوك، فهو شيء لا يُدرِك هذا الشيء أو ذاك، وإنما يُدرِك بالمعنى المجرد. أما مسألة ما يحدُث للذهن حين لا يُمارس نشاطه، فإنها تتطلَّب حلًّا خاصًّا. فمن الواضح، إذا كان الوجود يعني إما الإدراك، كما في حالة الأذهان التي تُمارس نشاطها، وإمَّا كون الشيء مُدرَكًا، كما في حالة الأفكار، إن الذهن غير الفعال لا بدَّ أن يكون فكرةً في الذهن الإلهي الذي هو فعَّال أبدا. وهكذا يدخل باركلي هذا الإله الفلسفي لا لشيءٍ إلا لمواجهة صعوبة نظرية. ذلك لأنَّ وظيفة هذا الإله تقتصر على ضمان استمرار وجود الأذهان، وتبعًا لذلك، ما نُسمِّيه بالموضوعات المادية أيضا. والواقع أنَّ العرض الذي نقدمه لهذه الفكرة هو محاولة فيها قدْرٌ من التجاوز، من أجل تقريب كلام باركلي ممَّا يمكن أن يَقبله العقل السليم. على أنَّ هذا الجزء من تفكير باركلي هو أقلُّ الأجزاء قيمةً وأهمية من الوجهة الفلسفية.
ولا بدَّ لنا أن نؤكد في هذا المقام أنَّ صيغة باركلي القائلة إنَّ وجود الشيء هو كونه مُدرَكًا، لا تقول شيئًا يعتقد أنه يتقرَّر عن طريق التجربة العلمية. بل إنَّ ما يقوله في الواقع هو أنه يكفينا أن نتأمَّل بدقَّة كيف نستخدِم مفرداتنا اللغوية على الوجه الصحيح لكي نُدرِك أنَّ هذه الصيغة لا بدَّ أن تكون صحيحة. وهكذا فإنَّ ما يقوم به هنا ليست له دلالة ميتافزيقية، وإنما هو مجرد تحديد للطريقة التي ينبغي بها استخدام ألفاظ مُعينة. وبطبيعة الحال فبقدْر ما نُقرِّر أن نستخدِم لفظَي «الوجود» و«كونه مُدرَكًا» بطريقةٍ مُرادفة، لا يكون هناك مجال للشك. ولكن باركلي لا يعتقد فقط أنَّ هذه هي الطريقة التي ينبغي أن نستخدِم بها هذه الألفاظ، بل يقول إننا نستخدمها بالفعل على هذا النحو عندما نتحدَّث بدقَّة. ولقد بيَّنَّا من قبل أن هذا قد يكون رأيًا معقولًا إلى حدٍّ ما، ومع ذلك فمن حقِّ المرء أن يشعُر بأن طريقة باركلي هذه في الكلام ليسَتْ صحيحةً إلى الحدِّ الذي كان يُعتقَد.
وأول ما ينبغي أن نُلاحظه هو أنه يستخلص نظرية ميتافيزيقية عن الذهن والله لا تتمشَّى على الإطلاق مع بقية أجزاء فلسفته. وعلى الرغم من أنَّنا لن نُلحَّ كثيرًا على هذه النقطة، فإننا قد نشعُر بأن مصطلح باركلي يخرج بلا داعٍ عن طُرُق الحديث العادية المألوفة، وإنْ كان هذا أمرًا قابلًا للمناقشة، وهو على أية حال ليس سببًا ينبغي من أجله أن نرفُض رأيه. ولكن بغضِّ النظر عن هذا الأمر تمامًا فإن العرض الذي يُقدِّمه باركلي ينطوي على ضَعفٍ فلسفي يُعرِّضه لقدرٍ كبير من النقد. ومما يزيد من أهمية هذه النقطة أنَّ باركلي وقعَ في هذا الخطأ عينه حين عرَض نظريته في الإبصار، فقد أكَّد عن حق، كما ذكرْنا من قبل، أن المرء يرى بعينَيه ولا ينظُر إليهما. وبالمِثل يمكن القول بوجهٍ عام إنَّ المرء يُدرك بذهنه، ولكنه حين يُدرك لا يُحلِّق فوق ذهنِه، إن جاز التعبير، لكي يُلاحظه، فكما أنَّنا لا نلاحظ أعيُنَنا، كذلك لا نلاحظ أذهاننا، وكما أنَّنا لا نقبَل القول إننا نرى ما على عدسة العين، كذلك لا ينبغي أن نقول إننا نُدرِك ما في الذهن، وهذا يُثبِت على الأقل أنَّ عبارة «في الذهن تحتاج إلى بحثٍ دقيق لم يقُم به باركلي.»
