عصر التنوير والرومانتيكية
ولقد كانت حركة التنوير مُرتبطة أيضًا بانتشار المعرفة العلمية. فعلى حين كان الناس في الماضي يُسلِّمون بأمورٍ كثيرة ارتكازًا إلى سلطة أرسطو والكنيسة، أصبح الاتجاه الجديد هو الاقتداء بآراء العلماء. وكما أنَّ البروتستانتية قد طرَحت، في الميدان الديني، الفكرة القائلة إنَّ كل شخص ينبغي أن يتصرَّف حسب تقديره هو، فكذلك أصبح من واجب الناس الآن، في الميدان العلمي، أن يتطلعوا إلى الطبيعة بأنفسهم، بدلًا مِن أن يضَعوا ثقتَهم العمياء في أقوال أولئك الذين كانوا يُدافعون عن النظريَّات البالية. وهكذا بدأت كشوف العِلم تُغيِّر وجه الحياة في أوروبا الغربية.
وعلى حين أنَّ الثورة الفرنسية سحقتِ النظام القديم، آخِر الأمر، في فرنسا، فإنَّ ألمانيا كانت خاضعةً طوال مُعظم سنوات القرن الثامن عشر، لمُستبدِّين «عادلين». كانت حرية الرأي مكفولة بقدْرٍ ما، وإن كانت قد اعترضتْها مُعوِّقات كثيرة. وعلى الرغم من كل ما كانت تتَّسم به بروسيا من طبيعة عسكرية، فإنها ربما كانت تُمثل أفضل حالةٍ لبلدٍ بدأ يظهر فيه شكلٌ من أشكال الليبرالية، في الميدان الثقافي على الأقل. فقد كان فردريك الأكبر يصِف نفسه بأنه الخادم الأول للدولة، وسمح لكلِّ شخصٍ بحرية البحث عن الخلاص لنفسه على طريقته الخاصة، داخل حدود الدولة.
لقد كان عصر التنوير في جوهره عودةً إلى تقدير النشاط العقلي المُستقل، تستهدِف — بالمعنى الحرفي — نشر النور حيث كان الظلام يسُود من قبل. ومن الجائز أن الناس كانوا يسْعَون إلى نشر هذا النور مدفوعين برُوحٍ من التفاني والحماس، غير أنَّ سعيَهم هذا لم يكن يُمثل أسلوبًا في الحياة يرتكز على الانفعالات العارمة. ومع ذلك فقد بدأ يظهر عندئذٍ تأثير قوَّةٍ مضادة: هو القوة العاتية للرومانتيكية.
إنَّ بين الحركة الرومانتيكية وحركة التنوير علاقة تُذكرنا في نواحٍ مُعينة بالنظرة الديونيزية في مقابل الأبولونية. فجذورها ترجع إلى ذلك التصوُّر المُصطبِغ بصبغةٍ مثالية، والذي كوَّنه عصر النهضة عن اليونان القديمة. وقد تطوَّرت الحركة في فرنسا خلال القرن الثامن عشر بحيث أصبحت عبادة للانفعالات، وكانت في هذا التطوُّر تُمثل ردَّ فعلٍ على الموضوعية الباردة المُترفِّعة لدى المُفكرين العقليين. وبينما كان الفكر السياسي لدى العقليين يسعى، منذ أيام هبز، إلى إقرار الاستقرار الاجتماعي والسياسي والمحافظة عليه، فقد كان الرومانتيكيُّون يفضلون العيش في خطر، ومن هنا أخذوا يبحثون عن المُغامرات بدلًا من السعي إلى الأمان، واحتقروا الراحة والسلامة على أساس أنها تَحُطُّ من قدْر الإنسان، ورأوا — نظريًّا على الأقل — أنَّ الحياة المُعرضة للخطر هي الأسمى. وهكذا انبثقت الفكرة المُصطبِغة بالصِّبغة المثالية، فكرة الفلاح الفقير الذي يحيا حياة شظَفٍ من جهده الذي يبذُله في قطعة أرضه الصغيرة، ولكنه يُعوَّض عن هذا بأن يعيش حرًّا، ويظلَّ بمنأًى عن فساد حضارة المدن. لقد كانوا يُولون قيمةً خاصة للاحتفاظ بالصِّلة الوثيقة مع الطبيعة، وكان نوع الفقر الذي يتحمَّسون له ريفيًّا في جوهره، أما حركة التصنيع فكانت لعنةً في نظر الرومانتيكيين الأوائل، ولقد كانوا في ذلك على حقٍّ لأن الثورة الصناعية جلبتِ الكثير من القُبح، على المُستويَين الاجتماعي والمادي، ولكن في العقود التالية ظهرت نظرةٌ رومانتيكية إلى الطبقة العاملة الصناعية، بتأثير الماركسية، ومنذ ذلك الحين تمت الاستجابة للكثير ممَّا كان يشكو منه العمال الصناعيُّون. ومع ذلك فإن النظرة الرومانتيكية إلى «العامل» ما زالت سائدةً في السياسة.
لقد ازدرى الرومانتيكيُّون كلَّ ما له علاقة بالمنفعة، وارتكزوا في كلِّ شيءٍ على المعايير الجمالية، وهذا ينطبق على آرائهم في السلوك والأخلاق، وكذلك في المسائل الاقتصادية، إن كانت هذه المسائل قد طافَتْ بفكرهم. وفيما يتعلَّق بأوجُه الجمال في الطبيعة، كان مَيلهم يتَّجِه إلى الجمال العنيف والمُترفِّع، وقد بدَتْ لهم حياة الطبقة الوسطى مُملَّة مُقيَّدة بأعرافٍ خانقة. والحق أنهم كانوا في هذا الرأي على حق. وإذا كنَّا قد أصبحْنا اليوم أكثر تسامُحًا بالنسبة إلى هذه القيود، فإنَّ من أهمِّ أسباب ذلك تمرُّد الرومانتيكيِّين الذين تحدَّوا أعرافَ عصرهم.
ويمكن القول إنَّ الرومانتيكية قد مارستْ تأثيرها من الوجهة الفلسفية في اتِّجاهَين مُتعارضَين، فهناك أولًا التأكيد المُفرِط للعقل، ومعه الأمل الهادئ في أننا لو أعملْنا عقلَنا بمزيدٍ من القوة في المشكلات التي تُواجهنا، لَحُلَّت كافَّة صعوباتنا إلى الأبد. هذا النوع من العقلانية الرومانتيكية، الذي لم يكن يعرفه مُفكرو القرن السابع عشر، يظهر في أعمال المِثاليِّين الألمان، وبعدَهم في فلسفة ماركس. كذلك يظهر تأثيره لدى النفعيين، وذلك في افتراضهم أنَّ الإنسان، بالمعنى المُجرد، قابل للتشكُّل إلى غير حدٍّ عن طريق التعليم، وهو أمر واضح البطلان. والواقع أنَّ الأفكار الطوباوية بوجهٍ عام، سواء أكانت ثقافيةً خالصة أم مُنتمية إلى الميدان الاجتماعي، إنما هي نواتج تُمثل العقلانية الرومانتيكية خيرَ تمثيل. ومع ذلك فقد أدَّت الحركة الرومانتيكية ذاتها إلى الإقلال من قدْر العقل. ويمكن القول إنَّ هذا الموقف اللاعقلي، الذي ربما كانت الوجودية أشهر مظاهره، هو في جوانب مُعينة تمرُّد على العدوان المتزايد الذي كان يُمارسه المُجتمع الصناعي على الفرد.
وعلى أساس هذه النظرية اتَّخذ هؤلاء الماديُّون مواقف مستقلة تمامًا عن الدين، الذي رأوا أن طريقة نشره تحمِل أخطارًا يُشجِّع عليها الحُكام والقساوسة تحقيقًا لمصالحهم الخاصة، ما دام من الأسهل لهم أن يتحكموا في الجهلاء. وفي هذا أيضًا كان ماركس مدينًا للماديين عندما تحدَّث عن الدين بوصفه أفيونًا للشعب. ولقد كان الهدف من حملة الماديين على التفكير الدِّيني والميتافيزيقي هو دعوة الناس إلى طريق العِلم والعقل الذي يمكن أن يؤدي إلى إقامة شكلٍ من أشكال الفردوس على الأرض، وهم في ذلك يشتركون مع «الموسوعِيين»، كما أنَّ الاشتراكية الطوباوية عند ماركس تستلهِم هذه الأفكار أيضًا، ولكن يمكن القول إنَّ الجميع كانوا في هذه الناحية ضحايا لوَهْمٍ رومانتيكي. ومع الاعتراف بصحة الرأي القائل إن اتخاذ موقفٍ مُستنير من الحياة ومشاكلها يقدِّم إلينا عونًا هائلًا في سَعيِنا إلى إيجاد حلولٍ مناسبة نتغلب بها على صعوباتنا، فمن الواضح أنَّ الحلول النهائية الدائمة لكافة المشكلات لا يمكن أن تنتمي إلى هذا العالم.
لقد كان ما حرص هؤلاء المفكرون جميعًا على تأكيده هو أولوية العقل. ولكن بعد الثورة الفرنسية التي زعزعتْ أركان العقيدة السائدة، اخترع الناس «كائنًا أسمى»، كان يُخصَّصُ للاحتفال به يومٌ معين. وكان ذلك في جوهره تأليهًا للعقل، وفي الوقت نفسه لم تُبدِ الثورة احترامًا كبيرًا للعقل في مسائل مُعينة أخرى، فقد حوكم لافوازييه، مؤسس الكيمياء الحديثة أمام محكمة ثورية في عهد الإرهاب، وكان قد اقترح قبل ذلك إصلاحاتٍ ضريبيةً مفيدة عندما كان مشرفًا على شئون الزراعة، ولكن مجرَّد شَغلِه منصبًا في النظام القديم، جعلهم يتَّهِمونه بارتكاب جرائم ضدَّ الشعب. وحين قيل للمحكمة إنه من أعظم العلماء، ردَّت بأن الجمهورية لا حاجة بها إلى العلماء، وهكذا قطعت رأسه بالمِقصلة.
