الفصل الرابع
مذهب المنفعة والفلسفات المُعاصرة
لنعُدِ الآن قرنًا إلى الوراء، ولنتناول تيارًا آخر في الفكر الفلسفي. كانت الفلسفة
المثالية ونُقَّادها قد تطوَّروا في عالَمٍ أخذت ظروفه المادية تتغيَّر تغيرًا جذريًّا،
وقد
نجمَتْ هذه التطورات عن الثورة الصناعية التي بدأت في إنجلترا في القرن الثامن عشر، ولقد
سار إدخال الآلات في البداية بخُطًى متدرِّجة إلى أقصى حد. وأُدخلت تحسينات على تركيب
الأنوال فزاد إنتاج النسيج، ولكن الخطوة الحاسمة كانت تطوير الآلة البخارية، التي أتاحَتْ
مصدرًا للطاقة لا حدَّ له، من أجل تشغيل الآلات في الوِرَش التي ظهرت بأعدادٍ هائلة.
وكانت
أكثر الطرُق فعاليةً في إنتاج البخار هي استخدام الغلَّايات التي تعمل بالفحْم. وهكذا
حدَثَ
تطوُّر كبير في استخراج الفحم، وذلك في ظلِّ ظروفٍ كانت شديدة القُبح والقسوة في كثيرٍ
من
الأحيان. والواقع أنَّ الأيام الأولى من عصر التصنيع كانت، من الناحية الإنسانية فترةً
قاسية كئيبة بحق.
وخلال القرن الثامن عشر، بلغَتْ حركة التسييج
Enclosure١ في إنجلترا ذُروتَها. صحيح أنه كانت هناك، طوال عدَّة قرون، حالات قام فيها
النُّبلاء بوضع سياجٍ حول أرضٍ مَشاع من أجل استخدامهم الخاص، مما خلق مصاعب لسُكَّان
الريف
الذين كان رزقُهم يتوقَّف إلى حدٍّ ما على المنافع التي يَجنُونها من الأرض المشاع. ومع
ذلك
فإنَّ هذا التعدِّي على تلك الامتيازات لم يسبق له، قبل القرن الثامن عشر، أن أدَّى إلى
اقتلاع أعدادٍ كبيرة من سكَّان الريف من جذورهم ودفعهم دفعًا إلى المدن الكبيرة والصغيرة
بحثًا عن طرُقٍ جديدة للارتزاق. وهؤلاء الناس أعيُنُهم هم الذين استوعبتهم المصانع الجديدة.
ونظرًا إلى ضآلة أجورهم وقسوة استغلالهم فإنهم كانوا يعيشون في أفقر أحياء المدُن وضواحيها،
واضعِين بذلك أُسُس الأحياء الصناعية الرثة الضخمة
Slums
التي انتشرَتْ في القرن التاسع عشر.
ولقد قُوبِل اختراع الآلات في البداية بقدرٍ كبير من الشك، من جانب أولئك الذين شعروا
بأنَّ الآلات الجديدة ستجعل مهاراتهم في الصناعات اليدوية شيئًا لا أهميةَ له. وبالمِثل
كان
كل تحسينٍ في أداء الآلة يَلقى مقاومةً من العمَّال الذين كانوا يخشون أن يؤدي ذلك إلى
قطع
أرزاقهم، وما زال هذا النوع من الخَوف قائمًا حتى يومنا هذا، إذ إنَّ نقابات العمَّال
تنظُر
بعَين الارتياب إلى إدخال الآلات التي تُدار إلكترونيًّا، تمامًا كما كان يحدُث في القرن
الماضي بالنسبة إلى القول الذي يسير بطاقةِ البخار. ولكن المُتشائمين كانوا، في هذه
المسألة، مُخطئين على الدَّوام. ذلك لأنَّ الدول الصناعية في العالم، بدلًا من أن تُعاني
من
هبوط مستوى مَعيشتها، أخذتْ ثروتها ورخاؤها يرتفعان بالتَّدريج على كافة المستويات. ومع
ذلك
فلا بدَّ من الاعتراف بأنَّ تعاسة الطبقة العاملة في أول العصر الصناعي في إنجلترا كانت
شديدةً حقًّا. وكان الجهل من الأسباب التي أدَّتْ إلى بعضٍ من أسوأ النتائج، إذ إنَّ
المشكلات التي ظهرتْ كانت جديدة، ولم يكن أحدٌ قد صادف مِثلها من قبل. فالليبرالية القديمة،
المُرتكِزة على الحَرَف اليدوية وعلى المِلكية الزراعية، لم تكن مرِنةً بالقدْر الذي
يكفي
لمواجهة المشكلات الضخمة الجديدة للمجتمع الصناعي. وعندما جاء الإصلاح سار ببطء، ولكنَّه
استطاع بِمُضي الوقت أنْ يُصحِّح هذه الأخطاء القديمة. أما في الحالات التي بدأ فيها
التصنيع مُتأخِّرًا، كما حدث في بقية بلدان القارة الأوروبية، فإنَّ بعض المصاعب التي
واجهتْ تطوُّر المجتمع الصناعي كانت أقلَّ قسوة، لأن المشكلات كانت عندئذٍ قد فُهِمَت
على
نحوٍ أفضل.
ومنذ أوائل القرن التاسع عشر، بدأ اتجاهٌ تدريجي إلى التفاعُل بين العِلم والتكنولوجيا،
وبالطبع فإنَّ مِثل هذا التفاعل كان موجودًا، بقدرٍ ما على الدوام، ولكن المبادئ العلمية
بدأت تُطبَّق بطريقةٍ منهجية، منذ عهد التصنيع، في تصميم المعدَّات التكنولوجية وإنتاجها،
مما أدى إلى نموٍّ مُتسارع للتوسُّع المادي، ولقد كانت الآلة البخارية هي مصدر القوة
الجديدة، وشهد النِّصف الأول من القرن التاسع عشر حركة بحثٍ علمي شامل للمبادئ التي تنطوي
عليها تلك الآلة، ممَّا أدَّى إلى قيام عِلمٍ جديد هو الديناميكا الحرارية، وأدَّى هذا
العِلم بدَوره إلى تعليم المهندسين كيف يُصمِّمون آلاتٍ أعظم كفاءة.
وفي الوقت ذاته بدأتِ الآلة البخارية تحلُّ محلَّ كل أشكال الطاقة الأخرى في ميدان
المواصلات. وما إنْ حلَّ منتصف القرن التاسع عشر، حتى كانت شبكةٌ واسعة من السكك الحديدية
تنمو في أوروبا وأمريكا الشمالية، كما بدأتِ السفن البخارية تحلُّ محلَّ المراكب الشراعية.
وقد أحدثتْ هذه التجديدات كلها تغيُّراتٍ هائلة في حياة الناس الذين تأثَّروا بها، وفي
نظرتهم إلى العالَم. وإذا كنَّا نرى الإنسان، على وجه العموم، حيوانًا ميَّالًا إلى
المحافظة، فإنَّ قدراته التكنولوجية أخذتْ تفُوق حكمتَه السياسية، ممَّا أدى إلى اختلالٍ
في
التوازُن لم نبرأ منه حتى اليوم.
ولقد أدَّى التطوُّر الأول للإنتاج الصناعي إلى تجديد الاهتمام بمسائل عِلم الاقتصاد،
وهكذا فإنَّ الاقتصاد السياسي في العصور الحديثة، من حيث هو دراسة قائمة بذاتها، يَدين
بظهوره إلى أعمال آدم سميث (١٧٢٣–١٧٩٠م) الذي كان أستاذًا للفلسفة ينتمي إلى نفس موطن
ديفيد
هيوم. ولقد سارت مؤلَّفاته في الأخلاق في نفس الاتجاه الذي أقامه هيوم، ولكنها كانت على
وجه
الإجمال أقلَّ أهميةً من أعماله في الاقتصاد، وهو يدين بشُهرته لدراسته التي تحمُّل عنوان
«ثروة الأمم» (١٧٧٦م). ففي هذا الكتاب بُذِلت لأول مرةٍ محاولة لدراسة مختلف القوى التي
تؤثِّر في الحياة الاقتصادية لبلدٍ ما، وقد اهتمَّ بوجهٍ خاص بمشكلة تقسيم العمل، فأوضح
بشيءٍ من الإسهاب كيف يزداد إنتاج السِّلَع الصناعية إذا ما تمَّ تجزيء صناعة سلعةٍ
مُعيَّنة إلى عددٍ من المراحل، يقوم بكلٍّ منها عامل مُتخصص. ولقد اختار مثالًا خاصًّا
هو
صناعة الدبابيس، وكانت النتائج التي توصَّل إليها مَبنيَّةً بغير شكٍّ على ملاحظاتٍ فعلية
لأرقام الإنتاج.
وعلى أية حالٍ فإنَّ مبدأ تقسيم العمل قد طُبِّق في الصناعة على نطاقٍ واسع بعد ذلك
بوقتٍ
قصير، وأثبتَ فعاليتَه الكاملة، وبالطبع فإنَّ هناك مشكلات إنسانية ينبغي أن تؤخَذ في
الاعتبار بدورها، لأنَّ العمل المُتخصِّص إذا ما تجزَّأ إلى حدِّ إفقاد العامل اهتمامه
بعمله، يؤدي إلى مُعاناة العامل في النهاية، ولكنَّ هذه الصعوبة لم تكن واضحةً تمامًا
للأذهان في عصر سميث، بينما أصبح تأثيرها اللاإنساني على العاملين في هذا النوع من الآلات
واحدةً من المشكلات الكبرى في الصناعة الحديثة.
والواقع أنَّ الاقتصاد السياسي ظلَّ لفترةٍ طويلة مبحثًا يتميز به الإنجليز. صحيح
أنَّ
مدرسة حُكم الطبيعة، (الفيزيوقراط) الفرنسية في القرن الثامن عشر قد اهتمَّت بالمشكلات
الاقتصادية، غير أنَّ كتاباتهم لم يكن لها نفس الأثر الذي كان لكتاب آدم سميث؛ إذ إنَّ
هذا
الأخير قد أصبح إنجيل الاقتصاد الكلاسيكي، وكان الإسهام الهام التالي في هذا الميدان
هو
نظرية ريكاردو Ricardo في القيمة المَبنية على العمل، وهي
النظرية التي تبنَّاها ماركس.
أمَّا في الميدان الفلسفي فإنَّ ظهور التصنيع جلب نوعًا من الاهتمام بفكرة المَنفعة،
وهو
اهتمامٌ كان يُعارِضه الرومانتيكيُّون بشدَّة، ولكن هذه الفلسفة التي كانت تفتقِر إلى
الجاذبية والتشويق، كانت لها آخِر الأمر في ميدان الإصلاح الاجتماعي الذي كانت الحاجة
ماسَّةً إليه نتائج تفُوق بكثيرٍ كلَّ ما أدَّى إليه ذلك السخط الرومانتيكي الذي أثارته
بين
الشعراء والمثاليين. لقد كانت التغيرات التي تدعو إليها فلسفة المنفعة تدريجيةً منظمة،
وكانت الثورة أبعدَ الأمور عن أهدافها، ولكنَّ الأمر كان مختلفًا في نظرية ماركس، التي
كانت
أكثر منها عاطفية، والتي ظلَّتْ تصطبِغ بكثيرٍ من العناصر المُتزمِّتة في المثالية الهيجلية
التي كانت مصدرًا لها، فقد أصبح الهدَف في هذه الحالة الأخيرة هو التغيير الكامل للنظام
القائم بالعُنف.
وينبغي أنْ نلاحِظ أنَّ المشكلات الإنسانية الكبرى للمجتمع التكنولوجي لم تتكشَّف
على
الفور لأولئك الذين لم يُعانوا تلك الآلام التي جرَّها ذلك المجتمع على الطبقة العاملة
الصناعية، قد تكون هذه الحقائق الأليمة شيئًا يدعو إلى الأسَف، ولكنها كانت تُعدُّ في
مبدأ
الأمر شيئًا لا مفرَّ منه، على أنَّ عدَم الاكتراث الجامد والمُتحجِّر هذا قد تزعزع خلال
النصف الثاني من القرن الماضي، عندما تنبَّه الكتَّاب إلى المشكلات التي أدَّى إليها
التصنيع. وقد أسهمَتْ ثورة ١٨٤٨م في تنمية المجتمع إلى هذه الحقائق. صحيح أنَّ الاضطرابات
قد أخفقَتْ من حيث هي مناورة سياسية، ولكنها تركَتْ وراءها قدرًا من عدَم الرضا عن الأوضاع
الاجتماعية. وقد وجدت هذه المشكلات في أعمال ديكنز Dickens
في إنجلترا، ومِن بعدِه زولا Zola في فرنسا، تعبيرًا ساعد
على نشْر وعيٍ أعظم بحقيقة الوضع.
لقد رأى المصلحون في ذلك العصر أنَّ من أهم أنواع العلاج التي تشفي كلَّ الأمراض
الاجتماعية، توفير قدرٍ كافٍ من التعليم، ولكنهم ربما لم يكونوا في ذلك على صوابٍ تام.
ذلك
لأنَّ الاكتفاء بتعليم كلِّ شخصٍ القراءة والكتابة والحساب لا يؤدي في ذاته إلى القضاء
على
المشكلات الاجتماعية. كما أنه ليس من الصحيح أن هذه القدرات — التي هي في ذاتها مفيدة
بلا
شك — لا غناء عنها من أجلِ سَير المجتمع الصناعي في الطريق
السليم. فهناك قدرٌ كبير من الأعمال الروتينية
المُتخصِّصة يمكن أن يقوم بها، من حيث المبدأ، أُمِّيون. غير أنَّ التعليم يمكن أن يساعد
بصورةٍ غير مباشرة على حلِّ مشكلاتٍ مُعيَّنة، ما دام يؤدي أحيانًا إلى مساعدة أولئك
الذين
يتعيَّن عليهم تحمُّل المصاعب، على تحسين مصيرهم. وفي الوقت ذاته فمن الواضح أنَّ الاقتصار
على تقديم الدراسات التعليمية لا يؤدي إلى هذه النتائج بالضرورة، بل إنه قد يؤدي بالناس
إلى
الاعتقاد بأنَّ النظام القائم للأشياء هو على ما ينبغي أن يكون عليه. وكثيرًا ما يكون
تشكيل
العقول على هذا النحو فعَّالًا إلى حدٍّ بعيد. ومع هذا كلِّه فقد كان أنصار الإصلاح على
حقٍّ عندما ذهبوا إلى أنَّ هناك مشكلاتٍ مُعيَّنة لا يمكن حلُّها إلا إذا ساد فَهم معقول
للموضوعات التي تتعلَّق بها هذه المشكلات، وهذا الفهم يحتاج بالفعل إلى قدرٍ مُعيَّن
من
التعليم.
ولقد امتدَّ تقسيم العمل، الذي دعا إليه آدم سميث في ميدان إنتاج السلع، إلى ميادين
النشاط العقلي بنفس القدْر تقريبًا. ذلك لأنَّ البحث العلمي خلال القرن التاسع عشر، قد
أصبح
مصنعًا، إنْ جاز هذا التعبير.