والأمر الذي يُثبته هذا النقد هو أنه قد تكون هناك أسباب قوية لرفْض طريقة باركلي في الكلام، لحساب مصطلح مُختلف، وذلك على أساس التشبيه الذي أوردْناه في المَثل السابق؛ إذ يبدو من الواضح أنَّ صياغة باركلي، يمكن، في هذه الناحية، أن تكون مُضلِّلة إلى أبعدِ حد، وقد يرى البعض أنَّ هذه ليستْ طريقةً مُنصفة في مُعالجة باركلي، ولكن هذا، على الأرجح، هو ما كان باركلي ذاته خليقًا بأن يطلُبه من الناقد؛ ذلك لأنه رأى أن مهمَّة الفيلسوف هي الكشْف عن أساليب الكلام المُضلِّلة، وقد عبَّر عن هذه المسألة في مقدمة كتابه «المبادئ» بقوله: «إنني أميل على وجه العموم إلى الاعتقاد بأن القدْر أكبر من تلك الصعاب التي شغلت الفلاسفة من قبل، والتي وقفتْ حجَر عثرةٍ في طريق المعرفة، إن لم يكن كل هذه الصعاب، ترجع برمَّتها إلينا؛ فنحن نبدأ بأن نُثير الغبار، ثم نشكو من عدم قُدرتنا على الرؤية.»
أما كتاب باركلي الرئيسي الثاني «محاورات بين هيلاس وفيلونوس» فلا يُقدِّم مادة جديدة للمناقشة، وإنما يُكرِّر الآراء التي عبَّر عنها في أعماله السابقة، ولكن بأسلوب الحوار الذي هو أقربُ إلى فَهم القارئ.
إنَّ نظرية الأفكار، كما عرضَها لوك، تتعرَّض لعددٍ من الانتقادات. فإن كان الذهن لا يعرِف سوى الانطباعات الحسِّية، فعندئذٍ يستحيل التمييز، كما أوضح باركلي، بين الصفات (أو الكيفيَّات) الأولية والصفات الثانوية. غير أنَّ العرض النقدي المُتكامل ينبغي أن يذهب أبعدَ حتى ممَّا ذهب إليه باركلي، الذي كان لا يزال يُسلِّم بوجود الأذهان. وهكذا كان هيوم هو الذي طوَّر تجريبية لوك بحيث استخلص منها نتائجها المنطقية. وفي النهاية سنجد أنَّ الإسراف في موقف الشك، الذي يتوصَّل إليه هيوم نتيجة لذلك، هو الذي يكشف الأخطاء في المُسلَّمات الأصلية.
ولد ديفد هيوم (١٧١١–١٧٧٦م) في إدنبره، حيث التحق بالجامعة في سنِّ الثانية عشرة. وبعد أن درس برنامجًا تقليديًّا في الآداب، ترك الجامعة ولمَّا يبلُغ السادسة عشرة، وحاول لفترةٍ ما أن يدرُس القانون. غير أنَّ اهتماماته الأصلية كانت تكمُن في الفلسفة التي قرَّر في النهاية أن يتخصَّص فيها. وبعد أن انشغل هيوم في مشروع تجاري لفترةٍ قصيرة، تخلَّى عنه بسُرعة. وفي عام ١٧٣٤م أبحر إلى فرنسا حيث أقام لمدة ثلاث سنوات. ولما كانت موارده محدودة، فقد اضطُرَّ إلى تكييف أسلوب حياته حسبما تمنحه إيَّاه الأقدار من مُتَع ضئيلة، وقد قَبِل هذه القيود برحابة صدرٍ تامَّة، حتى يتفرَّغ كليةً لأهدافه الفكرية.