إنَّ الموسوعة هي، في نواحٍ معينة، رمز لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفيها ينصبُّ الاهتمام على المناقشة العقلية الهادئة، بينما الهدَف منها هو تحقيق مُستقبلٍ جديد أكثر سعادة للبشر، ولكن في نفس الوقت الذي ظهرت فيه الموسوعة نمَتْ حركة رومانتيكية مُعادية للعقل، كان من أبرز مُمثليها جان جاك روسو (١٧١٢–١٧٧٨م). ولم يكُن روسو فيلسوفًا بالمعنى الدقيق، إذا جاز لنا أن نستثنِيَ أعماله في ميدان النظرية السياسية والتربية، وهي الأعمال التي كان لها، بالإضافة إلى سائر جوانب نشاطه الأدبي الواسع، تأثيرٌ كبير في الحركة الرومانتيكية فيما بعد.
ويُقدِّم إلينا روسُّو سجلًّا لحياته الخاصة في كتاب الاعترافات، وإنْ كانت القصة التي يَرويها قد شُوِّهَت إلى حدٍّ ما بفعل المُبالغات الشاعرية. وقد وُلِد روسو في جنيف، لأسرة كالفينية، ومات والداه وهو في سنٍّ مُبكرة فرُبِّيَ على يد إحدى عمَّاته. وبعد أن ترك المدرسة في الثانية عشرة جرَّب العمل في عدة مِهَن مختلفة، ولكن لم ترُقْ له واحدةٌ منها. وفي السادسة عشرة رحل عن بيته هاربًا، وفي تورينو اعتنق الكاثوليكية لأسبابٍ مصلحية، وظلَّ يعتنقها بعضَ الوقت، ثم التحقَ بخدمة إحدى السيدات الشهيرات، ولكنه وجدَ نفسه مرةً أخرى على قارعة الطريق حين تُوفِّيَت هذه السيدة بعد ثلاثة أشهر، وفي هذه المناسبة وقعَتْ حادثة مشهورة تكشِف عن الموقف الأخلاقي للشخص الذي يعتمد على أحاسيسه وحدَها. فقد تبيَّن أن روسو كان يملك وشاحًا سرَقَه من السيدة التي كان يعمل عندها. وزعم روسُّو أن خادمةً قد أعطتْه إيَّاه، فلقِيَت هذه الخادمة جزاءها على سرقتها. ولكن روسُّو يقول في «الاعترافات» إنَّ ما دفعه إلى هذا العمل كان تعلُّقه بالفتاة مما جعلها أول من يخطُر بباله حين طُلِب إليه أن يقدِّم تفسيرًا. ولا تتضمَّن الاعترافات أية إشارة إلى أنَّ ضميره أنَّبَه. وهو لا يُنكر بالطبع أنه أدلى بشهادةٍ كاذبة، ولكن عُذره، على الأرجح، هو أنه لم يفعل ذلك بِنِيةٍ سيئة.
ولم يُصبح روسو معروفًا بوصفه كاتبًا إلا في عام ١٧٥٠م؛ ففي هذه السنة نظَّمَت جامعة ديجون مسابقة سهلةً حول مسألةِ ما إذا كانت الآداب والفنون قد أفادت البشرية، فنال روسو الجائزة ببحثٍ أجاب فيه عن السؤال بالنَّفي، ولكن بحُجَجٍ بارعة، فقال إنَّ الثقافة عوَّدت الناس على حاجات غير طبيعية أصبحوا عبيدًا لها.
وأيَّدَ موقف إسبرطة في مُقابل أثينا، وأدان العِلم لأنَّ الدوافع التي أدَّت إلى ظهوره كانت هابطة. وذكر أنَّ الإنسان المُتحضِّر فاسد، أما الفاضل بحقٍّ فهو الهمجي النبيل، وقد توسَّع روسو بعد ذلك في هذه الآراء في كتابه «بحث في اللامُساواة» (١٧٥٤م). ولكن فولتير، عندما وصلتْهُ نسخة من الكتاب في العام التالي، كالَ السخرية والازدِراء للمؤلف، وهي إهانة أدَّت إلى تشاحُنهما فيما بعد.
وفي عام ١٧٥٤م قَبِل روسو دعوة للعودة إلى بلده الأصلي، جنيف، وعاد إلى الكالفينية لكي يستطيع الحصول على الجنسية. وفي عام ١٧٦٢م ظهر كتاب «إميل» وهو بحث في التربية، كما ظهر كتاب «العقد الاجتماعي» الذي عرض فيه نظريَّته الاجتماعية. وقد أُدِين الكتابان: الأول بسبب العرْض الذي قدَّمه للدِّين الطبيعي، والذي أغضب جميع الهيئات الدِّينية على السواء، والثاني بسبب اتِّجاهه الديمقراطي. وقد فرَّ روسُّو إلى نيو شاتل أولًا، ثم إلى بروسيا، وبعد ذلك إلى بريطانيا، حيث قابل هيوم، بل حصل على معاشٍ من الملك جورج الثالث. ولكنه في النهاية تشاجر مع الجميع وتكوَّنت لدَيه عقدة اضطهاد جنونية، فعاد إلى باريس حيث قضى سنواته الأخيرة في فاقةٍ وبؤس.
كان دفاع روسو عن المشاعر في مقابل العقل واحدًا من المؤثِّرات القوية التي شكَّلت الحركة الرومانتيكية. كما كان من نتائجه رسم طريقٍ جديد للاهوت البروتستنتي يُفرِّق بينه بوضوح وبين المذهب التوماوي الذي تابع التُّراث الفلسفي للقدماء. كان الطريق البروتستنتي الجديد يستغني عن براهين وجود الله، ويجعل الشعور بهذا الوجود نابعًا من قلب الإنسان دون مساعدة من العقل. وبالمِثل رأى روسو، في ميدان الأخلاق، أنَّ مشاعرنا الطبيعية تَهدينا إلى الطريق الصحيح، على حين أنَّ العقل يُضلِّلنا. ولا شكَّ أن هذا الموقف الرومانتيكي مُضاد تمامًا لأفلاطون وأرسطو والحركة المدرسية، وهو نظرية شديدة الخطورة، لأنها عشوائية تمامًا، وتُقرُّ أيَّ نوع من الفعل ما دام يرتكز على دعائم انفعالية لدى فاعله. ولقد جاء العرْض الذي قدَّمه روسو للدين الطبيعي في ثنايا كتاب «إميل» وعُرِض بتوسُّع في «اعترافات قسٍّ من سافوي». والواقع أنَّ اللاهوت العاطفي الجديد الذي أتى به روسو لا يمكن مُهاجمته، بمعنًى مُعيَّن، لأنه يقطع صِلته بالعقل على طريقة أوكام، منذ البداية الأولى.
أما كتاب «العقد الاجتماعي» فقد كُتب بروحٍ مختلفة؛ إذ نجد فيه روسو في أحسن حالات كتابته النظرية. وفيه يقول إنَّ الأفراد حين يُفوِّضون حقوقهم للجماعة ككُل، يفقدون جميع حُرِّياتهم. صحيح أن روسو يترك مجالًا لنوع من التحوُّط، حين يقول إن الإنسان يحتفظ بحقوقٍ طبيعية مُعينة، ولكن هذا يتوقَّف على افتراضٍ مشكوكٍ فيه، هو أنَّ الحاكم سيحترِم هذه الحقوق على الدَّوام، بينما الحاكم نفسه غير خاضعٍ لأية سُلطة أعلى، وإرادته هي «الإرادة العامة»، وهي نوع من الحُكم المركَّب الذي يُنفَّذ قسرًا على أولئك الذين قد لا تتَّفِق معه إرادتُهم الفردية.
وعلى الرغم من أنَّ الكثير يتوقَّف على المقصود بالإرادة العامة، فإنَّ روسو لسُوء الحظِّ لا يشرحها بتوسُّع. ويبدو أنَّ المقصود بالنظرية هو أنَّنا، إذا تركنا جانبًا المصالح المُتعارضة للأفراد، يبقى من وراء ذلك نوع من المصلحة الذاتية يشتركون فيه جميعهم. ولكن روسو لا يُتابع هذه الفكرة أبدًا حتى يستخلِص نتائجها النهائية. وهو يرى أنَّ الدولة التي تسير وفقًا لهذه المبادئ لا بدَّ لها أن تحظُر أي نوع من التنظيمات الخاصة، وخاصةً تلك التي تستهدف غاياتٍ سياسية واقتصادية، وهكذا تكتمِل لدَينا جميع عناصر نظام شمولي، وعلى الرغم من أنَّ روسو يبدو على وعيٍ بذلك، فإنه لا يُبيِّن لنا كيف يمكن تجنب هذه النتائج. أما عن إشاراته إلى الديمقراطية فلا بدَّ أن نفهم منها أنه كان يتحدَّث عن مدينة الدولة القديمة، لا عن الحكومة النيابية. وبالطبع فقد أُسيء فَهم الكتاب أولًا في أوساط أولئك الذين عارضوا نظرياته، وفيما بعدُ في أوساط زعماء الثورة الذين أيَّدوه.
لقد اتَّخذ التطوُّر الذي طرأ على الفلسفة الأوروبية بعد ديكارت، كما رأيْنا، اتِّجاهَين مُختلفين؛ فهناك من جهةٍ مختلف المذاهب العقلية التي ظهرَتْ في القارة الأوروبية، وهناك من جهةٍ أخرى الخطُّ العام للتجريبية الإنجليزية، ويتَّصِف الاتِّجاهان معًا بالذاتية، من حيث إنهما مَعنِيَّان بالتجربة الخاصة. فقد أخذ لوك على عاتقه مهمَّة القيام ببحثٍ أولي لمعرفة نطاق الذهن البشري. وكانت المشكلة الكبرى، التي أبرزها هيوم على أوضح نحو، هي كيفية تفسير الروابط بين الظواهر، وكانت إجابة هيوم هي أنَّنا نُكوِّن عاداتٍ مُعينة تجعلنا نرى الأشياء مُرتبطة. وكما أوضحْنا من قبل، فقد تجاوز هيوم حتى في قوله هذا، ما تسمَح مُقدِّماته به، لو التزَم الدقة التامَّة، ومع ذلك فإن في هذه العبارة إشارةً إلى إحدى الطرُق الممكنة لحلِّ هذه الصعوبة. والواقع أنَّ قراءة «كانْت» لهيوم هي التي أيقظتْه من سُباته الدجماطيقي (اليقيني الجامد)، فقد ارتقى كانْت بتلك العادة التي تحدَّث عنها هيوم إلى مرتبة المبدأ العقلي، وبذلك تخلَّص ببساطةٍ من مشكلة هيوم، وإن كان قد كبَّل نفسه بالطبع بصعوباتٍ أخرى جديدة خاصة به.