لقد اشتُقَّ مذهب المنفعة من نظريةٍ أخلاقية ترجع، بوجهٍ خاص، إلى هتشسون Hutcheson، الذي كان قد عرضها عام ١٧٢٥م. وترى النظرية
باختصار، أنَّ الخير هو اللذَّة والشر هو الألم، ومن هنا فإنَّ أفضل حالةٍ يمكن بلوغها
هي
تلك التي يبلُغ فيها تفوُّق اللذة على الألم أقصى مداه. وقد أخذ بنتام Bentham بهذا الرأي، وأصبح يُعرَف باسم مذهب المنفعة Utilitarianism. كان جريمي بنتام (١٧٤٨–١٨٣٢م) معنيًّا قبل كلِّ شيءٍ
بالتشريع، حيث استمدَّ أفكاره الأساسية من هلفسيوس Helvetius وبيكاريا Beccaria. فالأخلاق
عند بنتام هي قبلَ كلِّ شيءٍ أساسٌ لدراساتٍ عن الأساليب التشريعية الكفيلة بإدخال أفضل
التحسينات على الأوضاع. ولقد كان بنتام زعيما لمجموعةٍ أطلق عليها اسم «الراديكاليون
الفلسفيون»، كان أفرادها يُبدون اهتمامًا كبيرًا بالإصلاح الاجتماعي والتعليم، وكانوا
مُعارِضين بوجهٍ عام لسُلطة الكنيسة والامتيازات التي تحتكِرها الطبقة الحاكِمة في المجتمع.
أما بنتام نفسه فكان ذا مزاجٍ انطوائي هادئ، وبدأ بآراءٍ لم تكن مُتطرِّفة بصورةٍ واضحة،
ولكنه في حياته اللاحقة أصبح، على الرغم من خجلِه الشديد، يُنكر الدِّين بعدوانيةٍ
شديدة.
كان بنتام شديد الاهتمام بالتعليم، وكان يتَّفِق مع زملائه من الراديكاليين في إبداء
ثقةٍ
مُطلقة بالقدرة غير المحدودة للتعليم على مداواة عيوب المجتمع. وينبغي أن نتذكَّر أنه
لم
تكن توجَد في إنجلترا، في عصره، سوى الجامعتَين،
٢ وكان دخولهما مُقتصرًا على أصحاب العقيدة الأنجليكانية الصريحة. ولم يتم تصحيح
هذا الوضع الشاذِّ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أخذ بنتام على عاتقه
مهمة
إتاحة فُرَص التعليم الجامعي لمن لم تتوافر فيهم الشروط الصارمة التي كانت تفرضها
المؤسَّسات القائمة. وكان واحدًا من أفراد المجموعة التي ساعدتْ على إنشاء الكلية الجامعية
في لندن عام ١٨٢٥م. وفي هذه الكلية لم تكن تُفرَض على الطلاب أية اختبارات دينية، ولم
يكن
في الكلية أي مكانٍ للعبادة. وكان بنتام ذاته في ذلك الحين قد خرج تمامًا عن الدين، وعندما
مات اشترط أن يبقى في الكلية هيكلُه العظمي، بعد أن يُكسى بغطاءٍ من الشمع ويرتدي الملابس
المناسبة، وما زال تمثاله الجالس هذا معروضًا ليكون فيه ذكرى دائمة لأحد مؤسِّسي هذه
الكلية.
كانت فلسفة بنتام مَبنية على فكرتَين رئيسيتَين ترجعان إلى القرن الثامن عشر، أُولاهما
هي
مبدأ التَّداعي الذي أكَّدَه هارتلي Hartley. وينبثِق هذا
المبدأ آخِر الأمر، من نظرية السببية عند هيوم، حيث يُستخدَم في تفسير فكرة الاعتماد
السببي
عن طريق تداعي المعاني. وعند هارتلي، وكذلك عند بنتام فيما بعد، يُصبح مبدأ التداعي هو
الآلية الرئيسية في عِلم النفس. وهكذا وضع بنتام مبدأه الواحد هذا، الذي يُمارِس عمله
على
المادة الخام المُقدَّمة من التجربة، محلَّ الجهاز التقليدي للتصوُّرات المُنتمية إلى
الذهن
وفاعليته، وقد أتاح له ذلك أنْ يُقدِّم تفسيرًا حتميًّا لعِلم النفس، لا يتضمَّن تصوُّراتٍ
ذهنية على الإطلاق، وكأنَّ هذه قد اجتثَّتها «سكين أوكام» من جذورها، وفيما بعد، أصبحت
نظرية الفعل المُنعكِس المُكيف (الشرطي)، التي وضعَها بافلوف Pavlov مبنيةً على نفس الموقف الذي يرتكِز عليه علم النفس القائم على
فكرة التداعي.
أما المبدأ الثاني فهو القاعدة النفعية التي تدعو إلى البحث عن أكبرِ قدرٍ من السعادة
والتي أشرْنا إليها من قبل، وترتبط هذه القاعدة بعِلم النفس من حيث إنَّ ما يسعى الناس
إلى
بلوغه هو في رأي بنتام تحصيل أكبر قدرٍ من السعادة لأنفسهم، وكلمة السعادة مُساوية في
معناها هذا لكلمة اللذَّة. فمهمَّة القانون هي التأكُّد من أن أيَّ شخص، في سعيه إلى
سعادته
القصوى، لن يمسَّ حقَّ الآخرين في السعي إلى نفس الهدَف. وعلى هذا النحو يتحقَّق أكبر
قدرٍ
من السعادة لأكبر عددٍ من الناس، ولقد كان هذا هو الهدَف المُشترك لأصحاب مذهب المنفعة
جميعًا، مهما اختلفوا فيما بينهم، ويبدو هذا الهدف، في صيغته الرديئة هذه، مبدأً فاترًا
لا
يُثير حماسًا، غير أنَّ النوايا التي تكمُن من ورائه بعيدة عن ذلك كلَّ البعد، ذلك لأنَّ
مذهب المنفعة، من حيث هو حركة تستهدِف الإصلاح، قد حقَّق قطعًا أكثر ممَّا حقَّقتْه
الفلسفات المثالية مُجتمعة، وقد فعل ذلك دون ضجةٍ كبيرة، وفي الوقت ذاته فإنَّ مبدأ أعظم
قدْرٍ من السعادة لأكبر عددٍ من الناس كان يقبَل التفسير على نحوٍ آخر، فقد أصبح في أيدي
رجال الاقتصاد الليبراليين مُبررًا لحرية التبادل التجاري ومبدأ «دعْه يعمل». إذ كان
يفترِض
أنَّ سعي كلِّ إنسان، بجديَّة وبلا عوائق، إلى أعظم قدرٍ من اللذَّة لنفسه، لا بدَّ —
مع
وجود التشريع السليم — أن يُحقِّق أكبر قدرٍ من السعادة للمجتمع، غير أنَّ الليبراليين
كانوا في هذا مُسرفين في التفاؤل. صحيح أنَّ المرء قد يقبَل، بروحٍ سقراطية، الفكرة القائلة
إن الناس إذا ما حرصوا على الاستزادة من المعرفة وحسبوا نتائج أفعالهم، يتوصَّلون عادةً
إلى
أنَّ إيذاء المجتمع سيؤدي في النهاية إلى إيذائهم هم أنفسهم، ولكنَّ الناس لا يفكرون
دائمًا
في هذه الأمور بعناية، وكثيرًا ما يتصرَّفون باندفاعٍ وجهل، لذلك فإنَّ نظرية «دعْه يعمل»
أصبحت في أيامِنا هذه مُقيَّدة بضماناتٍ مُعيَّنة تحدُّ من طابعها المُطلَق.
وإذن فالقانون يعدُّ جهازًا يضمَن سعْيَ كلِّ فردٍ إلى تحقيق أهدافه دون أن يُلحِق
ضررًا
بأقرانه، وهكذا فإنَّ وظيفة العقوبة ليستِ الانتقام، بل منع الجريمة، والشيء الهام هو
أن
تكون هناك تعدِّيات مُعيَّنة ينبغي أن تُعاقَب، إلا أنْ يكون القَصاص فادحا، كما كان
الاتجاه السائد في إنجلترا في ذلك الحين، وقد عارَض بنتام توقيع عقوبة الإعدام بلا تمييز،
في الوقت الذي كانت تُفرَض فيه بتوسعٍ شديد، وعلى جرائم بسيطة.
إنَّ هناك نتيجتَين هامتَين تترتَّبان على الأخلاق النفعية. الأولى هي أنَّ من الواضح
أن
لدى الناس جميعًا، في نواحٍ معينة، مُيولًا بنفس القدْر من القوة إلى السعادة، وعلى ذلك
فلا بدَّ أن يتمتعوا بحقوقٍ وفرَصٍ متساوية. هذا الرأي كان في وقته تجديدًا، وكان من
البنود
الأساسية في البرنامج الإصلاحي لمجموعة الراديكاليين، أما النتيجة الثانية التي يمكن
استخلاصها فهي أنَّ أكبر قدرٍ من السعادة لا يمكن بلوغُه إلَّا إذا ظلَّتِ الأوضاع ثابتةً.
وهكذا فإنَّ الاعتبارَين اللذين تكون لهما الأولوية بالنسبة إلى غيرهما هما المُساواة
والأمن، أمَّا الحرية فقد رآها بنتام أقلَّ أهمية. ذلك لأنَّ الحرية، شأنها شأن «حقوق
الإنسان»، قد بدَتْ له ميتافيزيقية ورومانتيكية على نحوٍ ما، ولقد كان من الوجهة السياسية
يؤيد الاستبداد العادل، لا الديمقراطية. وبالطبع فإنَّ هذا يُشكِّل إحدى صعوبات مذهبه
في
المنفعة؛ إذ إنَّ من الواضح أنه ليست هناك وسيلة تضمَن أن يسير المُشرِّع بالفعل في طريقٍ
عادل، بل إنَّ هذا يقتضي، في ضوء نظريته النفسية ذاتها، أنْ يسلك المشرِّعون دائمًا ببعُد
نظرٍ شديد، على أساس معرفة كاملة. غير أنَّ هذا الافتراض، كما قُلنا من قبل، ليس صحيحًا
كلَّ الصحة. فهذه الصعوبة، من حيث هي مسألة متعلِّقة بالسياسة العملية، لا يمكن أن تُزاح
مرةً واحدة وإلى الأبد، وأقصى ما يمكن محاولته هو التأكُّد من أنَّ المُشرِّعين لن يُترَك
لهم الحبل على الغارب إلا بقدرٍ مُعيَّن في كل حالة.
ويسير بنتام، في نقدِه الإجماعي، في نفس الخط الذي سار عليه الفلاسفة الماديُّون في
القرن
الثامن عشر، وهو يستبِقُ كثيرًا من الأفكار التي سيقول بها ماركس فيما بعد. فهو يرى أنَّ
أخلاق التضحية السائدة إنما هي خدعة مُتعمَّدة فرضتْها الطبقة الحاكِمة دفاعًا عن مصالحها.
فهي تتوقَّع التضحيات مِن الآخرين. ولكنها لا تقوم بنفسها بأية تضحية. وفي مُقابل هذا
كلِّه
وضَع بنتام مبدأه النفعي.
وعلى حين أنَّ بنتام قد ظلَّ هو الزعيم الفِعلي للراديكاليِّين خلال حمايته، فإنَّ
القوة
الدافعة من وراء الحركة كان جيمس مل James Mill
(١٧٧٣–١٨٣٦م). ولقد كان جيمس مل يُشارك بنتام آراءه النفعية في الأخلاق ويزدري
الرومانتيكيِّين. وفي الميدان السياسي اعتقد أنَّ من الممكن إقناع الناس بالحجَّة والبرهان،
بحيث يقومون بتقديراتٍ عقلية للأمور قبل اتِّخاذ خطوةٍ عملية فيها. وكان يتمشَّى مع هذا
اعتقاد مُبالَغ فيه بأهمية التعليم. وكان ضحية هذه الاعتقادات المُسبقة هو ابن جيمس مل،
جون
استوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣م)، الذي طُبِّقت عليه نظريات أبيه التعليمية بلا رحمة. فقد شكا
في
مرحلةٍ متأخِّرة من حياته قائلًا: «لم أكن طفلًا أبدًا، ولم ألعب الكريكت في حياتي.»
وبدلًا
من ذلك، درس اليونانية وهو في الثالثة، وأعقبتها كل الموضوعات التعليمية الأخرى قبل الأوان.
وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه التجربة المُخيفة إلى إصابته بانهيارٍ عصبي قبل أن يبلُغ
الحادية والعشرين مباشرة. وقد أبدى مل فيما بعدُ اهتمامًا إيجابيًّا بحركة الإصلاح
البرلماني خلال الثلاثينيَّات، ولكنه لم يكترِث بتقلُّد مرتبة الزعامة التي كان يشغلها
أبوه
وبنتام من قبله. وقد انتُخِب في الفترة الواقعة بين عامَي ١٨٦٥م و١٨٦٨م عضوًا في مجلس
العموم عن دائرة وستمنستر، وظلَّ يدعو إلى حقِّ الاقتراع العام، ويسير في اتجاهٍ كان
يتَّصِف في عمومه بالليبرالية والعداء للاستعمار، على طريقة بنتام.
ولقد كان جون استوارت مل في فلسفته مَدينًا لغيره بكلِّ شيءٍ تقريبًا. وكان الكتاب
الذي
أذاع شُهرته أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر هو كتاب «نسَق في
المنطق System of Logic» (١٨٤٣م). وكان الشيء الجديد في الكتاب، بالنسبة إلى عصره، هو
مُعالجته للاستقراء، الذي يقوم في رأيه على مجموعةٍ من القواعد تُذكِّرنا إلى حدٍّ بعيد
بقواعد الارتباط السببي عند هيوم. ولقد كان من المشكلات الدائمة التي يُواجهها المنطق
الاستقرائي، إيجاد تبرير للبرهان الاستقرائي. وكان رأي مل هو أنَّ ما يُعطي مبرِّرًا
للسير
على هذا النحو هو الاطِّراد المُلاحَظ في الطبيعة، الذي هو ذاته استقراء على أعلى مستوى.
وبالطبع فإنَّ هذا يجعل الحجَّة كلها حلقةً مفرغة، وإن كان يبدو أنه لم يكترِث بهذا الأمر.
غير أنَّ هذا الوضع ينطوي على مشكلةٍ أعمَّ بكثير، ما زالت تؤرِّق المناطقة حتى يومنا
هذا.
هذه الصعوبة يمكن التعبير عنها، بصورةٍ عامة، بالقول إنَّ الناس لا يرَون الاستقراء،
على
أية حال، مُحترمًا بالقدْر الذي ينبغي أن يكون عليه، وعلى ذلك فلا بدَّ من إيجاد تبريرٍ
له.