وخلال إقامة هيوم في فرنسا، كتب أشهَرَ مؤلفاته «دراسة في الطبيعة البشرية». فحين بلَغَ السادسة والعشرين كان قد أكمل الكتاب الذي أصبحت شُهرة هيوم الفلسفية ترتكِز عليه فيما بعد. وقد نُشِرت الدراسة في لندن بعدَ وقتٍ قصير من عودة هيوم من سفره. ولكنها لاقَتْ في البداية إخفاقًا مُدوِّيًا. والواقع أنَّ الكتاب يحمِل علاماتٍ تدلُّ على صِغَر سنِّ كاتبه، لا من حيث مضمونه الفلسفي وإنما من حيث لهجتِه الصريحة التي لا تخلو من الاندفاع. كذلك فإنَّ رفضَه للمبادئ الدينية السائدة، وهو رفضٌ لم يحاول أن يُخفِيَه، لم يساعد على إذاعة شُهرته. ومن أجل أسبابٍ كهذه أخفق هيوم، عام ١٧٤٤م، في الحصول على وظيفة أستاذ كرسي الفلسفة بجامعة إدنبره. وفي عام ١٧٤٦م التحق بخدمة الجنرال سانت كلير، وذهب معه في العام التالي في بعثة دبلوماسية إلى النمسا وإيطاليا، وقد أتاحَتْ له هذه المهام أن يدَّخِر مبلغًا من المال يسمح له بالتقاعُد عام ١٧٤٨، ومنذ ذلك الحين كرَّس حياته لعمله. وقد نشَر خلال فترةٍ تبلغ خمسة عشر عامًا عددًا من المؤلَّفات في نظرية المعرفة والأخلاق والسياسة، وتَوَّجَها جميعًا بكتابٍ في «تاريخ إنجلترا» جلب له الشهرة والثروة معًا. وفي عام ١٧٦٣م ذهب مرةً أخرى إلى فرنسا، بوصفه السكرتير الشخصي للسفير البريطاني هذه المرة. وبعدَ عامَين أصبح أمينًا للسفارة، وأصبح قائمًا بالأعمال عندما استدعي السفير إلى بلاده، إلى أن عُيِّن في وظيفةٍ جديدة في وقت لاحق من العام نفسه، وفي عام ١٧٦٦م عاد إلى بلاده وأصبح وكيلًا لوزارة الخارجية وظلَّ يشغَل هذا المركز لمدَّة عامَين إلى أن تقاعد عام ١٧٦٩م. أما سنواته الأخيرة فقد قضاها في إدنبره.
يرى هيوم، كما ذكَر في مقدمة الدراسة أن كل بحثٍ يحكُمه ما يُسمِّيه علم الإنسان. فهو، على خلاف لوك وباركلي، لا يهتمُّ فقط بتطهير الأرض، وإنما يضع في اعتباره المذهب الذي قد يكون من الممكن تشييده فيما بعد. وهذا المذهب هو علم للإنسان. وتُوحي محاولته تشييد مذهبٍ جديد بأنه تأثَّر بالمذهب العقلي السائد في القارة الأوروبية، وذلك بسبب الصِّلات التي ربطتْ بينَه وبين المُفكرين الفرنسيين الذين ظلُّوا مُتأثِّرين بالمبادئ الديكارتية. وعلى أية حال فإنَّ التطلع إلى إقامة عِلمٍ للإنسان أدَّى بهيوم إلى البحث في الطبيعة البشرية بوجهٍ عام، وكانت نقطة بدايته في ذلك هي البحث في نطاق قُدرات الإنسان الذهنية والحدود التي لا تتعدَّاها.
إن حُجَج هيوم مبنية على عددٍ من المُسلَّمات العامة التي تسري خلال نظريته في المعرفة بأسرها. فهو يتفق من حيث المبدأ مع نظرية الأفكار عند لوك، وإنْ كان المُصطلح الذي استخدَمه مختلفًا. فهيوم يتحدَّث عن انطباعاتٍ وأفكار بوصفها تؤلِّف محتوى إدراكاتنا، وهو تمييز لا يُناظِر تقسيم لوك للأفكار إلى أفكارٍ للإحساس وأفكارٍ للانعكاس، وإنما يتقاطع مع هذا التصنيف.