كانت أعمال «كانْت» تشمل موضوعاتٍ شديدة التنوُّع، كان يُحاضر فيها جميعًا في وقتٍ ما، والقليل من هذه الأعمال هو الذي ظلَّ مُحتفظًا بأهميته حتى يومِنا هذا، إذا استثنَينا نظريةً في نشأة الكون بُنِيت بأكملها على أساس فيزياء نيوتن، وأبدى فيها آراء قال بها فيما بعدُ لابلاس بصورةٍ مستقلة، ولكن الذي يُهمُّنا هنا بوجهٍ خاص هو فلسفة كانْت النقدية. والواقع أنَّ لوك كان أول من طرَح المشكلة النقدية، رغبةً منه في تطهير الأرض، ولكن مسار الأفكار بعد لوك أدَّى بطريقةٍ حتمية إلى مذهب الشكِّ عند هيوم. أما كانْت فقد استحدث ما أسماه «ثورة كوبرنيكية» في هذا الميدان؛ ذلك لأنه بدلًا من أن يحاول أن يُفسِّر المفاهيم العقلية على أساس التجربة، كما فعل هيوم، شرع في تفسير التجربة على أساس المفاهيم العقلية. ويمكن القول بمعنًي مُعين إن فلسفته كانت تُقيم توازُنًا بين الموقف المُتطرِّف للتجريبية الإنجليزية من جهة، والمبادئ الفطرية التي قال بها المذهب العقلي الديكارتي من جهةٍ أخرى. وعلى الرغم من أنَّ نظريتَه كانت صعبة ومُعقَّدة وقابلة للنقد في كثيرٍ من جوانبها، فإنَّ من واجبنا أن نُحاول استيعاب خطوطها العامة إذا ما شئنا أن نفهم ذلك التأثير الهائل الذي مارسَتْه على التطوُّر الفلسفي اللاحق.
لقد اتَّفق كانْت مع هيوم والتجريبيِّين في القول إنَّ كلَّ معرفةٍ إنما تبدأ من التجربة، ولكنه أضاف، على خلافهم، ملاحظةً هامة إلى هذا الرأي، هي أنَّ من الواجب التمييز بين ما يُنتِج المعرفة بالفعل، والصورة التي تتَّخِذها تلك المعرفة. وعلى ذلك، فرغم أنَّ المعرفة تنشأ عن طريق التجربة، فإنها لا تُستمَدُّ منها وحدَها. ويُمكننا التعبير عن هذه الفكرة على نحوٍ مختلف بالقول إنَّ التجربة الحِسِّية شرط ضروري للمعرفة، ولكنها ليستْ شرطًا كافيًا لها؛ فالصورة التي تتَّخذها المعرفة، ومبادئ التنظيم التي تُحوِّل المادة الخام للتجربة إلى معرفة، هي ذاتها لا تُستمَد، في رأي كانْت، من المعرفة. ومن الواضح أن هذه المبادئ فطرية بالمعنى الذي قال به ديكارت، وإن لم يكن كانْت قد قال بذلك.
وقد أطلق كانت اسم «المقولات» — وهو مصطلح أرسطي — على المبادئ العامة للعقل، التي يُضفيها الذِّهن من عنده من أجل تشكيل التجربة في صورة معرفة. ولمَّا كانت المعرفة تتَّخِذ شكلَ قضايا، فلا بدَّ أن تكون هذه المقولات مُرتبطةً بصورة القضايا. ولكن علينا قبل أن نُبيِّن كيف استمدَّ كانْت مقولاته، أن نتوقَّف لبحْث مسألةٍ هامة مُتعلقة بتصنيف القضايا. فقد كان «كانْت» يُتابع ليبنتس في قبوله للمنطق الأرسطي التقليدي، منطق الموضوع والمحمول، بل إنه أعتقدَ أن هذا المنطق كامل يستحيل إدخال تحسينٍ عليه. وعلى هذا الأساس، فمن الممكن التمييز بين قضايا يكون الموضوع فيها مُتضمِّنا للمحمول، وأخرى لا تكون كذلك. فالقضية «كل الأجسام مُمتدَّة» من النوع الأول، لأنها تُعبِّر عن الطريقة التي يَتمُّ بها تعريف مفهوم «الجسم» ومثل هذه القضايا تُسمَّى تحليلية، وكل ما تفعله هو أنها تشرَح الألفاظ أو تُوضِّحها. أما القضية «كل الأجسام لها وزن» فهي من النوع الثاني؛ ذلك لأنَّ فكرة الجسم لا تنطوي في ذاتها على وجود صفة الوزن؛ ولذا فإنَّ هذه قضية تركيبية ومن المُمكن إنكارها دون الوقوع في تناقُضٍ ذاتي.
وهناك مثَل آخر هام هو مبدأ السببية. فقد تعثَّر التفسير الذي قدَّمه هيوم أمام عقبة الارتباط الضروري، الذي يبدو مُستحيلًا في إطار نظرية الانطباعات والأفكار. أما عند كانْت فإن السببية مبدأ تركيبي قبلي، وليس وصفُ السببية بأنها قبلية إلا تأكيدًا لرأي هيوم القائل إنها لا يمكن أن تُستمَدُّ من التجربة، ولكن كانْت لم يصِفْها بأنها عادة تتحكم فيها شروط خارجية، وإنما نظَرَ إليها على أنها مبدأ مَعرفي، وهي تركيبية لأننا نستطيع إنكارها دون أن نقَع في تناقُض ذاتي لفظي، ومع ذلك فإنها مبدأ قبلي تركيبي يستحيل بدُونه قيام المعرفة، كما سنرى بعد قليل.
ولسْنا بحاجةٍ إلى الخَوض في تفاصيل استنباط كانْت للمقولات، كما أنه ليس من الصعب أن نرى أنَّ قائمة المقولات عند كانْت لم تكن مُكتملة كما تصوَّر، ما دامت تعتمد على نظرةٍ ضيقة إلى حدٍّ ما إلى المنطق. ولكن فكرة التصوُّرات العامة، والتي لا تُستمَدُّ من التجربة، ومع ذلك يكون لها تأثيرها في ميدان التجربة، تظلُّ فكرةً لها أهميتها الفلسفية. وهي تُزوِّدنا بإحدى الإجابات عن مشكلة هيوم، وإنْ كان في وُسع المرء ألَّا يقبل العرْض الذي قدَّمه لها كانْت.
وبعد أن استنبط كانْت قائمة مقولاته على أسُسٍ شكلية، انتقل إلى إثبات أنَّ من المستحيل، بغَير المقولات، قيامَ أيَّةِ تجربة يمكن نقلُها إلى الآخرين. وهكذا فقبل أن تكتسِب الانطباعات التي تصِل إلى حواسِّنا صفةَ المعرفة، ينبني تنظيمُها أو توحيدها على نحوٍ ما، عن طريق النشاط الذهني. وتلك مشكلة إبستمولوجية (معرفية) لن يكون من الممكن إيضاح موقف كانْت منها إلا إذا حدَّدنا طريقة استخدامه للمصطلحات بدقَّة. فهو يقول إنَّ عملية المعرفة تنطوي من جهةٍ على الحواس، التي تقتصر على تلقِّي تأثير التجربة الآتية من الخارج، ومن جهةٍ أخرى على الفَهم الذي يربِط عناصر الحسِّ هذه سويًّا، ولا بدَّ من التمييز بين الذهن أو الفهم وبين العقل. وقد عبر هيجل في مرحلةٍ لاحِقة عن هذه الفكرة بقوله إنَّ العقل هو ما يُوحِّد الناس، على حين أنَّ الفهم هو ما يُفرِّقهم. ويُمكننا القول إنَّ الناس يكونون مُتساوين بقدْر ما يكونون عقلاء، أو مالِكين لنعمة العقل، ولكنهم يتفاوَتون فيما يتعلق بالفَهم؛ لأنَّ هذا الأخير تعقُّل إيجابي يتفاوت الناس فيما يتعلق به تفاوتًا هائلًا.
غير أنَّ كِتاب «نقد العقل الخالص» لا يُعالج إلا مسألةً واحدة من بين المسائل الرئيسية الثلاث التي تفرِض نفسها علينا. فهو يرسُم حدود المعرفة ولكنه لا يعرِض لِمَوضوعَي الإرادة وما يُطلِق عليه كانت اسم «الحُكم». وأول هذين المَوضوعَين يدخل في نطاق الأخلاق، ويُعالَج في كتاب «نقد العقل العملي». أما الحُكم فيستخدمه كانْت بمعني تقدير الأهداف أو الغايات، وهو موضوع كِتاب «نقد ملَكة الحكم» الذي لن نعرِض له ها هنا، ولكن لنتأمَّل بإيجازٍ نظرية كانْت الأخلاقية كما ناقشَها في «نقد العقل العملي» وفي «ميتافيزيقا الأخلاق».
لقد لاحظْنا أنَّ الأمر المُطلق الذي ترتكز عليه الأخلاق عند كانْت هو مبدأ صوري أو شكلي، وبهذا الوصف يستحيل أن يكون مُنتميًا إلى ميدان العقل النظري، ما دام هذا العقل مُنصبًّا على الظواهر. ويستنتج كانْت من ذلك أنَّ الإرادة الخَيِّرة، التي تتحدَّد بهذا الأمر المُطلق، ينبغي أن تنتمي إلى عالم الأشياء في ذاتها. وهنا تتَّضح لنا أخيرًا وظيفة الشيء في ذاته. فالظواهر تتطابق مع المقولات، وبخاصَّة مقولة العِلَّة والمعلول، أما الأشياء في ذاتها فلا تخضع لمِثل هذه القيود. وعلى هذا النحو يتمكن كانْت من التخلُّص من مأزق الإرادة الحُرَّة في مقابل الحتميَّة، فبقدْر ما يكون الإنسان مُنتميًا إلى عالم الظواهر، يخضع لقوانينه الحتمية. ولكنَّ الإنسان، من حيث هو فاعل أخلاقي، ينتمي إلى عالم الشيء في ذاته، ومِن ثَم فلدَيه إرادة حُرة. والواقِع أنَّ هذا حلٌّ بارع حقًّا، وإنْ كان مصيره يتحدَّد تبعًا لمصير فكرة الشيء في ذاته، بحيث ينهار إذا انهارت هذه الفكرة.