ولكن هذا يؤدي إلى مأزقٍ لا مَخرج منه، وإنْ لم يكن يَشيع الاعتراف به دائمًا. ذلك لأنَّ
التبرير مسألة تنتمي إلى المنطق الاستنباطي. فلا يمكن أنْ يكون هو ذاته استقرائيًّا إنْ
كان
الاستقراء هو ما يجِب تبريرُه. أما الاستنباط نفسه فلا أحد يشعُر بأنه مُضطر إلى تبريره،
لأنه كان مُحترَمًا منذ أقدم العصور. وربما كان المخرج الوحيد هو أن نترُك الاستقراء
مختلفًا كما هو، دون أن نحاول ربطَه بالحجَج الاستنباطية التبريرية.
أما العرْض الذي قدَّمه مل للأخلاق النفعية فهو مُتضمَّن في دراسةٍ بعنوان «مذهب المنفعة»
(١٨٦٣م)، وهي دراسة لا تتجاوز بنتام بكثير. ولقد كان مل، مثل أبيقور، الذي يمكن أن يعدَّ
أول القائلين بمذهب المنفعة، على استعدادٍ لأن يقول في النهاية إنَّ بعض اللذَّات أعلى
من
بعضها الآخر. ولكنَّه لا ينجح نجاحًا حقيقيًّا في إيضاح المقصود باللذَّات الأفضل من
حيث
الكَيف (أو النوع)، في مُقابل الاختلافات الكمية البحتة. وهذا أمر لا يدعو إلى الدهشة،
ما
دام مبدأ أعظم قدْر من السعادة، وحساب اللذَّات الذي يقترِن به، يُزيل الكَيف لصالح
الكم.
وحين حاول مل تقديم برهانٍ يُثبت المبدأ النفعي القائل إن اللذَّة هي ما يسعى إليه
الناس
بالفعل، ارتكب خطأ فادحًا. «إنَّ الدليل الوحيد الذي يمكن تقديمه على أنَّ شيئًا ما قابل
للرؤية Visible، هو أنَّ الناس يرَونه بالفعل. والدليل
الوحيد على أن الصوت قابل لأنْ يُسمَع audible، هو أنَّ
الناس يسمعونه، ومثل هذا يُقال عن المصادر الأخرى لتجربتنا. وبالمِثل أعتقِد أنَّ الدليل
الوحيد الذي يمكن الإتيان به لإثبات أنَّ شيئًا ما مرغوب
فيه desirable، هو أن الناس يرغبون فيه بالفعل.» ولكن هذه مُغالطة مبنيَّة على
تشابُهٍ لفظي يحجُب اختلافًا منطقيًّا. فالمرء يقول عن الشيء إنه قابل للرؤية إنْ كان
من
الممكن رؤيته. أما في حالة «مرغوب فيه» فهناك التباسٌ في المعنى. فإنْ قلتَ عن شيءٍ إنه
مرغوب فيه، قد يكون كلُّ ما أعنيه هو أنَّني أرغب فيه بالفعل. وحين أتحدَّث على هذا النحو
إلى شخصٍ آخر أفرِض بالطبع أنَّ ما يُحبُّه وما لا يحبُّه يُشبهان، على وجه الإجمال،
ما
أُحبُّه أنا وما لا أُحبُّه. فإنْ قُلنا بهذا المعنى إنَّ المرغوب فيه ترغب فيه بالفعل،
لكان ذلك كلامًا لا يُساوي شيئًا. غير أنَّ هناك معنًى آخر نتحدَّث فيه عن شيءٍ بوصفه
مرغوبًا فيه، كما يحدُث حين نقول إنَّ الأمانة مرغوب فيها. فما يعنيه هذا بالفعل هو أنَّنا
ينبغي أن نكون أُمناء، أي أنَّنا نُصدِر هنا حُكمًا أخلاقيًّا. وهكذا فإنَّ حجَّة مل
باطلة
قطعًا، لأنَّ تشبيه «ما يمكن رؤيته Visible» بما هو
مرغوب فيه desirable (بالمعنى الثاني) هو تَشبيه غير
صحيح. وهذا ما سبق أنَّ أشار إليه هيوم حين قال إنَّنا لا نستطيع أن نستنبط ما ينبغي
أن
يكون ممَّا هو كائن.
على أنَّ من السهل، على أية حال، أن يقدِّم المرء أمثلةً مضادَّة مباشرة تُثبت خطأ
هذا
المبدأ. فباستثناء المعنى التافِه الذي تُعرَّف فيه اللذَّة بأنها ما يُرغَب فيه بالفعل،
لا
يكون من الصحيح بوجهٍ عام القول إنَّ ما أرغبه هو اللذَّة، وإن كان إشباع رغبةٍ لا بدَّ
أن
يؤدي بي إلى اللذَّة. وفضلًا عن ذلك فهنالك حالات قد أرغب فيها في شيءٍ لا تربطه بحياتي
أية
علاقة مباشرة سوى وجود هذه الرغبة لدي. فقد يرغب المرء مثلًا في أن يربَح حصانٌ معين
سباقًا
دون أن يُراهن عليه بالفعل. وهكذا فإنَّ مبدأ المنفعة يتعرَّض لعددٍ من الاعتراضات الجدية.
ومع ذلك فمِن الممكن أن تكون أخلاق المنفعة مصدرًا لنشاطٍ اجتماعي فعَّال. إذ إنَّ ما
تنادى
به تلك النظرية الأخلاقية هو أنَّ الخير يتمثَّل في تحقُّق أعظم قدرٍ من السعادة لأكبر
عددٍ
من الناس، وهذا أمر لا يمكن التصديق به بغضِّ النظر تمامًا عمَّا إذا كان الناس يسلكون
دائمًا على نحوٍ يزيد من هذه السعادة الكلية أم لا. عندئذٍ تكون وظيفة القانون هي ضمان
تحقيق السعادة القصوى. وبالمِثل فإنَّ هدَف الإصلاح على هذا الأساس لن يكون الوصول إلى
تنظيماتٍ مُثلى، بقدْرِ ما يكون الوصول إلى تنظيماتٍ قابلة للتطبيق تؤدي بالفعل إلى إسباغ
قدْرٍ من السعادة على المواطن. وتلك هي النظرية الديمقراطية.
لقد كان مل، على عكس بنتام، مُدافعًا متحمِّسًا عن الحرية. وأفضل عرضٍ لآرائه في
هذه
المسألة هو ذلك الذي نجِده في دراسته المشهورة «عن الحرية» (١٨٥٩م) وكان مل قد كتب هذه
الدراسة بالاشتراك مع هاريت تيلور Harriet Taylor التي كان
قد تزوَّجَها عام ١٨٥١م، بعد وفاة زوجها الأول. في هذه الدراسة يقدِّم مل دفاعًا قويًّا
عن
حرية الفكر والمناقشة، ويقترِح وضْع حدودٍ لسلطة الدولة في التدخُّل في حياة رعاياها.
وهو
هنا يُعارِض بوجهٍ خاص ادعاء المسيحية بأنها هي منبع الخير كلِّه.
كان من المشكلات التي بدأت تظهر بوضوحٍ عند نهاية القرن الثامن عشر، الزيادة السريعة
في
السكَّان، التي طرأتْ عندما بدأ التطعيم يُقلِّل نسبة الوفيات. وقد اضطلع بدراسة هذه
المشكلة مالثوس Malthus (١٧٦٦–١٨٣٤م) الذي كان عالمًا في
الاقتصاد، وصديقًا لجماعة الراديكاليِّين، وكان في الوقت ذاته رجل كنيسة إنجليكانيًّا.
فعرَض في كتابه المشهور «دراسة في السكان» (١٧٩٧م) النظرية القائلة إنَّ نسبة زيادة السكان
تتجاوَز بسرعةٍ زيادة الموارد الغذائية. فعلى حين أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية،
فإنَّ موارد الغذاء لا تتزايد إلا بنسبة حسابية. ولا بدَّ أن تأتي نقطةٌ يتعيَّن معها
تحديد
الأعداد، وإلَّا تفشَّت مجاعاتٌ هائلة. وقد اتَّخذ مالثوس موقفًا مسيحيًّا تقليديًّا
في
مسألة الطريقة التي يتمُّ بها هذا التحديد. فلا بدَّ من تعليم الناس بحيث يعرفون كيف
يمارسون «التعفُّف»، وبذلك تظلُّ أعداد السكان مُنخفضة. ولقد أحرز مالثوس نفسه، عندما
تزوَّج، نجاحًا باهرًا في تطبيق هذه النظرية على حالته الخاصة: فخلال أربع سنوات كانت
لدَيه
أسرة مكوَّنة من ثلاثة أطفال.
وعلى الرغم من انتصار هذه النظرية فيبدو الآن أنها لا تتَّسِم بالقدْر المطلوب من
الفعالية، بل يبدو أنَّ رأي كوندورسيه Condorcet في هذه
المسألة كان هو الأصح. فبينما دعا مالثوس إلى «التعفُّف»، نجد كوندورسيه يدعو من قبله
إلى
تحديد النسل بالمعنى الحديث. وهذا أمرٌ لم يغفره له مالثوس أبدًا؛ إذ إنَّ مثل هذه الأساليب
كانت تندرِج، وفقًا لنظريته الأخلاقية الصارمة ضِمن فئة الرذيلة، وكان ينظُر إلى تحديد
النسل بطرقٍ مصطَنَعة كما لو كان معادلًا، على نحوٍ ما، لمُمارسة البغاء.
والواقع أنَّ جماعة الراديكاليين كانت في البداية منقسِمة حول هذه المسألة العامة.
فقد
كان بنتام يؤيد مالثوس، على حين أنَّ مل، الأب والابن، كانا أقربَ إلى الاتفاق مع آراء
كوندورسيه. وقد قُبض على جون استوارت مل ذات مرة وهو في الثامنة عشرة، خلال قيامه بتوزيع
كُتيبات عن وسائل تحديد النسل وسطَ حيٍّ عُمَّالي فقير، وحُكم عليه بالسجن جزاءً على
هذه
الجريمة. ومن هنا لم يكن من المُستغرَب أن يظلَّ موضوع الحرية، في عمومه واحدًا من أهم
الموضوعات التي كانت تشغل اهتمامه.
على أنَّ كتاب «دراسة في السكان» كان مع ذلك إسهامًا عظيم الأهمية في الاقتصاد السياسي،
وقدَّم عددًا من المفاهيم الأساسية التي طُوِّرت بعد ذلك في ميادين أخرى. ومن أهمِّ هذه
المفاهيم، تلك التي استمدَّها داروين (١٨٥٩–١٨٨٢م)، وهي مبدأ الانتقاء الطبيعي، وفكرة
الصراع من أجل البقاء. فعندما ناقش داروين مشكلة المعدَّل الهندسي لزيادة الكائنات العضوية،
وما يترتَّب عليه من صراع، قال في كتابه «أصل الأنواع» (١٨٥٩م)، إنَّ هذه هي نظرية مالثوس
مطبَّقة بقوَّة مضاعَفة على العالَمَين الحيواني والنباتي بأسرهما، إذ لا يمكن أن تكون
هناك، في هذه الحالة، زيادة مُستحدَثة في الغذاء، ولا ضبط للتناسُل على سبيل الحرص ففي
هذا
الصراع الذي يخُوضه الجميع من أجل وسائل العَيش المحدودة، يكون النصر للكائن العضوي الأفضل
تكيُّفًا مع بيئته، وهذه هي نظرية بقاء الأصلح عند داروين. وهي بمعنًى ما مجرد امتداد
لفكرة
المنافسَة الحرة كما قال بها أنصار بنتام. غير أنَّ هذه المنافسة ينبغي عليها، في الميدان
الاجتماعي، أن تخضع لقواعد مُعيَّنة، على حين أنَّ التنافُس الدارويني في الطبيعة لا
يعرف
قيودًا. وعندما تُرجِمت نظرية بقاء الأصلح إلى اللغة السياسية، أصبحت مصدرًا تستلهِم
منه
دكتاتوريات القرن العشرين جانبًا من تفكيرها السياسي. على أنه لو كان داروين نفسه قد
شهد
هذه الامتدادات لنظريته، لكان من المُستبعَد أن يُقرَّها، لأنه كان هو ذاته ليبراليًّا،
وكان يؤيد جماعة الراديكاليين وبرنامجها الإصلاحي.
أما الجزء الآخر من أعمال داروين، والأقل أصالةً بكثير، فهو نظرية التطوُّر، التي
ترتدُّ
في بدايتها، كما رأيْنا، إلى الفيلسوف اليوناني أنا كسيمندر. فكل ما فعله داروين هنا
هو أنه
قدَّم كميةً هائلة من التفصيلات الواقعية المَبنيَّة على ملاحظته الدءوب للطبيعة. أما
براهينه على التطوُّر فإنَّ قيمتها تتفاوَت، ولكنها كانت قطعًا ترتكز على أسُسٍ أقوى
من تلك
التي ارتكز عليها سلفُه اليوناني الكبير. وعلى أية حالٍ فإن النظرية الداروينية كانت
هي
التي طرحت فرض التطوُّر لأول مرةٍ على ساحة النقاش الشعبي الواسع. ولمَّا كانت تُفسِّر
أصل
الأنواع على أساس الانتقاء الطبيعي من كائنٍ عضوي كُلي قديم، فإنها كانت مُعارضة للقصة
التي
تضمَّنَها سفر التكوين، والتي كانت تدافع عنها الكنيسة الرسمية. وقد أدى ذلك إلى صراعٍ
مريرٍ بين الداروينيين وبين المسيحيين المُتمسِّكين من جميع الطوائف. ولقد كان من أقوى
أنصار داروين في هذا الصراع عالم البيولوجيا الكبير توماس
هكسلى Thomas Huxley. وإذا كانت هذه الصراعات قد خفَّتْ حدَّتُها منذ ذلك الحين إلى حدٍّ
ما، فينبغي أن نُلاحظ أنه كانت تُثار، في وقت احتدام النزاع، مشاعر عارمة حول مسألة وجود
أصلٍ مشترك بين الإنسان والقِردة العُليا. وأنا شخصيًّا أعتقد أنَّ اقتراحًا كهذا لا
بدَّ
أن يجرح مشاعر القِرَدة، على حين أن القليلين فقط من البشَر هم الذين يغضبون منه في
أيَّامِنا هذه.
وهناك طريق آخر للتطوُّر بدأ مع الراديكاليين وأدَّى مباشرةً إلى الاشتراكية وإلى
ماركس.
ففي عام ١٨١٧م نشر ريكاردو (١٧٧٢–١٨٢٣م)، الذي كان صديقًا لبنتام وجيمس مل، كتابه «مبادئ
الاقتصاد السياسي والسياسة الضريبية». في هذا الكتاب عرض ريكاردو نظريةً سليمة في الربح،
تجاهلَتْها الأوساط العلمية، ونظرية في القيمة تربطها بالعمل، وترى أنَّ القيمة التبادُلية
لأية سلعةٍ تتوقَّف على كمية العمل المبذول فيها فحسب. وقد أدَّى ذلك بتوماس هودسكين Hodgskin إلى أن يقول، في عام ١٨٢٥م، بأنَّ من حقِّ العامل
أن يحصُل على أرباح القِيَم التي ولَّدَها. أما تقديم ربحٍ إلى الرأسمالي أو صاحب الأرض،
فليس إلَّا سرِقة.