هنا ينبغي علينا أن نُلاحظ عدَّة نقاطٍ هامة. فهيوم يسير في طريق لوك عندما يذهب إلى أن الانطباعات مُنفصلة ومُتميِّزة بمعنًى ما. وهكذا يرى هيوم أنَّ مِن الممكن تفكيكَ تجربة مُعقَّدة إلى انطباعاتها البسيطة المكوِّنة لها، ويترتَّب على ذلك أن الانطباعات هي أحجار البناء لكل تجربة؛ ومن ثَمَّ يمكن تصويرها على نحوٍ مُنفصل. وفضلًا عن ذلك فلمَّا كانت الأفكار نُسخًا باهتة للانطباع، فإنَّ كلَّ ما يُمكننا تصويره لأنفسنا في التفكير يمكن أن يكون موضوعًا لتجربةٍ مُمكنة. كذلك نستطيع أن نَستنتِج من هذه الأُسُس نفسها أنَّ ما لا يمكننا تخيُّله لا يمكن بالمِثل تجربته. وهكذا فإنَّ نطاق التخيُّل الممكن يمتدُّ بقدر مدى التجربة الممكنة. وهذا أمر ينبغي أن نذكره جيدًا إذا ما شئنا فَهم حُجَج هيوم. ذلك لأنه يدعونا على الدوام إلى أن نحاول تخيُّل شيءٍ أو آخر. وعندما يتصوَّر أنَّنا مثله لا نستطيع أن نفعل ذلك، يؤكِّد أن الشيء المُفترَض لا يمكن أن يكون موضوعًا للتجربة. وهكذا فإنَّ التجربة عنده تتألَّف من إدراكاتٍ مُتعاقبة.
وخارج هذا التعاقُب، لا يمكننا أن نتصوَّر أي ارتباطٍ آخر بين الإدراكات. وهنا يكمُن الفرق الأساسي بين مذهب ديكارت العقلي وتجريبية لوك وأتباعه. فالعقليون يرَون أنَّ هناك ارتباطاتٍ وثيقة بين الأشياء، وهي ارتباطات يمكن معرفتها، أما هيوم فيُنكر أن تكون هناك ارتباطات كهذه، أو على الأصحِّ يذهب إلى أنها، حتى لو كانت موجودة، فمن المؤكد أنَّنا لا نستطيع معرفتها. وكل ما يُمكننا معرفته إنما هو تعاقُبات للانطباعات أو الأفكار، ومن ثَمَّ فإنَّ مجرَّد التفكير في مسألة وجود أو عدَم وجود ارتباطاتٍ أخرى أعمق، إنما هو مَضيَعة للوقت.
في ضوء هذه السِّمات العامَّة لنظرية المعرفة عند هيوم، نستطيع الآن أن ننظُر بمزيدٍ من الإمعان في الحُجَج الخاصَّة التي أتى بها لإثبات بعض المسائل الرئيسية في فلسفته. ولنبدأ بمسألة الهوية الشخصية، التي ناقشَتْها «الدراسة» عند نهاية الكتاب الأول، وعنوانه «في الفهم». يبدأ هيوم بالقول إنَّ «هناك فلاسفة يتصوَّرون أننا في كل لحظة واعُون بوضوح بما نُسمِّيه «ذاتنا»، وأننا نشعُر بوجودها واستمرارها في الوجود. وهم واثقون إلى حدٍّ يتجاوز شهادة البرهان العقلي، من هويَّتها وبساطتها الكاملة. غير أنَّ التجربة تُثبت أنَّ جميع الأسباب التي تُساق للقول بأن الذات تكمُن من وراء التجربة، لا تصمُد أمام النقد. ولكن من سُوء الحظ أنَّ كل هذه التأكيدات القاطعة تتعارَض مع نفس التجربة التي يستندون إلى شهادتها؛ إذ ما هو الانطباع الذي يمكن أن تُستمَدَّ منه هذه الفكرة؟» ويُبين لنا هيوم أنه لا يمكن أن يُوجَد انطباع كهذا، ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك فكرة للذات.