إن الأخلاق عند كانْت تنطوي على عنصرٍ صارم من الاستقامة الكالفينية. ذلك لأنَّ من الواضح في هذه الأخلاق أنَّ الشيء الوحيد الذي له أهمية هو أن يكون سلوكنا نابعًا من المبادئ الصحيحة. وتبعًا لهذا الرأي يكون استمتاعُك بالشيء الذي تكون مُلزمًا، من الوجهة الأخلاقية، بعمله، يكون هذا الاستمتاع عقبةً فعلية في وجه السلوك الأخلاقي. فإذا كنتُ أحبُّ جاري، وأشعُر تبعًا لذلك بالمَيل إلى مساعدته في وقت الشدَّة، عندئذٍ لا يكون لهذا الفعل، وفقًا لمبدأ كانْت، نفس القيمة الأخلاقية التي تكون للقيام بعملٍ طيِّب مُماثل تجاه شخصٍ سمِج مكروه تمامًا، وبذلك تتحوَّل المسألة كلها إلى مجموعة من الواجبات الثقيلة غير السارَّة، التي نؤديها، لا بناءً على رغبة، بل بناء على مبدأ. أما الفاعل فهو الإرادة الخَيِّرة، التي تعدُّ هي وحدَها الخَيِّرة بلا قَيدٍ أو شرط.
أما عن الوظيفة الأخلاقية للشيء في ذاته، فإنها تَجرُّ وراءها بعض النتائج الأخرى؛ فقد بيَّن كانت في «نقد العقل الخالص» أنَّ من المستحيل في إطار العقل النظري، إثباتَ وجود الله بالحُجَّة العقلية. غير أنَّ النشاط التأمُّلي للعقل الخالص يترُك بالفعل مجالًا لفكرة وجود الله. ولكنَّ العقل العمَلي هو وحدَه الذي يُزوِّدنا بأساسٍ عقلي لهذا الاعتقاد. بل إنَّنا في الواقع مُلزَمون، في المجال العملي، بقَبول هذه الفكرة ما دام من المستحيل بدونها أن يُوجَد نشاط أخلاقي بالمعنى الصحيح. ذلك لأنه يرى أنَّ إمكان السلوك بناء على الأمر المُطلق للقانون الأخلاقي يلزَم عنه، من الناحية العملية، أن يكون الله موجودًا.
ويمكن القول إنَّ نظرية كانْت ترسُم، على نحوٍ ما، خطًّا فاصلًا يُذكرنا بوليَم الأوكامي. ذلك لأنَّ ما يأخُذه كتاب «نقد العقل الخالص» على عاتقِه هو أن يضع للمعرفة حدودًا من أجل إفساح المجال للإيمان. فوجود الله لا يمكن معرفته كحقيقةٍ نظرية، ولكنه يفرِض نفسه بوصفِه إيمانًا بناءً على أسبابٍ عملية، مع ضرورة أن نأخُذ بعَين الاعتبار مَعنيَي النظري والعملي اللذين أوضحناهما من قبل. ومع ذلك فإنَّ الأخلاق التي قال بها كانْت لم تترُك له مجالًا للتقيُّد بأية عقيدةٍ دينية جامدة. ذلك لأنَّ ما له أهمية بحقٍّ إنما هو القانون الأخلاقي، أما التعاليم المُحدَّدة الجامدة للعقائد فتُنسَب عن غير حقٍّ إلى مصدر إلهي. وهكذا، فعلى الرغم من أنَّ كانْت قد اعتقد أنَّ المسيحية هي العقيدة الوحيدة المُتمشِّية مع القانون الأخلاقي، فإنَّ آراءه في الدِّين قد أدَّت بالحكومة البروسية إلى أن تفرض عليه حظرًا رسميًّا.
ومن الآراء الأخرى التي نادى بها، ولم تَقِلَّ عن هذه سبقًا لزَمَنِها، آراؤه في السلام والتعاون الدولي كما عرَضَها في كُتيبٍ بعنوان «السلام الدائم» نُشر في عام ١٧٩٥م. ومن الأفكار الرئيسية التي اقترحها في هذا الكُتيِّب، قيام حكومة نِيابية، واتحاد عالمي بين الدول، وهما فكرتان ما أحرانا بأن نَذكُرهما في عصرنا هذا.
لقد قدَّمت فلسفة كانْت، كما رأيْنا، نوعًا من الإجابة عن مشكلة هيوم، ولكن على حساب إدخال فكرة الأشياء في ذاتها. ولذلك بادر خلفاء كانْت في الحركة المِثالية الألمانية إلى الكشْف عن نِقاط الضعف في هذا التصوُّر، وإنْ كانت التطوُّرات التي أدخلوها هم أنفسهم على نظرية المعرفة تتعرَّض بدورها للنقد.
وعندما أُسِّست جامعة برلين في عام ١٨١٠م، أصبح فشته أستاذًا فيها، وظلَّ مُحتفظًا بهذا المنصب حتى وفاته. وحين نشبت حروب التحرير عام ١٨١٣م، أرْسَل تلاميذه ليحاربوا ضدَّ الفرنسيين. والواقع أنه شأنه شأن الكثيرين، كان مُتحمِّسًا للثورة الفرنسية، ولكنه كان مُعاديًا للتشويه الذي طرأ عليها على يدِ نابليون.
ولقد استبقَ فشته، في تفكيره السياسي، بعض المفاهيم الماركسية المُتعلقة ببناء اقتصادٍ اشتراكي تُسيطر فيه الدولة على الإنتاج والتوزيع، ولكنَّ الأمر الذي له أهمية فلسفية أكبر، من وجهة نظرِنا ها هنا، هو مذهبه في الأنا، الذي كان الهدَف منه الردُّ على ثُنائية كانْت، فالأنا، الذي يُناظر في جوانب مُعينة فكرة وحدة الوعي الذاتي عند كانْت، هو كيان فعَّال يتَّسِم بالاستقلال الذاتي بالمعنى الذي حدَّده كانْت، أما عالم التجربة فهو نوع من الإسقاط اللاواعي للأنا، يُسمِّيه باللاأنا، ونظرًا إلى أنَّ هذا الإسقاط غير واع، فإننا نتصوَّر خطأً أنَّ هناك عالمًا خارجيًّا مفروضًا علينا، أما عن الأشياء في ذاتها فإنَّ مُشكلتها لا يمكن أن تنشأ أصلًا، لأنَّ ما نعرفه ليس إلا ظواهر. والواقع أنَّ الكلام عن الأشياء في ذاتها مُناقض لذاته، وهو أشبَهُ بمعرفة ما لا يمكن — حسب تعريفه — أن يُعرَف. غير أنَّ عملية الإسقاط ليستْ غير واعيةٍ فحسب، بل هي أيضًا غير مشروطة. ولمَّا كانت لا تدخل في نطاق تجربتنا، فإنها لا تتحدَّد بمقولة السببية. إنها تنبثِق، بوصفِها عملية حُرة، من الطبيعة العملية والأخلاقية للأنا، حيث ينبغي أن تُفهَم كلمة العملية، بمعناها الاشتقاقي. فبهذه الطريقة يكون للمبدأ الفعَّال الذي يشيع في الأنا مهامُّ يقوم بها في التعامُل مع إسقاطه الخاص.
وفي استطاعتنا أن نجد لدى كلٍّ من فشته وشلنج صورًا للمنهج الجدَلي (الديالكتيكي) كما سوف يستخدمه هيجل فيما بعد. فقد رأيْنا عند فشته كيف يُواجِه الأنا بمهمة تجاوز اللاأنا. وفي فلسفة شلنج الطبيعية نجد فكرةً أساسية هي فكرة الأضداد التي تتجمَّع في وحدة، وهي فكرة تُبشر بالجدل الهيجلي بصورة أوضح. ومع ذلك فإنَّ مصدر الجدل يكمن في قائمة المقولات عند كانْت؛ حيث أوضح أنَّ الطرف الثالث في كل مجموعةٍ هو جمع بين الأول والثاني، اللذين هما ضِدَّان. مثال ذلك أن الوحدة هي بمعنًى ما، ضدَّ الكثرة أو عكسها، على حين أن الكُليَّة تنطوي على كثرة من الوحدات، وهذا يؤدي إلى الجمع بين الفكرتَين الأُوليَين.
ولد هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) في شتوتجارت، ودرس في توبنجن في نفس الوقت الذي كان يدرُس فيه شلنج هناك. وقد اشتغل وقتًا ما بالتدريس، ثم انضمَّ إلى شلنج في يينا عام ١٨٠١. وهناك أتمَّ بعد خمس سنوات، كتابة «ظاهريات الروح» عشيَّةَ معركة يينا. وقد رحل عن المدينة قبل دخول الجيوش الفرنسية الظافرة، واشتغل مُحررًا بضع سنوات، ثم أصبح ناظرًا لمدرسة ثانوية في نورمبرج، حيث ألَّف كتاب «علم المنطق». وفي عام ١٨١٦م أصبح أستاذًا في هيدلبرج، وألَّف «موسوعة العلوم الفلسفية» وأخيرًا استُدعي لشغْل كرسي الفلسفة في برلين عام ١٨١٨م، وهو المنصب الذي ظلَّ يشغله بعد ذلك. وكان هيجل شديد الإعجاب ببروسيا، فأصبحت فلسفته هي التعاليم الرسمية للدولة.
إن كتابات هيجل من أصعب المؤلَّفات في النتاج الفلسفي بأكمله. ولا يرجِع ذلك فقط إلى طبيعة الموضوعات التي كان يُعالجها، بل يرجع أيضًا إلى الأسلوب الثقيل والرديء الذي كان يكتُب به المؤلِّف. صحيح أنَّ هناك مجازات رائعة تتناثر في كتاباته، وتبعَث الراحة في عقل القارئ، ولكنها لا تكفي للتخفيف من وقْع الغموض الذي يغلب عليها.