وفي الوقت ذاته وجد العمَّال مدافعًا عن قضيتهم في شخص روبرت أوين Robert Owen الذي كان قد أدخل في مصانع النسيج الخاصَّة به، في
نيولانارك New Lanark أُسسًا جديدة كلَّ الجدَّة
لمُعاملة العمَّال. كان أوين رجلًا يعتنق آراءً أخلاقية رفيعة، وأعلن أنَّ الاستغلال
غير
الإنساني للعمال، الذي كان سائدًا عندئذٍ، خطأ. وقد أثبتَتْ ممارساته أنَّ من الممكن
إدارة
عملٍ اقتصادي بربحٍ مع دفع أجورٍ مُجزية للعمال، ودون أن يشتغلوا ساعات زائدة عن الحد.
ولقد
كان أوين هو القوة الدافعة من وراء أول «قوانين للمصانع»، على الرغم من أنَّ أحكام هذه
القوانين كانت أقلَّ بكثيرٍ مما كان يأمل في تحقيقه. وفي عام ١٨٢٧م أصبح أتباع أوين
يُسمَّون لأول مرة بالاشتراكيين.
على أنَّ تعاليم أوين لم تُعجِب جماعة الراديكاليين، إذ يبدو أنَّ هذه التعاليم كانت
تهدِم الأفكار السائدة عن الملكية. وفي هذه الناحية كان الليبراليون أميلَ إلى تحبيذ
المنافسة الحرَّة والفوائد التي يمكن أن تنجُم عنها. وقد أدَّت الحركة التي نمَتْ تحت
قيادة
أوين إلى ظهور النظام التعاوني، وساعدت على دعم الحركة النقابية في عهدها الأول. ولكن
هذه
التطوُّرات المُبكرة لم تُحرِز نجاحًا فوريًّا نظرًا إلى افتقارها إلى فلسفةٍ اجتماعية.
فقد
كان أوين قبل كلِّ شيءٍ رجلًا عمليًّا يسيطر عليه إيمان قاطع بفكرته الرئيسية. وكان على
ماركس أنْ يتولَّى مهمة تقديم أساسٍ فلسفي للحركة الاشتراكية. وقد ارتكز ماركس في هذا
على
نظرية القيمة المبنية على العمل، كما قال بها ريكاردو، من الناحية الاقتصادية، وكذلك
على
الديالكتيك (الجدل) الهيجلي بوصفه أداة للبحث الفلسفي. وفي هذا الصدَد نجد أنَّ مذهب
المنفعة إنما كان نقطة الانطلاق لنظرياتٍ أخرى أثبتَت في النهاية أنها أقوى منه تأثيرًا
بكثير.
لقد تميَّزت بلدة تريف Treves على نهر الموزيل، بكثرة
عدد القدِّيسين الذين أنتجتْهم طوال تاريخها. ذلك لأنَّها لم تكن مسقط رأس القديس أمبروز
فحسب، بل إنها كانت أيضًا مسقط رأس كارل ماركس (١٨١٣–١٨٨٣م). ولا جدال في أنَّ ماركس
كان،
من ناحية القداسة، أنجح الإثنين، وكان من العدل أن يكون الأمر كذلك. فقد كان هو مؤسِّس
حركةٍ قدَّسَتْه، بَينما كان مواطنه وزميله في القداسة مجرَّد واحدٍ من المُعتنقين
المتأخِّرين للعقيدة التي كان يؤمن بها.
كان ماركس ينحدِر من أسرةٍ يهودية تحوَّلت إلى البروتستانتية. وقد تأثَّر بقوة، خلال
أيام
دراسته الجامعية، بالهيجلية التي كانت هي الموجة السائدة عندئذٍ. ثم اشتغل بالصحافة،
ولكن
عملَه هذا توقَّف فجأة عندما حظرت السلطات البروسية «مجلة الراين» التي كان يعمل بها
عام
١٨٤٣م. عندئذٍ سافر ماركس إلى فرنسا وتعرَّف إلى كبار الاشتراكيين الفرنسيين. وفي باريس
قابل فريدرش إنجلز Friedrich Engels الذي كان أبوه يملك
مصانع في ألمانيا ومانشستر. وكان إنجلز يُدير المصنع الأخير، مما أتاح له أن يطَّلِع
ماركس
على مشكلات العمل والصناعة في إنجلترا. وقد نشَر ماركس «البيان الشيوعي» عشية ثورة ١٨٤٨م،
وشارك بنشاطٍ في الثورة، في فرنسا وألمانيا. وفي عام ١٨٤٩م أصدرت حكومة بروسيا حكمًا
بنفيه،
فالتجأ إلى لندن، حيث ظلَّ — باستثناء بضع رحلاتٍ قصيرة إلى موطنه — حتى نهاية حياته.
وقد
كان ماركس وأُسرته يعيشون أساسًا على المعونة التي يقدِّمها إليهم إنجلز. ولكن ماركس
كان،
على الرغم من فقره، يدرس ويكتُب بحماسة، مُمهِّدًا بذلك الطريق للثورة الاجتماعية التي
شعَر
بأنها وشيكة الوقوع.
لقد تشكَّل تفكير ماركس بفعل ثلاثة مؤثِّرات رئيسية. فهناك أولًا ارتباطه بالراديكاليين
الفلسفيين، الذين كان مُماثلًا لهم في معارضته للرومانتيكية وسعْيِه إلى إيجاد نظريةٍ
اجتماعية تصِف نفسها بأنها علمية، فقد أخذ عن ريكاردو نظرية القيمة المُرتكزة على العمل،
وإنْ كان قد فسَّرها بطريقة مختلفة. فقد كان ريكاردو ومالثوس يبنيان تفكيرهما على أساس
تسليمٍ ضِمني بأن النظام الاجتماعي القائم ثابت لا يتغيَّر، ومن ثَم فإنَّ المنافسة الحرَّة
تجعل أجور العمل باقيةً عند مستوى الكفاف، ممَّا يؤدي إلى ضبط أعداد السكان. أما ماركس
فيأخُذ بوجهة نظر العامل الذي يستغلُّ الرأسمالي عمله. فهذا العامل يُنتج قيمةً تفوق
أجرَه،
وهذه القيمة الفائضة يبتزُّها الرأسمالي من أجل منفعته الخاصة، وعلى هذا النحو يكون
مُستغلًّا. ولكن هذه ليست في الواقع مسألة شخصية؛ إذ إنَّ إنتاج سلع على نطاقٍ صناعي
يقتضي
تضافُر أعدادٍ كبيرة من البشر وكميات ضخمة من المعدَّات. وعلى ذلك ينبغي فهم الاستغلال
من
خلال نظامٍ في الإنتاج، ومن خلال علاقات الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية ككل بهذا
النظام.
وهذا يؤدي بنا إلى المصدر الثاني لتفكير ماركس، وهو المذهب الهيجلي؛ ذلك لأنَّ الأمر
الهام عند ماركس، بقدْر ما كان عند هيجل، هو النسَق الكلي لا الفرد. فالنسق أو النظام
الاقتصادي هو الذي ينبغي التصدِّي له، لا الشرور أو الأضرار الجزئية. وفي هذه الناحية
كان
ماركس على اختلافٍ تام مع ليبرالية الراديكاليين وإصلاحاتهم. فالمذهب الماركسي يرتبط
أوثقَ
الارتباط بنظرياتٍ فلسفية هي في أساسها هيجلية. وقد يكون هذا هو السبب الذي لم يجعل
للماركسية أيةَ شعبية حقيقية في إنجلترا في أيِّ وقتٍ إذ إن الإنجليز في عمومهم لا يتأثرون
كثيرًا بالفلسفة.
كذلك كان هيجل هو الأصل الذي استُمِدَّت منه نظرة ماركس التاريخية إلى التطوُّر
الاجتماعي. فهذه النظرة التطوُّرية ترتبط بالجدَل (الديالكتيك)، الذي اقتبسه ماركس بلا
تغيير عن هيجل. فالمسار التاريخي يتقدَّم بطريقةٍ جدلية. وهنا نجد تفسير ماركس هيجليًّا
تمامًا في منهجه، وإن كان كلٌّ منهما ينظُر إلى القوة المحرِّكة للتاريخ بطريقةٍ مختلفة.
فعند هيجل يكون مجرى التاريخ تحقُّقًا ذاتيًّا متدرِّجًا للروح التي تصبو إلى المُطلَق.
أما
ماركس فيستعيض عن الروح بأساليب الإنتاج، وعن المُطلَق بالمجتمع اللاطبقي. فكلُّ نظامٍ
في
الإنتاج يُولِّد بمُضيِّ الوقت توتُّراتٍ داخلية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة التي
ترتبط به. ثم تنحلُّ هذه المتناقِضات، كما يُسمِّيها ماركس، إلى مركَّب أعلى. والطابع
الذي
يتِّخذه الصراع الجدَلي هو الحرب الطبقية، وهي حرب تظلُّ مُستعرَّة إلى أن يحلَّ محلها،
في
ظلِّ الاشتراكية، مُجتمع لا طبقي. وما إن يتم بلوغ هذه المرحلة حتى لا يعود هناك شيء
يُحارَب من أجله، وتستطيع العملية الجدلية عندئذٍ أن تهدأ وتستريح. لقد كانت جنة الله
في
الأرض، عند هيجل، هي الدولة البروسية، أما عند ماركس فهي المجتمع اللاطبقي.
وينظُر ماركس إلى تطوُّر التاريخ بطريقةٍ لا تقلُّ حتميةً عن هيجل، وكلاهما يستنبط
نظرتَهُ هذه من نظريةٍ ميتافيزيقية. لذلك فإنَّ النقد المُوجَّه إلى هيجل يمكن أن ينطبق
بلا
تغييرٍ على ماركس. والواقع أنَّ ملاحظات ماركس، بقدْر ما تكشِف عن فهمٍ ذكيٍّ لأحداثٍ
تاريخية مُعيَّنة وقعت بالفعل، لا تحتاج إلى منطقٍ تستنبط منه كما تدَّعي.
ولكن، على حين أنَّ العرْض الذي قدَّمَه ماركس كان هيجليًّا في منهجه، فإنه انتقد
بشدَّةٍ
تأكيد هيجل للطبيعة الرُّوحية للعالم. وهكذا قال ماركس إنَّ من الواجب أن نقلب هيجل رأسًا
على عقب، وحقَّق ذلك عن طريق الأخذ بالمذاهب المادية التي شهِدها القرن الثامن عشر. وفي
هذه
المادية نجِد العنصر الرئيسي الثالث في الفلسفة الماركسية. ولكن ماركس يُقدِّم هنا أيضًا
تفسيرًا جديدًا للنظريَّات القديمة. فإذا تركْنا جانبًا العنصر المادي في التفسير الاقتصادي
للتاريخ، وجدْنا أنَّ مادية ماركس الفلسفية ليست من النوع الآلي. بل إنَّ ما كان يقول
به
ماركس أقرب إلى أن يكون نظرية في الفاعلية ترتدُّ إلى فيكو.
وقد عبَّر عن هذه المسألة في عبارة مشهورة وردتْ في قضاياه الإحدى عشرة عن فويرباخ
(١٨٤٥م) فقال: «لقد اقتصر الفلاسفة على تفسير العالم على أنحاء شتَّى، ولكن المهمة الحقيقية
هي تغييره.» وهو يتقدَّم في هذا الصدَد بمفهوم للحقيقة يُذكِّرنا إلى حدٍّ بعيدٍ بصيغة
فيكو، ويستبق بعض أشكال المذهب البرجماتي. فالحقيقة عندَه ليستْ مسألة تأمُّل، وإنما
هي شيء
ينبغي إثباته بالممارسة. أما النظرة التأمُّلية فترتبط بالنزعة الاشتراكية
اللاطبقية.
إنَّ ما يحاول ماركس القيام به هو أنْ يمزج بين المذهب المادي وبين فكرة الفاعلية
التي
طوَّرتْها المدرسة المثالية بوجهٍ عام، وهيجل بوجهٍ خاص. ونظرًا لأنَّ المذاهب الآلية
كانت
قد تخلَّتْ عن فكرة الفاعلية هذه، لعدم وجود مكانٍ لها فيها، فإنها أتاحتِ الفرصة للمثالية
كيما تطوِّر هذا الجانب من النظرية، وإنْ كان ماركس قد رأى بالطبع ضرورة قلْبِها رأسًا
على
عقِب قبل أن يُمكن الإفادة منها على أي نحو.
أما عن تأثُّر فيكو، فربما لم يكن ماركس على وعيٍ كامل به، وإن كان من المؤكد أنه
عرَف
كتاب «العلم الجديد» وقد أطلَقَ على نظريته الخاصة اسم المادية الجدلية، مؤكدًا بذلك
عنصرها
التطوُّري والهيجلي.
من هذا كلِّه يتَّضِح لنا أنَّ النظرية الماركسية مُعقَّدة وعالية المستوى إلى حدٍّ
بعيد.
والواقع أنَّ نظرية المادية الجدَلية هي مذهب فلسفي يدَّعي أنصاره أنه ينطبِق على نطاقٍ
شامل. وقد أدَّى ذلك، كما هو مُتوقَّع، إلى قدرٍ كبير من التفكير النظري الفلسفي، على
الطريقة الهيجلية، حول مسائل كان من الأفضل تركُها للبحوث العلمية التجريبية. ويظهر أول
مثالٍ لذلك في كتاب إنجلز «ضد دورنج Anti-Duhring» الذي
انتقد فيه نظريات الفيلسوف الألماني دورنج. غير أنَّ التفسيرات الديالكتيكية المفصَّلة
للسبب، الذي يجعل الماء يغلي، على أساس تغيُّرات كمية تتراكم حتى تُصبح تغيُّرات كيفية،
وعلى أساس التناقُض والنفي ونفي النفي — كل هذا لا يقلُّ شططًا عن فلسفة الطبيعة عند
هيجل.
فلا جدوى في الواقع من التنديد بالعِلم التقليدي بحجَّة أنه يستهدِف غاياتٍ
بورجوازية.