وهناك صعوبة أخرى هي أننا لا نستطيع أن نرى كيف ترتبط إدراكاتنا الجزئية بالذات. وهنا يلجأ هيوم إلى طريقته المُميَّزة في تقديم الحُجَج، فيقول عن الإدراكات «إنَّ هذه كلها تختلف فيما بينها، ويمكن بحثُها مُستقلةً كما يمكن وجودها مُستقلة، ولا حاجة بها إلى أيِّ شيءٍ يدعم وجودها. فعلى أيِّ نحوٍ إذن تنتمي إلى الذات وكيف ترتبط بها؟ إنَّني من جانبي، عندما أتعمَّق إلى أقصى حدٍّ فيما أُسمِّيه «ذاتي»، أصادِفُ على الدوام إدراكًا مُعينًا من هذا النوع أو ذاك؛ إدراكًا للحرارة أو البرودة، للنور أو الظل، للحُبِّ أو الكراهية، للألم أو اللذَّة. ولكن يستحيل عليَّ في أي وقتٍ أن أُمسِك «بذاتي» هذه بِغَير إدراكٍ أو أن أُلاحِظ أيَّ شيءٍ ما عدا الإدراك.» ثم يضيف بعد قليل: «لو اعتقدَ أيُّ شخصٍ بناءً على تفكير جادٍّ نزيه، أن لديه فكرةً مختلفة عن ذاته، فلا مناصَ لي من الاعتراف بأنني لا أستطيع التفاهُم معه أبعدَ من ذلك. وكل ما يمكنني أن أقوله هو أنه قد يكون على حقٍّ مثلي، وأننا مُختلفان اختلافًا أساسيًّا في هذه النقطة.» ولكن من الواضح أنه ينظُر إلى أمثال هؤلاء الناس على أنهم مرضى، ويواصل كلامه قائلًا: «إنَّني لأتجاسَر وأؤكد، فيما يتعلَّق ببقية البشر، أنهم ليسوا إلَّا حزمة أو مجموعة من الإدراكات المُختلفة، التي تتعاقَب بعضها وراء بعض بسرعة لا يمكن تصوُّرها، وتظلُّ في صيرورة أو حركة دائمة.»
«إن الذهن نوع من المسرح الذي تظهر فيه إدراكات عديدة على التعاقُب.» ولكنه يعود فيجعل هذا التشبيه مشروطًا: «إن التشبيه بالمسرح ينبغي ألا يُضلِّلنا؛ فما يؤلِّف الذهن هو الإدراكات المُتعاقبة وحدَها، وليست لدَينا أدنى فكرة عن المكان الذي تعرض فيه هذه المناظر، أو المواد التي تتألف منها.» أما سبب الاعتقاد الباطل لدى الناس بالهوية الشخصية، فهو أنَّنا نَميل إلى الخلط بين الأفكار المُتعاقبة وبين فكرة الهوية التي نكوِّنها عن شيءٍ يظلُّ على ما هو عليه طوال فترةٍ من الزمن. وهذا يؤدِّي بنا إلى فكرة «النفس» و«الذات»، و«الجوهر»، من أجل إخفاء التنوع الذي يُوجَد بالفعل في تجاربنا المُتعاقبة. وهكذا فإنَّ الجدَل الذي يدور حول الهوية ليس جدلًا حول الألفاظ فحسْب، ذلك لأنَّنا عندما نعزو الهوية، بمعنًى غير صحيح، إلى موضوعاتٍ مُتنوِّعة أو مُتقطعة، لا يكون الخطأ الذي نرتكبه خطأً في التعبير فحسب، بل يكون مصحوبًا في العادة باعتقادٍ بشيءٍ وَهْمي، إما ثابت غير متقطع، وإما غامض يستحيل تفسيره. أو يكون على الأقل مصحوبًا باستعدادٍ لتقبُّل مثل هذه الأوهام. ثُم ينتقل هيوم ليُبيِّن كيف يعمل هذا الاستعداد، ويُقدِّم من خلال علم النفس الترابُطي تفسيرًا للطريقة التي تطرأ بها على أذهاننا تلك الفكرة التي نعتقد أنها فكرة الهوية الشخصية.