ولكي نحاول فهم الهدف الذي يَرمي إليه هيجل، علينا أن نعود بالذاكرة إلى تمييز كانْت بين النظري والعملي. عندئذٍ يمكن وصْف الفلسفة الهيجلية بأنها تؤكد أولوية العملي، بالمعنى الأصلي للكلمة؛ ولهذا السبب أولى اهتمامًا كبيرًا للتاريخ والطابع التاريخي لكلِّ نشاطٍ بشري. أما عن المنهج الجدَلي، الذي ترجع بعض جذوره إلى كانت وفشته وشلنج، فلا شكَّ أن هيجل قد تنبَّه إلى أهميته من إدراكه للتطوُّر الذي تسير فيه الحركات التاريخية والذي هو أشبَهُ بالأرجوحة في صعودها وهبوطها. وقد بدا له بوجهٍ خاص أن تطوُّر الفلسفة السابقة لسقراط كان يسير وفقًا لهذا النمط، كما ذكرْنا من قبل. ويرفع هيجل هذا المنهج إلى مَرتبة مبدأ للتفسير التاريخي. والواقع أنَّ المسار الجدَلي من مَطلبَين مُتضادَّين إلى نوع من الحل الوسط هو في ذاته أمرٌ مفيد غاية الفائدة، ولكن هيجل ينتقِل إلى بيان أنَّ التاريخ كان لا بدَّ أن يمرَّ بمراحله المُتباينة على أساس هذا المبدأ. وغنيٌّ عن البيان أنَّ هذا أمر لا يمكن إثباته إلا عن طريق تشويه الحقائق، فالاعتراف بنمَطٍ للأحداث التاريخية شيء، واستنباط التاريخ من هذا المبدأ شيء مختلف كلَّ الاختلاف. ولذا فإنَّ نقد شلنج يمكن أن ينطبق على هذا الميدان بقدْر ما ينطبق على فلسفة الطبيعة.
أما العملية الجدلية التي تؤدي إلى المطلق، فإنها تساعدنا على اكتساب فَهمٍ أفضل لهذه الفكرة المُعقدة. ولا شكَّ أن تقديم شرحٍ لهذه العملية بلُغة بسيطة هو أمر يتجاوز قدرة هيجل، وقدرة أي شخصٍ آخر. ولكن هيجل يعود هنا مرة أخرى إلى واحدٍ من تلك الأمثلة الإيضاحية التي تحتشد بها مؤلفاته؛ فهو يشرَح الفارق بين شخصٍ لا ترتكز فكرة المطلق عنده على معرفةٍ بالمسار الجدلي، وآخَر مرَّ بهذا المسار، فيُشبِّهه بدلالة الصلاة بالنسبة إلى طفل، ودلالتها لرجلٍ عجوز؛ فكلاهما يتلو الألفاظ نفسها، ولكنها عند الطفل لا تعني أكثر من مجموعةٍ من الأصوات، على حين أنها تُثير لدى العجوز تجاربَ عمرٍ كامل.
وهكذا يُنادي المبدأ الجدلي بأنَّ المطلق، الذي يصل فيه المسار إلى نهايته، هو الحقيقة الوحيدة. وفي هذه الفكرة كان هيجل مُتأثِّرا باسبينوزا. ويترتَّب على ذلك أنَّ أي جزءٍ من الكلِّ ليست له في ذاته حقيقة أو معنى فعَّال، بل إنه لا يكتسِب معناه إلا إذا ارتبط بالكون بأكمله. ويبدو على هذا الأساس أنَّ القضية الواحدة والوحيدة التي ينبغي أن نُغامر بالتصريح بها هي أنَّ الفكرة المُطلقة حقيقة. فالكل وحدَه هو الحقيقي، وأي شيء جزئي لا يمكن أن تكون له إلا حقيقة جزئية. أما لو بحثْنا عن تعريفٍ للفكرة المطلقة عند هيجل، لوجَدْناه من الغموض بحيث يغدو أمرًا لا جدوى منه. غير أنَّ المقصود منها بسيط للغاية. فالفكرة المطلقة، عند هيجل، هي الفكرة التي تُفكِّر في ذاتها، وهذا مفهوم ميتافيزيقي يُناظِر في نواحٍ مُعيَّنة إلهَ أرسطو، الذي هو كيانٌ مُنعزل غير معروف، مُغلَّف بفكرِه الخاص، وفي نواحٍ أخرى يُذكِّرنا هذا المفهوم بإله اسبينوزا، الذي كان هو والكون شيئًا واحدًا. والواقع أنَّ هيجل، مثل اسبينوزا، يرفُض أيَّ نوعٍ من الثنائية. فهو يبدأ مثل فشته، من العقلي، ومن ثَمَّ فإن حديثه يدور حول الفكرة.
ويطبق هيجل هذه النظرية الميتافيزيقية العامة على التاريخ. وليس ممَّا يدعو إلى الاستغراب أن نجد هذه النظرية تُلائم أنماطًا عامَّة مُعينة في هذا الميدان؛ إذ إنَّ هيجل إنما استمدَّ المبدأ الجدلي، في الواقع، من التاريخ. غير أنَّ العرْض التفصيلي للأحداث الخاصة ينبغي، كما رأينا، ألَّا يلتمِس بهذه الطريقة القبلية. كذلك فإنَّ المسار نحو المطلق في التاريخ يُتيح له فرصةً لتقديم بعض الدِّعايات القومية التي تتَّسِم بقدرٍ كبير من الفَجاجة؛ إذ يبدو في نظرِه أنَّ التاريخ قد وصل إلى مرحلته النهائية في الدولة البروسية كما كانت قائمةً في عصر هيجل. هذه هي النتيجة التي ينتهي هيجل إليها في فلسفة التاريخ. ولا شكَّ أنَّنا لو تأمَّلنا الأمر بمنظورنا الحالي لبدا لنا أن الفيلسوف الجدلي العظيم في استنتاجه هذا كان مُتسرِّعًا إلى حدٍّ ما.
وهناك عدَم اتِّساق بين نظرية هيجل السياسية ومذهبه السياسي في مسألةٍ أخرى هامة. ذلك لأن التطبيق الدقيق لمبدئه الجدلي كان لا بدَّ أن يكشف له عن عدم وجود سببٍ يحُول دون قيام تنظيم معنوي بين الأمم، على نحوٍ قد يكون مماثلًا لما اقترحه «كانْت»، ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ المطلق في السياسة يبدو أنه هو مملكة بروسيا. ولا شكَّ أن استنباطه لهذه النتيجة باطل. صحيح أنَّ المرء لا يستطيع أن يُنكر أنه كان هناك أناس يؤمنون، بنيَّةٍ طيبة، بهذه القضية. ولكن إذا كان الإيمان بأمورٍ كهذه يبعث الراحة في نفوس بعض الناس، فإنَّ ممَّا يتعارض مع الفكر السليم أنْ نعلن أن هذه القضايا مبادئ يُمليها العقل. فبهذا المنهج يستطيع المرء أن يلتمِس أعذارًا زائفة لكلِّ التحيُّزات والفظائع التي تُرتكب في عالمنا ويصبح الأمر كله شيئًا هيِّنًا إلى أبعد حد.
وهنا ينبغي أن نطرح مجموعةً من التعليمات. أولها يتعلَّق بالمحتوى التاريخي للجدَل. فمِن الصحيح كلَّ الصحة أنَّ هناك حالاتٍ توجَد فيها مطالب يستحيل التوفيق بينها، ويتم تَسويتها عن طريق نوعٍ من الحلول الوسطى، فقد أقول مثلًا إنَّني لا أرغب في دفع ضريبة الدخل، على حين أنَّ مصلحة الضرائب تتَّخِذ بالطبع الموقف المُضاد وتُصرُّ على أن تأخذ كلَّ شيء. وأخيرًا نصِل إلى نوعٍ من الحل الوسط الذي يُرضي كلا الطرفَين إلى حدٍّ ما. وهذا شيء لا غموض فيه على الإطلاق. وينبغي ملاحظة أنَّ الحل الوسط لا ينشأ عن مَطلبين مُتناقِضين، بل عن مطلبَين مُتضادَّين. وهذه النقطة المنطقية تحتاج إلى بعض الإيضاح. فالقضيَّتان تكونان مُتناقضتَين إذا كان صِدق إحداهما يستلزِم كذِبَ الأخرى، والعكس بالعكس. أما القضيَّتان المُتضادَّتان فمِن الممكن أن تكونا معًا كاذبتَين وإن لم يكن من الممكن أن تكونا معًا صادقَتَين. وهكذا نجد في المثال السابق أنَّ الحل الوسط يُخالف كلا المطلبين المُتعارِضين معًا. والشيء الذي يجعل الجدل يُمارِس عمله في الحالات التاريخية الفعلية هو أنَّ من الممكن في حالات كثيرة التوصُّل إلى نوعٍ من الاتفاق بناءً على مطالب متعارضة. وبالطبع فإنْ لم يكن لدى الطرفَين الصبر الكافي للوصول إلى صيغةٍ مقبولة، فمن الممكن أن تصبح اللعبة أشدَّ عنفًا، وفي النهاية يربح الطرف الأقوى ويترك الخاسر في الميدان. وفي هذه الحالة قد يُنظَر إلى المطالب المتعارضة فيما بعد على أنها مطالب مُتناقضة، ولكن هذا لا يحدُث إلا فيما بعد، لأنَّ وقوعه ليس محتومًا، فحين يكون لدى المواطن ولدى سلطات الدولة رأيان مُتعارضان عن الضرائب، لا يكون أحدهما مُضطرًّا إلى إبادة الآخر.