لقد كان ماركس على الأرجح مُصيبًا عندما قال إنَّ الاهتمامات العلمية العامة لمجتمعٍ
ما
تُعبِّر بقدرٍ مُعين عن المصالح الاجتماعية للفئة المُسيطِرة عليه. وهكذا يمكن القول
إنَّ
إحياء علم الفلك في عصر النهضة تمَّ لصالح التوسُّع التجاري، وزاد من قوَّة الطبقة الوسطى
الصاعدة، وإنْ كان في وُسع المرء أن يُلاحظ أنه ليس من السهل تفسير إحدى الظاهرتَين من
خلال
الأُخرى. غير أنَّ هذه النظرية يشُوبها عَيبان أساسيَّان: فمِن الواضح أولًا أنَّ حلَّ
مشكلاتٍ جزئية خاصة في ميدان عِلمي مُعيَّن لا يتعيَّن أن يكون مُرتبطًا على أي نحوٍ
بأي
شكلٍ من أشكال الضغوط الاجتماعية. وليس معنى ذلك بالطبع أن نُنكِر أنَّ هناك حالاتٍ تُعالَج
فيها مشكلة مُعيَّنة استجابةً لحاجةٍ وقتية عاجلة. ولكن المشكلات العلمية في عمومها لا
تُحلُّ بهذه الطريقة. وهذا يؤدي بنا إلى نقطة الضعف الثانية في التفسير المادي الجدلي،
وأعني بها عدم اعترافه بالحركة العلمية بوصفها قوةً مُستقلة. ولنقُل هنا، مرةً أخرى،
إنَّ
أحدًا لا يُنكر وجود روابط هامَّة بين البحث العِلمي وأمور أخرى تحدُث في المجتمع. غير
أنَّ
ممارسة العِلم قد اكتسبت، بمُضيِّ الوقت، قوة دفعٍ خاصة بها، تضمَن لها قدرًا مُعيَّنًا
من
الاستقلال الذاتي. وهذا يصدُق على كافة أنواع البحث الموضوعي المُنزَّه من الغرَض. وعلى
ذلك، فبينما كان للمادية الجدلية أهميَّتها في إيضاح أهمية المؤثرات الاقتصادية في تشكيل
حياة المجتمع، نجدها تُخطئ حين تُفرط في تبسيط الأمور على أساس هذه الفكرة الرئيسية.
ويؤدي ذلك، في الميدان الاجتماعي، إلى عددٍ من النتائج الغريبة. ذلك لأنك إنْ لم توافق
على النظرية الماركسية، فسيُنظَر إليك على أنك لستَ منحازًا إلى صفِّ التقدُّم. واللفظ
المُبجَّل الذي يُطلَق على أولئك الذين لم ينزل عليهم الوحي الجديد هو «رجعي». وهكذا
يكون
الاستنتاج حرفيًّا، هو أنك تعمل ضدَّ التقدُّم، في اتجاهٍ تراجعي. غير أنَّ المسار الجدلي
يضمَن أنه سيتم اكتساحك في الوقت المناسب، لأنَّ التقدُّم لا بدَّ أن ينتصِر في النهاية.
وهكذا تصبح هذه هي الحجة التي يُبرَّر بها استخدام العنف في التخلُّص من العناصر غير
المسايرة. وهنا نجد الفلسفة الماركسية السياسية تصطبغ بصبغة العقيدة ذات الرسالة
المُحدَّدة، التي عبَّر عنها مؤسِّس عقيدةٍ أخرى أسبق منها بقوله: من ليس منَّا فهو علينا.
وواضح أنَّ هذا ليس هو المبدأ الذي يمكن أن تقوم عليه أيةُ نظريةٍ ديمقراطية.
كل هذا يقُودنا إلى القول بأنَّ ماركس لم يكن مُفكرًا سياسيًّا نظريًّا فحسب، بل كان
أيضًا كاتبًا ثوريًّا تحريضيًّا. وكثيرًا ما تتَّخِذ كتابتُه لهجة السخط والاستقامة
الأخلاقية، وهي لهجة بعيدة عن المنطق كل البُعد إن كان الجدَل سيسير في طريقه الحتمي
مهما
كان الأمر. فإذا كانت الدولة، كما قال لينين فيما بعد، سوف تذبُل، فلا معنى لإثارة ضجَّة
حولَها مُقدَّمًا. غير أنَّ هذا الهدف التاريخي البعيد، وإن كان يدعو إلى الإعجاب لو
تأمَّلناه بطريقةٍ نظرية، لا يُقدِّم عزاءً كبيرًا لأولئك الذين يعانون في هذا المكان،
وفي
هذه اللحظة. وعلى ذلك فإنَّ السعي إلى أيِّ تحسينٍ للأوضاع يمكن الحصول عليه هو، في كل
الأحوال، أمرٌ جدير بالاحترام، حتى لو لم يكن مُتمشيًّا تمامًا مع نظرية التطوُّر الجدَلي
للتاريخ. ذلك لأنَّ ما تدعو إليه هذه النظرية هو قلب الأوضاع القائمة بالعُنف. وبالطبع
يبدو
هذا الجانب من النظرية، في أساسه، تعبيرًا عن المحنة الأليمة للطبقة العامِلة في القرن
التاسع عشر، وهو بالفعل مِثال جيد لتفسير ماركس الاقتصادي للتاريخ، الذي يُفسِّر الأفكار
والنظريات السائدة في أيِّ عصرٍ من خلال النظام الاقتصادي السائد. ولكن هذه النظرية تَقرُب
إلى حدِّ الخطر من البرجماتية في ناحيةٍ واحدة على الأقل؛ إذ يبدو أنها تستغني عن الحقيقة
لصالح الأفكار المُسبَقة التي تتحكَّم فيها العوامل الاقتصادية. فإذا ما طبَّقْنا هذا
المعيار على النظرية ذاتها، لوجَب أن نقول إنها هي ذاتها إنما تعكس أوضاعًا اجتماعية
مُعيَّنة في زمنٍ مُحدَّد. ولكنَّ الماركسية في هذه النقطة تفترِض ضِمنًا أنها استثناء
من
هذه القاعدة، إذ تؤكِّد أنَّ التفسير الاقتصادي للتاريخ على النمَط المادي الجدلي هو
الرأي
الصحيح.
ولم يكن ماركس ناجحًا كلَّ النجاح في تنبُّؤاته عن التطوُّر الجدَلي للتاريخ. فقد
تنبَّأ
فعلًا، بقدْرٍ من الدقة، بأنَّ نظام المنافسة الحرَّة سيؤدي بمُضيِّ الوقت إلى تكوين
احتكارات. وهذا أمر نستطيع التوصُّل إليه بالفعل من خلال النظرية الاقتصادية التقليدية.
ولكنَّ الأمر الذي أخطأ فيه ماركس هو افتراضُه أنَّ الأغنياء سيُصبحون أكثر غنًى، والفقراء
أكثر شرًّا، إلى أن يصِل التوتُّر الجدَلي لهذا «التناقض» إلى حدٍّ من القوة يُحتِّم
قيام
الثورة. فلم يكن هذا هو ما حدَث على الإطلاق، بل إنَّ البلدان الصناعية في العالم قد
ابتكرَتْ طرقًا للتنظيم خفضت من حدَّة الصراع الاجتماعي عن طريق الحدِّ من حرية التصرُّف
في
الميدان الاقتصادي وإدخال مشاريع الرعاية الاجتماعية. وعندما جاءت الثورة بالفعل، لم
تحدُث،
كما تنبَّأ ماركس، في الجزء الغربي الصناعي من أوروبا، وإنما في روسيا الزراعية.
إنَّ الفلسفة الماركسية هي آخِر مذهبٍ فلسفي عظيم أنتجَه القرن التاسع عشر؟ وأهم
أسباب
جاذبيَّتها الشديدة وتأثيرها الواسع هو الطابع الدِّيني لتنبُّؤاتها الطوباوية، فضلًا
عن
العنصر الثوري في برنامج العمل الذي تدعو إليه. أما عن خلفيَّتها الفلسفية فإنها، كما
حاولْنا أن نُبيِّن، لا تتصِف بالبساطة الشديدة أو بالجدَّة التامَّة التي تُنسَب إليها
في
كثيرٍ من الأحيان. فالتفسير الاقتصادي للتاريخ هو واحد من عددٍ من النظريات العامة في
التاريخ، التي استمدَّت أصلها الأول من هيجل. ومن الأمثلة الأخرى لهذه النظريات، نظرية
كروتشه Croce في التاريخ بوصفه قصَّة الحرية، وهي
نظرية تنتمي إلى الجيل التالي. ولقد كانت نظرية التناقُض عند ماركس، على وجه الخصوص،
مُستمدَّة مباشرةً من هيجل، وهي تُواجِه نفس الصعوبات التي واجهها هذا الأخير. وقد أدَّى
ذلك، من الوجهة السياسية إلى إثارة مشكلاتٍ على قدرٍ غير قليل من الضخامة في عصرنا هذا.
فحوالي نصف العالم اليوم تحكُمه أنظمة تثِق ضمنيًّا بنظريات ماركس. ومن هنا فإنَّ إمكان
التعايش السِّلمي معها يقتضي قدرًا من التخفيف من الالتزامات النظرية الصارمة.
أما في فرنسا، فإنَّ حركة «الموسوعيِّين» الفلسفية قد وجدَتْ خليفةً لها في شخص
أوجست كونت August Comte (١٧٩٨–١٨٥٧م). ولقد كان كونت
يشارك الراديكاليين الفلسفيين احترامهم للعِلم ومعارضتهم للعقائد السائدة، وأخذ على عاتقه
تقديم تصنيفٍ شامل لكل العلوم، بادئًا بالرياضة ومُنتهيًا إلى عِلم الاجتماع. ولقد كان
مِثلَ مُعاصريه الإنجليز، معارضًا للميتافيزيقا، وإن لم يكن قد عرَف، مثلهم أيضًا، إلَّا
القليل عن المثالية الألمانية. ونظرًا إلى الحاجة إلى ضرورة البدء بما هو مُعطًى مباشرة
في
التجربة، والامتناع عن محاولة تجاوز الظواهر، فقد أطلق على مذهبه اسم «الفلسفة الوضعية».
ومن هذا المصدر جاء اسم المذهب الوضعي.
وُلِد كونت في مدينة مونبلييه Montpellier الجامعية
القديمة، لعائلة مُحترمة وتقليدية من موظفي الحكومة. وكان أبوه ملكيَّ النزعة، وكاثوليكيًّا
مُتزمِّتًا، ولكنَّ كونت سرعان ما تجاوز النطاق والحدود لتربيته العائلية. وخلال دراسته
في
معهد البوليتكنيك بباريس، طُرِد من المعهد بسبب اشتراكه في تمرُّدٍ طلَّابي ضدَّ أحد
الأساتذة. وقد أدى ذلك فيما بعدُ إلى منعِه من الحصول على وظيفةٍ جامعية. وفي سنِّ السادسة
والعشرين نشر أول عرضٍ تخطيطي لمذهبه الوضعي، ثُم ظهر كتابه «دراسة في الفلسفة الوضعية»
في
ستة مجلدات، بدءًا من عام ١٨٣٠م. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة من حياته، كرَّس قدرًا
كبيرًا من وقته لوضع معالم ديانةٍ وضعية، كان يُريد منها أن تحلَّ محلَّ العقائد الشائعة.
وهكذا كان كتابه المقدَّس الجديد يجعل الإنسانية هي العُليا، بدلًا من الألوهية. ولقد
كان
كونت طوال حياته مُعتلَّ الصحة، وكان يُعاني من نوباتٍ من الاكتئاب العقلي وضعتْه على
حافة
الانتحار. وكان يرتزق من تقديم دروسٍ تعليمية خاصة، مصحوبة بهدايا من الأصدقاء والمُعجَبين،
الذين كان من بينهم جون استوارت مل. ولكن يبدو أنَّ كونت كان صبره ينفَدُ من أولئك الذين
لا
يقبلون أن يعترفوا دوامًا بعبقريته، ممَّا أدى آخِر الأمر إلى فتور صداقة مل له.
إنَّ فلسفة كونت تحمل ملامح شَبَهٍ مع تفكير فيكو، الذي كان كونت قد درَسَه، فهو يستمدُّ
من فيكو فكرة أولوية التاريخ في أمور البشر، كما أمدَّه هذا المصدر بفكرة المراحل المختلفة
في التطور التاريخي للمجتمع البشري. وكان فيكو ذاته قد استمدَّ ملاحظته هذه من دراسةٍ
للأساطير اليونانية. وقد أخذ كونت بالرأي القائل إنَّ المجتمع ينتقل من حالةٍ لاهوتية
أصلية، مارًّا بمرحلةٍ ميتافيزيقية، لينتقِل أخيرًا إلى ما يُسمِّيه بالمرحلة الوضعية،
التي
تنتقِل بالمسار التاريخي إلى نهايته السعيدة. وفي هذا الصدَد كان فيكو مُفكرًا أكثر واقعية،
فاعترف بأنَّ المجتمع يُمكن أن ينتكِس من فترات رُقِيٍّ وإنجاز حضاري إلى عهودٍ بربرية
تعود
من جديد، كما حدَث بالفعل في العصور المُظلمة التي أعقبت تفكُّك العالَم الروماني. وربما
كان هذا ينطبق على عصرِنا الحاضر أيضًا. فإذا عُدنا إلى كونت، وجدْناه يقول إنَّ المرحلة
الوضعية يحكمها العِلم العقلاني. وتلك هي نظرية كونت المشهورة في مراحل التطوُّر الثلاث.
وقد تصوَّر البعض أننا نجد هنا صدًى مُعيَّنًا لهيجل، ولكن التشابُه سطحي. ذلك لأنه لا
ينظُر إلى التطوُّر من مرحلة إلى التالية بطريقة جدلية (ديالكتيكية)، أما مسألة كَون
المراحل ثلاثًا فهي صُدفة بحت. والأمر الذي يشترك فيه هيجل بالفعل مع كونت هو فكرته
التفاؤلية في قيام حالة كمالٍ نهائية يصِل إليها المسار التاريخي. وكما رأينا فقد كانت
لماركس آراء مُماثلة، وهكذا كان هذا أحد الأعراض العامة للنزعة التفاؤلية في القرن التاسع
عشر.
تذهب النظرية الوضعية إلى أنَّ جميع الميادين العلمية قد مرَّت بهذا التطور ذي المراحل
الثلاث. والعِلم الوحيد الذي لم يتم اجتياز جميع العوائق حتى الآن هو الرياضة. أما في
الفيزياء فإنَّ المفاهيم الميتافيزيقية ما زالت موجودةً بكثرة، وإن كان الأمل معقودًا
على
ألا تكون المرحلة الوضعية بعيدة. وسوف نرى فيما بعد كيف أن ماخ Mach قد قدَّم تفسيرًا وضعيًّا للميكانيكا بعد خمسين عامًا من عصر كونت.
والشيء الذي حاول كونت أن يفعله هو، قبل كلِّ شيء، ترتيب ميدان الدراسة العلمية بأكمله
ترتيبًا منطقيًّا شاملًا. وفي هذه المحاولة أثبَتَ أنه خليفة حقيقي للفلاسفة «المَوسوعيين».
وبطبيعة الحال فإنَّ فكرة القيام بترتيبٍ كهذا هي فكرة قديمة إلى أبعدِ حد، ترتدُّ إلى
أيام
أرسطو. ويُسهِم كل علمٍ في هذا التسلسل في تفسير العلوم التي تليه، ولكن ليس تلك التي
تسبقه. وبذلك نصِل إلى قائمة كونت، التي تبدأ بالرياضة ثم الفلك والفيزياء والكيمياء
وعِلم
الأحياء وتنتهي بعِلم الاجتماع.