وسوف نعود بعد قليلٍ إلى مبدأ الترابُط، أما التِجاؤنا إلى اقتباس نصوصٍ مطولة من هيوم، فيكفينا عُذرًا فيه رشاقة أسلوبه، هذا فضلًا عن أنه ليس ثَمَّة طريقةٌ أفضل وأوضح لعرْض المشكلة من طريقة هيوم ذاته. والواقع أن هذا الوضوح ذاته قد استنَّ سُنة حميدة في الكتابة الفلسفية في بريطانيا، وإن كان من الجائز أنَّ أحدًا لم يستطع أن يُجاري هيوم في كمال أسلوبه.
أما المسألة الثانية التي يتعيَّن علينا بحثُها فهي نظرية العِلِّية عند هيوم. فالعقليون يرَون أن الرابطة بين العِلَّة والمعلول سِمة كامنة في طبيعة الأشياء؛ مثال ذلك ما رأيناه عند اسبينوزا من اعتقاده بأن من المُمكن، إذا ما تأمَّلنا الأشياء بقدْرٍ كافٍ من الرحابة والاتساع، أن نُثبِتَ بطريقةٍ استنباطية أنَّ كل الظواهر ينبغي أن تكون على ما هي عليه، وإن كان من المُعترَف به عادة أن الله وحده هو القادر على رؤية الأشياء من هذا المنظور. أما في نظرية هيوم فإنَّ مثل هذه الروابط السببية لا يمكن معرفتها، وذلك لسببٍ مُشابِهٍ جدًّا لذلك الذي قدَّمناه عند نقد فكرة الهوية الشخصية. أما مصدر نظرتنا الباطلة إلى طبيعة هذه الرابطة فيكمُن في استعدادنا لأن ننسِبَ الارتباط الضروري للأطراف التي تُكوِّن تعاقُبات مُعيَّنة من الأفكار.
ويُقدِّم هيوم بعد ذلك تفسيرًا نفسيًّا للطريقة التي نتوصَّل بها إلى علاقة العِلِّية من التجربة. فالارتباط المُتكرِّر لموضوعَين من نوعٍ مُعين في الإدراك الحسِّي يكون عادةً ذهنيةً تؤدي بنا إلى الربط بين الفكرتَين اللتين تُنتجهما الانطباعات. وعندما تبلغ هذه العادة حدًّا كافيًا من القوة، فإن مجرد ظهور موضوعٍ واحدٍ في الحس يستدعي في الذهن ترابط الفكرتَين. فليس في هذا شيء حتمي أو ضروري، وإنما العِلِّية، حسْب تعبيره، عادة ذهنية.
على أنَّ معالجة هيوم ليست مُتَّسقة كل الاتساق؛ ذلك لأننا قد رأينا من قبل أن الترابُط ذاته يُوصَف بأنه ناشئ عن العِلِّية، على حين أن العِلِّية هنا تفسر من خلال الترابط. ومع ذلك فإن مبدأ الترابط، من حيث هو تفسير لطريقة تولُّد العادات الذهنية، أداة مفيدة للتفسير السيكولوجي، ما زال لها تأثيرها الهام. أما بالنسبة إلى هيوم ذاته، فليس من حقِّه في الواقع الكلام عن عادات أو استعدادات ذهنية، أو على الأقل ليس من حقِّه الكلام عن تكوينها. ذلك لأنه في اللحظات التي كان فيها يلتزِم الدقة الكاملة، كان يصِف الذهن، كما رأيْنا، بأنه مجرد تعاقُب للإدراكات. وهكذا لا يُوجَد شيء يمكنه تنمية عادات، كما لا ينفع القول إنَّ تُعاقبات الإدراكات تؤدي واقعيًّا إلى تطوير أنماطٍ مُعينة، ما دام التعبير ذاته، حتى في صورته المجردة، يتمُّ عن غموض، ما لم يكن في وُسعِنا، على نحوٍ ما، أن نجعل ذلك التطوير يبدو أكثر من مجرد صُدفة موفَّقة.