وثانيًا، من المُلاحَظ أنَّ التطوُّر الثقافي يسير وفقًا لنموذجٍ مماثل. وفي هذه الناحية يرتدُّ الجدَل إلى تبادُل السؤال والجواب في محاورات أفلاطون. وهذه بالضبط هي الطريقة التي يعمل بها الذِّهن حين تعترِضه مشكلة. إذ يُعرَض موقفٌ ما، وقد تُثار عدة اعتراضات، وخلال المناقشة إما أن يتمَّ التوصُّل إلى تسوية، عن طريق الأخذ برأيٍ أدقَّ في الموضوع، وإما أن يتمَّ التخلِّي عن القضية الأصلية، إذا بدا بعدَ إمعان الفكر أنَّ من الضروري قَبول أحد الاعتراضات. وفي هذه الحالة يمكن التوصُّل إلى حلٍّ توفيقي، سواء أكانت القضايا التي توضَع كلٌّ منها في مواجهة الأخرى مُتناقضة أم مُتضادَّة، فقضية هرقليطس القائلة إنَّ كلَّ شيء يتحرَّك، وقضية بارمنيدس القائلة أنه لا شيء يتحرَّك، هما قضيَّتان مُتضادَّتان، ولكن قد يكتفي المرء، في اعتراضه على رأي هرقليطس، بالقول إنَّ بعض الأشياء لا يتحرَّك، وفي هذه الحالة تكون القضيَّتان مُتناقضتَين. وفي كلتا الحالتَين يُمكننا التوصُّل إلى الحلِّ الوسط الذي يقول إنَّ بعض الأشياء يتحرَّك وبعضها لا يتحرَّك.
ولكن، نظرًا إلى أنَّ هيجل ينظُر إلى العالم نظرةً روحية، فإنه يتَّجِه إلى تجاهل هذا التمييز الأساسي. وفضلًا عن ذلك فمن السهل وفقًا لهذا الرأي، أن نُدرك السبب الذي يؤدي إلى تطبيق الجدَل، لا بوصفِه أداةً لنظرية المعرفة فحسب، بل أيضًا من حيث هو وصْف مباشر للعالم، ولو شِئنا أن نُعبِّر عن ذلك بلغةٍ أكثر تخصُّصًا، لقُلْنا إنَّ هيجل لا يُعطي منهجه مكانة إيستمولوجية (متعلقة بالمعرفة) فحسْب، بل يُعطيه أيضًا مكانة أنطولوجية (متعلقة بالوجود)، وهذا هو الأساس الذي يقدِّم هيجل بمُوجبه تفسيرًا جدليًّا للطبيعة. ولقد تحدَّثنا من قبلُ عن اعتراض شلنج على هذا الجدل. ولكنَّ الماركسيين قد تبنَّوا هذا الهراء بكامله، فيما عدا أنهم وضعوا المبادئ المادية التي قال بها «لامتري» محلَّ تأكيد هيجل المُتحيِّز لجانب العقل.
ولكن من واجبنا، بعد أنْ أبدَينا هذه الملاحظات النقدية، ألا نغفل عمَّا له قيمة في فلسفة هيجل، فمِن المُلاحَظ أولًا، فيما يتعلَّق بالجدل، أنَّ هيجل يُبدي هنا استبصارًا عميقًا فيما يتعلَّق بالمسارات التي يتَّبِعها العقل، إذ إنَّ العقل كثيرًا ما يسير على أساس هذا النموذج الجدلي، ويمكن القول إنَّ الجدل، من حيث هو إسهام في سيكولوجية النمو العقلي، ينمُّ، إلى مدًى مُعين، عن قُدرة على الملاحظة اللمَّاحة. وثانيًا فإن الهيجلية تؤكد أهمية التاريخ على نحو ما ألمح إليها «فيكو» قبل ذلك بقرنٍ من الزمان، غير أنَّ الطريقة التي يعرِض بها هيجل موقفه يشُوبها افتقارٌ إلى الدقَّة في استخدام الألفاظ، وربما كان هذا يرتبط بتصوُّرٍ شاعري مُعيَّن للغة ذاتها. فمثلًا حين يقول هيجل إنَّ الفلسفة هي دراسة تاريخها ذاته، ينبغي أن ننظُر إلى هذه العبارة في ضوء المبدأ الجدلي، فهيجل يقول إنَّ الفلسفة تنمو بالضرورة وفقًا للنموذج الجدلي، ومن ثم فإن دراسة الجدل، الذي هو المبدأ الأساسي في الفلسفة، تبدو مُطابقةً لدراسة تاريخ الفلسفة. ولا شكَّ أن هذا تعبير شديد الالتِواء عن الفكرة القائلة إنَّ الفهم الصحيح للفلسفة يُحتِّم معرفة شيءٍ عن تاريخها، وهو رأيٌ قد لا يوافِق عليه المرء، ولكنه قطعًا ليس لغوًا فارغًا. والواقع أنَّ هيجل كثيرًا ما كان يتلاعَب، في صياغاته، بالمعاني المختلفة للألفاظ، بل إنه كان يرى أنَّ للَّغةِ نوعًا من العقل الكامِن الذي هو أسمى من عقول من يستخدمونها. ومِن الغريب حقًّا أن هناك رأيًّا قريبًا جدًّا من هذا يقول به فلاسفة اللغة العاديُّون في أكسفورد في أيامنا هذه.
إنَّ الفلسفة الهيجلية تستلهِم مبدأً عامًّا يعاود الظهور على مرِّ تاريخ الفلسفة: هو أنَّ من المستحيل فهم أي جزءٍ من العالَم ما لم يُنظَر إليه في إطار الكون ككُل، ومن ثَم فإنَّ الكل هو الحقيقة الوحيدة.
هذا الرأي كان موجودًا من قبلُ لدى السابقين لسقراط. فعندما ذكر بارمنيدس أن الكون كرة ساكنة، كان يحاول التعبير عن شيءٍ من هذا القبيل، كذلك فإنَّ الفلاسفة الرياضيِّين في المدرسة الفيثاغورية أشاروا إلى هذه الفكرة تلميحًا عندما قالوا إنَّ الأشياء كلها أعداد. وفي وقتٍ أقربَ إلينا، كان إسبينوزا يُمثِّل الرأي القائل إنَّ الكل وحدَه هو الحقيقي بالمعنى المُطلَق. ثُم جاء الفيزيائيون الرياضيون فساروا في طريق التُّراث الفيثاغوري، وكان بحثُهم عن الصِّيغة الواحدة العُليا التي تُفسِّر الكون بأكملِه مدفوعًا بهذا الاعتقاد نفسه. ومِن أمثلة ذلك، التقدُّم الباهر الذي أحرزَتْه فيزياء نيوتن، والذي بلغ ذروته في نظرياتٍ كونية مثل نظرية لابلاس. على أنه ليس من الصعب أن يُثبت المرء بُطلان الفكرة المِثالية المتعلِّقة بنسَقٍ يضمُّ الكون بأسرِه. وفي الوقت ذاته فمِن الخطأ رفضها كليَّةً دون محاولة لتَبيُّن ما ترمي إليه، حتى ولو كان ذلك بطريقةٍ غامضة غير محدَّدة المعالِم.
إنَّ المسألة الهامَّة هي أنَّ مذهب المثالِيِّين يُعبِّر بطريقةٍ صحيحة، في جانبٍ مُعيَّن منه، عمَّا تطمح إليه النظرية العلمية. ذلك لأنَّ مشروع العِلم يهدف بالفعل إلى توسيع فَهمنا المنهجي للطبيعة بطريقةٍ تزداد اتِّساعًا على الدَّوام. وهكذا يُلقي الضوء على الارتباطات المُتبادَلة التي لم يكن أحدٌ ينتبِه إليها من قبل، ويدرج عددًا متزايدًا على الدوام من أحداث الطبيعة في إطار نظريةٍ تؤلِّف نسقًا متكاملًا، ولا يكون لهذا التطوُّر، من حيث المبدأ، أيُّ نهاية. وفضلًا عن ذلك فإن النظرية العلمية لا تسمح بأية استثناءات، وإنما ينبغي أن تنطبِق على نحوٍ شامل؛ فهي إما كلُّ شيءٍ وإمَّا لا شيء. وهكذا يمكن القول إن المذهب أو النسَق الذي يقول به المثالي هو نوع من المثال الأفلاطوني للعِلم ككُل، وهو عِلم إلهي كما تصوَّره ليبنتس. والواقع أنَّ ارتباط كل شيءٍ على نحوٍ ما، بكلِّ شيء هو، من بعض النواحي، حقيقةٌ مُعترَف بها، ولكن ليس من الصحيح أنَّ الأشياء تتغيَّر بارتباطها بالأشياء الأخرى. وهكذا فإنَّ تلك الطريقة في النظَر إلى العِلم ترتكِب خطأً فادحًا في هذه المسألة الثانية، وهي أيضًا على خطأ حين تحاول إظهار المسألة كلِّها وكأنها نِتاجٌ تمَّ وانتهى مع أنَّ من السِّمات المميِّزة للبحث العلمي استحالة أن تكون له نهاية. ويبدو أنَّ الموقف الهيجلي مُرتبط إلى حدٍّ كبير بالنَّزعة التفاؤلية العلمية التي سادت في الجزء الأخير من القرْن التاسع عشر، حين اعتقد الجميع أنَّ الإجابات عن جميع الأسئلة أصبحت قريبة المنال، ثم ثبَتَ فيما بعدُ أنَّ هذا وهْم، كما كان يمكن أن يَتوقَّع المرء منذ البداية.