والعِلم الهام حقًّا هو الأخير. وقد نحَتَ كونت لفظ «عِلم
الاجتماع Sociology» ليدلَّ على ما كان يمكن أن يُسمِّيَه هيوم «علم الإنسان». وفي
رأي كونت أنَّ هذا عِلم لم يقُم بعد، ولذا نظر إلى نفسه على أنه مؤسِّسُه. ويُعدُّ علم
الاجتماع من الوجهة المنطقية آخِرَ العلوم وأعقَدَها في السلسلة وإن كنا نحن، واقعيًّا،
نحسُّ بالأُلفة تجاه الأوضاع الاجتماعية التي نحيا فيها أكثر ممَّا نحسُّ بها تجاه
بديهيَّات الرياضة البحت. وهذا يكشف عن مظهرٍ آخر لأولوية العامل التاريخي، على نحو ما
صادفْنا من قبل عند فيكو. ذلك لأنَّ الحياة الاجتماعية للإنسان هي مسار التاريخ.
ولقد كانت المرحلة الوضعية للحياة الاجتماعية التي ألهبَتْ خيال كونت، تتَّسِم بالعيوب
التي تشترك فيها جميع المذاهب الطوباوية. فهنا نجد تأثيرًا ملحوظًا للمثالية على تفكير
كونت، وإن لم تكن الطريقة التي استمدَّ بها هذا التأثير واضحةً كلَّ الوضوح. إنه يرى
أنَّ
هناك، في كل مرحلةٍ من مراحل التطوُّر الثلاث، اتجاهًا مُتدرِّجًا إلى التوحيد، يمرُّ
هو
ذاته بثلاث خطوات. ففي المرحلة اللاهوتية نبدأ بحيوية
الطبيعة Animism التي تَنسِب الألوهية إلى جميع الأشياء التي يراها الإنسان
البدائي، ومن هذه ننتقل إلى تعدُّد الآلهة، ثُمَّ إلى التوحيد، بحيث يكون الاتجاه دائمًا
نحو المزيد من التوحيد. وفي حالة العِلم يعني هذا الاتجاه أنَّنا نسعى إلى إدراج عددٍ
من
الظواهر المتنوِّعة تحت فئةٍ واحدة. أما في حالة المُجتمع فإنَّ الهدَف هو الانتقال من
الأفراد في اتجاه الإنسانية ككُل، وهو رأي يحمِل نغمةً هيجلية. وعندما نصِل إلى مرحلة
الإنسانية الوضعية، يكون الحُكم للسُّلطة الأخلاقية التي يملِكُها صفوةٌ من العلماء،
على
حين أنَّ السلطة التنفيذية يُعهَد بها إلى خبراء فنيِّين. وهكذا لا يكون التنظيم العام
مُختلفًا كثيرًا عمَّا نجده في الدولة المُثلى لجمهورية أفلاطون.
أما من الناحية الأخلاقية فإنَّ المذهب يقتضي أن يحدَّ المرء من رغباته الخاصة لكي
يتفانى
من أجل تقدُّم الإنسانية. هذا التأكيد لأهمية الهدَف أو «القضية» إلى حدِّ استبعاد المصالح
الخاصة هو أيضًا من السِّمات المُميزة للنظرية السياسية الماركسية. وكما هو متوقَّع،
فإنَّ
المذهب الوضعي لا يعترِف بإمكان قيام نوعٍ استبطاني من عِلم النفس، وهو يحرِص على إنكار
هذا
الموضوع على وجه التحديد، على أساس استحالة قيام عملية المعرفة بمعرفة ذاتها، وهو رأيٌ
يُمكننا أن نُقرَّ بصحته إذا كان يعني أنه ليس من الصحيح بوجهٍ عام، في الموقف المعرفي،
أن
يعرف العارف معرفته. ولكن الوضعية باستبعادها الفروض بوجهٍ عام على أساس أنها ميتافيزيقية
تُسيء فَهم طبيعة التفسير.
أما فلسفة ش. س. بيرس C. S. Peirce (١٨٣٩–١٩١٤م)
فتسُودها نظرة مختلفة كل الاختلاف عن الوضعية. فعلى حين أنَّ كونت قد استبعد الفروض على
أساس أنها ميتافيزيقية، حرَص بيرس، بعكس ذلك، على أن يُبيِّن أن صياغة الفروض نشاط ذهني
أساسي له منطقُه الخاص. ولقد كان إنتاج بيرس غزيرًا، غير مُتماسِك، وكان فضلًا عن ذلك
يتصارع مع مشكلاتٍ صعبة وأفكار جديدة، ومن هنا لم يكن من السهل الوصول إلى رأيٍ واضح
عن
موقفه. ولكن ممَّا لا شكَّ فيه أنه واحدٌ من أكثر العقول أصالةً في الجزء الآخر من القرن
التاسع عشر، وهو بلا جدالٍ أعظم مُفكر أمريكي على الإطلاق.
وُلِد بيرس في كيمبردج بولاية ماساشوستس، لأبٍ كان أستاذًا للرياضيَّات بجامعة هارفارد،
حيث تلقَّى بيرس ذاته دراسته الجامعية. ولم تُتَحْ لبيرس فرصة الحصول على وظيفةٍ أكاديمية
دائمة مضمونة، إذا استثنينا فترتَين من التدريس دامتا بضع سنوات. وقد شغل وظيفة حكومية
في
مصلحة المساحة، وأنتج إلى جانب أعماله العلمية، سيلًا مُتدفقًا بانتظامٍ من الأبحاث
والمقالات حول موضوعاتٍ فلسفية شديدة التنوُّع، وكان عجزُه عن الحصول على الأستاذية راجعًا،
إلى حدٍّ ما، إلى تجاهُله لمعايير المُسايرة كما كان يتطلَّبها المجتمع الذي عاش فيه.
وفضلًا عن ذلك فإنَّ القليلين، باستثناء بعض الأصدقاء والعلماء الباحثين، هم الذين اعترفوا
بعبقريته، ولم يفهمه أحد فهمًا كاملًا. وممَّا يشهد بتفانيه من أجل أهدافه أنه لم يشعُر
بمرارةٍ إزاء عدَم اعتراف الآخرين به. فعلى الرغم من أنه ظلَّ طوال الأعوام الخمسة والعشرين
الأخيرة من حياته منكوبًا بالفقر والمرَض، فقد ظلَّ يواصِل عمله حتى النهاية.
إنَّ من الشائع النظر إلى بيرس بوصفه مؤسِّس البرجماتية. ومع ذلك فإنَّ هذا الرأي
لا يمكن
قَبوله إلا بتحفُّظاتٍ هامة جدًّا؛ ذلك لأن البرجماتية المُعاصرة لا تنبثِق من بيرس،
بل
ممَّا اعتقد وليم جيمس أنَّ بيرس كان يقوله. ويرجع ظهور هذا الخلط إلى عدَّة أسباب،
أوَّلُها أن آراء بيرس ازدادت وضوحًا في كتاباته المتأخِّرة، على حين أن جيمس استمدَّ
نقطة
انطلاقه من صياغاتٍ مبكرة كانت عُرضةً لمزيدٍ من سُوء الفهم. ولقد حاول بيرس أن يتبرَّأ
من
البرجماتية التي نسبَها جيمس إليه، لذا أصبح يُطلِق على فلسفته اسم «البرجماتوية Pragmaticism»، آمِلًا أن يلفِتَ هذا اللفظ الثقيل
الذي ابتكرَه أنظار الناس إلى الاختلاف بين الفلسفتَين.
لقد عبَّر بيرس في بعضٍ من كتاباته المُبكرة عن المذهب البرجماتي بصورةٍ تسمح للمرء،
إذا
ما أخذَها بمعنًى حرفي، بالاستدلال على أنَّ جيمس قد تأثر بها. فبيرس يربط تعريفه للحقيقة
بمناقشة عامة لطبيعة البحث العلمي والدوافع الكامنة من وراء السعي إليه. ذلك لأنَّ البحث
ينشأ من نوعٍ من عدم الرضا أو عدم الارتياح، وهدفه هو بلوغ حالةٍ من الراحة أو الاستقرار،
يتمُّ فيها استبعاد المؤثرات المُقلقة، والرأي الذي يقبله المرء في أيةِ مرحلةٍ من مراحل
التوازُن المتوسِّطة هذه هو الحقيقة، بقدْر ما يستطيع المرء أن يعرفها. ولكن يظلُّ المرء
على الدوام عُرضةً للاعتقاد بأنه قد تظهر أدلةٌ جديدة تقتضي منه تغيير موقفه. فلا يمكن
أن
نكون واثِقين من أنَّنا لم نرتكب خطأ. ويطلق بيرس على هذه النظرية العامة في البحث اسم
«استحالة العِصمة من الخطأ Fallibilism» وهو يقول، في
معرض شرحِه لها، إنَّ الحقيقة هي الرأي الذي تستقرُّ عليه الجماعة آخِر الأمر. ولكن هذا
القول، إذا ما أُخذ بحرفيَّتِه، مُمتنع بالتأكيد. ذلك لأننا لو اعتقدْنا أنَّ العدد اثنين
مضروبًا في اثنين يساوي خمسة، ثم حدَث في هذه اللحظة نفسها أن دُمِّرَت الأرض، فإنَّ
حسبتنا
الباطلة الأولى تظلُّ مع ذلك خطأ. صحيح أنه لو اعتقد جميع جيراني بهذا الأمر، فمن الفطنة
من
جانبي أن أدَّعي على الأقل أنَّني أُشاركهم رأيهم، غير أنَّ هذا أمر مختلف كلَّ الاختلاف.
وهكذا ينبغي النظر إلى قضية بيرس في سياق مذهب «استحالة العصمة» الذي قال به.
أما بالنسبة إلى تأثُّر أية حقيقةٍ خاصة بعَينها، فإن بيرس يؤكد أن أية عبارة تزعُم
أنها
حقيقة ينبغي أن تكون لها نتائج عملية، أي إنها يجِب أن تسمح بإمكان قيام فعلٍ مُعيَّن
في
المستقبل، وتكوين استعدادٍ للتصرُّف على هذا النحو نفسه في كافة الظروف المُماثلة. وهكذا
يُقال إنَّ معنى قضيةٍ ما هو هذه النتائج العملية ذاتها. وهذه هي الصِّيغة التي استمدَّ
منها جيمس مذهبَه البرجماتي. ولكن ينبغي أن يكون واضحًا أنَّ رأي بيرس أقرب إلى صيغة
فيكو
في الحقيقة الفاعلة Verum factum. فالحقيقة هي ما يمكنك أن
تفعله بقضاياك. وعلى سبيل المِثال، فإذا أصدرتَ عبارة أو قضية عن مادة كيميائية، فإن
مدلول
هذه القضية يُدعَّم عن طريق جميع خصائص المادة التي يمكن أن تخضع للفحص والتجربة. ويبدو
أنَّ هذا، بصورةٍ مُجمَلة، هو ما كان يرمي إليه بيرس. أما البرجماتية التي استخلصَها
جيمس
من هذا كله فتُذكِّرنا بصيغة بروتاجوراس عن الإنسان بوصفه مقياس الأشياء جميعًا، في مُقابل
ما كان يقصده بيرس، وهو ما عبَّرت عنه نظرية فيكو بصورةٍ أفضل.
ولقد قدَّم بيرس إسهامًا أساسيًّا في مناقشته لمنطق الفروض، فقد اعتقد كثيرٌ من الفلاسفة،
على اختلاف اتجاهاتهم، بأن الفروض هي إما نتيجة استنباط Deduction كما يَميل العقليون إلى الاعتقاد، أو للاستقراء Induction كما يرى التجريبيُّون. أما بيرس فرأى أنَّ
كِلا هذين الرأيَين غير كافٍ. فالفروض حصيلة عملية منطقية ثالثة ومختلفة اختلافًا جذريًّا،
يُطلِق عليها بيرس، بأسلوبه الذي اعتاد التعبيرات الجديدة البرَّاقة، اسم «الاستخلاص abduction» ويعني به، على وجه التقريب، الأخذ بفرْضٍ
مُعيَّن لأنه يفسِّر ظاهرةً ما. وبطبيعة الحال فإنَّ تفسير الظاهرة مسألة استنباط، ولكن
قَبول الفرض ليس كذلك.
كان بيرس، كأبيه، مُتمرِّسًا في الرياضيات، وقام في ميدان المنطق الرمزي بعددٍ من
الكشوف
الهامة، من بينها اختراع منهج قوائم الصِّدق لتحديد قيمة الصِّدق في صيغةٍ مُركَّبة،
وهو
إجراء استخدَمَه المناطقة فيما بعدُ على نطاقٍ واسع. كذلك كان له الفضْل في وضع منطقٍ
جديد
للعلاقات.
لقد استخدَم بيرس في مذهبه أسلوب البرهنة عن طريق الأشكال المرسومة وإنْ كانت القواعد
التي طبَّقَها معقَّدة إلى حدٍّ ما، ويبدو أنَّ الفكرة لم تلقَ إقبالًا واسعًا، ولقد
أدَّتْ
نظرته البرجماتية الخاصَّة إلى تأكيد جانبٍ هام في البرهان الرياضي، لا ينال في أحيان
كثيرة
حظَّه من الاهتمام: فهو يؤكد أهمية التركيب في إقامة البرهان الرياضي. وقد ظهرتْ هذه
الآراء
مرةً أخرى عند جوبلو Goblot ومايرسون Meyerson. ولم يكن بيرس مُتمكِّنًا من الرياضة والكشوف العلمية الجديدة في
عصره فحسْب، بل من تاريخ العلوم وتاريخ الفلسفة أيضًا. ومن هذا المنظور الواسع بدا له
أن
العِلم يفترض مُقدَّمًا أساسًا ميتافيزيقيًّا من نوعٍ واقعي. لذلك صاغ ميتافيزيقا خاصَّة
به، تَميل بصورةٍ واضحة إلى الواقعية المدرسية عند دنز
سكوتس Duns Scotus. بل إنه يرى أنَّ صيغته الخاصة من البرجماتية، والمذهب الواقعي عند
المدرسيين، يسيران جنبًا إلى جنب. وسواء أكان الأمر كذلك أم لم يكن، فإنه يدلُّ على أنَّ
مذهبه الخاص لم يكن يشترك مع برجماتية جيمس في الكثير.
لقد كان لبيرس في زمنه تأثير ضئيل جدًّا، ولكن الأمر الذي جعل من البرجماتية فلسفةً
لها
تأثيرها هو التفسير الذي أضفاه عليها وليم جيمس (١٨٤٢–١٩١٠م). ولم يكن بيرس نفسه راضيًا
تمامًا عن هذا التفسير، كما ذكَرْنا من قبل؛ إذ إنَّ مذهب بيرس كان أعمق بكثيرٍ من برجماتية
جيمس، ولم يبدأ فَهمه وتقديره إلَّا في أيَّامِنا هذه.
كان جيمس ينتمي إلى منطقة «نيو إنجلند»
٣ وكان بروتستانتيًّا مُتمسِّكًا بعقيدته. وقد ظلَّ لهذه الخلفية أثرُها في
تفكيره، رغم كونه مُفكرًا حرًّا ينظر بعَين الشكِّ إلى كافة ضروب اللاهوت المُتزمِّت.