إن من الواضح قطعًا أنَّ ضرورة الارتباط بين العِلَّة والمعلول، كما يُطالِب بها العقليون، لا يمكن أن تُستخلَص من نظرية المعرفة عند هيوم؛ ذلك لأننا مهما صادَفْنا من تجمُّعات دائمة ومنتظمة، لن نستطيع أن نقول في أية مرحلة إنَّ انطباع الضرورة قد أضيف إلى تعاقُبات الانطباعات. وهكذا يستحيل قيام فكرة عن الضرورة. ولكن لمَّا كان بعض الناس عقليين، ومَيَّالين إلى الرأي المُخالف، فلا بدَّ أن تكون هناك آلية نفسية مُعينة هي التي تُضلِّلهم. وهنا بالضبط يأتي دَور العادات الذهنية. فالتجربة تعوِّدُنا على أنْ نرى النتائج تترتَّب على أسبابها العديدة، بحيث ننقاد في نهاية المطاف إلى الاعتقاد بأنَّ الأمر لا بدَّ أن يكون كذلك. ولكن هذه الخطوة الأخيرة هي التي يستحيل تبريرُها إذا ما قبِلْنا مذهب هيوم التجريبي.
ويختم هيوم مناقشته للعِلِّية بوضع قواعد نحكُم بها على العِلَل والمعلومات. وهو هنا يستبِق بمائة عامٍ قواعد الاستقراء عند جون إستورت مل. ولكن هيوم يستعيد، قبل عرض هذه القواعد، بعضًا من السِّمات الرئيسية للعِلية. فهو يقول: «إن أي شيء يمكنه أن يُنتِج أيَّ شيء.» وبذلك يُذكِّرنا بعدم وجود ما يُسمَّى بالارتباط. أما القواعد ذاتها فعددها ثمانية. أولها تنصُّ على أن «العِلة والمعلول ينبغي أن يكونا مُتجاورَين في المكان والزمان.» والثانية هي أنَّ «السبب يجِب أن يسبِقَ النتيجة.» والثالثة هي أن «من الضروري وجود تلازُمٍ دائم بين السبب والنتيجة.» وتلى ذلك عدة قواعد فيها استباق لقوانين مل؛ ففي القاعدة الرابعة، يقول إنَّ السبب الواحد يُنتِج دائمًا نتيجةً واحدة، وهو مبدأ يقول هيوم إننا نستمدُّه من التجربة. وتترتَّب على ذلك القاعدة الخامسة، التي تقول إنه حيثما يكون لأسبابٍ مُتعددة نتيجة واحدة، لا بدَّ أن يحدُث ذلك عن طريق شيء مُشترك بين هذه الأسباب جميعًا، وبالمثل نستدلُّ على القاعدة السادسة التي تقول إنَّ الاختلاف في النتيجة يكشِف عن اختلافٍ في السبب. أما القاعدتان الأخيرتان فلا داعيَ لذِكْرهما هنا.
إن النتيجة التي يؤدي إليها بحث هيوم للمعرفة هي موقف الشك. ولقد رأيْنا من قبل أن شكَّاكي العصور القديمة كانوا مُعارضين لأصحاب المذاهب الميتافيزيقية. على أنَّ لفظ «الشكَّاك» لا ينبغي أن يُفهَم بالمعنى الشعبي الذي اكتسبَه منذ ذلك الحين، والذي يُوحي بنوعٍ من التردُّد المزمِن، فاللفظ اليوناني الأصلي يَعني ببساطةٍ شخصًا يبحث بعنايةٍ ودقة. فعلى حين أنَّ أصحاب المذاهب كانوا يشعُرون بأنهم وجدوا إجاباتهم، كان الشكَّاك أقلَّ تأكُّدًا، ومن ثَمَّ فقد واصلوا البحث، ولكن بمُضِي الوقت أصبح الاسم الذي يعرفون به يدلُّ على افتقارهم إلى الثِّقة، أكثر مما يدلُّ على استمرارهم في البحث. وبهذا المعنى كانت فلسفة هيوم شكاكة. ذلك لأنه، كالشكَّاك، توصَّل إلى النتيجة القائلة إنَّ هناك أشياء مُعينة نأخذها في