على أنَّ من غير المُجدي أن يحاول المرء، في هذا الصدد، اللجوء إلى فكرة العلم الإلهي لتبرير موقفه. فهذا العالَم الذي نعيش فيه، أيًّا كان رأيُنا بشأنه، ليس هو الذي ينتمي إليه مثل هذا العِلم، أما العوالم الخارجة عن عالَمِنا فلا يمكن أن تكون لها علاقة بنا. وهكذا فإنَّ النسَق المثالي مفهوم مُزيَّف. ولكنَّنا نستطيع أن نُثبت هذه النتيجة ذاتها على نحوٍ أقرَبَ إلى الطابع المباشر عن طريق ضرْب مَثَل. فأنا أومِن بمجموعةٍ من المُعتقدات الصحيحة، كالقول إنَّ عمود نلسون أعلى من قصْر بكنجهام. أما الهيجلي فلا يقبَل شيئًا من ذلك، بل يعترِض بقوله: «إنك لا تدري ما تتكلَّم عنه. فلا بدَّ لك من أجل فَهم الحقيقة التي تتحدَّث عنها، أنْ تعرِف أنواع المواد المُستخدَمة في البناءين، ومن الذي بناهما ولماذا، وهكذا إلى غير حد، وفي النهاية سيكون عليكَ أن تعمل حسابًا للكَون بأسرِه قبل أنْ يكون من حقِّك أن تقول إنك تعرِف ما تقصده حين تقول إنَّ عمود نلسون أعلى من القصر.» ولكنَّ المُشكلة في هذا الرأي، بالطبع، هي أنه يتعيَّن عليَّ أن أعرِف كلَّ شيءٍ قبل أن أعرف أيَّ شيء، وبذلك يستحيل عليَّ حتى أن أشرَع في اتِّخاذ الخطوة الأولى، ولكنَّ أحدًا لن يبلُغ به التواضُع حدَّ الاعتراف بأنه خالي الذِّهن كليةً. وفضلًا عن ذلك، فليس هذا بالأمر الصحيح، فأنا أعرِف بالفعل أنَّ عمود نلسون أعلى من القصر، وإنْ كنتُ في غير ذلك لا أدَّعي لنفسي علمًا إلهيًّا شاملًا، وحقيقة الأمر أنك تستطيع أن تعرف شيئًا دون أن تعرِف كلَّ شيءٍ عنه، مثلما تستطيع أن تستخدِم لفظًّا بطريقةٍ صحيحة دون أن تعرِف المفردات كلها. وإنَّ هيجل ليبدو هنا وكأنه يؤكِّد أنَّ أية قطعة من مجموعةٍ لألعاب الأطفال تكوِّن شكلًا واحدًا، لا يمكن أن يكون لها معنًى ما لم يتمَّ التوصُّل إلى حلِّ الشكل كلِّه. أما التجريبي فيعترِف بأنَّ لكل قطعةٍ معناها الخاص، ولو لم يكن الأمر كذلك لَما استطعتَ أن تبدأ في تجميع القطع سويًّا.
ولهذا النقد المُوجَّه إلى فكرة النَّسَق المنطقي نتائج هامة في ميدان الأخلاق؛ ذلك لأنه لو كانت النظرية المنطقية صحيحة، لكانت النظرية الأخلاقية المبنيَّة عليها صحيحة بدَورها، أما والأمر على نحو ما قُلنا، فإنَّ الباب يُفتَح لاعتراضاتٍ كثيرة.
في هذا الميدان (أي الأخلاق) تقِف الهيجلية وليبرالية لوك على طرفَي نقيض. ففي رأي هيجل أن الدولة خيِّرة بذاتها، أمَّا الأفراد فليستْ لهم أهمية في ذاتهم، بل تكون أهمية بقدْر ما يُسهمون في أمجاد الكل الذي ينتمون إليه فحسْب. أما الليبرالية فتبدأ من الطرَف الآخر، وتنظُر إلى الدولة على أنها تخدُم المصالح الشخصية لأفرادها. وواضح أنَّ الرأي المثالي يُولِّد التعصُّب والقسوة المُفرطة والطغيان. أما الرأي الليبرالي فيدعم التسامُح والاحترام والتوفيق بين مختلف الاتجاهات.
وُلِد كيركجور (١٨١٣–١٨٥٥م) في كوبنهاجن، التي التحق بجامعتها وهو في السابعة عشرة، وكان أبوه قد قَدِم إلى العاصمة الدنمركية في شبابه واستعاض عن حِرفة الزراعة بالأعمال التجارية التي أحرَزَ فيها نجاحًا كبيرًا، وهكذا لم يكن الابن يُصادِف عناءً من أجل البحث عن مورد رزقٍ وقد ورِث كيركجور عن أبيه حضور البديهة والذكاء، فضلًا عن المزاج التأمُّلي. وفي عام ١٨٤١م حصل على درجة الماجستير في اللاهوت، وكان خلال ذلك قد خطب، بعد تردُّد، فتاةً يبدو أنها لم تُبدِ تقديرًا كافيًا لما كان ينظُر إليه على أنه رسالته اللاهوتية، وانتهى الأمر بفسخه الخطبة، ثم سفرِه بعد انتهاء دراسته إلى برلين حيث كان شلنج يُحاضر، ومنذ ذلك الحين كرَّس حياته للتأمُّل اللاهوتي والفلسفة، أما الفتاة التي كانت في وقتٍ ما خطيبته، فقد سلكت المسلك المعقول، وتزوَّجت شخصًا آخر.
فلنعُدْ إلى النقد الذي وجَّهه شلنج إلى مذهب هيجل. لقد ميَّز شلنج بين الفلسفة السلبية والفلسفة الإيجابية؛ الأولى تبحث في التصوُّرات أو الكليَّات أو الماهيَّات، إذا شئنا أن نستخدِم المصطلح المدرسي، أي أنها تبحث في «كُنه» الأشياء. أما الفلسفة الإيجابية فتتعلَّق بالوجود الفعلي، أي تنتقِل إلى المستوى الإيجابي. وتُذكِّرنا هذه الصيغة بمبدأ الاستقطاب عند شلنج وبالمسار الذي سلَكَه تطوُّره الفلسفي الخاص، الذي مرَّ بهاتَين المرحلتَين عينيهما، فكتابات شلنج الأولى «سلبية»، واللاحقة «إيجابية»، بهذا المعنى للكلمَتَين، وعلى ذلك فإن النقد الأساسي المُوجَّه إلى هيجل هو أنه بعد أنْ وجد نفسه مُنغمسًا في الميدان السلبي، سعى إلى استنباط عالَم الواقع الإيجابي منه، وإلى هذا النقد يرجِع أصل الوجودية.
غير أنَّ هذا ليس إلا اعتراضًا منطقيًّا على هيجل، وهناك اعتراضٌ آخَر لدى كيركجور لا يقلُّ عن هذا أهمية، هو الاعتراض العاطفي أو الوجداني، فالهيجلية اتِّجاه نظَري جاف، يكاد لا يترُك لانفعالات النفس مجالًا، بل إنَّ هذا النقد يَصدُق على الفلسفة المِثالية الألمانية بوجهٍ عام، وحتى تأمُّلات شلنج الأخيرة لم تنجُ منه. ولنتذكَّر أنَّ عصر التنوير كان يتَّجِه، قبل ذلك، إلى النظَر إلى الانفعالات بنوعٍ من الارتياب، أما كيركجور فيُريد أن يُعيد إليها احترامَها الفلسفي، وهذا يتمشَّى مع رومانتيكية الشعراء، ويتعارَض مع الاتجاه الأخلاقي الذي يربط الخير بالمعرفة والشرَّ بالجهل. والواقِع أن الوجودية، إذ فصلَتِ الإرادة عن العقل، على طريقة أوكام بالضبط، إنما حاولتْ أن تلفِتَ انتباهنا إلى حاجة الإنسان إلى أنْ يفعل ويختار، لا نتيجةً لتفكيرٍ فلسفي، بل بدافع المُمارسة التلقائية للإرادة، مما يُتيح له أن يُفسح مجالًا للإيمان على نحوٍ غاية في البساطة؛ إذ يُصبح قبول المعتقدات الدينية في هذه الحالة فعلًا إراديًّا حرًّا.
ويتَّخِذ هذا المبدأ الوجودي أحيانًا صيغة القول إنَّ الوجود يسبق الماهية، وهو ما يمكن التعبير عنه بقَولِنا إنَّنا نعرِف أولًا أنَّ الشيء كائن، وبعد ذلك نعرِف ما يكونُه، وهو ما يعني وضْع الجزئي قبلَ الكُلِّي، أو أرسطو قبل أفلاطون. ولقد وضع كيركجور الإرادة قبلَ العقل، وذهب إلى أنه لا يتعيَّن علينا أن نكون عِلميِّين أكثر ممَّا ينبغي في كلِّ ما يتعلَّق بالإنسان. فالعِلم الذي لا يستطيع أنْ يبحَث إلَّا فيما هو عام، لا يمكنه أن يمسَّ الأشياء إلا من الخارج. وفي مقابل ذلك يعترِف كيركجور بطرُق التفكير والوجودية التي تنفُذ إلى باطن الأشياء. وفي حالة الإنسان على وجهِ التحديد، يرى أنَّنا نُغفِل ما له أهمية حقيقية إذا ما حاوَلْنا فهمه بطريقةٍ علمية، فالمشاعر النوعية الخاصة لأي فردٍ لا يمكن أن تُفهَم إلا وجوديًّا.
ويري كيركجور أنَّ النظريات الأخلاقية أشدُّ عقلانية من أن تسمح للناس بأن يُنظموا حياتهم وفقًا لها. فليس في استطاعة أية نظريةٍ منها أن تتفهَّم الطابع المُميز لسلوك الفرد الأخلاقي بطريقةٍ سليمة. وفضلًا عن ذلك فمن المُمكن الاهتداء دائمًا إلى أمثلةٍ عكسية أو حالاتٍ استثنائية تُخالف القاعدة، ومن أجل مِثل هذه الأسباب، دعا كيركجور إلى اتِّخاذ المبادئ الدينية، لا الأخلاقية، أُسسًا لحياتنا، وهو موقف يتمشَّى مع التراث الأوغسطيني الذي ظلَّ له تأثيرُه في البروتستانتية. فالإنسان لا يكون مسئولًا إلا أمام الله وأوامره، وليس من حقِّ أي كائنٍ بشري آخر أن يتدخَّل لتغيير هذه العلاقة. فالدين عند كيركجور مسألة تفكير وجودي، ما دام ينبثِق من داخل النفس.
لقد كان كيركجور مسيحيًّا شديد الإخلاص، ولكن كان من الطبيعي أن تؤدِّي به آراؤه إلى التصادُم مع الكنيسة الرسمية الدنمركية بوصفها مؤسَّسة جامدة، فقد كان يُعارض اللاهوت العقلاني على النحو الذي صاغَه كبار المدرسيين؛ إذ إنَّ وجود الله ينبغي أن يُدرَك وجوديًّا، ومن المستحيل إثبات هذا الوجود بأية براهين تنتمي إلى ميدان الماهيَّات. وهكذا يفصل كيركجور، كما قُلنا من قبل، بين الإيمان والعقل.