ولقد
كان له، على عكس بيرس، تاريخ أكاديمي مُتميز في جامعة هارفارد، حيث كان أستاذًا لعِلم
النفس. ومع أنَّ كتابه «مبادئ علم النفس» قد ظهر في عام ١٨٩٠م، فإنه ما زال حتى يومِنا
هذا
من أفضل الكتُب العامة في الموضوع، والواقع أنَّ الفلسفة كانت بالنسبة إليه نشاطًا
جانبيًّا، ولكنه أصبح يُعدُّ، عن حقٍّ، أهمَّ الشخصيات الأمريكية في هذا الميدان. أما
عن
صفاته الشخصية فقد كان عطوفًا كريمًا، ونصيرًا قويًّا للديمقراطية، على خلاف شقيقه الأديب
هنري جيمس. وعلى الرغم من أنَّ تفكيره كان أقلَّ عمقًا بالقياس إلى فلسفة بيرس، فإنَّ
شخصيته ومركزه جعلاه يُمارس تأثيرًا أوسع بكثيرٍ على الفكر الفلسفي، ولا سيما في
أمريكا.
إنَّ الأهمية الفلسفية لجيمس ترجع إلى عاملَين، أحدهما أشرْنا إليه منذ قليل، وهو
دوره
الفعَّال في نشر البرجماتية. أما الآخر فيرتبِط بنظرية يُسميها radical
empiricism «التجريبية الجذرية». وقد صاغ هذه النظرية للمرة الأولى عام
١٩٠٤م في مقالٍ بعنوان «هل للوعي وجود؟» في هذا المقال يأخذ جيمس على عاتقه إثبات أن
الثنائية التقليدية للذات والموضوع عقَبة في وجه الفهم السليم لنظرية المعرفة. ففي رأي
جيمس
أنَّ من الواجب التخلِّي عن فكرة الوعي الذاتي بوصفِه كيانًا يوجَد في مقابل موضوعات
العالَم المادي. وهكذا يبدو له تفسير المعرفة على أساس تقابُل الذات والموضوع كما لو
كان
تشويهًا عقلانيًّا معقدًا، ليس على أية حالٍ تجريبيًّا بالمعنى الصحيح. ذلك لأننا لا
نملك
في الواقع شيئًا يتجاوز نطاق ما يُسميه جيمس «بالتجربة الخالصة» التي ينظُر إليها على
أنها
الامتلاء العيني للحياة في مقابل التفكير التجريدي اللاحق فيها. وهكذا تُصبح عملية المعرفة
علاقة بين أجزاءٍ مختلفة من التجربة الخالصة. ولا يتابع جيمس عملية وضع التفاصيل الكاملة
لنظريته، غير أنَّ أولئك الذين اقتَفَوا أثره أصبحوا يستعيضون عن النظريات الثنائية القديمة
«بواحدةٍ محايدة Neutral monism» تُقرِّر أن هناك مادة
أساسية واحدة فقط للعالم، وإذن فالتجربة الخالصة عند جيمس هي المادة التي تُصنَع منها
الأشياء جميعًا. وهنا نجد أن تجريبية جيمس الجذرية تُشوِّه نزعته البرجماتية، التي لا
تعترِف بأيِّ شيءٍ ليس له تأثير عملي على الحياة البشرية، فالشيء الوحيد الذي يستحقُّ
الاهتمام في نظره هو ما يكون جزءًا من التجربة، التي كان يَعني بها التجربة البشرية.
ولقد
أطلق معاصر جيمس الإنجليزي ف. ك. س.
شيلر F. C. S. Schiller، الذي كان يقول بآراء شبيهة بهذه حول هذا الموضوع، أطلق على نظريته
الخاصة اسم «النزعة الإنسانية Humanism». ولكن المشكلة في
هذا المذهب هي أنَّ نطاقه أضيق من أن يتَّسِع لواحدةٍ من المهام الرئيسية التي كان العلم
دائمًا، وكذلك النظرة العادية للإنسان، يضطلِعان بها، فلا بدَّ للباحث أن ينظُر إلى نفسه
بوصفه جزءًا من عالمٍ يمتدُّ على الدوام خارج نطاقه الخاص به، وإلَّا لما كان هنا معنًى
للبحث في أي شيء، فإذا كانت حدودي تمتدُّ بالضرورة إلى أيِّ مدًى يمكن أن يَعنيه العالم،
فعندئذٍ يكون خيرًا لي أن أسكُت وأستريح. وهكذا فعلى الرغم من أن جيمس كان على حقٍّ في
نقده
للنظريات الثنائية القديمة عن الذهن والجسم، فإنَّ نظريته الخاصة في التجربة الخالصة
لا
يمكن اعتناقها.
أما بالنسبة إلى المسالة العامَّة المتعلِّقة بالمذهب العقلي في مقابل التجريبي، فينبغي
أن نُشير إلى تمييزٍ مشهور يقول به جيمس. ذلك لأن المذاهب العقلية تميل إلى تأكيد الذهني
على حساب المادي. وهي تفاؤلية الطابع، تنشُد الوحدة وتُفضِّل التفكير الانعكاسي على حساب
التجربة. ويصِف جيمس مَن يميلون إلى الأخذ بمِثل هذه النظريات بأنهم «أصحاب عقول رقيقة».
أما النظريات التجريبية، فهي أكثر ميلًا إلى الاهتمام بالعالَم المادي، وهي متشائمة،
تعترِف
بالانفصال في العالم، وتُفضِّل إجراء التجارب على التأمُّل والتدبُّر، والذين يؤيدون
هذه
الآراء هم «أصحاب العقول الصلبة». ولكن من الواجب بالطبع ألا نسير في هذا التشبيه أبعدَ
ممَّا ينبغي، وعلى أية حال فإن البرجماتية تنتمي قطعًا، في هذه الثنائية، إلى الجانب
ذي
العقل الصلب. وقد شرح جيمس نظريته في بحثٍ بعنوان «البرجماتية» (١٩٠٧م)، مُوضِّحًا أنَّ
لها
جانبين: فالبرجماتية من جهةٍ منهج يراه جيمس معادلًا للموقف التجريبي، وهو يحرِص على
أن
يؤكد أنَّ البرجماتية، من حيث هي منهج، لا تفرِض مُقدَّمًا أية نتائج بعَينها، وإنما
هي
مجرد وسيلة للتعامُل مع العالَم، وقوام هذا المنهج بوجهٍ عام، هو أنَّ التمييزات التي
لا
تنطوي على فوارق عملية، لا معنى لها. ويقترن بهذا رفض للنظر إلى أية مسألةٍ على أنها
يمكن
أن تنتهي في أي وقتٍ بصورة قاطعة. هذا كلُّه مُستمَدٌّ مباشرة من بيرس، ولا بدَّ بالفعل
أن
يتحمَّس له أي باحث تجريبي. ولو كان الأمر لا ينطوي إلا على هذا، لكان جيمس على حقٍّ
تمامًا
في قوله إن البرجماتية ما هي إلا اسم جديد لأساليب قديمة في التفكير.
غير أنَّ جيمس ينزلِق تدريجيًّا من هذه المبادئ الرائعة إلى موقفٍ أكثر اهتزازًا
وأقلَّ
منها استقرارًا بكثير. فالمنهج البرجماتي يؤدي به إلى الرأي القائل إنَّ النظريات العلمية
هي أدواتٌ لسلوك في المستقبل، لا إجابات مقبولة نهائيًّا عن أسئلة حول الطبيعة. فمن الواجب
ألا نرى في النظرية تعاويذ سحرية من الكلمات التي تُتيح للساحر أن يُحكِم قبضته على
الطبيعة. بل إن البرجماتي يُصرُّ على فحص كل لفظٍ بدقَّة مطالبًا بما أسماه جيمس
«قيمته النقدية
Cash Value».
٤ ولا تتبقَّى بعد هذا إلا خطوة واحدة نحو التعريف البرجماتي للحقيقة بأنها ما له
نتائج مُثمرة. وإلى مثل هذا الموقف ينتهي تصوُّر جيمس الوظيفي للحقيقة.
عند هذه النقطة تُصبح البرجماتية ذاتها مذهبًا ميتافيزيقيًّا من نوعٍ مشكوك فيه إلى
أبعد
حد، ونستطيع عندئذٍ أن نفهم السبب في الحرص الشديد الذي أبداه بيرس من أجل التبرُّؤ منها.
فالمشكلة الأولى هي الصعوبة التي نجِدُها عندما نريد أن نُحدِّد، في هذه اللحظة وهذا
المكان، نتائج رأيٍ مُعيَّن، وهل ستكون مُثمرة أم لا. وتبقي مشكلة أخرى تترتَّب على ذلك،
هي
أنَّ أية مجموعةٍ معيَّنة من النتائج إما أن تكون مُثمِرة أو لا تكون، وهذا أمر يتحدَّد
بطريقةٍ عادية، لا بطريقةٍ برجماتية. ولا جدوى من تجنُّب هذه المشكلة بالقول إنَّ النتائج
ستكون مُثمِرة بقدرٍ غير محدَّد، إذ إنَّ هذا يؤدي بنا إلى قَبول أي شيءٍ على إطلاقه.
وعلى
أية حال يبدو أنَّ جيمس لدَيه قدرٌ من الوعي بهذه الصعوبة، لأنه يعترِف بحرية الإنسان
في
الأخذ بمُعتقدات مُعيَّنة إذا كان ذلك يؤدي إلى سعادته. والمثَل الواضح على ذلك هو حالة
الإيمان الديني. ولكن الواقع أنَّ هذه ليست على الإطلاق الطريقة التي يَعتنِق بها الشخص
المُتديِّن آراءه. فهو لا يؤمن بهذه الآراء بسبب الرضا الذي يعتقِد أنها ستجلُبه له،
بل
إنَّ ما يحدُث هو العكس: فمُعتقداته هي التي تجعله سعيدًا.
لقد كان الفلاسفة يُبدون على الدوام اهتمامًا خاصًّا بموضوع الرياضيَّات، منذ أول
عهود
الفلسفة في اليونان. وإنَّ التقدُّم الذي حدث خلال الأعوام المائتين الأخيرة لَدليل بالغ
على ذلك. فقد أدى حساب اللامتناهيات (التفاضل والتكامل)، الذي صاغَه ليبنتس ونيوتن في
القرن
الثامن عشر إلى قفزةٍ هائلة إلى الأمام في ميدان الإبداع الرياضي، ولكنَّ الأُسس المنطقية
للرياضة لم تكن مفهومةً فهمًا صحيحًا، وكانت هناك مفاهيم لا أساس لها، تُستخدَم على نطاق
واسع.
كان التحليل الرياضي في تلك الأيام يعتمد اعتمادًا كبيرًا على مفهوم «اللامُتناهيات
في الصِّغر Infinitesimals»، الذي كان يُعتقَد أنه
يقوم بدورٍ أساسي في تطبيق حساب التفاضل والتكامل المُخترَع حديثًا، وكان الرأي السائد
هو
أن اللامتناهي في الصِّغَر هو كمية ليست بلا حجم، وليست لا نهائية، وإنما هي صغيرة إلى
حدِّ
«التلاشي». وكان الاعتقاد السائد هو أن مِثل هذه الكميات هي التي تُستخدَم في تكوين
المعادلات التفاضلية والتكاملية. وبالطبع فإنَّ هذا المفهوم كان واحدًا من أقدم الآثار
التي
تحتوي عليها خزانة الرياضيات. ذلك لأنه يرتدُّ إلى الوحدة عند الفيثاغوريين، التي هي
صيغة
مُماثلة لهذا الكيان. ولقد رأينا من قبل كيف انتقد زينون النظرية الفيثاغورية. وفي العصر
الحديث بدوره صدرتْ عن الفلاسفة تعليقات نقدية على نظرية اللامُتناهيات في الصغر. وربما
كان
باركلي أول من أشار إلى الصعوبة المُتضمَّنة في هذا المفهوم. وهناك بعض النقاط اللمَّاحة
في
مناقشة هيجل لهذه المسائل، غير أنَّ الرياضيين لم يُعيروا هذه التحذيرات انتباهًا في
البداية، وإنما مضَوا في طريقهم، وطوَّروا علمهم الخاص، وخيرًا فعلوا؛ ذلك لأنَّ من
السِّمات الغريبة في نشأة مباحث العِلم الجديدة ونموِّها، أنَّ فرْض قدرٍ زائد من الصرامة
عليها قبل الأوان يخنق الخيال ويكبِتُ الإبداع، على حين أن وجود قدرٍ من التحرُّر من
القيود
الشكلية الصارمة يساعد على نموِّ البحث العلمي في مراحله المبكرة، حتى ولو كانت النتيجة
هي
المخاطرة بالوقوع في قدرٍ من الخطأ.
ولكن، يأتي على تطوُّر العلم في أي ميدان وقتٌ يتعيَّن فيه التشدُّد في معايير الدقة.
ففي
الرياضة، تبدأ فكرة الدقَّة والصرامة مع بداية القرن التاسع عشر. وجاء أول هجومٍ من جانب
الرياضي الفرنسي «كوشي Cauchy»، الذي صاغ نظريةً منهجية في
الحدود. وأدَّى ذلك، مقترنًا بأعمال فايرشتراوس Weierstrass اللاحِقة في ألمانيا، إلى أنْ أصبح الاستغناء عن اللامتناهيات
في الصِّغر مُمكنًا، وقد بحث جورج كانتور Georg Cantor
لأول مرة المشكلات العامة للمُتَّصل والأعداد اللانهائية، وهي المشكلات التي تكمُن من
وراء
هذه التطوُّرات.
كانت اللانهائية العددية تُثير مشكلاتٍ منذ عصر زينون ومفارقاته. فلو تذكَّرنا أخيل
والسلحفاة، لأمكنَنا أن نُعبِّر عن أحد الجوانب المُحيِّرة في هذا السباق على النحو الآتي:
بالنسبة إلى كل مكانٍ فيه أخيل، هناك مكان احتلَّتْه السلحفاة. وهكذا فإنَّ المتسابقَين
قد
احتلَّا، في أي وقتٍ بعينه، عددًا متساويًا من المواقع. ومع ذلك فمن الواضح أنَّ أخيل
قطع
مسافةً أوسع، مما يبدو متعارضًا مع الفكرة التي يؤكدها الحسُّ العادي، والقائلة إنَّ
الكل
أكبر من الجزء. ولكنَّنا عندما نتعامل مع مجموعاتٍ لا نهائية، لا يعود الأمر كذلك. فلنأخُذ
مثلًا بسيطًا: ففي سلسلة الأعداد الصحيحة الموجبة، التي هي مجموعة لا نهائية، توجَد أعداد
فردية وزوجية. فإذا استبعدْنا الأعداد الفردية، قد يبدو لنا أنَّ الباقي هو نصف ما بدأنا
به. ولكنَّ الواقِع أنَّ ما يتبقَّى من الأعداد الزوجية يساوي كلَّ ما كان لدَينا من
الأعداد في البداية. ومن السهل جدًّا إثبات هذه النتيجة المُحيِّرة، وذلك بأن نكتُب أولًا
سلسلة الأعداد الطبيعية، ثم إلى جانبها سلسلة ناتجة عنها عن طريق مضاعفة كل عددٍ على
التوالي، فنجد لكلِّ عددٍ في السلسلة الأولى مقابلًا في السلسلة الثانية، أي أنَّ هناك،
على
حدِّ تعبير الرياضيين، علاقة «واحد لواحد» بينهما. وعلى ذلك فإنَّ كلًّا من السلسلتَين
لها
نفس العدد من الحدود. وإذن ففي حالة المجموعات اللانهائية يحتوي الجزء على عددٍ من الحدود
يساوي الكل. وتلك هي السِّمة التي استخدمها كانتور لتعريف المجموعة اللانهائية.