حياتنا اليومية قضيةً مُسلَّمًا بها، بينما لا يمكن تبريرها على أي نحو. وبالطبع ينبغي ألا يتخيَّل المرء أنَّ الشكَّاك عاجز عن أن يتَّخِذ موقفًا مُحددًا إزاء المشاكل الجارية التي تُواجِهه خلال مسار الحياة اليومية. ولذا فإنَّ هيوم، بعد أن عرض موقف الشك، صرَّح بوضوحٍ قاطع بأنَّ هذا لا يؤدي إلى الوقوف في وجه أعمال المرء العادية: «لو سئلتُ هنا عما إذا كنتُ أوافق بصِدقٍ على هذه الحُجَّة، التي يبدو أنَّني أُجهِد نفسي من أجل دعمها، وعمَّا إذا كنتُ بحقٍّ واحدًا من هؤلاء الشكَّاكين الذين يرَون أن كل شيءٍ غير مؤكد، وأنَّ حُكمنا على أي شيء لا يتَّسم بأي قدْر من الحقيقة أو البُطلان، لأجبتُ أن هذا السؤال لغوٌ في صميمه، وأنَّني لم أكن أبدًا أقول بهذا الرأي بإخلاصٍ وثبات، ولا كان أي شخص آخر يقول به. فقد حتَّمتْ علينا الطبيعة، بحُكم ضرورة مُطلقة وقاهرة، أن نُصدر أحكامًا مثلما نتنفَّس ونشعُر … أما ذلك الذي يُجهد نفسه من أجل تفنيد أخطاء هذا الشكِّ الكامل، فإنه في الواقع قد دخل في نزاعٍ ليس له فيه مُعارض …»
أما عن نظرية الأفكار التي عرضَها لوك، فإنَّ تطوير هيوم لها يُبيِّن بجلاءٍ تام إلى أين تؤدي مثل هذه النظرية في النهاية. ذلك لأنَّ المرء لا يستطيع أن يسير في هذا الطريق أبعدَ من ذلك. أما إذا كان المرء يعتقد أننا عندما نتحدَّث عادةً عن العِلِّية لا نعني ما يقول هيوم إنَّنا نَعنيه أو ينبغي أن نَعنيه، فعندئذٍ يكون من الضروري البدء من جديد. فمن الواضح تمامًا أنه لا العلماء ولا الإنسان العادي ينظُرون إلى العِلِّية على أساس أنها تَلازُم دائم فحسْب. أما ردُّ هيوم على هذا فهو أنهم جميعًا على خطأ إذا كانوا يقصدون شيئًا آخر، ولكن ربما كان هيوم يستبعِدُ موقف العقليين باستخفافٍ زائد عن الحد. ذلك لأنَّ المذهب العقلي يصِف على نحوٍ أفضلَ بكثيرٍ ما يقوم به العالم، وهذا ما اتَّضح لنا في حالة اسبينوزا. إن هدف العِلم هو عرض العلاقات السببية من خلال نَسَقٍ استنباطي تلزَم فيه النتائج عن الأسباب مِثلما تلزم نتيجة البرهان الصحيح عن مقدماته، أي أنها تلزم بالضرورة. ولكن نقد هيوم يظلُّ صحيحًا بالنسبة إلى المُقدِّمات ذاتها، فلا بدَّ أن نظلَّ نلتزم موقفًا فاحِصًا أو شكاكًا من هذه المُقدِّمات.
لقد ذكرنا من قبل أنَّ اهتمام هيوم الأول يتركز في علم الإنسان. وهنا يؤدي موقف الشك إلى تغييرٍ جذري في ميداني الأخلاق والدين؛ ذلك لأننا، ما إن نُثبِت عدم قُدرتنا على معرفة الارتباطات الضرورية، حتى تتهاوى قوة الأوامر الأخلاقية بدَورها، وذلك على الأقل إذا كان من المرغوب فيه تبرير المبادئ الأخلاقية بحُجج عقلية. فهنا يُصبح أساس الأخلاق مُماثلًا في ضَعفه للسببية ذاتها عند هيوم. ولكن هيوم نفسه يعترِف بأنَّ هذا سيجعلُنا، من الوجهة العملية، أحرارًا في اتِّخاذ أيِّ رأيٍ نشاء، حتى لو لم يكن في وُسعنا تبريره.