ولكن من الواجب أن نتذكَّر أن الإقلال من شأن العقل لا يَقلُّ خطورةً عن المبالغة في تقديره، فهيجل نظَر إلى العقل نظرةً أرفع ممَّا ينبغي، ومن هنا وقع في خطأ الاعتقاد بأنَّ الكون كله يمكن أن يتولَّد عن العقل. أما كيركجور فقد تطرَّف في الاتجاه المُضاد، وذهب إلى أن العقل عاجز عن مساعدتنا على إدراك النَّوعي والخاص، الذي هو وحدَه الجدير بالمعرفة. مثل هذا الرأي يُنكر أية قيمةٍ للعلم، وهو يتمشَّى مع جوهر المبادئ الرومانتيكية. وهكذا فإنَّ كيركجور، على الرغم من انتقاده العنيف لأسلوب الحياة الرومانتيكي، على أساس أنه خاضع كلية لتقلُّبات المؤثرات الخارجية، كان هو ذاته رومانتيكيًّا بالمعنى الصحيح. بل إنَّ نفس المبدأ الذي تقوم على أساسه أساليب التفكير الوجودية إنما هو تصوُّر رومانتيكي يسُوده الخلْط.
هكذا كان رفض الوجودية لهيجل، في أساسه، إنكارًا للفكرة القائلة إنَّ العالم ذاته يكوِّن نسَقًا. والواقع أنَّ الوجودية تفترِض نظريةً واقعية في المعرفة، بالمعنى المضاد للنظرة المثالية، على الرغم من أنَّ كيركجور ذاته لم يتطرَّق إلى هذا الموضوع صراحة. ومن المُمكن أن ينشأ اعتراض آخَر، مختلف كل الاختلاف، عن فلسفة هيجل إذا عُدنا إلى نوعٍ من الثنائية الكانتية المُعدَّلة، وهو ما نجده في فلسفة شوبنهور.
وكان على اقتناعٍ تامٍّ بعبقريته الشخصية، ورأى أنه ليس من الأمانة أن يُخفي هذه الحقيقة عن بقية البشر، الذين ربما لا يكونون قد عرَفوا بها بعدُ. ولهذا السبب حدَّد لمحاضراته موعدًا هو نفس الساعة التي يحاضر فيها هيجل، وحين لم يجِد استجابةً من الهيجليين، قرَّر التوقُّف عن إلقاء المحاضرات والإقامة في فرانكفورت حيث ظلَّ بالفعل طوال الجزء المُتبقي من حياته.
لقد كان شوبنهور، من حيث هو إنسان، مغرورًا، يتملَّكه الشعور بالمرارة والإحباط، وكان توَّاقًا إلى الشُّهرة، ولكن هذه الشهرة لم تُواتِه إلا في نهاية حياته.
وعلى أية حالٍ فإن شويبهور ينظُر إلى الجسم على أنه مظهر تكمُن حقيقتُه في الإرادة، وكما هي الحال عند كانْت، فإنَّ عالم الأشياء في ذاتها يتجاوَز المكان والزمان والمقولات. فالإرادة، من حيث هي شيءٌ في ذاته، لا تخضع بدَورها لهذه الأمور، ومن ثَمَّ فهيَ لا زمانية، لا مكانية، ممَّا يعني وحدانيتها، فبقدْر ما أكون حقيقيًّا، أعني بقدْر ما يتعلَّق الأمر بإرادتي، لا أكون مُتميزًا أو منفصلًا، بل إنَّ التميُّز والانفصال إنما هو خداع ينتمي إلى عالم الظواهر. فإرادتي، على عكس ذلك هي الإرادة الواحدة الشاملة.
ولقد نظر شوبنهور إلى هذه الإرادة على أنها في أساسها شريرة، ومسئولة عن العذاب الذي يرتبط حتمًا بالحياة. وفضلًا عن ذلك فإنَّ المعرفة ليست كما هي عند هيجل، منبعًا للحرية، وإنما هي مصدر للعذاب. وهكذا فبدلًا من تلك النزعة التفاؤلية التي تتَّسِم بها المذاهب العقلانية. سادت لدى شوبنهور نظرةٌ تشاؤمية لا مكان فيها للسعادة، أما الجنس فكان بدوره عملية شريرة، لأنَّ كل ما يفعله التناسُل هو أنه يقدِّم ضحايا جددًا للألم والعذاب. ولقد ارتبط هذا الرأي بكراهية شوبنهور للمرأة، إذ كان يعتقِد أنَّ المرأة تؤدي في هذا الصدَد دورًا أكثر تعمُّدًا من دور الرجل.
إن فلسفة شوبنهور تؤكد أهمية الإرادة، على عكس المذاهب العقلانية في المدرسة الهيجلية. وقد أخذ بهذا الرأي فلاسفة عديدون لم تكن تجمع بينهم نقاطٌ مشتركة كثيرة أخرى؛ إذ نجده لدى نيتشه، وكذلك لدى البرجماتيين. وبالمِثل فإنَّ الوجودية تهتمُّ كثيرًا بالإرادة في مقابل العقل. أما عن نزعة التصوُّف التي تَشيع في مذهب شوبنهور، فإنها تقِف خارج التيار الرئيسي للفلسفة.
كان نيتشه ابنًا لقسيسٍ بروتستانتي، ممَّا كان يعني تنشئةً عائلية تسُودها التقوى والاستقامة. وقد ظلَّ تأثير هذا العنصر باقيًا في تلك النغمة الأخلاقية الرفيعة التي نجِدها في أعماله، حتى تلك التي يبلُغ فيها التمرُّد أقصى مداه، وقد أثبت منذ شبابه المُبكر أنه باحث علمي مُمتاز، وأصبح في الرابعة والعشرين أستاذًا لفِقه اللغات القديمة بجامعة بازل، وبعد عامٍ من هذا التاريخ اندلعَتِ الحرب بين فرنسا وبروسيا. ولمَّا كان نيتشه قد أصبح مواطنًا سويسريًّا، فقد كان عليه أن يكتفي بالعمل مُمرضًا في الخدمة العسكرية، وبعد أن تدهورتْ صحته نتيجة لإصابته بالدوسنتاريا، سُرِّح من الخدمة وأُعيد إلى بازل. والواقع أن صحَّته لم تكن أبدًا في حالة جيدة، ولم يصِل أبدًا إلى الشفاء التام من الأمراض التي أصابته أثناء تجنيده، وهكذا اضطرَّ إلى الاستقالة من منصبِه في عام ١٨٧٩م، وإن كان قد حصل على معاشٍ سخيٍّ أتاح له أن يحيا حياةً مريحة إلى حدٍّ معقول، وقد قضى الأعوام العشرة التالية في سويسرا وإيطاليا، مُواصلًا عملَه التأليفي، وكان في معظم الأحيان منعزلًا لا يعرِف به أحد، وفي عام ١٨٨٩م أُصيب بالجنون، وكانت إصابته نتيجةً متأخِّرة لمرضٍ تناسُلي أصيبَ به أيام دراسته، وظلَّ في حالة الجنون حتى وفاته.
إنَّ أعمال نيتشه مُستوحاة في المحلِّ الأول من المُثُل العُليا اليونانية في عصر ما قبل سقراط، وخاصَّة في إسبرطة، وقد استحدث في كتابه الرئيسي الأول «ميلاد التراجيديا» (١٩٧٢م)، التمييز المشهور بين الحالتَين الأبولونية والديونيزية للروح اليونانية، فالمزاج الديونيزي القاتم الشديد الانفعال مُرتبط بالتعرُّف على حقيقة المأساة في حياة الإنسان، أما البانثيون الأوليمبي فهو نوع من الرؤية الصافية التي تُعوِّض تأثير الجانب الأليم في الحياة البشرية، وتنبثِق هذه الرؤية من العنصر الأبولوني في النفس، وهكذا نستطيع أن نصِف المأساة الإغريقية بأنها تَسامٍ أبولوني على الرغبات الديونيزية العارمة، وقد رأيْنا من قبلُ أن أرسطو كانت له آراء مُشابهة في هذه المسائل.
وقد استخلص نيتشه، فيما بعد، من هذا العرض الذي قدَّمه لأصول التراجيديا فكرة البطل المأساوي، فهو، على خلاف أرسطو، لا يرى في المأساة وسيلةً بديلة لتطهير الانفعالات، وإنما يرى فيها قبولًا إيجابيًّا للحياة على ما هي عليه. وبينما كان شوبنهور قد توصَّل إلى نتيجةٍ تشاؤمية، نجد نيتشه يتَّخِذ موقفًا تفاؤليًّا، يعتقِد أنَّ من الممكن التوصُّل إليه إذا ما فُسِّرَت المأساة الإغريقية تفسيرًا صحيحًا، ولكن ينبغي أن يُلاحَظ أن هذا ليس تفاؤلًا بالمعنى الشائع بين الناس، وإنما هو نوع من القبول العدواني لحقائق الحياة الصعبة القاسية؛ إنه يعترِف، مثل شوبنهور بأولوية الإرادة، ولكنه يمضي شوطًا أبعد، ويرى في الإرادة القوية أبرز سِمات الإنسان الحر، على حين أنَّ شوبنهور رأى في الإرادة مصدرًا لكل شر.
وكان نيتشه قد عرَض هذه الأفكار في كتابه «هكذا تكلَّم زرادشت» على صورة دعوةٍ أخلاقية تحكي في أسلوبها كلمات الكتاب المقدَّس، وبالفعل كان نيتشه فنَّانًا عظيمًا في الأدب، حتى لتبدو مؤلَّفاته أقربَ إلى الشعر المنثور منها إلى الفلسفة.
على أنَّ هذه النظرية الأخلاقية تنطوي على قدرٍ غير قليل من الملاحظات المُفيدة لمختلف أنماط البشر وأساليبهم في معالجة شئون حياتهم. فهناك جوانب إيجابية كثيرة في فكرة الدعوة إلى نوعٍ من الصرامة والانضباط، بشرْط أنْ يُمارسها المرء على ذاته. ولكنَّا لا نستطيع أن نقتنِع، بنفس السهولة بفكرة عدَم الاكتراث التامِّ إزاء المُعاناة التي تتحمَّلها الكثرة لصالح القلَّة.