وعلى هذا الأساس وضَع كانتور نظريةً كاملة في الأعداد اللانهائية، فبيَّن بوجهٍ خاص
أنَّ
هناك أعدادًا لا نهائية من أحجامٍ مختلفة، وإن كان من الواجب بالطبع ألا ننظُر إليها
بنفس
الطريقة التي نتحدَّث بها عن الأعداد العادية. ومن أمثلة اللانهائية التي هي أعلى من
سلسلة
الأعداد الطبيعية، سلسلة الأعداد الحقيقية، أو المُتصل Continuum كما تُسمَّى أحيانًا، فلنفرِض أنَّنا وضعْنا قائمة بجميع الكسور
العشرية مُرتَّبة حسب حجمها، ثم صنعْنا كسرًا عشريًّا جديدًا عن طريق أخذ الرقم الأول
من
الفئة الأولى، والثاني من الفئة الثانية، وهلمَّ جرًّا، ورفعْنا كل رقمٍ بمقدارٍ واحد.
عندئذٍ يكون الكسر العشري الناتج مختلفًا عن جميع الكسور العشرية في نفس القائمة التي
كنَّا
قد اعتقدنا أنها كاملة. وهذا يُثبِت أنَّ من المستحيل أصلًا وضع قائمة يمكن تعدادها
بالكامل. فعدد الكسور العشرية لا نهائي بدرجةٍ أعلى من عدد الأعداد الطبيعية. هذه العملية
التي توصَف بأنها محورية diagonal كان لها فيما بعدُ شيء
من الأهمية في المنطق الرمزي أيضًا.
وقد أُثيرت قُرب نهاية القرن التاسع عشر مسألة أخرى لها أهمية رئيسية بالنسبة إلى
المُشتغِل بالمنطق، فقد كان طموح الرياضيين منذ أقدَمِ العصور يتَّجِه إلى محاولة تقديم
عِلمهم على أنه نسَق من الاستنباطات من نقطة بدايةٍ واحدة، أو من أقلِّ عددٍ ممكن من
نقاط
البداية. وكان ذلك أحد جوانب «صورة (أو مثال) للخير» عند سقراط، ويُمثِّل كتاب «المبادئ»
لإقليدس نموذجًا لِما كان مطلوبًا، على الرغم مما كان يشُوب طريقة إقليدس في العرْض من
عيوب.
وهكذا قدَّم الرياضي الإيطالي بيانو Peano في حالة
الحساب، مجموعةً صغيرة من المصادرات Postulates يمكن
استنباط كلِّ شيءٍ آخر منها. فالقضايا الأساسية عددها خمسة، وهي تقوم معًا بتعريف فئة
المُتواليات، التي تُعدُّ سلسلة الأعداد الطبيعية مثلًا واحدًا منها. وتنصُّ هذه المصادرات،
باختصار، على أنَّ ما يلي كلَّ رقمٍ هو أيضًا رقم، وأنَّ لكل رقم رقمًا آخر واحدًا فقط
هو
الذي يليه. وتبدأ السلسلة بالصفر، الذي هو رقم، ولكنه هو ذاته لا يلي رقمًا آخر. وأخيرًا،
هناك مبدأ الاستقراء الرياضي، الذي يتمُّ بواسطته إثبات الخصائص العامة المُنتمية إلى
جميع
أفراد السلسلة. ونصُّ هذا المبدأ هو: إذا كانت خاصية مُعينة لأي رقم «ع» تنتمي أيضًا
إلى
الرقم الذي يليه، وإلى الرقم صفر، فإنها تنتمي إلى كلِّ رقم في السلسلة.
ومنذ أيام بيانو، أصبح هناك اهتمام أكبر بالمسائل المُتعلقة بأُسُس الرياضة، وفي
هذا
الميدان توجَد مدرستان فكريَّتان مُتعارضتان: الأولى هي مدرسة الشكليين Formalists الذين ينصبُّ اهتمامهم على الاتساق والثانية
هي مدرسة الحدسيين، الذين يسيرون في طريقٍ وضعي إلى حدٍّ ما، ويُطالبون المرء بأن يكون
قادرًا على الإشارة إلى ما يتحدَّث عنه.
ومن السِّمات التي تشترك فيها هذه التطوُّرات الرياضية، أنها كلها تُهمُّ المُشتغِل
بالمنطق. بل لقد بدا هنا أنَّ المنطق والرياضة سيندمجان عند أطرافهما. والواقع أنه منذ
أيام
«كانْت» الذي كان يرى أن المنطق تامٌّ ومُكتمِل، حدثتْ تغيرات هائلة في دراسة النظرية
المنطقية، واستُحدِثَت بوجهٍ خاص طرُق جديدة لمُعالجة البراهين المنطقية بصِيَغ رياضية.
وكان أول عرض منهجي لهذه الطريقة الجديدة في معالجة المنطق هو ذلك الذي قدَّمه فريجه Frege (١٨٤٨–١٩٢٥م)، وإن كانت أعماله قد ظلَّتْ مجهولةً لمدة
عشرين عامًا، حتى لفَتَ كاتب هذه السطور الأنظار إليها في عام ١٩٠٣م. وقد ظلَّ فريجه
في
بلدِه أستاذًا مغمورًا للرياضيات، ولم يتم الاعتراف بأهميته من حيث هو فيلسوف إلا في
السنوات الأخيرة.
كان ظهور المنطق الرياضي عند فريجه يرجع إلى عام ١٨٧٩م، وفي عام ١٨٨٤م نشر كتابه «أُسُس
علم الحساب»، الذي طبَّق فيه المنهج من خلال معالجةٍ أكثر جذريةً لمشكلة بيانو. ذلك لأن
بديهيات بيانو، على الرغم من كل ما اتَّسَمَت به من اقتصاد، كانت مع ذلك غير مُرضية من
وجهة
النظر المنطقية؛ إذ كان اختيار هذه القضايا بالذات أساسًا للعِلم الرياضي، بدلًا من غيرها،
يبدو اختيارًا عشوائيًّا إلى حدٍّ ما. والواقع أن بيانو نفسه لم يذهب في أي وقتٍ إلى
حدِّ
البحث في هذه المسائل. وهكذا كان حلُّ هذه المسألة بأعمِّ صورةٍ ممكنة هو المهمَّة التي
أخذَها فريجه على عاتقه.
كان ما أخذه فريجه على عاتقه هو عرض بديهيَّات بيانو بوصفِها نتيجةً منطقية لنسَقِه
الرمزي، وهذا يؤدي على الفور إلى تخليصها من تُهمة العشوائية، ويُثبِت أنَّ الرياضة البحتة
ما هي إلا امتداد للمنطق. ويبدو من الضروري بوجهٍ خاص استخلاص تعريفٍ منطقي ما للعدد
ذاته.
والواقع أنَّ فكرة إرجاع الرياضة إلى المنطق تُستَوحى بوضوحٍ من بديهيات بيانو. ذلك لأنَّ
هذه البديهيَّات تقصُر المفردات الأساسية للرياضة على لفظَي «العدد» و«التالي»، واللفظ
الثاني من هذَين هو لفظٌ منطقي عام، بحيث إنَّ كل ما يلزَمُنا لتحويل مفرداتنا كلها إلى
مصطلحاتٍ منطقية هو أن نقدِّم عرضًا منطقيًّا للفظ الأول (العدد). وهذا ما فعله فريجه،
إذ
عرَّف العدد من خلال تصوُّرات منطقية بحتة. ويقترِب تعريفه كثيرًا من ذلك الذي قدَّمَه
هويتهد وكاتب هذه السطور في كتابهما «المبادئ الرياضية»، حيث يذكُران أنَّ العدد هو فئة
كل
الفئات المُماثلة لفئة مُعيَّنة. وهكذا فكلُّ فئةٍ من ثلاثة أشياء هي مَثَل للعدد ثلاثة،
الذي هو نفسه فئة كل هذه الفئات. أما عن العدد بوجهٍ عام، فإنه فئة كل الأعداد الخاصة،
وبذلك يَتبيَّن أنه فئة من المرتبة الثالثة.
٥
ومن السِّمات التي ربما كانت غير مُتوقَّعة، والتي تترتَّب على هذا التعريف، أنَّ
الأعداد
لا يمكن جمعها سويًّا. فبينما تستطيع جمع ثلاث تفاحات وبرتقالتَين فيكون الحاصل خمس قطعٍ
من
الفواكه فإنك لا تستطيع جمع فئة كل ما هو ثلاثة وفئة كل ما هو اثنان. ولكن هذا، كما رأينا
من قبل، ليس كشفًا جديدًا على أية حال. فقد سبق لأفلاطون أنْ قال إنَّ الأعداد لا يمكن
جمعُها.
لقد أدَّت طريقة فريجه في معالجة الرياضة إلى وضعِه للتمييز بين معنى أية جملة وإشارتها،
وهو أمرٌ لازم لتفسير حقيقة أنَّ المعادلات ليست مجرَّد تكرارات فارغة. فطرَفا المعادلة
يُشيران إلى نفس الشيء، ولكنهما يختلفان في المعنى.
على أنَّ العرْض الذي قدَّمه فريجه لم يُقدِّر له أن يمارس تأثيرًا كبيرًا، بوصفه
نسَقًا
في المنطق الرمزي، لأسبابٍ من بينها قطعًا طريقته المعقَّدة في التدوين. أما الرمزية
المُستخدَمة في كتاب «المبادئ الرياضية» فتدين ببعض عناصرها لتلك التي استخدمها بيانو،
وقد
تبيَّن أنها اكثر مرونةً وأسهل قبولًا. ومنذ ذلك الحين أصبح عدد كبير من أساليب التدوين
يُستخدَم في ميدان المنطق الرياضي. من أشدِّها إحكامًا ذلك الذي وضعتْه المدرسة البولندية
المشهورة في المنطق، التي تشتَّتت خلال الحرب العالمية الثانية. وبالمِثل أدخلت تحسينات
كبيرة على طريقة الاقتصاد في التدوين وعلى عدد البديهيَّات الأساسية في النسق. وقد استحدث
المنطقي الأمريكي شيفر Sheffer ثابتًا منطقيًّا واحدًا،
يمكن من خلاله تعريف ثوابت حساب القضايا بدَورها. وبفضل هذا الثابت المنطقي الجديد أمكن
إقامة نسَق المنطق الرمزي على بديهية واحدة. ولكن هذه كلها مسائل فنية شديدة التعقيد،
لا
يمكن شرحها هنا بالتفصيل.
على أن المنطق الرياضي، في جانبه الصوري البَحت، لم يعُدْ من اهتمامات الفلاسفة من
حيث هم
فلاسفة، وإنما أصبح يُعالِجه الرياضيُّون، وإن كان بالطبع يُمثِّل رياضيَّاتٍ من نوع
خاص
جدًّا. والأمر الذي يهمُّ الفلاسفة هو المشكلات التي تنشأ من المُسلَّمات العامة المُتعلقة
بالرمزية، تلك المُسلَّمات التي يأخذ بها المرء قبل الشروع في بناء النسَق. وبالمِثل
فإنه
يهتمُّ بالنتائج التي تنطوي على مُفارقة والتي يتمُّ التوصُّل إليها أحيانًا عند بناء
نسَقٍ رمزي.
٦
وقد نشأت إحدى هذه المُفارقات فيما يتعلق بتعريف العدد في كتاب «المبادئ الرياضية»،
وكان
سببها هو مفهوم «فتة جميع الفئات»؛ إذ إن من الواضح أنَّ فئة جميع الفئات هي ذاتها فئة،
ومن
ثم فهي تنتمي إلى فئة جميع الفئات، وعلى ذلك فهي تشتمِل على نفسها بوصفها أحد أفرادها.
وبالطبع فإنَّ هناك فئاتٍ أخرى كثيرة لا تتَّصِف بهذه الصفة. ففئة كل المُقتَرِعين في
الانتخابات لا تتمتَّع هي ذاتها بمزايا الاقتراع العام. وهنا تنشأ المفارقة عندما نبحث
في
فئة جميع الفئات التي لا تكون أفرادًا لذاتها.
والمسألة هي ما إذا كانت هذه الفئة أحد أفراد ذاتها أم لا. فإذا افترَضْنا أنها كذلك،
عندئذٍ لا تكون أحد أمثلة فئة لا تشتمل على ذاتها، ولكنها لكي تكون أحد أفراد فئتها،
لا
بدَّ أن تكون من النوع الذي بُحِثَ أولًا، أي ليست أحد أفراد فئتها. أما إذا افترَضْنا،
بعكس ذلك، أنَّ الفئة موضوع البحث ليستْ أحد أفراد ذاتها، فعندئذٍ لا تكون مثالًا لفئةٍ
لا
تتضمَّن ذاتها. غير أنها لكي لا تكون عضوًا في فئتها، لا بدَّ أن تكون إحدى الفئات في
تلك
التي طُرِح السؤال الأصلي حولها، ومن ثَمَّ فهي أحد أفراد ذاتها. وهكذا نصل إلى تناقُضٍ
في
كل حالة.
على أنَّ من المُمكن التخلُّص من هذه الصعوبات إذا لاحظْنا أنَّ من الواجب ألَّا ننظُر
إلى الفئات بنفس الطريقة التي ننظُر بها إلى فئات الفئات، مثلما نمتنِع في الظروف العادية
عن التحدُّث عن أفراد البشر على نفس مستوى الأُمَم.
عندئذٍ يُصبح من الواضح أنه ليس من حقِّنا التحدُّث عن الفئات التي هي أعضاء في ذاتها
بالطريقة التي تحدَّثْنا بها عنها عندما طرحْنا المفارقة. والواقع أنَّ الصعوبات المتعلِّقة
بالمُفارقات قد عُولِجَت على أنحاءٍ شتَّى، ولم يتم بعد التوصُّل إلى اتفاقٍ عام حول
الطريقة التي ينبغي بها التخلص منها. ولكن هذه المشكلة على أية حال، قد نبَّهَت الفلاسفة
مرةً أخرى إلى الحاجة الشديدة إلى التدقيق في طريقة تركيب الجُمَل، وفي الألفاظ المُستخدَمة
فيها.